بیان‏

قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ‏ الناس ربما یعملون عملا أو یبتدئون فی عمل و یقرنونه باسم عزیز من أعزتهم أو کبیر من کبرائهم، لیکون عملهم ذاک مبارکا بذلک متشرفا، أو لیکون ذکرى یذکرهم به، و مثل ذلک موجود أیضا فی باب التسمیه فربما یسمون المولود الجدید من الإنسان، أو شیئا مما صنعوه أو عملوه کدار بنوها أو مؤسسه أسسوها باسم من یحبونه أو یعظمونه، لیبقى الاسم ببقاء المسمى الجدید، و یبقى المسمى الأول نوع بقاء ببقاء الاسم کمن یسمی ولده باسم والده لیحیی بذلک ذکره فلا یزول و لا ینسى.

و قد جرى کلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الکلام باسمه عز اسمه؛ لیکون ما یتضمنه من المعنى معلما باسمه مرتبطا به، و لیکون أدبا یؤدب به العباد فی الأعمال و الأفعال و الأقوال، فیبتدءوا باسمه و یعملوا به، فیکون ما یعملونه معلما باسمه منعوتا بنعته تعالى مقصودا لأجله سبحانه فلا یکون العمل هالکا باطلا مبترا، لأنه باسم الله الذی لا سبیل للهلاک و البطلان إلیه.

و ذلک أن الله سبحانه یبین فی مواضع من کلامه: أن ما لیس لوجهه الکریم هالک باطل، و أنه: سیقدم إلى کل عمل عملوه مما لیس لوجهه الکریم، فیجعله هباء منثورا، و یحبط ما صنعوا و یبطل ما کانوا یعملون، و أنه لا بقاء لشی‏ء إلا وجهه الکریم فما عمل لوجهه الکریم و صنع باسمه هو الذی یبقى و لا یفنى، و کل أمر من الأمور إنما نصیبه من البقاء بقدر ما لله فیه نصیب، و هذا هو الذی یفیده ما رواه الفریقان‏ عن‏ النبی ص أنه قال: [کل أمر ذی بال لم یبدأ فیه باسم الله فهو أبتر الحدیث‏]. و الأبتر هو المنقطع الآخر، فالأنسب أن متعلق الباء فی البسمله أبتدئ بالمعنى الذی ذکرناه فقد ابتدأ بها الکلام بما أنه فعل من الأفعال، فلا محاله له وحده، و وحده الکلام بوحده مدلوله و معناه، فلا محاله له معنى ذا وحده و هو المعنى المقصود إفهامه من إلقاء الکلام، و الغرض المحصل منه. و قد ذکر الله سبحانه الغرض المحصل من کلامه الذی هو جمله القرآن إذ قال: «تعالى‏ قَدْ جاءَکُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ کِتابٌ مُبِینٌ یَهْدِی بِهِ اللَّهُ» الآیه: المائده- ۱۶ إلى غیر ذلک من الآیات التی أفاد فیها: أن الغایه من کتابه و کلامه هدایه العباد، فالهدایه جمله هی المبتدئه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ‏، فهو الله الذی إلیه مرجع العباد، و هو الرحمن یبین لعباده سبیل رحمته العامه للمؤمن و الکافر، مما فیه خیرهم فی وجودهم و حیاتهم، و هو الرحیم یبین لهم سبیل رحمته الخاصه بالمؤمنین و هو سعاده آخرتهم و لقاء ربهم و قد قال تعالى: «وَ رَحْمَتِی وَسِعَتْ کُلَّ شَیْ‏ءٍ فَسَأَکْتُبُها لِلَّذِینَ یَتَّقُونَ»:. الأعراف- ۱۵۶٫ فهذا بالنسبه إلى جمله القرآن.

ثم إنه سبحانه کرر ذکر السوره فی کلامه کثیرا کقوله تعالى: «فَأْتُوا بِسُورَهٍ مِثْلِهِ»: یونس- ۳۸٫ و قوله: «فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَیاتٍ»: هود- ۱۳٫ و قوله تعالى: «إِذا أُنْزِلَتْ سُورَهٌ»: التوبه- ۸۶٫ و قوله: «سُورَهٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها»: النور- ۱٫ فبان لنا من ذلک: أن لکل طائفه من هذه الطوائف من کلامه (التی فصلها قطعا قطعا، و سمی کل قطعه سوره) نوعا من وحده التألیف و التمام، لا یوجد بین أبعاض من سوره و لا بین سوره و سوره، و من هنا نعلم: أن الأغراض و المقاصد المحصله من السور مختلفه، و أن کل واحده منها مسوقه لبیان معنى خاص و لغرض محصل لا تتم السوره إلا بتمامه، و على هذا فالبسمله فی مبتدإ کل سوره راجعه إلى الغرض الخاص من تلک السوره.

فالبسمله فی سوره الحمد راجعه إلى غرض السوره و المعنى المحصل منه، و الغرض الذی یدل علیه سرد الکلام فی هذه السوره هو حمد الله بإظهار العبودیه له سبحانه بالإفصاح‏ عن العباده و الاستعانه و سؤال الهدایه، فهو کلام یتکلم به الله سبحانه نیابه عن العبد، لیکون متأدبا فی مقام إظهار العبودیه بما أدبه الله به.

و إظهار العبودیه من العبد هو العمل الذی یتلبس به العبد، و الأمر ذو البال الذی یقدم علیه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحیم راجع إلیه، فالمعنى باسمک أظهر لک العبودیه.

فمتعلق الباء فی بسمله الحمد الابتداء و یراد به تتمیم الإخلاص فی مقام العبودیه بالتخاطب. و ربما یقال إنه الاستعانه و لا بأس به و لکن الابتداء أنسب لاشتمال السوره على الاستعانه صریحا فی قوله تعالى: «وَ إِیَّاکَ نَسْتَعِینُ‏».

و أما الاسم‏، فهو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمه بمعنى العلامه أو من السمو بمعنى الرفعه و کیف کان فالذی یعرفه منه اللغه و العرف هو اللفظ الدال و یستلزم ذلک أن یکون غیر المسمى، و أما الإسلام بمعنى الذات مأخوذا بوصف من أوصافه فهو من الأعیان لا من الألفاظ و هو مسمى الاسم بالمعنى الأول کما أن لفظ العالم (من أسماء الله تعالى) اسم یدل على مسماه و هو الذات مأخوذه بوصف العلم و هو بعینه اسم بالنسبه إلى الذات الذی لا خبر عنه إلا بوصف من أوصافه و نعت من نعوته و السبب فی ذلک أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعا للدال على المسمى من الألفاظ، ثم وجدوا أن الأوصاف المأخوذه على وجه تحکی عن الذات و تدل علیه حال اللفظ المسمى بالاسم فی أنها تدل على ذوات خارجیه، فسموا هذه الأوصاف الداله على الذوات أیضا أسماء فأنتج ذلک أن الاسم کما یکون أمرا لفظیا کذلک یکون أمرا عینیا، ثم وجدوا أن الدال على الذات القریب منه هو الاسم بالمعنى الثانی المأخوذ بالتحلیل، و أن الاسم بالمعنى الأول إنما یدل على الذات بواسطته، و لذلک سموا الذی بالمعنى الثانی اسما، و الذی بالمعنى الأول اسم الاسم، هذا و لکن هذا کله أمر أدى إلیه التحلیل النظری و لا ینبغی أن یحمل على اللغه، فالاسم بحسب اللغه ما ذکرناه.

و قد شاع النزاع بین المتکلمین فی الصدر الأول من الإسلام فی أن الاسم عین المسمى أو غیره و طالت المشاجرات فیه، و لکن هذا النوع من المسائل قد اتضحت الیوم اتضاحا یبلغ إلى حد الضروره و لا یجوز الاشتغال بها بذکر ما قیل و ما یقال فیها و العنایه بإبطال ما هو الباطل و إحقاق ما هو الحق فیها، فالصفح عن ذلک أولى.

و أما لفظ الجلاله، فالله أصله الإله، حذفت الهمزه لکثره الاستعمال، و إله‏ من أله الرجل یأله بمعنى عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أی تحیر، فهو فعال بکسر الفاء بمعنى المفعول ککتاب بمعنى المکتوب سمی إلها لأنه معبود أو لأنه مما تحیرت فی ذاته العقول، و الظاهر أنه علم بالغلبه، و قد کان مستعملا دائرا فی الألسن قبل نزول القرآن یعرفه العرب الجاهلی کما یشعر به قوله تعالى: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَیَقُولُنَّ اللَّهُ»: الزخرف- ۸۷٫ و قوله تعالى: «فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَکائِنا»: الأنعام- ۱۳۶٫

و مما یدل على کونه علما أنه یوصف بجمیع الأسماء الحسنى و سائر أفعاله المأخوذه من تلک الأسماء من غیر عکس، فیقال: الله الرحمن الرحیم و یقال: رحم الله و علم الله، و رزق الله، و لا یقع لفظ الجلاله صفه لشی‏ء منها و لا یؤخذ منه ما یوصف به شی‏ء منها.

و لما کان وجوده سبحانه، و هو إله کل شی‏ء یهدی إلى اتصافه بجمیع الصفات الکمالیه کانت الجمیع مدلولا علیها به بالالتزام، و صح ما قیل إن لفظ الجلاله اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجمیع صفات الکمال و إلا فهو علم بالغلبه لم تعمل فیه عنایه غیر ما یدل علیه ماده أله.

و أما الوصفان: الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ‏، فهما من الرحمه، و هی وصف انفعالی و تأثر خاص یلم بالقلب عند مشاهده من یفقد أو یحتاج إلى ما یتم به أمره فیبعث الإنسان إلى تتمیم نقصه و رفع حاجته، إلا أن هذا المعنى یرجع بحسب التحلیل إلى الإعطاء و الإفاضه لرفع الحاجه و بهذا المعنى یتصف سبحانه بالرحمه.

و الرحمن، فعلان صیغه مبالغه تدل على الکثره، و الرحیم فعیل صفه مشبهه تدل على الثبات و البقاء و لذلک ناسب الرحمن أن یدل على الرحمه الکثیره المفاضه على المؤمن و الکافر و هو الرحمه العامه، و على هذا المعنى یستعمل کثیرا فی القرآن، قال تعالى:

«الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏»: طه- ۵٫ و قال: «قُلْ مَنْ کانَ فِی الضَّلالَهِ فَلْیَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا»: مریم- ۷۵٫ إلى غیر ذلک، و لذلک أیضا ناسب الرحیم أن یدل على النعمه الدائمه و الرحمه الثابته الباقیه التی تفاض على المؤمن کما قال تعالى: «وَ کانَ‏ بِالْمُؤْمِنِینَ رَحِیماً»: الأحزاب- ۴۳٫ و قال تعالى: «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِیمٌ»: التوبه- ۱۱۷٫ إلى غیر ذلک، و لذلک قیل: إن الرحمن عام للمؤمن و الکافر و الرحیم خاص بالمؤمن.

المیزان فی تفسیر القرآن، ج‏۱، ص: ۱۹