تسنيم، جلد 1

15

بسم الله الرحمن الرحيم

كلمة الناشر:

منزلة القرآن

القرآن هو مفتاح الكنز المكنون المنزل علىٰ جناح طائر الوجود يشدوا ترانيم التوحيد ليبثَّ نسيم الحياة في سماء تسطع بنجوم الأرواح وأرض تزهوا بأزهار القلوب منادياً بصوت بليغ ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْي يوحَىٰ﴾[1]، يقرع به سمع الوجود من الأزل إلیٰ الأبد.

وبزغت الشمس الإلٰهيّة في طور القرآن، مشرقةً من سرادقات الرحمة الخاصّة، وأنار وجهها المتلألأ من وراء حجب الغيب وهالات التجرّد وسحائب المادّة، وتجلّت كأنّها الشمس والقمر المنير.

وانّ نغمة تعليم ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾[2] علىٰ أعتاب ذلك الاُفق الأعلىٰ وهو في هيئة ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ﴾[3] يملأه الشوق والحنين فينشد بأعذب لحن ﴿إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يهْدِي لِلَّتي هِي أَقْوَم﴾.[4]


[1] . سورة النجم، الآية 4.

[2] . سورة النجم، الآية 5.

[3] . سورة النجم، الآية 6.

[4] . سورة الاسراء، الآية 9.

تسنيم، جلد 1

16

والطائر القدسيّ الناطق الّذي هو مرآة عالم الوحي يخفق بأجنحة هدايته علىٰ جميع الآفاق ويخترق جميع أنحاء الكون من تخوم الأرض إلىٰ أعالي السماء وآفاق العرش ويضيء بنوره الساطع عالم الملك والملكوت.

وربّ الكون الّذي أنزل من خزائن هدايته ومكنون سعادته قبساً إلىٰ طور موسىٰ ونفخة إلىٰ روح عيسىٰ ولمعة إلىٰ جوديّ نوح ونوراً لقلب إبراهيم وإشراقة إلىٰ جميع صحفه الغيبيّة، هاهو ذا يفتح جميع أبواب الهدىٰ والرحمة ليجعل جميع الجبال طوراً، وفي جميع السفن نوحاً، ويصيّرُ جميع النيران نوراً وجميع الصحف كتاباً مسطوراً.

لقد بزغ من وراء حجب الغيب سناء توراة موسىٰ وضياء انجيل عيسىٰ وبيان صحف إبراهيم وحديث نور زبور داود والتجلّيات الإلٰهيّة في جميع الكتب. نعم إنّها بارقة الوحي الّتي ليس لها مثيل ولا بديل تلمع من حضرة القدس وبشهابها الثاقب تهب الوجود وتنشر النور، ذلك النور المتلألأ بنفسه والّذي يحمل معه شمس هداية الاُمم والمجتمعات.

منزلة التفسير

التفسير الّذي هو عبارة عن كشف الحجاب، يتعلّق بتلك الحقيقة المحجوبة والمستورة، والقرآن الّذي هو المنوّر لكلّ نور وسناء كلّ ضوء ليس انّه لايتقبّل التفسير فحسب بل إنّ البيان لكلّ تفسير والكشف عن كلّ تأويل لايتسنّىٰ إلاّ بإشراق نوره. وهل يحقّ لنا أن نعتبر الشمس محجوبة ثمّ نزعم انّنا نميط اللثام عن وجهها، ونحن غافلون عن أنّ

تسنيم، جلد 1

17

المفسِّر إن كان في تفسيره ودائرة فكره لمعة من الحقّ فإنّما هي من تجلّيات القرآن الّتي تخطف القلوب.

نعم كما انّ شدّة النور الإلٰهيّ أحالت تجلّيات حضوره غيباً وتجلّيات ظهوره بطوناً، فالقرآن أيضاً بما أنّه التجلّي الأعظم له سبحانه فقد ظهرت فيه صفة المتكلّم به، ولشدّة حضوره وظهوره فقد اتّخذ حكم الغيب والبطون، وكذلك الإمام صاحب العصر والزمان (عج) فهو حاضر دائماً وغيبته يعود سببها الىٰ الناس لا إليه.

وإنّما تكمن الحاجة إلىٰ التفسير في الموضع الّذي يكون فيه هناك حجاب، وحيث انّ هذا الحجاب ليس له وجود إلاّ علىٰ النفوس، فالإنسان محجوب عندما تتراكم أعماله فوق بعضها وتتراكم آثارُ أخلاقه فوق بعضها فتنسج علىٰ سويداء قلبه غشاءً صلباً وتتفاقم أمواج الظلمات عليه فيصبح مصداقاً للآية: ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْض﴾[1] وحينئذٍ من الجدير به أن يركب في سفينة التفسير الجارية لتستنقذه من حضيض اللجج الغامرة وتحلّق به نحو ذرىٰ أنوار سماء القرآن.

ولهذا فإنّ أوّل المفسّرين الحقيقيّين للصحف الإلٰهيّة هم الأنبياء العظام والأوصياء الكرام الّذين استطاعوا في ضوء الهداية الإلٰهيّة أن يكونوا ساحل نجاةٍ للاُمم الغارقة في بحار الظلمات، حيث قدّموا للبشريّة موائد الهداية وازاحوا عنها حُجُب وأستار الغواية والضلال.

وخلال تاريخ الإسلام الطويل برز كثير من الحكماء والنوابغ الّذين استطاعوا بالاستنارة بشمس الوحي والإهتداء بجواهر كلام الائمّة(ع )، أن


[1] . سورة النور، الآية 40.

تسنيم، جلد 1

18

يكشفوا للناس طريق السعادة ويميطوا اللثام عن أبصار القلوب وأن يخطّوا لوحة جذّابة ومنظراً بديعاً تهوي إليه الأفئدة، وقد دعوا الناس إلىٰ هذه المأدبة الإلٰهيّة كي يقدحوا في قلوبهم شعاع القرآن، فهنيئاً لهم الحشر مع القرآن، وبورك لهم الاستجابة لنداء الرحمٰن.

وهنا نتذكّر الكوكب اللامع، في سماء التفسير آية الله العلاّمة الطباطبائي الّذي رسم بتأليفه لأثره الخالد صفحة مشرقةً مذهّبةً في تاريخ التفسير تكون للسابقين فخراً حيث أكملت وأتمّت أفكارهم، وللأجيال اللاحقة كنزاً وذخراً وعزّاً بما فتحت لهم من آفاق واضحة وأرشدتهم الىٰ معالم الطريق.

وحقّاً انّ «تفسير الميزان» استطاع أن يسكب زلال معارف القرآن في كأسه وينقّيه من كلّ درن وشائبة ويصفّيه من أفكار الريب والشكّ والحيرة وأوهام الضلال ويقدّمه للظامئين إليه هنيئاً سائغاً كي يرتووا منه فتشرق في نفوسهم أبعاد الحقيقة وجمالها.

انّ «الميزان» بتقديمه منهجاً مستقيماً وبتذليله للعقبات والمصاعب في ذلك الطريق البديع، قد فتح أمام المحقّقين والباحثين في القرآن طريقاً سالكاً ومعبّداً، وأعطىٰ منهجاً يمكن فيه بالاستفادة من الكنوز الوافرة للعقل السليم والنقل الصحيح ان تتجلّىٰ الآفاق البيّنة والمعالم الواضحة للقرآن فيكون ذلك وسيلة لفتح أبواب الجنان بآيات الفرقان. وهو الآن طير يحلّق في جنّة لقاء الله ومن علىٰ أغصان الآيات الإلٰهيّة يقطف ثمار المعرفة ويتمتّع بلذّة المحبّة. فهنيئاً له الشراب الطهور القرآنيّ، وتغمّد الله تلك النفس الرحمانيّة بالسعادة والبهجة.

تسنيم، جلد 1

19

وبشِّر اولئك المرابطين علىٰ ساحل الهداية المتعطّشين إلىٰ الحقائق الجديدة الّتي تشعّ نحوهم من برهان الفرقان ببركة معارف القرآن. وليفرح وليدخل الأمل إلىٰ قلوب اُولٰئك الّذين كلّوا وملّوا حتّىٰ استيأسوا وقطعوا الأمل من حلّ معضلات هذا العالم الكثيرة، فاعتزلوا الناس أو لجأوا نحو سراب الأفكار الواهية.

فلقد آن الأوان ليروا ما ألذَّ الارتقاء علىٰ سنام المعرفة الإلهيّة والاستقاء من زلال الحقيقة القرآنية في شراب تفسير تسنيم، وأيّ متعة أطيب من تناول القدح من يد الساقي الجواد. وهاهو ماء الحياة وغيث الانسانية راح يهطل من الغمام السماوي ويجري علىٰ الأرض البشريّة.

انّ تفسير دهاق (تسنيم) بميزاته الجديدة واُسلوبه الحديث الّذي أبدعه المؤلّف المفسِّر قد إلتحق بالقافلة العظيمة للتفاسير القرآنيّة، وعند التسلّق إلىٰ ذُراه الشاهقة والسير في آفاقه الواسعة وعند التحليق في ملكوت معناه والغوص في بحار معارفه والغور في أعماقه، ومن خلال المرور الاجماليّ عليه يمكن الإشارة إلىٰ بعض معالمه الواضحة وهي:

الأوّل: علىٰ الرغم من أنّ هذا التفسير في اُسلوبه وكذلك في هيكله الأساسيّ ومضمونه يتبع مشرب وطريقة تفسير الميزان لكن هناك اختلافات بارزة من كلتا جهتيه يمكن ملاحظتها بما يلي:

أ: انّ القاعدة الأوّلية والأساسيّة عنده هو أن لايتمّ النظر إلىٰ الآيات إلاّ عن طريق القرآن، وانّ جميع العلوم بمقدّماتها ومسائلها التمهيديّة يجب أن تصمّم ويحاك نسيجها وفقاً للنظام الفكريّ للقرآن وذلك حتّىٰ تنتج تفسيراً قرآنيّاً محضاً. والمصنّف الحكيم يعتقد بالحكومة المطلقة

تسنيم، جلد 1

20

للقرآن علىٰ القرآن، وينفي أيّ نحو من الحكومة والولاية العلميّة علىٰ القرآن ويعتبر القرآن هو النور الّذي يتمّ به ابصار جميع العلوم الاُخرىٰ، وقد تحرّك بخطىً واثقة وعقيدة راسخة وإصرار علىٰ ذلك، ولم يرض بأن يذكر إلىٰ جانب الوحي أيّ علم آخر، وفي ضمن ذلك فإنّ شعاع الوحي المبين قد أضاء القيم العلميّة كي تتجلّىٰ شمس الوحي المضيئة والقمر المنير لسائر العلوم التي تكتسب من الوحي نورها الّذي تظهر به. ومن هذا المنظار يعْلم بأنّ جميع قوالب الفقه والكلام والعرفان والحكمة تستمدّ حياتها من قلب القرآن. وبالنتيجة فالمساحات الضيّقة لهذه العلوم، ليس انّها لاتحدّد سعة معارف القرآن فحسب، بل هي بنفسها تتّصل بهذا البحر الواسع وتكتسب صبغةً قرآنيّة.

ب: انّ النظرة الشاملة للقرآن في جميع ميادين الحياة حقيقة متميّزة اُخرىٰ تظهر بنحو جليّ وشفّاف خلال هذا التفسير، فعظمة القرآن لاتقتصر في تصويره لقدسيّة ارتباط العبد بالمولىٰ في مجال العبادة فقط، بل إنّ العظمة تتجلّىٰ عندما يجعل القرآن جميع العلاقات بين الناس عبادة، وينصِّب العبوديّة المحضة حاكماً علىٰ كلّ الوجود، وهذا لايتحقّق إلاّ في ظل تزريق الآيات في جميع خلايا النسيج الإنسانيّ، الأعمّ من الثقافة والإقتصاد، والسياسة وسائر فروع الحياة، وفي هذا التفسير يظهر هذا البناء الشامخ والمستحكم القرآنيّ. وممّا لاريب فيه أنّ المجتمع الإسلاميّ اليوم قد انتبه إلىٰ نفسه بنظرة ورؤية أوسع وأوعىٰ من جميع المراحل والعصور السالفة، وراح يميّز الإسلام المتحرّر من جميع القيود والبدع والتحريف والمكر، وقد وعىٰ حقيقة الدين مرّة اُخرىٰ وهاهو

تسنيم، جلد 1

21

يسعىٰ ليستعيد دوره المؤثّر وحضوره الفعّال الممتدّ من شرق الفكر إلىٰ غرب العمل.

جـ : انّ إحدىٰ الميزات الأساسيّة لهذا التفسير هو أنّه يدوّن ويؤلّف في زمن إقامة النظام الإسلاميّ وحرّية الدين، وهذه فرصة لم تتوفّر للعلاّمة الطباطبائيّ(ره) عند تأليفه تفسيره القيّم، حيث كان فيه أصحاب الفكر والحكمة يرون سهام التوهّم ونبال التخيّل تستهدف الحقائق القرآنيّة السامية. والحصار المضروب والجدران المبنيّة حول الفكر والتجديد قد امتدّت لتطال إلىٰ حدٍّ ما الحوزة العلميّة أيضاً. وأفكار الإمام الخمينيّ الّذي كان ذا فكر أوسع وأعلىٰ من الفكر السائد في حوزة ذلك العصر قد حطّم جدران ذلك الحصار وحرّر العلوم والمعارف الإسلاميّة من ظلمات سجون البدعة والتحريف والانزواء، فتوفّرت فرصة لاتعوّض للمؤلّف، وقد اقتنص الاُستاذ الجليل هذا الظرف الممتاز لينطلق بأفضل اُسلوب دون أن يخالجه شكّ أو يعتريه وهن ليبيّن المعارف الكامنة للميزان، واحدة تلو الاُخرىٰ، بحيث أنّ الحوزة العلميّة اليوم بما اصبحت تمتلكه من أعمق المعارف وأفضل الأساليب قد استعادت حركتها الأصيلة بعدما يقرب من عشرين عاماً من تدريس ذلك الاُستاذ الحكيم وتصدّيه لحمل تلك الأمانة... ومن خلال ذلك فإنّ الميزان قد وجد طريقه نحو التكميل والإتمام وهاهو يتقدّم حتّىٰ يبلغ مكانته المرموقة اللائقة به.

د. من المواصفات القيّمة لهذا الكتاب الّتي يمكن بلحاظها ان نعدّه أيضاً مكمّلاً للميزان، هي أنّه طرح البحوث الفقهيّة وتفسير الآيات

تسنيم، جلد 1

22

المتضمّنة للأحكام والحدود الإلٰهيّة الّتي لم يتمّ التعرّض لها في ذلك التفسير الشريف، فقد تصدّىٰ لها تفسير دهاق تسنيم بنحو جامع ومفصّل بحيث أنّ هذه المبادرة قد أثمرت فائدتين: إحداهما مهمّة والاُخرىٰ أهمّ، فالفائدة المهمّة هي أنّه تطرّق إلىٰ هذه الآيات بلغة العلاّمة(ره) ومشربه التفسيريّ كي يستطيع بحقّ أن يملأ الفجوات ومناطق الفراغ الموجودة، والفائدة الأهمّ هي أن يصير الفقه أيضاً في خدمة القرآن، فالّذي نشهده اليوم في الحوزات الفقهيّة الإسلاميّة هو عدم الإهتمام بالآيات المتضمّنة للأحكام والحدود الإلٰهيّة بحجّة أنّ أغلب الآيات هي بصدد بيان أصل التشريع وأنّها ليس فيها عموم ولا إطلاق. ولذلك سلكت هذه الحوزات طريقها نحو الإستنباط عبر السُنّة والعقل والإجماع فحسب، ولذلك نرىٰ الفقه من البدء إلىٰ الختام لم يستفد كما ينبغي من المصدر الأساسيّ والأصيل للدين وهو القرآن، ولاشكّ أنّ هذا ضعف كبير لم تلتفت إليه الحوزة الفقهيّة الشيعيّة. ومن جهة اُخرىٰ، فإنّ توفير هذا الجوّ السليم واعتماد القرآن في تشييد أركان الفقه يفتح للفقيه آفاقاً جديدة ويقرّبُه نحو حقيقة الكتاب وهذه الملاحظة المهمّة نقطة بداية يمكن لها أن توجد انعطافاً في مستقبل الفقه الشيعيّ، وتؤدّي إلىٰ ترسيخ القرآن وتعميقه في هذا الميدان.

الثاني: من معالم هذا التفسير هو فتح أبواب فضاء المعارف والأسرار الإلهيّة الّذي تمثّل في عنوان لطائف وإشارات البديعة، حيث انّ أهمّ كنوز القرآن هو احتواؤه علىٰ المعاني الباطنة والخبايا والأسرار العميقة، وقد وصفت الرواية آيات الله في أربع مراتب «كتاب الله علىٰ أربعة

تسنيم، جلد 1

23

أشياء: علىٰ العبارة والاشارة واللطائف والحقائق...».[1] وهذا الكتاب أيضاً واقتداءً منه بكلام المعصوم(ع) فقد احتوىٰ علىٰ ثلاث مراتب ظاهريّة، وعدّ المرتبة الرابعة مختصّة بالأنبياء والأولياء والأصحاب الأصليّين لكتاب التشريع وأوكل معرفتها إلىٰ تلك الذوات المقدّسة، وأمّا الموارد الباقية فقد بادر إلىٰ تدوينها وبيانها مستفيداً من أحاديثهم وكلماتهم البليغة الخالدة.

وانّ أحد التجلّيات الجميلة لمرور وتغيّر الزمان هو كشفه وتبيينه للحوادث والمواقف السابقة. والميزان الصامت وإن كان بدوره قد كشف عن الكثير من الحقائق وتغلّب علىٰ الكثير من المشكلات العلميّة لكنّه بحكم نطاقه المحدود لم يستطع أن يقدّم جواباً فعليّاً وشافياً لجميع الشبهات الّتي اُثيرت فيما بعد، وإنّما ذلك الميزان الناطق الّذي يأتي ليعدّ الأرضيّة والشروط اللازمة لنموّ وتطوير ذلك الميزان حتّىٰ يمكن استنطاقه وجعله يتكلّم ويدافع عن حقّه ويظهر مايكمن في باطنه من أسرار وينتفض علىٰ الأوهام والشبهات. والمؤلّف الكبير لهذا الكتاب والّذي هو بمثابة تأليف آخر غير مكتوب لذلك العلاّمة الكبير، قد تمكّن بأحسن وجه أن ينهض بهذا الدور ويكون متحدّثاً بإسم الميزان، وهذا الكتاب شاهد حيّ علىٰ هذا المدّعىٰ.

الثالث: عند مطالعة التفاسير وتاريخها تتّضح لنا هذه الحقيقة، وهي أنّ كلّ مفسِّر يطرق أبواب القرآن وهو يحمل معه مشربه وثقافته الخاصّة، ويأخذ معه من القرآن مايطابق وعاءه، فإذا كان قدح فكره


[1] . البحار، ج98، ص20.

تسنيم، جلد 1

24

منحرفاً ومعوّجاً، فالقرآن وإن كان صراطاً مستقيماً، لكنّ نصيب مثل هذا المفسّر من القرآن سوف لن يكون سوىٰ الإعوجاج والأَمْت: ﴿يبْغَونَهَا عِوَجا﴾[1]، وإذا كان وعاء فكره مستقيماً فإنّ هذا المفسِّر سيحظىٰ بموهبة الإستقامة الفكريّة والعقائديّة. والتمييز والفصل بين هاتين الحقيقتين يتجلّىٰ ويتّضح عندما يتبيّن الفكر المنحرف ويشخّص، وعندها سيظهر أيضاً انحراف استنباطه من القرآن.

ومن المميّزات والمواصفات الحيويّة لتفسير دهاق تسنيم تبيينه الاتّجاهات والمذاهب المختلفة للتفسير وهي أعمّ من الكلاميّة والفلسفيّة والعرفانيّة ونظائرها، وبتشخيصه للهفوات والنقائص المهمّة الموجودة في بعضها يتبلور لنا الطريق الصحيح والمسلك الفكريّ المستقيم الّذي في ظلّه نحصل علىٰ الاستظهار القرآنيّ الصحيح. وبالطبع فإنّ هذا المعنىٰ في تفسير تسنيم لايتجلّىٰ إلاّ للخواصّ من المتعمّقين في النظر وأصحاب البصيرة.

الرابع: من الملاحظات البارزة في هذا التفسير بيانه مكانة كلٍّ من الثقلين: الأكبر «القرآن» والأصغر: «الروايات»، وكيفيّة ارتباط احدهما بالآخر في تفسير القرآن، وهذا مسلك لم يتّبع في مجمل التفاسير الشيعيّة.

فالاُستاذ المفسِّر يعتقد بأنّ كلاًّ من الثقلين في نفسه كامل، فليس في القرآن نقص ولا في العترة خلل، بل انّ كلاًّ منهما تامّ وصادق ومصدّق للآخر، لأنّ كليهما قد فاض من حقيقة واحدة وترشّح من مصدر فيض إلهيّ واحد. وعليه فإنّ الإلتفات إلىٰ أيّ منهما إلتفات إلىٰ الآخر، وإهمال


[1] . سورة الاعراف، الآية 45.

تسنيم، جلد 1

25

أحدهما هجر للآخر، لكنّ هذا لا يعني أنّ العترة تجبر نقص القرآن، ولا يعني أنّ القرآن يرفع قصور العترة. ولهذا فإنّ الانسجام الكامل والتصديق والتأييد المتبادل ملحوظ في الثقلين. فيجب أن نبحث ابتداءً وقبل كلّ شيء في القرآن الّذي هو تبيان كلّ شيء بغضّ النظر عن أيّ كلام آخر حتّىٰ الروايات، ونرىٰ جميع القرآن في آية خاصّة، ومن ثمَّ نقدّم تفسيراً قرآنيّاً محضاً. طبعاً في هذه المرحلة سوف لن يكون لدينا ماهو حجّة في العقيدة والأخلاق والأحكام، لأنّه ما لم تضمّ العترة والعقل إلىٰ القرآن فإنّ نصاب الحجيّة لن يكتمل، وعلىٰ هذا الأساس فإنّه بالنسبة إلىٰ هذا الكتاب وقبل النظر إلىٰ أيّ علم وكلام حتّىٰ أحاديث المعصوم(ع) يتمّ النظر مباشرة إلىٰ الآيات الإلهيّة وحدها كي يتحقّق تفسير القرآن بالقرآن، وعندها ينظر إلىٰ كلام العترة وروايات الأئمّة(ع ) بنحو مستقلّ إلىٰ جانب الآيات، وبذلك تحصل لنا فائدة مهمّة هي أنّ المفسّر يفكّر بعمق أكثر في فهم المعاني التفسيريّة، وكذلك يلمس الانسجام والتصديق المتبادل الموجود بين الآيات والروايات ويبتعد عن الطريقة الّتي يتمّ فيها فرض الروايات علىٰ الآيات والذي يؤدّي إلىٰ سدّ طريق الفكر والإبداع بواسطة تضييق وتحجير المفاهيم القرآنيّة.

ولذلك فإنَّ قِسماً ملحوظاً من الروايات الصادرة لتشخيص مصداق معيّن وتُعدّ من باب الجري والتطبيق، لاينبغي أن تحدِّدَ فكر المفسِّر وتمنعه عن البحث في مفاهيم القرآن العالية. وهذه الطريقة التفسيريّة ضمن تثبيتها للقاعدة الأساسيّة للمعرفة الدينيّة والثقل الأكبر أي القرآن فإنّها تبيّن الموقف الصحيح ازاء تلك المجموعة من الروايات القائلة بانَّ

تسنيم، جلد 1

26

حجيّة الروايات متوقّفة علىٰ عدم مخالفتها للقرآن، ولذلك فقد أمرت بعرض الروايات علىٰ القرآن.

ومن هذا المنظار فقد وردت في ذيل البحوث الروائيّة ملاحظات قيّمة تحت عنوان «اشارة» لأجل إبراز الانسجام والتلاحم بين الفكر القرآنيّ والروائيّ، وقد أضافت هذه الاشارات الّتي سجّلها قلم الاُستاذ نفسه المزيد من القوّة والثروة العلميّة لهذا التفسير.

ومن الواضح أنّ مايكون في الأخير معياراً للعقيدة والعمل هو محصّلة انسجام الحقائق القرآنيّة مع المعارف الروائيّة والبراهين العقليّة. وهذه ثمرة عدم إمكان افتراق الثقلين الأكبر والأصغر الّتي بيّنها حديث الثقلين الشريف. وتفصيل هذه المسألة جاء في المقدّمة القيّمة للمؤلّف الحكيم لهذا الكتاب والّتي يجدها القارئ في الصفحات القادمة، كذلك بيّنت في بحوث العلوم القرآنيّة.[1]

ومن المناسب ان يضاف هنا أنّ إحدىٰ الميزات البارزة في هذا الكتاب هي تجميع وتبويب جميع الروايات الّتي تبحث في تفسير وفهم الآية محلّ البحث ويمكن أن تساهم في تشخيص وبلورة موضوع الآية. ولايبعد ان يكون ذلك برأي أهل الفنّ امتيازاً وتفوّقاً حتّىٰ علىٰ التفاسير الروائيّة.

الخامس: من المميّزات التعليميّة والتربويّة لهذا التفسير اُسلوبه الأخلاقيّ في طرح البحوث. فممّا لاشكّ فيه أنّ من الملاحظات القرآنيّة المهمّة هي ظهور الأدب والخلق الإلٰهيّ وتجلّيه في آيات القرآن، والقرآن بهذا اللحاظ مأدبة ومجال للأدب، وحيث انّ أدب الكلام يعكس أدب


[1] . التفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم، ج1 (القرآن في القرآن).

تسنيم، جلد 1

27

وأخلاق المتكلّم لذلك فإنّ الاُستاذ الجليل أيضاً بتحلّيه بأخلاق القرآن فقد جعل أثره القيّم (تسنيم) مظهراً للأدب القرآنيّ، وقد تحدّث وكتب فيه باُسلوب في غاية الأدب والنزاهة والوقار وعلىٰ جميع الأصعدة. ولذلك تجده علىٰ رغم تعرّضه الصريح للإتّجاهات والمذاهب التفسيريّة المختلفة، فقد ذكر الآراء والأقوال المختلفة وردّ بعضها ولم يقبله ولكنّه لم يخرج أبداً عن إطار مراعاة حريم العلم وحرمة العلماء، وهذا بنفسه مثال جليّ للتفسير العمليّ للقرآن، وسوف يكون بغير شكّ نموذجاً خُلُقياً ممتازاً للسالكين وللباحثين في القرآن.

السادس: ومن جملة المواصفات القيّمة لهذا التفسير هي أنّ هذا الكتاب علىٰ رغم كونه رشحات فكريّة سامية وأصيلة للمؤلّف المُبجّل، لكن حيث انّ أغلب بحوثه كانت تطرح علىٰ شكل دروس حوزويّة بحضور عدد كبير من خيرة فضلاء الحوزة، لذلك فهي تتميّز بإتقان علميّ خاصّ، وأوجد فيها هذا الأمر استعداداً كبيراً للإجابة علىٰ الشبهات والأسئلة المختلفة. ومن جهة اُخرىٰ فإنّ ثلّة من الحاضرين في درس الاُستاذ والمحقّقين الأجلّة، بسعيهم العلميّ الجادّ وجهدهم المتواصل قد اخضعوا جميع تلك البحوث للتدقيق، وبحضورهم في العديد من الإجتماعات الخاصّة مع الاُستاذ (مدّ ظلّه) تمكّنوا أن يقطعوا بإتقان أغلب أشواط العلم التفسيريّ علىٰ صعيد المضمون والمحتوىٰ وكذلك علىٰ صعيد الهيئة والهيكل الظاهريّ. ولذلك فإنّ هذا التأليف بهذا اللحاظ جدير بأن يتعمّق فيه القرّاء الكرام ويتأمّلوا في عباراته ومفاهيمه ويبذلوا أقصىٰ جهدهم في سبيل الاحاطة به.

تسنيم، جلد 1

28

ومن هنا فإنّ «مركز نشر الإسراء» يتقدّم بأحرّ آيات الشكر والتقدير لجميع الّذين ساهموا في تطوير وترشيد وإعداد هذا الأثر الخالد المعدود من الصالحات الباقيات لاسيّما للمحقّقين والباحثين والمتخصّصين في قسم التفسير (مركز بحوث الاسراء)، ونأمل من الله أن يمنّ عليهم بأفضل موهبة ألا وهي الحشر والكون مع القرآن في جميع نشآت الوجود.

السابع: هناك ميزات اُخرىٰ لهذا التفسير القيّم لاتتّسع لها هذه المقالة الوجيزة، والذهن الوقّاد والمتبحّر هو وحده الّذي يستطيع بغوصه في بحر معارفه أن يستخرج لؤلؤه ومرجانه. ولكن علىٰ نحو التنبيه نذكّر ببعض الاُمور:

أ: هذا الكتاب يتميّز بصفتين قيّمتين في فنّ الكتابة هما:

الاُولىٰ: انّ متن هذا الكتاب علىٰ رغم مافيه من مواضيع قويّة ومتقنة فقد تمّ السعي لكتابته باللغة الفارسيّة السهلة وبمفردات معروفة وذلك ليكون قابلاً لاستفادة العدد الأكبر من القرّاء.

الثانية: انّ عباراته ومعانيه ومضامينه تتمتّع بالمتانة والعمق وعليه فإنّ كون عباراته سلسة وسهلة لايوجب أن يتوهّم أحد انّه في المستوىٰ الابتدائيّ أو المتوسّط. كما أنّ متانة وعمق معانيه وبرهانيّة مضامينه لاتوجب تعقيد مواضيعه المانع من إدراك وفهم معانيه التفسيريّة العالية.

ب: في هذا التفسير جرت السيرة علىٰ أن يكون لكلّ آية من آيات القرآن فصل مستقلّ من البحث حتّىٰ تتميّز المكانة العلميّة والعمليّة للآية في القرآن وكذلك يمكن بسهولة ادراك المعنىٰ الخاصّ بالآية. وطبعاً

تسنيم، جلد 1

29

هناك موارد تكون فيها مجموعة من الآيات مترابطة فيما بينها بحيث لايمكن الفصل بينها، ففي مثل هذه الحالة يتمّ تفسيرها سويّةً.

جـ . صحيح أنّ البحوث الواسعة في مجال الأدب واللغة تنتج ملاحظات بديعة ولطائف جذّابة وممتعة لكنَّ الخوض في التفصيلات الواسعة حول ذلك يعدّ خروجاً عن اطار البحث ولذلك فقد تمّ الاحتراز عنه واكتفي بالمقدار اللازم والضروريّ الّذي تتوقّف عليه معرفة معاني المفردات.

د. انّ القرآن الّذي يحتوي علىٰ مفردات عميقة المعاني وعبارات مفعمة بالدلالات والاشارات، فكلّ كلماته وجمله تحمل ثقلاً معنويّاً كبيراً، وكلّ آية من آياته تحتوي علىٰ قدرات علميّة وافرة، وما أكثر المفردات القرآنيّة الّتي لامعادل لها في اللغات والمعاجم المشهورة في العالم، وحتّىٰ اللغة الفارسيّة الّتي لها قرب شديد مع الثقافة العربيّة فإنّها لاتمتلك القدرة أيضاً علىٰ أن تجد مفردات معادلة للمفردات القرآنيّة، ولذلك اختار الاُستاذ المفسِّر «دام ظلّه» عنوان «خلاصة التفسير» بدلاً عن عنوان الترجمة، وذكر قبل الدخول في تفسير الآية موجزاً للبحوث التفسيريّة بنحو ملخّص يدلّ علىٰ اتّجاه ومعالم الطريقة التفسيريّة لدىٰ ذلك المفسِّر وفكره.

سرّ تسمية هذا التفسير بـ «دهاق تسنيم»

إنّ الله سبحانه خلق العالم والإنسان وهو يدبّر أمرهما ويربّي الإنسان ويسوقه نحو كماله اللائق به، وقد أنزل للإنسان الّذي هو مزيج رائع من التراب الداكن والروح الإلٰهيّة ـ فضلاً عن الارزاق المادّية ـ الموائد الروحيّة والمعنويّة، وشقَّ له طريقاً لسيره المعنويّ وسلوكه الروحانيّ

تسنيم، جلد 1

30

وهو صراط الدين المستقيم، وجعل سلوك الصراط طريقاً للحصول علىٰ جنّة الجسم: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار﴾[1] وجنّة الروح: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر﴾.[2] وحيث انّ بني آدم مختلفون في سيرهم وسلوكهم، لذا كان نصيبهم من لذّات الجنّة متنوّعاً، فالبعض كالأبرار يرتوون من لذّة (الرحيق المختوم) الّذي ختم عليه بمسك الصفاء والنقاء من كلّ باطل ودنس، أمّا نصيب المقرّبين فهو شراب من عين تسنيم وهي زلال محض ومصفّىٰ وقد روي عن الرسول الخاتم(ص) أنّه قال: «تسنيم أشرف شراب في الجنّة يشربه محمّد وآل محمّد ويمزج لأصحاب اليمين ولسائر أهل الجنّة»[3] حيث انّ ساقيه هو الذات المقدّسة الإلهيّة ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُورا﴾[4] وتركيبة ذلك الشراب هي تلك الحقيقة النفيسة للمعرفة والمحبّة الإلهيّة: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم ٭ ... يسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ٭ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذٰلِكَ فَلْيتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ٭ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ٭ عَيناً يشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُون﴾.[5]

فعين تسنيم هي الينبوع الأعلىٰ الّذي يفيض منه الشراب الطهور الخاصّ بالمقرّبين إلىٰ الله، وإنّما يكتسب «الرحيق المختوم» ـ وهو شراب الأبرار ـ لذّته وقيمته لانّ فيه مزاجاً ونكهة من عين تسنيم، وحيث انّ قيمة جميع العلوم ومن جملتها الحكمة تنبع من انسجامها مع


[1] . سورة البقرة، الآية 25.

[2] . سورة القمر، الآية 55.

[3] . البحار، ج44، ص3؛ علم اليقين، ج2، ص1253.

[4] . سورة الانسان، الآية 21.

[5] . سورة المطفّفين، الآيات 22 ـ 28.

تسنيم، جلد 1

31

القرآن الكريم، لذلك فإنّ المفسّر الحكيم (مدّ ظلّه) واقتباساً من هذه المعرفة القرآنيّة فقد سمّىٰ تأليفه الفلسفيّ وهو شرح الحكمة المتعالية بالـ (الرحيق المختوم) وتأليفه التفسيريّ القيّم بـ : «دهاق تسنيم»، وإن كان يسمّىٰ بـ «تسنيم» للسهولة في التعبير.

و«تسنيم» يتدفّق ويفيض بالشراب الخالص التوحيديّ والوحدة الأصيلة الصافية، وأيّة متعة ولذّة أعظم من أن يمدّ الإنسان يده ويتناول هذا الكأس الدهاق من يد الساقي الجواد، وأيّة لذّة أهنأ من السكر بشراب الولاء والمحبّة الإلٰهيّة.

وحيث انّ هذا التفسير يسقي المتعطّشين إلىٰ ينبوع التوحيد بأقداح المعرفة المتدّفقة الجارية ويذكّرهم شرابُه واُكُلُه المتشابه بجنّات عدْن، فجدير ان نسمّيه بدهاق تسنيم حيث انّ في الإسم ظهوراً للمسمّىٰ وجلاءً لحقيقته:

«اللهمّ اسقني من الرحيق المختوم الّذي ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون اللّهمّ اسقني من تسنيم عيناً يشرب بها المقرّبون».[1]

وانّ مركز نشر الإسراء يعتبر انّ من دواعي الفخر الشديد والشكر لله تعالىٰ أن ينشر هذا السِفر الخالد الفريد حيث حباه الله وليّ التوفيق.

وانّ لهذا المركز أملاً كبيراً ورجاءً واثقاً بالله المنّان العليّ الكبير أن يمنّ علينا بطول العمر ودوام الصحّة والعافية للمفسِّر الكبير لهذه الدورة القرآنيّة الكاملة، ليعلن هذه الحقيقة للعالم بأسره بانّ سالكي طريق القرآن والواصلين إلىٰ حقيقته الخالصة الأصيلة إنّما فتحوا هذه القمم الشامخة


[1] . البحار، ج94، ص266، دعاء اليوم الحادي والعشرين من كلّ شهر.

تسنيم، جلد 1

32

والقلاع الحصينة للمعارف السامية في ظلّ ولاية العترة(ع ) والتمسّك بالحبل المتين والعروة الوثقىٰ للإمامة.

نعم فانَّ في تاريخ الشيعة المطرّز بالمفاخر، حكماء وفقهاء ومفسّرين ومحدّثين شيعة قد تحمّلوا أشدّ الصعاب وحفظوا الإسلام العزيز بالتضحية بجميع ما لديهم من غال ونفيس حتّىٰ جاء دور تلك الشخصيّة الفذّة الفريدة من نوعها ألا وهو بطل ميدان الولاء آيةالله العظمىٰ الإمام الخمينيّ (ره) الّذي أسّس نظام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بإيثاره وتضحيته بمئات الآلاف من الشهداء والجرحىٰ والأسرىٰ، وهو يسير قُدماً حتّىٰ يسمع العالم نداء الإسلام ورسالة السماء ويشفي غليل كلّ ظامئ بكوثره الزلال وينوّر أبصارهم بجماله.

والآن حيث يطبع وينشر هذا التفسير فإنّ النظام الإسلاميّ المقدّس في ظلّ القيادة الحكيمة والفذّة للسيّد قائد الجمهوريّة الإسلاميّة الهمام آيةالله الخامنئي (دام ظلّه) يواصل مسيرته المباركة بفخر واعتزاز. والسيّد القائد بنفسه هو من روّاد الحركة القرآنيّة في الاُمّة الإسلاميّة. وهذا المركز يسأل من الله دوام المجد والعزّة والبقاء لذلك القائد الحكيم وللنظام الإلٰهيّ والمقدّس والتوفيق والفلاح للحكومة والشعب الشريف.

اللهمّ ابعث افضل صلواتك وتحيّاتك إلىٰ الارواح النيّرة للأنبياء والأوصياء لاسيّما للنبيّ الخاتم وأوصيائه الكرام.

اللّهمّ انزل أوسع رحمتك وغفرانك علىٰ الأرواح الطيّبة الطاهرة لجميع المعروفين والمغمورين من السائرين في طريق العلم والشهادة لاسيّما الإمام الخمينيّ الراحل (ره).

تسنيم، جلد 1

33

اللّهمّ تفضّل علىٰ شعب ايران الوفيّ للإسلام وايران بالسيادة والسعادة والحشر مع أولياء الله والقرآن الكريم.

اللهمّ إنّ جميع بركات الأرض والسماء تصلنا عن طريق الذات المقدّسة لصاحب الزمان (عج)، وإنّ المتعطّشين لحضوره والمشتاقين لظهوره بتعلّمهم ثقافة القرآن والعترة والعمل بها وتبليغها ونشرها ينتظرون بلهفة النظر الىٰ طلعته البهيّة.

اللهمّ فاجعل جميع الاُمّة الاسلاميّة والنظام الإسلاميّ المقدّس والقائد العظيم مشمولين بدعائه وعجّل في ظهوره.

الناشر

تسنيم، جلد 1

34

تسنيم، جلد 1

35

بسم الله الرحمن الرحيم

و إيّاه نستعين

مقدّمة المفسر للترجمة العربية

الحمد لله الذي تجلّى في قرآنه الحكيم لعباده من غير أن يكونوا رأوه و الصلاة و السلام على جميع الأنبياء و المرسلين سيّما خاتمهم محمد(ص) الذي كان خُلقه القرآن و على أهل بيته الذين جُعِلوا عِدْلَ القرآن بهم نتولّى و مِن أعدائهم نتبرّأ إلى الله.

أمّا بعد فيقول العبد المفتاق الى ربّه الذي غناه عين ذاته, عبدالله الجوادي الطبري الآملي إنّ الله سبحانه وصف القرآن بأوصاف منها كونه مُهيمِناً على ما عداه من الكتب السماوية التـي أودعها رُسلَه الماضين و حيث إنّ عنصره الأصيل هو تعليم الكتاب و الحكمة و تزكية النفوس و مدار تعليمه هو الأسماء الحسنى و محور تزكيته هو التخلّق بالأخلاق الالهيّة التـي هي النزاهة عن كل دَنَس و الطهارة عن كل قذر فيكون القرآن فـي هذه الشؤون المتعالية مهيمناً على سائر الصحف النازلة من عند الله سبحانه. و كما أنّ كلّ واحدٍ من اسمائه الحسنى عظيم و بعضها

تسنيم، جلد 1

36

أعظم من غيره و يسمّى بالاسم الأعظم فكذلك كلّ واحد من كتبه كبير و لكن بعضها أكبر فهو الـْمُهَيمِن على غيره. و من البيّن أنّ هَيْمَنة الكلام خلافة هيمنة المتكلّم كما أنّ ولاية الإنسان الكامل المعصوم خلافة ولاية الله سبحانه, لأنّ الكمال أي كمال علمي أو عملي فهو بالذّات لله سبحانه و بالتَبع أو بالعرض أو بالمجاز لغيره تعالى.

إنّ الإنسان و إنْ لم يكن بحسب بدنه عالماً بشيء بل خُلِق اُمّياً و اللهُ أخرجه مِن بطن امّه و هو لا يعلم شيئاً مِن العلوم الدراجة بين الناس و لكن كان مُلْهَماً بحسب روحه النازل من عنده المنفوخ فـي بدنه بالفجور و التقوىٰ و مفطوراً بالدين الإلهي الحنيف و قد اُمِرَ بتزكية ما ألْهَمَه الله و بإقامة وجهه نحو ما فطره الله عليه و هذه المعارف الالهامية و الفطريّة تحتاج الى الإثارة, لأنّها دفائن العقول لا ظواهرها المكشوفة, و الأنبياء(ع ) و إنْ بُعِثوا لإثارة تلك الدفائن و لكن بتعليم الصحف الإلهيّة بل الله سبحانه هو الذي بإحدىٰ يديه ألْهَم و فَطَر و بالأُخرىٰ أثار و كشف و كلتا يديه يمين مع كونه تعالى مُنزّهاً عن اليد رأساً.

و الحاصل أنّ إثارة دفائن العقول إنّما هي بالكلام الإلهي فما كان مهيمناً على سائر الكلمات فله الهَيْمنة على سائر الإثارات فهو المثير المهيمن على كل مثيرٍ و مُثارٍ فلذا يلزم عرض كل ما دلّ عليه العقل أو النقل على هذا الميزان المثير المُهيمن, فان خالفه مخالفة بيّنة بالتباين أو التضاد المنتهي إلى التباين, فهو غيّ و ضلالٌ و إن لم يخالفه كذلك بل كان مُخصِّصاً لعمومه أو مُقيِّداً لاطلاقه أو شارحاً لمغزاه و مُبيّناً لمحتواه بعد أن تَمَّ نصاب حجّيته و كان اعتباره مقبولاً لدى الشرع فهو هداية و ارشاد. و

تسنيم، جلد 1

37

من هنا يتّضح سرّ لزوم عرض كل حديث على القرآن سواء كان مُبتلى بالمعارض كما ورد فـي النصوص العلاجيّة أو لم يكن كذلك و ذلك إمّا لتطرّق التحريف إليه كما فـي سائر الكتب السماوية و إمّا للدّسّ و الوضع و الجَعْل و التحريف كما فـي الأحاديث و إمّا للمغالطة و الخطأ فـي مادّة الدليل أو صورته أو للذّهول عما يعارضه كما فـي الآراء البشريّة عدا ما كان من العلوم المتعارفة لا من الاصول الموضوعة لأن تلك العلوم المتعارفة, بَيّنةٌ بذاتها و مُبيّنةٌ لغيرها و رَحىً للبرهان على ما عداها.

و القرآن قد اُنزلَ من عند الله سبحانه بالحقّ و نزل على قلب الرسول(ص) كذلك أي بالحق و فـي صحابة الحق أو لباسه. و الانزال قد يكون بالتجلّي و قد يكون بالتجافـي، و الميز بينهما هو بأنّ التجلّي فـي الانزال عبارة عن تحقّق شيءٍ واحدٍ مع انحفاظ هويّته فـي مراتب متعدّدة بلا نفادٍ فـي حدٍّ منها، و التجافـي فـي الانزال عبارةٌ عن التناوب فـي التحقّق فـي تلك المراتب بحيث إذا كان ذلك الشيء فـي الحدّ العالـي لا يكون فـي الدانـي و بالعكس كما فـي نزول المطر، بخلاف التجلّي حيث إنّ الشيء المتجلّي دانٍ فـي علوّه و عالٍ فـي دنوّه. و مما يُقرّبُه الى الذهن و ان لم يكن كالعين هو أنّ المعنى المعقول كلّيٌ لا يصحبه شيء من الصور والأعراض المُصَنِّفة والمُشخّصِّة و إذا أريد تعليمه بالبيان أو البَنان يرسم ذلك له فـي الخيال صورةً و نظماً أوّلاً من حيث اللسان كالعربي المُبين مثلاً و من الكلام أو الكتاب ثانياً و من المقدّمة و الفصول و الخاتمة و نحو ذلك ثالثاً ثم يشرع بايجاده فـي العين لفظاً أو كتباً حيث إنّ جميع هذه الامور موجودة معاً كل واحدٍ

تسنيم، جلد 1

38

منها فـي حدّه فلا العالـي منافٍ للدانـي و لا الدانـي مخالف له، و هذا بخلاف المطر النازل إلى الأرض حيث انّه عندما كان محمولاً للسحاب فـي السماء لم يكن فـي الأرض و إذا وجد فـي الأرض لا يكون فـي السماء. نعم هناك تَجلٍ عامٌ يكون به كلّ خلق تجلّياً كما قال اميرالمؤمنين على‌بن‌ابي‌طالب(ع): «اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ»[1] و هذا غير التجلّي الخاص الذي للقرآن كما قال(ع): «فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فـي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ».[2]

ثم إنّه قد يكون للكلمة الملفوظة أو المكتوبة فـي القرآن معانٍ طوليّة أو عرضيّة أو كلاهما فعلى مبنى عدم صحّة استعمالها فـي أكثر من معنى لضعف ارادة المستعمِل و عدم قدرته على الاحاطة بأكثر من معنىً واحدٍ فـي آن واحدٍ بلا امتناع ذاتـي لذلك كما هو الحق, لا مجال للامتناع المذكور بالنسبة الى الله المحيط بكل شيء فـي كلّ آنٍ, فيصحّ استعمال ذلك فـي القرآن لقدرة الله التـي تستطيل هي على كلّ شيء. فيمكن للمفسّر أن يُفسّر تلك الكلمة بجميع معانيها الطوليّة و العَرضيّة كما تفطنّ له بعض أهل المعرفة[3] و لعلّه المستفاد ممّا رواه الكلينـي عن مولانا علي‌‌‌بن‌الحسين السجاد(ع) يقول: «آيات القرآن خزائن فكلّما فُتِحَت خزانةٌ ينبغي أن تنظر ما فيها».[4] فتصور نظر الناظر


[1]. نهج‌البلاغة, الخطبة 108.

[2]. نهج‌البلاغة, الخطبة 147.

[3]. تفسير ابن‌عربي, ج2.

[4]. الكافي, ج2, ص609.

تسنيم، جلد 1

39

مرجوع إليه لا الى المنظور فيه فمن اُعطيَ جوامع الكَلم فله أن ينظر جميع ما يرتبط بالآية كما له ذلك بالقياس الى جميع القرآن. ذلك فضل الله لمن يجمع بين المراتب الطوليّة بلا فوت شيء منها و بين المعانـي العرضيّة بلا زوال شيء منها حيث انّه وُفّق للجمع السالم بينها، و امّا من ضعف عن ذلك بحيث إذا أحاط بشيء منها يفوت عنه غير ذلك, فحظّه الجمع المكسّر لا السالم منه لانّه لم يُعطَ جوامعَ الكلم و لا ينافـي شيئاً ممّا تقدم قول مولانا الصادق(ع) فـي قِبال من يقول إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف: «كذَبوا أعداءُ الله و لكنّه نزلَ على حرفٍ واحدٍ من عند الواحد»[1] لأن ذلك الواحد جامع لمراتب طولية أو معانـيَ متعدّدة عرضيّة أو كليهما.

إنّ القرآن نور و كتاب مبين و تبيانٌ لكلّ ما هو بصدد تَبْيِينه و هو أصدق قول و أحسن موعظة و أهدى سبيلاً و من ذلك انّه يُفسّر كل ما عداه ممّا يصدق عليه انّه شيء بأنّه مخلوق لله تعالى حيث يقول ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء﴾[2] و معناه انّه لا هويّة لشيء ممّا سوى الله إلاّ مخلوق له أي لله تعالى فلا علّة فاعليّة بالذّات له إلاّ هو تعالىٰ و لا غاية ذاتيّة له الاّ هو سبحانه. و قد فسّر هذا التثليث أي النظام الفاعلي و النظام الغائي و النظام الداخلي قوله تعالى: ﴿رَبُّنَا الذي أَعْطَى كُلَّ شيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[3] إذ المعطي الحقيقي هو الله الذي منه يبتدىء النظام الفاعلي, و الـمَهديّ


[1]. الكافي, ج2, ص603.

[2]. سورة الرعد, الآية 16; سورة الزمر, الآية 62.

[3]. سورة طه, الآية 50.

تسنيم، جلد 1

40

إليه الحقيقي هو الله الذي إليه يسير كلّ شيء و إيّاه يصير و هو منتهى النظام الغائي, و خَلْق كلّ شيء حسب حاله و حياله و ما يليق به للجذب و الدفع هو النظام الداخلي لكلّ شيء به يستفيض من المبدأ و بذلك يتوجّه إلى المقصد. فعالم الكون هو عالم الخلقة المرتبطة بالخالق لا الطبيعة المنقطعة عنه فلا طبيعة رأساً (على ما يقابل الخلقة), فإذا لم يكن هناك طبيعةٌ فلا علمٌ طبيعيٌ أصلاً لأنّ العلم تابع للمعلوم فإذا كان المعلوم بهويّته الذاتية و جميع شؤونه الكمالية من التنمية و التغذية و التوليد و ما إلى ذلك, مخلوقاً لله تعالى, فالعلم به على ما هو عليه هو علم بالخلقة لا بالطبيعة و من البيّن أنّ العلم بالخلقة, تفسير لكلمة الله التكوينية حسبما اشار إليه قوله سبحانه ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾.[1]

فإذا كان العلم بالخلقة تفسيراً لكلمات الله التكوينيّة فهو يكون كالتفسير المصطلح الذي على عاتقه تفسير كلماته التدوينيّة علماً دِيْنِيّاً فلا علم الاّ و هو علم دينـيٌ، إلاّ أنّ هؤلاء قد مثّلوا المعلوم مُثْلةً بِقَصّ جناحه الأيمن و الأيسر و قطع رأسه الذي فيه العين و السمع و الشمّ و الذوق فهذا المقصوص و المقطوع و المُمَثَّل الذي لا يَعْرِفه أحدٌ قد صار موضوعاً للدراسة فـي الجامعات العلمية و من الواضح أنّ العلمَ به أيضاً كالمعلوم مقصوصٌ مقطوعٌ مُمثّلٌ لا يَهدي إلى شيء و لا يُخبر عن شيء و لا يضرّ و لا ينفع إذ الجَسَد البالـي و البدن المقبور شجرة خبيثةٌ اجتثّت من فوق الأرض و ما لها من قرار.


[1]. سورة الكهف, الآية 109.

تسنيم، جلد 1

41

و الغرض أنّ القرآن الحكيم يُفسّر المعلومَ بأنّه خِلقةٌ لا طبيعةٌ و أنّ العقل التجربـي الذي هو المدار فـي المنهج التجربـي و كذا العقل التجريدي الذي هو المحور فـي المنهج التجريدي كلّ ذلك خلقةٌ لله تعالى لا أنّ ذلك من البشر و للبشر حتى يصحّ له أن يقول إنّي علِمتُ و إنّي كشفتُ و إنّي أبْدَعتُ و إنّي فهمتُ و إنّي و إنّي و..., لأنّ العقل سواء أدرك حكمةً نظريةً أو حكمةً عمليّةً فهو هبة الله سبحانه و أنّ فهمه و علمه و ابداعه و كشفه و ما إلى ذلك, مواهب الهيّة كما قال سبحانه: ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.[1] فالعقل سراجٌ مُنيرٌ قد نوّره الله حتى يرىٰ صراطه الخارج عنه فلم يوجِد العقل شيئاً أصلاً بل رآه و أبصر به بإراءة الله سبحانه فليس للسراج الذي خلقه الباري و غذّاه بالزيت و أتْقَنَه بالزجاجة حتى لا يَتموَّج شعاعه أن يدّعي شيئاً و يجازف امراً, بل عليه أن يستعيذ بالله من أن تُسوِّلَه نفسُه و تُبِيحَ له ما حَرَّمه الله عليه من اسناد فعل الله إلى نفسه أو غيره لأنه فريةٌ و زورٌ. لأنّ العالِم و العلم و المعلوم كلّه خلق الله و فيضه و فوزه بحيث لا يخلو شيءٌ من ذلك عن كونه كلمة الله و آيَتهُ و خليقته إلاّ أنّ بعض ذلك أمرٌ عباديٌ لا يُقبل إلاّ بقصد القربة و بعضها توصّليٌ كغسل الثوب القذر و تطهير البدن المتنجّس و ما الى ذلك ممّا لا يحتاج الى قصدها. فليس معنى كون جميع العلوم التجربيّة و التجريدية دينيّةً, لزوم قصد القربة فيها و الاّ لبَطَلَت و صارت عقيمةً لا تنتج فـي الصنائع و نحوها.

و سبب تحاشي بعض الناس عن كون العلوم بأسرها دينيّة هو


[1]. سورة العلق, الآية 5.

تسنيم، جلد 1

42

زَعمُهم أنّ الدين منحصر فـي الدليل النقلي كالقرآن و الحديث و أنّ معنى كون شيء دينيّاً هو تصريح الدليل النقلي بكيفيّة ايجاد ذلك الشيء و صنع جميع لوازمه و أدواته و قطعاته, و امّا اذا اتّضح أنّ الدين هو الذي قرّره الله سبحانه أولاً, و أوحى الى رسوله ثانياً, فيكون له كاشفان: احدهما العقل البرهانـي و ثانيهما النقل المعتبر ثالثاً, و لابدّ من التعاون و التصادق بينهما رابعاً, فيكون جميع ما كشفه العقل البرهانـي و علم به بالقطع حجةً دينيّةً يجب على القاطع, العمل بذلك القطع و يحرم عليه تخطّيه و هكذا جميع ما دلّ عليه النقل المعتبر خامساً. و الغرض انه بعد التنبّه بانّ الدين ما هو و أنّ منبعه الوجوديّ ما هو و أنّ منبع معرفته المعصوم عن الخطأ و السهو و النسيان هو الوحي الذي يوحى به إلى النبـي(ص) و أنّ منبع معرفة ما اوحي اليه أي النبـي(ص) إمّا العقل البرهانـي و إمّا النقل المعتبر, فأي ذلك كشف ما هو الحق يكون امراً دينيّاً, فليس معنى كون العلوم التجربيّة دينيّة هو صرف أنّ جهة تعليمها و تعلّمها و كيفيّة الانتفاع بها مطابقة للدين أي لا يكون مصرفها حراماً و ما إلى ذلك, بل يكون حلالاً مقصوداً به التقرب الى الله و ان كان ذلك حقّاً فـي الجملة لا أنّه الحق بالجملة.

إنّ القرآن الكريم يرى أنّ ذات الله سبحانه غنيٌّ عن الاثبات كما أنّه غنـيٌّ بذاته فـي الثبوت و يراه أجلّ مَن ان يُبحَثَ عنه بانّه ما هو و انّه هل هو و انّه لِمَ هو و انّه كيف هو و سائر الأسئلة و الأجوبة حول ذاته سبحانه و يراه اعلى و أنبَل و أعظم من أن يُبحَث عن بقائه بعد فناء كلّ شيء و عن حياته بعد موت ماعداه و عن ثباته بعد زوال ماسواه و

تسنيم، جلد 1

43

بالجملة ليس فـي القرآن الحكيم قضيّة موضوعها ذات الله و محمولها وصف من أوصافه الذاتية بل جميع مسائله يحوم حوم أسمائه الحسنى و صفاته العليا. نعم يعبّر عن ذاته بمفهوم يحكيه لا بماهية تكشفه, فالذات مصداق للمفهوم من دون أن يكون فرداً لماهيّةٍ أصلاً, لنزاهته عنها و سيتّضح ـ ان‌شاءالله ـ انّه لا مَيْز بين الحكيم الذي يجول حول البرهان و العارف الذي يحوم حوم الوجدان و يهيم هيمان الوالهين فـي معرفة الهويّة البحتة أي الذات, اذ كلّ واحد منهما يعرفه بالمفهوم لا بالشهود و ليس للعارف ان يشهده اصلاً كما ليس فـي وسع الحكيم ذلك, لأنّ شهودَ الذات البَحْتِ ممتنعٌ بالضرورة و كذا اكتناه الصفات الذاتية التـي هي عين الذات مستحيل كذلك. فالفرق بين ذينك الموحّدين انّما هو فـي فهم الأسماء الحسنى و ادراكها حصولا و فـي شهودها و حضورها عيناً و الأوّل للحكيم و الثانـي للعارف.

و السرّ فـي ذلك كلّه هو أنّ الذات الالهية وجود بَحتٌ بسيطٌ لا حدّ له أصلاً و منزّه عن أيّ تركيبٍ كالتركّب من الماهيّة و الوجود و من المادة و الصورة و من الجنس و الفصل و من الجوهر و العرض و من الجزئين المتساويين المتشاركين كالأكسجين و الهيدروجين للماء و من الجزء المقداري كالنصف و الثلث للخط و من الوجود و العدم الذي يُعدّ هذا القسم السابع بالقياس الى الأقسام الستّة السابقة, شرّ التراكيب لأَوْل كل واحدٍ من تلك الستّة إلى وجودية الأجزاء و لو بالتبع أو بالعرض و أمّا هذا القسم السابع فلا مجال له اصلاً, لأن جزءَه العدمي مبائن للوجود رأساً فلا يَؤول اليه اصلاً; مثلاً إنّ الألف لكونه محدوداً فهو عند التحليل

تسنيم، جلد 1

44

الدقيق الذي لا يناله العرف بخياله بل و لا بعقله الغير المتدرّب, مؤلّف من حيثيّتين الاولىٰ كونه ألِفا أي واجداً لهويّته و الثانية كونه ليس بالباء و لا بالجيم و لا بالدالّ و نحو ذلك و من البيّن لدى العقل الصراح المائز بين الحيثيّات أنّ حيثيّة وجدان هويّة الألف ليست بعينها عين حيثيته فقدان الباء و لا فقدان الجيم و لا فقدان الدال و نحوها و الاّ لصارت حيثيّة الوجدان عين حيثيّة الفقدان أي صار الوجود عين العدم و هو جمع النقيضين فعليه يكون الألف عند التحليل مؤلّفاً من الحيثيّتين الأولىٰ وجوديّة و الثانية عدمية و هذا التألّف هو شرّ انواع التركّب.

فكل محدود فهو مركب و ما ليس بمركبٍ اصلاً فهو منزّه عن الحد فيكون بسيطاً لا حدّ له ـ و تفصيله فـي موطنه عند اهله ـ و كل موجود بسيطٍ لا حدّ له لا يمكن ان يشاهد الاّ لنفسه لانّ غيره محدود لا محالة و لا يمكن أن يدرك بعضَه, إذ لا بعض له, و لا كلَّه و تمامه, إذ لا يمكن احاطة المحدود بما لا حدّ له. و ما يقال إنّ كلّ واحدٍ من المخلوقين ينال خالقه بقدره, فكلام اقناعي لا برهانـي, نعم كل واحدٍ ممّن يتيسر له البرهان الحصولـي, يُدرِك المفاهيم الكليّة المشيرة الى ما لها من المصداق، سواء فـي ذلك الحكيم و العارف و الميز بينهما هو أنّ الحكيم يدرك وجه الله و فيضه المنبسط بالمفهوم الحصولـي و العارف يناله بقدر وجوده بالشهود الحضوري.

و الغرض أنّ القرآن الحكيم لا يبحث عن الهويّة البحتة اصلاً و فـي جميع الموارد التـي يبحث فيها عن فناء كل شيء و هلاكه لا يُستثنىٰ فيها الاّ وجه الله أي ظهوره و فيضه العام المطلق الذي لا تعيّن له أصلاً

تسنيم، جلد 1

45

من دون ان يُستثنىٰ فيها ذات الله و هويّته البسيطة المحض لكونه أجلّ مِن أن يُتوهَّم تَطَرُّق البحث اليه. و لئن قَرَعَ سمعك من بعض أصحاب العلم الشهودي أنّ كلّ واحدٍ من الموحّدين يشاهد الله بقدر وجوده فانّما تَبْيينُه بأنّ الله سبحانه قد أوجَد ما سواه مرايا و مرائي أي يكون كلّ واحدٍ ممّا عداه تعالى مِرآةً يتجلّى الله فيه بما يسعه؛ فالله فـي مقام التجلّي و الظهور يتجلّى و يظهر لكلّ شيء بتمامه و جميع اسمائه الحسنى و لكن كلّ واحد ممّا سواه يَقبَل التجلّي و الظهور بحسبه فالتعيّن و التحدّد و التضيّق انّما هو للمرايا المتعيّنة المحدودة المتضيّقة، فمِن هنا يصحّ دعوىٰ أنّ كل واحد من المخلوقين يعرف الله سبحانه بقدر وجوده. و الانسان بحسب فطرته الملهَمَة يشاهِدُ مُلهِمَها فـي التجلّي و الظهور بقدر طهارة فطرته و نزاهة روحه المنفوخ مِن الله.

اِنّ الرسول الأعظم(ص) بُعِثَ لِمهمّات الامور التـي منها كونه مُعتاماً أي مُخْتاراً لشرح حقائق العالم كما قال اميرالمؤمنين(ع) فـي نَعْتِهِ(ص): ‌«وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الُْمجْتَبَى مِنْ خَلائِقِهِ وَ الْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ وَ الُْمخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ وَ الْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالاَتِهِ وَ الْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى وَ الَْمجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى»[1]؛ و ليس فـي العالم الاّ حقائق الأسماء الحسنى ومظاهرُها و الرسول(ص) قد اختير لشرح تلك الحقائق. و الانسان مُغتَرّ بما يراه حَسَناً فيزعمه زينةً لنفسه مع أنّ جُلّ ما يراه فـي الخارجِ عن نفسه لا قيمة له أوّلاً, و ليس زينةً له بل انما هو زينة للأرض او السماء ثانياً, فليس للانسان ان يَغْترَّ بذلك و


[1]. نهج البلاغه الخطبة 178.

تسنيم، جلد 1

46

يراه حسناً و جمالاً و ليس له انْ يحسبه زينةً لنفسه؛ و نموذج ذلك، الشمس و القمر و سائر الكواكب الدرّية حيث إنّها مسبوقة بمقدارٍ من الدخان اذ لا واقعية لها غير ذلك و ملحوقةٌ بالتكوير والإنتثار، و ما بين ذلك زينةٌ للسماء لا للانسان، كما انّ ما على الأرض مِن الأبنية و الأشجار و البساتين و المزارع، مسبوقة بتراب و ملحوقة به ايضاً، و ما بين ذلك زينة للأرض لا لمن عليها كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ﴾[1] و امّا فيما يرجع الى الكواكب فيدل عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾[2] و قوله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾[3] بناءً على صيرورته دخاناً لا تكوّن الدخان فيه و قوله تعالى: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ٭ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ﴾[4] و قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فـي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فـي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾[5].

و المستفاد من هذه الآيات هو انّ اصل السماء و كواكبها و مصابيحها و زينتها كان دخاناً لا قيمة له لولا التسوية و التكميل و الصنع الخاص الالهي الذي يُصَيّره شمساً مضيئةً و قمراً منيراً و سيكون دخاناً ايضاً او شيئاً آخر لا قيمة له، و هو حين الإضاءة و التنوير زينة للسماء لا


[1]. سورة الكهف، الآية 7.

[2]. سورة فصلت، الآية 11.

[3]. سورةٴ الدخان، الآية 10.

[4]. سورة التكوير، الآيتان 1 و 2.

[5]. سورة فصلت، الآية 12.

تسنيم، جلد 1

47

للانسان، فلو جدّ الانسان و اجتهد و بلغ ما بلغ و تملّك الكواكب الدرّية لم يصر مُزداناً بشيء مِن ذلك لانّه كلّه زينة غيره لا زينَتُه و انّما زينة الانسان المُكمّلة لروحه الموجبة لِرُقّيه و صعوده و عروجه و دنوّه و علوّه و اعتلائه حسب استعداده، هو الايمان بالحق و العمل الصالح كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فـي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فـي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾[1].

فهذا نبذٌ من الحقائق التـي شرحها الرسول فـي ضوء تلك الآيات للناس و بالحقيقة يكون الرسول(ص) مُفَسّراً لها و شارحاً ايّاها فيؤول القرآن تفسيراً و شرحاً للتكوين و التشريع معاً لان العالَمَيْنِ متطابقان، فالتفسير الصائب للقرآن هو الذي يلاحظ الكيان و الشريعة معاً لا بِعطفِ القرآن على الرأي و الهوىٰ بل بِعطفِهما على القرآن الذي لا يعادله شيء من الكتب و الكلمات و الصحف و الزّبُر لأنّه الْمُهَيْمِنُ على ذلك كله تبصّر تجد.

و القرآن المجيد يُفَسّر الموت كما انه يفسّر الحياة و يُبَيّن ما له الربط بالانسان و ما بينهما من التعادل، فهل الموت كالحياة موجب لكمال الانسان و رُقّيه او انّه موجب لهلاكه و زواله. إنّ الوهم النازل يَرَى الموتَ إنهِداماً للميّت و هَدْماً لِلحيّ، فالذي يموت فهو يفنى و يضلّ فـي الأرض و يصير تراباً و دوداً. و انّ العقل الكامل الذي اَثارَ دفينَتَه الوحيُ، يَرَى الموتَ هجرةً مِن موطنٍ إلى آخر هجرةً متكاملة أي


[1]. سورة الحجرات، الآية 7.

تسنيم، جلد 1

48

اللُّبْس بعد اللُّبْس, لا متفاسدة الى الخَلْع و اللُّبْس حتى يسلب شيء وجودي و يُعطىٰ شيء وجوديّ آخر لأنّ المسلوب بالموت هو النقص و القصور, و من البَيّنِ اَنّ مرجع سلب النقص و نفي القصور الى ثبوت الكمال و التمام، لأنّ النقص و كذا القصور امر عدميّ و مرجع سلب العدميّ إلى الأمر الوجودي، حيث إنّ الحياة الدنياوية بالقياس الى الحياة البرزخية ناقصة و قاصرة، فالذي يموت فهو ينتقل من الناقص الى الكامل و من القاصر الى التامّ فلا يفوت منه شيء اصلاً و لذا يعبّر عن الموت بالوفاة لا بالفوت و قد تكرّر التوفّي فـي القرآن المُفسِّرِ للموت بانّه اخذٌ تامٌ لا يفوت به من الانسان شيء اصلاً: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَلَكُ الْمَوْتِ الذي وُكِّلَ بِكُمْ﴾[1]. فاذا لم يَفُت من الانسان شيء اصلاً و لم يَضلّ منه جزءٌ اصلاً، فلا يكون الموت الاّ وفاةً و هجرةً من دارٍ محدودة الى دار أوسع و أرفع و يؤيّده قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ﴾[2]، لأن الذائق يَهْضِمُ المذوق و يُحَوّله و يُسَيْطر عليه دون العكس و لذا لم يقل سبحانه: ‌«كل نفسٍ يذوقها الموت‌» فكأس الموت مشروب للانسان.

و حيث إنّ الموت هجرة و تحوّل فالانسان الذائق الشارب للموت يصير مُسَلّطاً على التغيّر و يُبَدّله بالثبات بحيث يتحول التغيّر الى الثبات لانّ كل حركة لابدّ و ان تزول بالوصول الى المقصد و لا معنى لدوام الحركة و استمرارها اذ الحركة طلبٌ و دوام الطلب بمعنى اللغو و اللعب اذ لا هدف و لا مقصد له و إلاّ لسكن و استقرّ بعد الوصول اليه. و ما


[1]. سورة السجدة، الآية 11.

[2]. سورة آل‌عمران، الآية 185؛ سورة الأنبياء، الآية 35؛ سورة العنكبوت، الآية 57.

تسنيم، جلد 1

49

ورد فـي القتيل فـي سبيل الله بأنه حيٌّ مرزوق عند الله لا يفيد الإختصاص ـ فـي تجرّد الروح و لا فـي البقاء بعد الموت و لا فـي الاشتغال بما يلتذّ به ـ بالشهيد. نعم له مكان و مقام قَلّ من يُدانيه و كثر مَن يَتمنّاه قائلاً ليتنـي كنت معك فأفوز فوزاً عظيماً. و هذا هو لسان القرآن أي علمه و معرفته و ثقافته و دراسته و ما الى ذلک، اذ ليس المراد من هذا اللسان هو اللسان الأدَبـي المحض من الصرف و النحو و اللغة و المعانـي و البيان و البديع و نحوها.

والقرآن كلام الله سبحانه بلا ريب و حيث اِنّه فعله تعالى و قوله تعالى و هو ممكن و الفصل بين الفعل و الفاعل الالهي و كذا بين القول و القائل الربوبـي غير متناهٍ و الاّ لزم تناهي الواجب الازلي الذي لا حدّ له مطلقاً، اذ لو كان الفصل بين الكلام و المتكلّم الالهي محدوداً و الكلام أيضاً ـ لكونه ممكناً ـ محدود البتة و مجموع المتناهيين متناهٍ لا محالة يلزم اَن يكون الواجب متناهياً، و هو ممتنع بالضرورة فالفصل بين القرآن الممكن و بين الله سبحانه غير متناهٍ؛ فكم علمٍ يعلمه الله سبحانه و لم ينتقل الى شيء او احدٍ من خلقه.

فإن عُبِّرَ عن علم القرآن بأنّه بحرٌ لا ينزف فإمّا المراد هو عدم التناهي النِسبـيّ او عدم التناهي اللاّيقفي و كلّ واحد من هذين القسمين ممكن للممكن لانّ الممتنع هو اجتماع امور غير متناهية بينها ترتّبٌ دفعةً, و أمّا الأمور الغير المتناهية التـي لا اجتماع لها دفعةً واحدة فلا محذور فيها. و الحاصل انّ المتكلم أي الله سبحانه كلّم انبياءه فـي صحفه و زُبُره بقدر عقولهم المحدودة لا بقدر علمه الازلـي الذي لا حَدّ

تسنيم، جلد 1

50

له، و لا يختصّ هذا الحكم بالصحف الغابرة بل يصدق بالنسبة الى القرآن الحكيم ايضاً. نعم إنّ الناس لا ينالون كنه ما فـي هذه الصحف السماوية لعدم بلوغهم شأو الأنبياء و رُتَبَتهم، و هكذا الأنبياء لم يُكلِّموا الناس على قدر عقول انفسهم, بل إنّما كلّموهم بمقدار عقولهم كما روي عن النبـي(ص) أنّه: ما كلَّم العبادَ بكنه عقله قطّ[1].

و الحاصل أنّ القرآن مشتمل على العلم اللائق بالنبـي(ص) و هو فوق ما فـي وسع الناس و ان لم يُكَلَّفوا الاّ بما فـي وسعهم، و الذي فـي القرآن بالقياس الى العلم الذاتي الأزلـي الذي هو عين ذات الله، محدود بفصلٍ غير متناهٍ و لو كان العلم القرآنـي غير محدود فهو كنعيم الجنّة غير متناهٍ بالعرض لا بالذات لانّ نعيمها و إن كان اَبَدياً و لكنه اَبَديّ بالعرض لا بالذات لأنّه قائم بمبدئه الأبديّ بالذات. و الله سبحانه و ان لم يُكلِّم عباده بكُنه علمه لاستحالة ذلك و لكن لم يلاحظ فـي ايداعه العلم فـي القرآن عقول الناس فقط بل انزل فيه ما يعادل عقول الأنبياء(ع ) و من هنا قيل انّ القرآن على الأربع و هي العبارات و الإشارات و اللطائف و الحقائق، و الأوّل للعوام و الثانـي للخواص و الثالث للأولياء و الحقائق للأنبياء فهو أي القرآن مائدة الله و مأدبته و فيه جميع أنواع الغذاء للناس كافة.

إنّ القرآن يرى أنّ الاصل فـي الوجود هو الله سبحانه و لا يدانيه شيء فـي الكون و أنّ الأصل فـي الايجاد هو افاضته التـي لا يقاربها شيء و أنّ الأصل فـي الكمال الانسانـي هو التوحيد و أنّ الاصل فـي


[1]. راجع: الكافـي، ج 1، ص 23.

تسنيم، جلد 1

51

الكمال الاجتماعي هو الاتّحاد أي توحيد الكلمة المنبعث من كلمة التوحيد أي لا اله الا الله. و مغزا هذه الكلمة ليس قضيتين إحداهما سالبة و الأخرى موجبة بأن تكون الفطرة الأصلية فارغة عن كليهما و متساوية النسبة اليهما حتى يسلب الإلحاد عنها و يثبت التوحيد لها لأن كلمة الاّ، فـي هذه الجملة التوحيدية بمعنى الغير، المفيد للاتّصاف فمغزاها هو نفي غير المبدأ الواحد المفطور عليه الناس, يعنـي أنّ غير الله الذي عُجِنَت الفطرة بمعرفته و الايمان به و الانعطاف نحوه و الْوَلَه اليه و الاعتماد عليه و التحيّر فيه مسلوبٌ, فليس هنا الاّ قضيّة واحدة, فالتوحيد أي المعرفة بأنّ المبدأ بالذات و المؤثّر بالذات و الربّ بالذات واحد ليس كمثله شيء، يوجب وحدة النفس و اتّحاد شؤونها العلمية و العملية لانسياقها اَجْمعَ نحو المعبود الواحد و انصِباغها اكتع بصبغته, فالانسان الموحّد متّحد القوى الظاهرة و الباطنة فلا تعدّد هنا و لا تنازع و لا نفاق هنالك و لاشِقاق.

فاذا صار هذا الانسان واحداً فـي نفسه و متحدّاً فـي شؤونه فله أن يتّحد مع غيره الواحد فـي نفسه المتّحد فـي شؤونه و هكذا، فبذلك تحصل الوحدة الاسلامية فيرتفع النزاع و لا يَتَطرّق الفَشَل و لا تذهب الريح فتصير الأمّة الواحدة يداً على من سواهم يَسعى بذمّتهم اَدْناهم. هذا هو الاتّحاد الخاص بين المسلمين و هو أعلى مراتب الوحدة. ثمّ تلي هذه المرتبة العليا مرتبة وسطى و هي وحدة الاُمّة المعتقدة بالتوحيد و الوحي و النبوّة و اِن لم يعتقد بعضهم بنبوّة الخاتم و ما جاء به من القرآن الكريم حسبما يستفاد من قول الله سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ

تسنيم، جلد 1

52

تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً﴾.[1] فاذا اتّحدت الأُمم التوحيديّة بنفي التثنية و التثليث و عدم عبادة احدٍ غير الله و نفي الاشراك به رأساً و عدم اتّخاذ بعضهم بعضاً ربّاً، لا تتفاخر امّةٌ على امّةٍ ولا تستكبر و لا تطغى و لا تَتيهُ و ما الى ذلك من مساوىء الملوك والطغاة اللئام, فهنالك تَحيى كلمةُ الحق و تعلو، و تموت كلمة الباطل و تدحض، فلا اليهود تزعم انّه لا يدخل الجنّة الاّ من كان هوداً و لا النصارى تَتَوهّم أنّه لا يدخلها إلاّ من كان نصرانيّاً بل كلّهم يعترفون بأنّ الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و عملوا صالحاً (أي عملوا بما هو الحجّة فـي العصر) فهؤلاء اهل السعادة و الجنّة و انّ هؤلاء لا خوف عليهم و لا هم يحزنون. هذه هي المرتبة الوسطى من الوحدة و الاتّحاد.

ثمّ تلي هذه المرتبة الوسطى مرتبة اخرى و هى العقبى أي وحدة الاُمّة الانسانية المعتقدة بكرامة الانسان و حريّته و استحقاقه لغير واحد من الحقوق السامية التـي امضاها الدين الالهي لمن اعتقد به او لم يعتقد كوجوب العدل و حرمة الظلم, و ما الى ذلك من الحقوق المعقولة و المقبولة لله سبحانه كما يشير اليه قوله تعالى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فـي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[2]. فاذا روعيت هذه الأصول ترتفع الخصومة و تتصالح الأمم و يتبدّل الظلم بالعدل و الفقر بالغنا و التعب


[1]. سورة آل‌عمران، الآية 64.

[2]. سورة الممتحنة، الآية 8.

تسنيم، جلد 1

53

بالرفاه و الشقاء بالسعادة و بذلك يمكن التناظر و المحاجّة الكلامية و يتبدّل الالحاد بالتوحيد و يستقرّ القرآن المهيمن على جميع الصّحف و يصبح قانوناً عاماً بمنّه تعالىٰ. و الغرض أنّ التفسير إنمّا يتمّ اذا كان مبنيّاً على هذه الاُصول من البداية و إلىٰ النهاية و لذا اُمِرْنا بالاعتصام بهذا الحبل المتين سيّما فـي زَمَن الفتنة.

إنّ القرآن يرى الانسان سالكاً لا ساكناً و كادحاً لا فَشِلا و صاعداً لا سامداً و لابدّ للسالك من مسلك يَعْبُر عليه و يقطع حدوده و يسير مِن حدٍّ منه الى حدٍّ آخر. و المستفاد من قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الإنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾[1] هو أصل كدحه و تحتّم سيره, و المستخرج من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[2] هو انّ المسير و المعبر هو النفس الانسانية فهي ـ أي النفس ـ السالك و هي المسلك لانّ المعَبر هو العقيدة التوحيدية و التخلّق بأخلاق الله و العمل الصالح و ذلك كلّه داخل فـي هويّة الانسان و جوانحه و جوارحه فيصير ـ الانسان ـ بنفسه بعد تعليم الكتاب و الحكمة و غِبّ التزكية صراطاً مستقيماً جزئياً مرتبطاً بالصراط المستقيم الكلّي و هو هويّة خليفة الله و رسوله و وليّه، فيكون وزان الانسان الكامل المعصوم بالنسبة الى نفس هذا السالك على مستوى الفطرة، وزان النفس بالقياس الى البدن فهو أي خليفة الله بمنزلة نفس النفس و روح الروح و لذا يكون اولى بالمؤمنين من أنفسهم كما انّ نفس


[1]. سورة الانشقاق، الآية 6.

[2]. سورة المائدة، الآية 105.

تسنيم، جلد 1

54

كل واحد يكون اولى بالتصرّف فـي بدنه من غيرها حسبما هو المستنبط من قوله سبحانه: ﴿النبـيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾[1].

فيرتبط الأرواح بعضها ببعض لأنـّها جنودٌ مُجنّدة فما تعارف منها ائتلف كما أنّ ما تناكر منها اختلف. و حيث انّ الانسان و ان كانت حياته يوم القيامة منحازةً عن معيشة الآخرين اذ المستظهر من قوله تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً﴾[2] هو ذلك, الاّ انّ حياته فـي الدنيا اجتماعية لابدّ فيها من التعاون و التساعد و التعاضد, فسلوكه و كَدْحُه و صعوده إنّما يتمّ اذا انضمَّ الى الايمان الصائب و العمل الصالح لنشر مآثر هذين الكمالين و تبليغ آثارهما بالقياس الى غيره من أبناء البشر, لانّ منطوق قوله تعالي: ﴿وَالْعَصْرِ ٭ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ٭ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[3] هو ذلك, لدلالتها على لزوم الأمور الأربعة من الايمان و العمل الصالح و من التواصي بالحقّ القابل للانطباق على ايمان الغير و التواصي بالصبر الصالح للانطباق على العمل الصالح, و المراد من الصالح هو المنطبق على فتوى رسول ذلك العصر و شريعته. و حيث انّ انسجام الامّة الاسلامية مطلوب جدّاً و لا يحصل ذلك الاّ بالدعوة و الدعاء معاً و بالقول و الفعل كذلك, و لذا أمر الاسلام بدعاء الأربعين مؤمناً فـي صلاة الليل و بصلة أربعين جاراً من الجهات الستّ الدارجة اليوم, بخلاف ما فـي العهد الغابر


[1]. سورة الاحزاب، الآية 6.

[2]. سورة مريم، الآية 95.

[3]. سورة العصر، الآيات 1 ـ 3.

تسنيم، جلد 1

55

المنحصر فيه الجيران فـي جهات أربع من الأمام و الخلف و اليمين و اليسار, و أمّا اليوم حيث يسكن اهل العصر فـي بروج مشيّدة مرتفعة فكل واحد ممّن يسكن بيتاً من بيوتها فله جيران يحفّونه من الجهات الستّ التـي منها العلوّ و السفل عدا الجهات الأربع المعهودة.

و حيث انّ الانسان حسب تعريف القرآن كادح الى ربه[1] و سالك فـي نفسه فلابدّ له من هادٍ يهديه علماً و عملاً. أمّا الهداية العلميّة ففيما يرتبط بتصوّره و تصديقه و جزمه, و أمّا الهداية العمليّة ففيما يرتبط بميله و ارادته و عزمه، و لا هادي الاّ الله و لا هداية إلاّ بالقرآن, و كما انّ الله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيٌء﴾[2] كذلك ليس للقرآن مثيلٌ و لو اجتمعت الانس و الجنّ على ان يأتوا بمثله[3]، فصحّ القول المطلق بانّ هذا القرآن يهدي للتـي اقوم[4] و بأنّ الانسان جاهل فـي حدّه و عالم فـي ظلّ ربّه و بانّ الانسان ضالّ فـي نفسه و مهتدٍ فـي ضوء هداية خالقه و بأنّ الانسان اُوتِي علماً قليلاً فلا العلم له بالأصالة بل اوتـي من غيره, و لا العلم الذي اوتيه كثير لدلالة القرآن الذي يهدي للتـي اقوم بأنّه ما اوتـي من العلم إلاّ قليلاً, فلا يصحّ له دعوى كونه عليماً اذ لا علم له بحسب ذاته, و لا دعوى كون علمه كثيراً لأنّ الله الذي آتاه علماً قد صرّح بقوله: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً﴾,[5] و كما انّ وجود الانسان من الله


[1]. راجع: سورة الانشقاق، الآية 6.

[2]. سورة الشوريٰ، الآية 11.

[3]. راجع: سورة الإسراء، الآية 88.

[4]. راجع: سورة الإسراء، الآية 9.

[5]. سورة الإسراء، الآية 85.

تسنيم، جلد 1

56

كذلك تعليمه و تربيبه و تَربِيَتُه من الله و تكميله بالارادة و الاختيار منه سبحانه, فهو أي الانسان بعد ما خلق مريداً و مختاراً يكون دائماً بين الأمرين، لا فـي احدهما من الجبر الباطل أو التفويض المحال، فان اراد الخير و اختاره بعد ما علمه و اطّلع عليه فهو مهتدٍ, و ان جهل الخير و لم يطّلع عليه أو اطّلع عليه و لم يُرِده مختاراً فهو ضالٌ, و القرآن الكريم أقوى و أصحّ و أمتن و أتقن كتابٍ فـي باب الهداية الى الخير و الصلاح و الفلاح و النجاح, و كذا فـي باب التحذير و الترهيب و النهي عن الشرّ و الطلاح, و لا يماثله فـي ذلك كتاب اصلاً, لأنّ مؤلّفه و متكلّمه و كاتبه و مُنشِئَه واحدٌ بالاطلاق، أي وَحدَهُ ذاتاً و وَحدَهُ وصفاً و وحدَهُ فعلاً، بلا تكرار، تدبّر تجد.

إنّ القرآن كتاب واحد لاندّ له و كلام فارد لا مثل له, فلو فرض كتاب آخر و كلام سواه لم يكن هو قرآناً, اذ لا تكرار فـي التجلّي و معناه انّه لا يتعدّد الوجود الواحد لامتناع اجتماع المثلين, بل له اسم القرآن فقط دون مسمّاه, و ذلك لانّ الموجود الذي لا مثيل له اذا اُطلق مفهومه على غير مصداقه الأصيل فمعناه انّه اسم فقط و لا يصحبه المسمّى, كاطلاق لفظ الرّبّ و الإلـٰه و غير ذلك على الصنم و الوثن, حيث إنّ هذه الألفاظ و ان كان لكل منها مفهوم, و لكن لا مصداق له فـي شيء منها اصلاً حسب ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿إِنْ هِي إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ﴾[1]. اذ الصنم و الوثن و نحو ذلك ممّا هو فـي الخارج ليس مصداقاً لمفهوم الربّ و لا فرداً


[1]. سورة النجم، الآية 23.

تسنيم، جلد 1

57

لمعنى الإلـٰه، فلو اطلق لفظ القرآن على كتاب آخر و لو أتىٰ به النبـي(ص) لا من حيث انّه نبـيٌّ يوحىٰ اليه بل من حيث هو بشر متعارف كآحاد الناس لم يكن لمفهومه مصداق, بل انّما هو اسم القرآن سمّوه به, إلاّ ان يكون مشتركاً لفظياً و له معنى آخر فحينئذٍ يخرج عن البحث. و منه ينقدح ما فـي اقتراح قومٍ بقولهم للنبـيّ(ص): ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذَا﴾[1]. اذ القرآن هو الأوّل و الآخر و لا آخر له غيره, لانّه كلام متكلم هو الأوّل الذي لا أوّل غيره و هو الآخر الذي لا آخر غيره، تدبّر تجد.

هذا آخر ما أردنا كتابته فـي هذه الوجيزة التـي تُجعل مقدمةً لترجمة تفسير «تسنيم» من الفارسيّة الى العربيّة, و المرجوّ من الله سبحانه ان يجعل المنقول عنه و المنقول اليه تفسيراً للقرآن بالقرآن من ناحية، و بهدايةٍ من مأثورات العترة الطاهرين من ناحيةٍ اخرى، و بدراية العقل البرهانـي المستمع الواعي من ناحية ثالثة.

والحمد لله رب العالمين

جوادي الآملي

شهر ذي الحجة 1430


[1]. سورة يونس، الآية 15.

تسنيم، جلد 1

58

تسنيم، جلد 1

59

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المفسّر

الفصل الأوّل: لغة القرآن الكريم

إنّ القرآن الكريم هو كتاب هدىٰ لجميع الناس في جميع العصور، وشمس القرآن ساطعة لا تأفل أبداً، تضيء بنورها الوهّاج جميع الأرض بطولها وعرضها وعلىٰ امتداد الأزمنة والدهور... وحيث ماتوجد هناك بشرية فإنّ نور هدىٰ القرآن يشرق عليها ويضيء: ﴿وَمَا هِي إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَر﴾[1]، ﴿وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين﴾.[2] فلايحدّه عصر ولا مصر ولا يختصّ بقوميّة محدّدة ولا عنصر معيّن.

ولقد بيّن الله سبحانه نطاق رسالة النبيّ الأكرم(ص) بقوله تعالىٰ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاس﴾[3]...، وبناءً عليه فإنّ رسالته(ص) عامّة ودائمة، وكتابه عالميّ وخالد، وقومه أيضاً هم جميع أفراد البشريّة وليس


[1] . سورة المدّثر، الآية 31.

[2] . سورة القلم، الآية 52.

[3] . سورة سبأ، الآية 28.

تسنيم، جلد 1

60

مجموعة من أهل الحجاز... ومجال الانذار للنبيّ(ص) أيضاً بمقدار سعة ﴿العالمين﴾ كما بيّنته الآيتان: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرا﴾[1]، ﴿نَذِيراً لِلْبَشَر﴾.[2]

والكتاب الّذي اُنزل هداية للجميع، ونطاق ومساحة ارشاده وفعّاليته عالميّة وشاملة يجب أن يمتاز بأمرين:

1. يجب أن يتكلّم بلغة عالميّة حتّىٰ يستطيع الجميع أن يستوعبوا مافيه من المعارف، ولا يحتجّ أحد بانّ لغته مبهمة ومعقّدة وغير مفهومة، بحيث يرىٰ غرابته وعدم انسجامه مع الثقافة عقبة ومانعاً يحول دون اتّباعه وسلوك صراطه المحقّق للسعادة.

2. يجب أن يكون محتواه مفيداً ونافعاً للجميع، بحيث لا يستغني عنه أحد. كالماء الّذي هو مصدر حياة لجميع الأحياء... فليس هناك من مخلوق حيّ في جميع العصور والأمصار الاّ وهو محتاج إليه.

اللغة العالميّة للفطرة

في هذا الفصل نتحدّث عن الأمر الأوّل وهو أنّ لغة القرآن عالميّة فلا التمتّع بثقافة خاصّة شرط في فهم معارف القرآن الكريم بحيث


[1] . سورة الفرقان، الآية 1. إنّ المقصود من العالمين في بعض الاستعمالات القرآنيّة هو الناس في عصر واحد، وفي بعض الموارد، كهذه الآية، الناس في عصر خاصّ وما بعده من العصور، وفي بعض الموارد كآية ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾ ليس العصور الماضية والآتية فحسب بل يشمل أيضاً جميع العوالم غير الإنسانيّة كعالم الملائكة والجنّ وعالم الجماد والنبات... إلاّ أن يتمّ اثبات وجود قرينة علىٰ الاختصاص بغير النبات والجماد.

[2] . سورة المدّثر، الآية 36.

تسنيم، جلد 1

61

يصعب بدونها إدراك أسرار القرآن، ولا الحضارة المعيّنة مانع من ذلك، بحيث انّ الانتماء الىٰ تلك الحضارة يحرم أهلها من فهم لطائف القرآن، واللغة الوحيدة الّتي تجعل عالم البشريّة الواسع منسجماً ومترابطاً هي لغة «الفطرة»، فلغة الفطرة هي الثقافة العامّة والمشتركة بين جميع بني الانسان في جميع العصور والأمصار، ويعرفها وينتفع منها كلّ انسان، ولا يتيسّر لأيّ فرد أن يفكّر بأنّه غريب عنها، ولا تطال يد التاريخ طهارتها ونقاءها وبناءها الشامخ المنيع، لانّ الله سبحانه خالق هذه الفطرة وقد حفظها وصانها من كلّ سوء: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيّم﴾.[1]

وليس مقصودنا من لغة القرآن في هذا الفصل هو «اللغة والأدب»، إذ من الواضح أنّ معارف القرآن قد تجلّت للناس بلغة وأدب العرب، وأنّ غير العرب لايمكنهم معرفة لغة القرآن الكريم ما لم يتعلّموا اللغة والأدب العربيّين.

انّ مقصودنا من كون لغة القرآن عامّة لجميع الناس هو تحدّث القرآن بالثقافة المشتركة لجميع الناس، فالناس وان اختلفوا في لغاتهم وآدابهم، ولم يتّحدوا في أعرافهم وثقافاتهم القوميّة والإقليميّة، ولكنّهم مشتركون في ثقافتهم الانسانيّة الّتي هي ثقافة الفطرة الثابتة الّتي لاتبديل لها ولا تغيير، والقرآن الكريم يتكلّم مع الناس بهذه الثقافة، فالمخاطب فيه هو فطرة الناس، والغرض من ارسال القرآن هو تنمية فطرة الانسان وتكميلها، ولذلك فإنّ لسان القرآن مفهوم لدىٰ الجميع، وإدراكه ميسّر لعامّة البشر.


[1] . سورة الروم، الآية 30.

تسنيم، جلد 1

62

ولقد ظهرت لغة القرآن العالميّة وتجلّىٰ خطابه المشترك وثقافته العامّة في شكل المجتمع الرائع الّذي ضمَّ سلمان الفارسيّ، وصهيب الروميّ، وبلال الحبشيّ واويس القرنيّ وعمّار بن ياسر وأباذرّ الحجازيّين في ظلّ النبيّ العالميّ محمّد بن عبدالله(ص)، الّذي أعلن في الآفاق انّني «اُرسلِتُ إلىٰ الأبيض والأسود والأحمر».[1] ففي مقام الوحي والرسالة الّذي هو الظهور التّام لوحدة الله سبحانه تكون «الكثرة في الصورة» محكومة «للوحدة في السيرة»، ويصبح تعدّد اللغات والاُصول والقوميّات والأقاليم والعادات والآداب وسائر العوامل الخارجيّة المتنوّعة مقهوراً لاتّحاد الفطرة الباطنيّة.

انّ كون فهم القرآن عامّاً وكون ادراك معارفه سهلاً للجميع هو أمر قد بيّنته العديد من الآيات الكريمة كما في قوله تعالىٰ:

1. ﴿ياأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين﴾.[2]

2. ﴿يا أَيهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيكُمْ نُوراً مُبِينا﴾.[3]

3. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾.[4]

4. ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾.[5]


[1] . بحار الانوار، ج16، ص323.

[2] . سورة المائدة، الآية 15.

[3] . سورة النساء، الآية 174.

[4] . سورة التغابن، الآية 8.

[5] . سورة الأعراف، الآية 157.

تسنيم، جلد 1

63

ففي هذه الآيات، ذُكر القرآن الكريم علىٰ انّه «نور» و «كتاب مبين» أي بيِّن وواضح ومبيِّن[1] و «برهان» أي نور أبيض ولامع، والنور وإن كان ذا درجات ومراتب مختلفة بحيث أنّ بعض العيون غير قادرة علىٰ رؤية درجاته الشديدة، لكن لايمكن لأحد أن يدّعي بأنّ النور غامض أو أنّه لايمكن مشاهدته أصلاً.

الله سبحانه الّذي هو نور السماوات والأرض ﴿اللهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾[2] قد خلق لهداية الناس نوراً خاصّاً، وهذا النور في ذاته بيِّن وواضح، ولا توجد في جميع أنحائه نقطة مبهمة ولا زاوية مظلمة، ولا تحتاج رؤيته الىٰ نور آخر، كما أنّه مبيِّن وموضّح لحياة الناس في جوانبها المختلفة من العقيدة والأخلاق والعمل. فمن مميّزات هذا النور انّه «الظاهر بذاته والمظهر لغيره»، كما أنّه ليس محتاجاً الىٰ الغير لأنّ كلّ شيء يجب أن يرىٰ بواسطة النور لكنّ النور لايُرىٰ بواسطة شيء آخر، وإنّما هو يُرىٰ بنفسه.

5. ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيكَ الْكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَي‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِين﴾[3] القرآن تبيان أي مبيّن لجميع المعارف الضروريّة والنافعة للبشريّة، وهو متصدٍّ لبيان جميع المعارف والأحكام الّتي من شأنها تحقيق هداية وسعادة وكرامة وعزّة المجتمعات الانسانيّة، ومثل هذا الكتاب لابدّ أن يكون في توضيح مضمونه وطريقته ومسلكه بيّناً


[1] . انّ وصف القرآن بالمبين جاء في آيات عديدة مثل الآية 1 من سورة يوسف، والحجر والنمل والآية 2 من سورة القصص والآية 69 من سورة يس و... .

[2] . سورة النور، الآية 35.

[3] . سورة النحل، الآية 89.

تسنيم، جلد 1

64

وواضحاً، لا أن يكون مبهماً ومجملاً ومحتاجاً الىٰ المبيّن، لأنّ الكتاب المبهم الّذي لايتمكّن من كشف معانيه وتفسير مطالبه وعباراته لايمكنه أبداً أن يبيّن المعارف المحقّقة للسعادة. ولذلك فإنّ القرآن الكريم في إطاره الداخليّ وفي ذاته «بيِّن» وبالنسبة الىٰ الخارج عنه «مبيِّن».

6. ﴿أَفَلاَ يتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.[1]

انّ دعوة وترغيب جميع الناس الىٰ التدبّر في القرآن الكريم، وتوبيخهم علىٰ عدم التفكّر والتدبّر في آيات القرآن شاهد ناطق علىٰ كون لغة القرآن عالميّة وانّ فهم معارفه شامل للجميع، لأنّ القرآن لو كان خطابه بثقافة مختصّة ببعض الناس لكانت دعوته الجميع الىٰ التدبّر في الآيات لغواً.

7. ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْآنِ لاَ يأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا﴾.[2] انّ تحدّي القرآن الكريم عالميّ كما يظهر من هذه الآية الكريمة، كما أنّه خالد أيضاً. ويلزم من كون تحدّيه عالميّاً انّ فهمه وإدراكه مقدور للجميع، لانّ هذا التحدّي لاينحصر في اطار اللغة والأدب والفصاحة والبلاغة حتّىٰ يكون المقصودون في الخطاب به هم العرب وحدهم، أو أنّهم العارفون باللغة والأدب العربيّ فقط، بل انّ التحدّي يشمل معاني القرآن ومحتواه وثقافته الخاصّة أيضاً.

واعتراف العالمين بعجزهم عن الاتيان بمثل القرآن إنّما يكون مفيداً


[1] . سورة محمّد(ص)، الآية 24.

[2] . سورة الاسراء، الآية 88.

تسنيم، جلد 1

65

ونافعاً إذا كان محتوىٰ القرآن ومعانيه مفهومة لديهم، وإلاّ فإنّ الدعوة الىٰ الإتيان بمثل كتاب لايستطيع كثير من الناس فهم لغته الخاصّة وإدراك معانيه إنّما هو عمل لغو وليس من الحكمة إطلاقاً.

تنويه: 1. انّ كون القرآن الكريم يتحدّث بلغة الفطرة وكون فهمه عامّاً وشاملاً لايعني انّ جميع الناس متساوون في نصيبهم من إدراك وفهم هذا الكتاب الإلهيّ.

فمعارف القرآن ذات مراتب ودرجات كثيرة، ولكلّ فئة من الناس نصيبها من تلك الدرجات: «كتاب الله عزّ وجلّ علىٰ أربعة أشياء: علىٰ العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارة للعوامّ والإشارة للخواصّ واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء»[1] وكلّ انسان ينال نصيبه من القرآن بمقدار استعداده حتّىٰ تنتهي المراتب الىٰ «المقام المكنون» الّذي لايبلغه إلاّ النبيّ الأكرم(ص) وأهل بيته(ع ).

2. انّ القرآن الكريم وإن كان عالميّاً وخالداً ولا يختصّ بعصر ولا اقليم ولا مجموعة خاصّة، ولكنّ الجميع لايملكون توفيق الإستفادة منه.

فالذنب والفساد والإلحاد والتقليد الباطل للأسلاف يختم علىٰ قلب الانسان ويجعل عليه قفلاً يمنعه من التدبّر في معارف القرآن وإدراك أسراره ﴿أَفَلاَ يتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.[2] ومعارف القرآن لاتنفذ في القلب المقفل، أمّا اُولئك الّذين صانوا فطرتهم سواء كانوا مثل صهيب الّذي جاء من الروم أو مثل سلمان الّذي جاء من ايران أو مثل


[1] . البحار، ج75، ص278.

[2] . سورة محمّد(ص)، الآية 24.

تسنيم، جلد 1

66

بلال الّذي جاء من الحبشة أو مثل عمّار أو أبي ذرّ الّذين هما من الحجاز فإنّهم أمام هذا الكتاب الإلٰهيّ سواء وعلىٰ نسق واحد، لأنّ القرآن الكريم لايختصّ بإقليم ولا قوميّة ولا عنصر معيّن وإنّما هو شفاء للأمراض الروحيّة وسبب للهداية ونزول الرحمة علىٰ جميع الناس: ﴿يا أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين﴾.[1]

والمقصود هو أنّ هداية القرآن عامّة بالأصل. وأمّا الآيات الكريمة مثل: ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِين﴾[2]، ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخْشَاهَا﴾[3]، ﴿لِينذِرَ مَن كَانَ حَيّا﴾[4] فهي ليست ناظرة الىٰ انّ دعوة القرآن مختصّة بالأتقياء وذوي الخشية وأصحاب القلوب الحيّة، بل المقصود منها هو انّ الاستفادة والاهتداء والانتفاع وأمثال هذه الاُمور هي لهؤلاء، ففي نفس الوقت الّذي جاء فيه القرآن لجميع الناس فإنّ من يتأثّر بآياته ويتّعظ ويهتدي بها هم المتّقون وذوو القلوب المستيقظة، ولذلك نرىٰ الىٰ جانب قوله تعالىٰ ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخْشَاهَا﴾[5]، قوله تعالىٰ ﴿وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّا﴾[6] ممّا يفيد كون أصل الانذار عالميّاً، لأنّ القرآن نزل ﴿لِلْعَالَمِينَ نَذِيرا﴾.[7]


[1] . سورة يونس، الآية 57.

[2] . سورة البقرة، الآية 2.

[3] . سورة النازعات، الآية 45.

[4] . سورة يس، الآية 70.

[5] . سورة النازعات، الآية 45.

[6] . سورة مريم، الآية 97.

[7] . سورة الفرقان، الآية 1.

تسنيم، جلد 1

67

فالّذين يتأثّرون بالانذار هم ذوو البصيرة وأحياء القلوب، أمّا الّذي لايتّعظ ويبتلىٰ بسوء العاقبة ويشمله الوعيد الإلٰهيّ فهو اللدود اللجوج، وهذه المعاني تستفاد من الآيات الّتي اُشير الىٰ أمثلة منها.

وانّ احد الشروط اللازمة للإنتفاع من القرآن هو الفطرة السليمة الّتي لم تتكدّر بغبار وظلمة الذنب. وحتّىٰ العالِم المادّي أيضاً إذا لم يلوّث فطرته التوحيديّة بالفساد فإنّه يستطيع أن ينتفع بهدىٰ القرآن. ولكنّ لو اطفأ نور فطرته بعناده الإلحاديّ فلن يكون له من القرآن نصيب، لأنّه سوف يعدّ القرآن اُسطورة ولا يكلّف نفسه عناء التفكير فيه.

3. حيث انّ للقرآن وظيفة خاصّة وطريقة ومسلكاً معيّناً في تفهيم ثقافة الفطرة فإنّ جميع المواقف والأحكام الصادرة من قبل المفرطين أو المفرّطين في هذا المجال غير صحيحة؛ فجماعة قد أعرضت عن معرفة القرآن وقالت انّ الحجّية مختصّة بالروايات فقط وحسبوا أنّ القرآن أخرس أبكم، وهو ليس سوىٰ ألغاز ورموز غير مفهومة.

وجماعة قالت بأنّ لغة القرآن هي محض رموز تشير للمعارف الباطنيّة، ولا ينالها أحد إلاّ الأوحديّ من المرتاضين. وجماعة استخفّوا بالقرآن وأنزلوه الىٰ درجة بحيث قالوا إنّ معرفة اللغة العربيّة وحدها كافية لفهم القرآن، وإنّ عامّة الناس مؤهّلون لفهم معاني القرآن دون الحاجة إلىٰ علم التفسير. وكلّ هذه الأقوال ماهي إلاّ نسيج من الأوهام وأفكار منسوخة.

4. إنّ كون القرآن مفهوماً لعامّة الناس وكون ادراك معارفه ميسّراً للجميع، لايعني انّ كلّ فرد يستطيع ذلك، حتّىٰ إذا لم يكن عارفاً بقواعد

تسنيم، جلد 1

68

الأدب العربيّ ولم يطّلع علىٰ العلوم الأساسيّة الاُخرىٰ الّتي لها دور في فهم القرآن، وانّ له الحقّ في التدبّر في المفاهيم القرآنيّة والاستنباط من القرآن، وبالنتيجة فهو يستطيع ان يعتمد علىٰ نتائج استنباطه ويحتجّ بها؛ بل المقصود هو أنّه إذا كان هناك شخص مطّلع وعارف بقواعد الأدب العربيّ ومحيط ببقيّة العلوم الأساسيّة المؤثّرة في فهم القرآن، فإنّ له الحقّ في أن يتدبّر في مفاهيم القرآن وأن يعتمد علىٰ ثمرة استنباطه ويحتجّ بها.

أساليب تبيين المعارف في القرآن الكريم

لقد بيَّن الله سبحانه المهامّ الرساليّة للنبيّ الأكرم(ص) بأنّها تلاوة الآيات علىٰ الناس، وتعليم الكتاب والحكمة لهم، وتزكية نفوسهم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يتْلُوا عَلَيهِمْ آياتِهِ وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة...﴾[1] والجامع المشترك بين كلّ هذه المهامّ الرساليّة هو «الدعوة إلىٰ الله» الّذي هو بمثابة الأساس لمناهج وبرامج الأنبياء، وقد بيّن القرآن أساليب الدعوة بقوله: ﴿اُدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِي أَحْسَن﴾[2] وعندما علّم الله سبحانه نبيّه الأساليب المتنوّعه للدعوة ـ فإنّه سبحانه استخدمها أيضاً في تبيين وتفهيم المعارف القرآنيّة.

والسرّ في استخدام الأساليب المتنوّعة للدعوة والتعليم، هو انّ الناس وإن كانوا مشتركين في الثقافة الفطريّة العامّة، لكنّهم ليسوا علىٰ مستوىٰ


[1] . سورة الجمعة، الآية 2.

[2] . سورة النحل، الآية 125.

تسنيم، جلد 1

69

واحد في الذكاء ودرجات الفهم، وكما وصفتهم بعض الروايات فإنّهم مختلفون كمثل الذهب والفضة: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة»[1]؛ فبعض مخاطبي القرآن الكريم اُناس بسطاء في التفكير والبعض الآخر منهم حكماء عقلاء يمتازون بعمق التفكير ودقّة النظر.

ولذلك كان لازماً علىٰ هذا الكتاب الإلهيّ العالميّ الشامل أن يطرح المعارف الفطريّة بأساليب متنوّعة ومستويات مختلفة، حتّىٰ لايعتبر المحقّقون وذوو الفكر العميق تعاليم الوحي ساذجة ومن ثمّ يحسبون أنفسهم في غنىٰ عنها، وحتّىٰ لايتذرّع بسطاء الفكر والمقلّدون بتعقيدها وبالتالي يرون أنفسهم محرومين منها. وعلىٰ هذا الأساس فإنّ القرآن الكريم لم يقتصر علىٰ أساليب الحكمة، والموعظة الحسنة والجدال بالّتي هي أحسن في تبيين مقاصده، بل انّه عرض الكثير من معارفه بصورة المَثَل ونزّلها عن طريق التمثيل حتّىٰ تكون للبسطاء والمبتدئين تعليماً وللمحقّقين والعقلاء تأييداً وتأكيداً، وبالنتيجة يكون فهم القرآن متيسّراً للجميع.

انّ اُسلوب الجمع بين الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الأحسن من جهة والتمثيل والتشبيه ونقل القصّة من جهة اُخرىٰ في الدعوة والتعليم، هو من مختصّات الكتاب الإلهيّ، وليس هذا مألوفاً في أيّ كتاب من كتب العلوم العقليّة والنقليّة الّتي يكتفي مؤلّفوها في طرح البراهين الصرفة والأدلّة العقليّة أو النقليّة المحضة.

والمقصود هو انّ القرآن الكريم مضافاً الىٰ اقامته البرهان والدليل


[1] . بحار الانوار، ج58، ص65.

تسنيم، جلد 1

70

لإثبات معارفه بشكل عامّ فإنّه يضرب المثل أيضاً لأجل توضيحها وجعلها عامّة الفهم: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يتَذَكَّرُون﴾.[1] فمثلاً نراه يطرح أحياناً مسألة التوحيد في صورة (برهان التمانع) الّذي يعتبره الحكماء والمتكلّمون بلاغاً له ثقله ووزنه العلميّ، ويختلفون في كيفيّة توضيح التلازم بين المقدّم والتالي وبطلان التالي في ذلك القياس. وتارة يطرح التوحيد في مثل مبسّط يمكن حتّىٰ للاُمّي وغير المتعلّم أن يفهمه.

وتوضيح ذلك هو: انّ برهان التمانع قد ذُكر في القرآن الكريم علىٰ شكل قياس استثنائيّ وبصورة القضيّة الشرطيّة، حيث ورد مجموع المقدّم والتالي منها في سورة الانبياء: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾[2]، أمّا القضيّة الحمليّة وبطلان التالي فقد وردت في سورة الملك: ﴿مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ٭ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَينِ ينقَلِبْ إِلَيكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِير﴾.[3] وخلاصة برهان التمانع القرآنيّ هو انّ تعدّد الآلهة يؤدّي إلىٰ فساد نظام السماوات والأرض، ولكنّ السلسلة المترابطة لمخلوقات الله سبحانه ليس فيها أيّ تفاوت وأيّة فجوة وخلل وتفكّك، وكلّ موجود في نظام الخلق قد استقرّ في محلّه ودرجته وأخذ مكانه ومكانته، وليس هناك في هذه السلسلة من حلقة ضائعة تائهة، حتّىٰ يكون


[1] . سورة الزمر، الآية 27.

[2] . سورة الأنبياء، الآية 22.

[3] . سورة الملك، الآيتان 3 ـ 4.

تسنيم، جلد 1

71

فقدانها مخلاًّ في ترابط سلسلة الوجود، ولذلك فانّ الناظر مهما أمعن النظر وأعمل بصره ليجد فطوراً أو فجوةً أو خللاً في نظام الخلق المتقن فإنّه يرجع خاسئاً وهو حسير.

هذا البرهان بنفس محتواه قد بيّنه القرآن الكريم علىٰ شكل مثل مبسّط وبهذا النحو: هل يستوي العبد أو الخادم الّذي تنازع عليه عدد من السادة المختلفين فيما بينهم، مع العبد أو الخادم الّذي له مولىٰ وسيّد واحد ذو خلق حسن وطبع سليم؟ ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مَتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يسْتَوِيانِ مَثَلا﴾[1] أي انّ مايقوم به الخادم الثاني من خدمات تكون منسجمة ومتناسقة، لكنّ خدمات العبد الأوّل مختلّة وغير منسجمة.

والحاصل فإنّ القرآن الكريم واضافةً إلىٰ اتّباع طريقة الإستدلال والبرهان القاطع قد وسّع طريق الفهم علىٰ الناس بسلوكه طريق المَثَل كي يكون للبعض مرشداً ومؤيّداً وللبعض الآخر مفتاحاً وطريقاً للفهم، ولكن يجب الالتفات إلىٰ هذه النكتة وهي أنّه لاينبغي أبداً التوقّف عند حدود دائرة المَثَل، بل يجب أن نجعله منفذاً وجسراً للعبور نحو سعة المُمَثّل، ويجب أن نعتمد علىٰ المثل لنرتقي إلىٰ الأعلىٰ ويجب أيضاً أن نستثمر الموعظة والجدال الأحسن ونستفيض ونرتوي من الحكمة، وعندئذ سنسافر من مرحلة (العلم) إلىٰ مقام (العقل): ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُون﴾[2]، وبعدها نبني من (المعقول) مدرجاً نحو


[1] . سورة الزمر، الآية 29.

[2] . سورة العنكبوت، الآية 43.

تسنيم، جلد 1

72

(المشهود)، وننتقل من (الحصول) إلىٰ (الحضور)، ومن (الغيب) إلىٰ (الشهود)، ومن (العلم) إلىٰ (العين)، ومن منزل الإطمئنان الىٰ مقصد لقاء الله سبحانه، ومن هناك يستمرّ السير اللامتناهي (من الله الىٰ الله في الله) مع نغمة ونداء: «آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبُعد السفر»[1] ومع شهود المقصود وحيرة الممدوح وبنحو متناغم ومنسجم مع مناجاة الأئمّة المعصومين(ع ) حيث يقولون: «الهي هب لي كمال الانقطاع اليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتّىٰ تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل الىٰ معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك».[2]

اختلاف القرآن عن الكتب العلميّة في تبيين المعارف

إنّ للقرآن الكريم وكما مرّ آنفاً أساليبه الخاصّة في بيان المعارف الإلهيّة. وفيما يلي نبحث اختلاف القرآن عن الكتب العلميّة في تبيين المعارف:

إنّ الله سبحانه في مقام بيان الوظائف الرساليّة للنبيّ الأكرم(ص) يتحدّث تارة عن تلاوة الآيات علىٰ الناس وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية الأنفس ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يتْلُوا عَلَيهِمْ آياتِهِ وَيزَكِّيهِمْ وَيعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾[3]، وتارة اُخرىٰ يتحدّث عن إخراج الناس من ظلمات الجهل ومفاسد الضلالة إلىٰ نور الهدىٰ: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾[4] ويعدّ القرآن


[1] . نهج البلاغة، الحكمة 77.

[2] . مفاتيح الجنان، المناجاة الشعبانيّة.

[3] . سورة الجمعة، الآية 2.

[4] . سورة ابراهيم، الآية 1.

تسنيم، جلد 1

73

الكريم هو الزاد الّذي يحتاجه الرسول في طريق أداء وظيفته الرساليّة والأداة الّتي يستخدمها في تعليم وتزكية الناس: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يخَافُ وَعِيد﴾[1]، ﴿وَكَذٰلِكَ أَوْحَينَا إِلَيكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا﴾[2]، ﴿وَكَذٰلِكَ أَوْحَينَا إِلَيكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾.[3]

وعلىٰ هذا الأساس فإنّ القرآن الكريم لايمكن أن يكون مثل الكتب العلميّة المحضة حتّىٰ يتصدّىٰ لبيان المسائل العلميّة ومعرفة العالم فحسب، ولا أن يكون كالكتب الأخلاقيّة الّتي تكتفي بالموعظة، ولا أن يكون كالكتب الفقهيّة والاُصوليّة الّتي تكتفي بذكر الأحكام الفرعيّة ومبانيها واُصولها، وبنحو عامّ فإنّ القرآن لا يمكن أن يتّبع الأساليب المتداولة والمعتادة في الكتب البشريّة. فالقرآن الكريم ـ ولأجل تحقيق أهدافه المتطابقة والمتّحدة مع أهداف رسالة النبيّ(ص) العالميّة ـ قد اختار أساليب خاصّة نُشير فيما يلي إلىٰ بعضها:

1. الإستخدام الواسع للتمثيل لأجل تنزيل المعارف الثقيلة والرفيعة، وقد مرّ البحث في ذلك.

2. الاستفادة من اُسلوب الجدال الأحسن والاعتماد علىٰ النظريّات والآراء المفروضة الصحّة والمقبولة عند الخصم في الاحتجاج مع الأفراد الّذين يظهرون عناداً في مقابل أصل الدين أو القرآن خاصّة.


[1] . سورة ق، الآية 45.

[2] . سورة الشورىٰ، الآية 7.

[3] . سورة الشورىٰ، الآية 52.

تسنيم، جلد 1

74

3. مزج (المعارف والأحكام) مع (الموعظة والأخلاق)، و(تعليم الكتاب والحكمة) مع (تربية وتزكية الأنفس)، وربط المسائل النظريّة بالعمليّة والمسائل التنفيذيّة بالأهداف الضامنة لتنفيذها؛ كإشارته إلىٰ التقوىٰ بإعتبارها هدفاً للصيام بعد الأمر به في قوله تعالىٰ: ﴿يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلىٰ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾[1]، أو بعد ذكر خلق اللباس الّذي يواري بدن الإنسان ويحفظ جسده، تجد القرآن يتحدّث عن لباس التقوىٰ كأفضل حُلّة تحفظ روح الإنسان: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيكُمْ لِبَاساً يوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَير﴾.[2] وعندما يدور الحديث في أجواء الحجّ والعمرة لبيت الله، وحيث انّ الحجّ والعمرة يستلزمان السفر والسفر يحتاج الىٰ الزاد والمتاع، تراه يذكر زاد التقوىٰ ويصفه بأنّه خير زاد في السير والسلوك إلىٰ الله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ... ٭ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ... وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ﴾.[3]

كما جاء إلىٰ جانب ذكر بعض أحكام الصيام التوصية والتأكيد علىٰ حفظ الحدود ورعاية التقوىٰ الإلٰهيّة: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يتَّقُون﴾[4]، وكما يذكر القرآن الكريم تطهير وتزكية النفس الإنسانيّة مقترناً بالأمر بأخذ الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾.[5] وحتّىٰ إلىٰ جانب أبسط الأوامر


[1] . سورة البقرة، الآية 183.

[2] . سورة الاعراف، الآية 26.

[3] . سورة البقرة، الآيتان 196 ـ 197.

[4] . سورة البقرة، الآية 187.

[5] . سورة التوبة، الآية 103.

تسنيم، جلد 1

75

المتعلّقة بالعِشرة والتعامل الإجتماعيّ، كالضيف غير المدعوّ الّذي لم ينسّق لقاءه مع صاحب البيت ولم يتّفق معه في وقت سابق، ففي حال رفض المضيف واعتذاره عن قبوله يجب عليه الرجوع. هنا يتكلّم أيضاً عن تزكية الروح فيقول تعالىٰ ﴿... وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَىٰ لَكُم﴾.[1]

4. الحكم القاطع بالنسبة إلىٰ الأقوال والآراء الّتي ينقلها عن الآخرين. فالقرآن الكريم ليس كمثل بعض الكتب المتداولة يكون جامعاً للأقوال بحيث ينقل الأقوال والآراء المختلفة ولا يدلي بحكمه حولها، بل إنّ نقله لها يكون مقترناً ببيان حكمه عليها، ولذلك فإنّه إذا نقل قولاً أو رأياً مّا ولم يتحدّث عن ردّه أو إبطاله، فإنّ عدم الردّ علامة علىٰ الإمضاء والقبول؛ كما ينقل عن الولد الصالح لآدم(ع) قوله إنّ الميزان في قبول العمل عندالله هو التقوىٰ: ﴿إِنَّمَا يتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين﴾[2] ولايردّ هذا القول، ولذلك جاء في بعض الروايات بأنّ هذه الجملة سمّيت (قول الله)[3]، كما وذكرت أيضاً في الكتب الفقهيّة بعنوان أنّها قول الله، وبناءً علىٰ هذه الخصوصيّة سُمّي القرآن بأنّه «قول فصل»، قال تعالىٰ: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ٭ وَمَا هُوَ بِالْهَزْل﴾.[4]

ولكن بعد نقله لقول المنافقين، فإنّه يبطل هذا القول: ﴿يقُولُونَ لَئِن


[1] . سورة النور، الآية 28.

[2] . سورة المائدة، الآية 27.

[3] . تفسير نور الثقلين، ج1، ص615.

[4] . سورة الطارق، الآيتان 13 ـ 14.

تسنيم، جلد 1

76

رَجَعْنَا إِلَىٰ الْمَدِينَةِ لَيخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يعْلَمُون﴾.[1]

فقد كان قول المنافقين يتضمّن انّهم يحسبون أنفسهم أعزّة وانّ المؤمنين أذلاّء، فتصدّىٰ القرآن لقولهم بعد نقله وأبطله كما ردَّ من قَبْل كلامهم الباطل حول المحاصرة الإقتصاديّة للمؤمنين وعدم الإنفاق علىٰ من عند رسول الله كي ينفضّوا ويتفرّقوا عن النبيّ الأكرم(ص)، فنقل كلامهم هذا وانتقده وأبطله.[2]

إنّ الكتاب الّذي تنزّل من جهة الله الحكيم الحميد وامْتُدِح بصفة العزّة وهي (عدم القابليّة للنفوذ والاختراق)، لا يمكن للباطل ان يجد له طريقاً إليه من أيّة جهة كانت: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ٭ لاَ يأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَينِ يدَيهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد﴾.[3]

تنويه: انّ المواعظ والنصائح القرآنيّة الّتي تُذكر إلىٰ جانب الأحكام والمعارف تارةً تكون متأخّرة كما في الأمثلة السابقة، وتارةً متقدّمة كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْن﴾.[4]

5. الربط بين مسائل معرفة العالم ومعرفة الله. فمن أهمّ الميزات الّتي يختلف بها القرآن الكريم عن الكتب العلميّة هو انّ الكتب العلميّة


[1] . سورة المنافقون، الآية 8.

[2] . سورة المنافقون، الآية 7.

[3] . سورة فصّلت، الآيتان 41 ـ 42.

[4] . سورة النساء، الآية 32.

تسنيم، جلد 1

77

تبحث فقط وتبيّن الحركة الافقيّة للأشياء وظواهر العالم، فمثلاً ترىٰ خبير المعادن يقول إنّ ما يوجد الآن في جوف الأرض وبطون الجبال من معادن معيّنة قد كانت موجودة منذ ملايين السنين، وكم مرّ عليها من تطوّرات عديدة خلال تلك الفترة، وكم تنتظر في مستقبلها من التغيّرات، لكنّ القرآن الكريم الّذي هو كتاب هدىٰ ونور، وليس كتاباً علميّاً محضاً، يتحدّث عن الحركة العموديّة لظواهر العالم وارتباطها بالمبدأ من جهة وبالمعاد من جهة اُخرىٰ ـ أي انّه يتحدّث عن المبدأ الفاعليّ والمبدأ الغائيّ في حركة الموجودات وتحوّلها ـ كما في قوله تعالىٰ: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود﴾[1]، وقوله تعالىٰ: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيتُونَ وَالرُّمّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِه﴾[2]، وقوله تعالىٰ: ﴿أَوَ لَمْ يرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَي‏ءٍ حَيّ أَفَلاَ يؤْمِنُون﴾.[3] ففي هذا النوع من الآيات جاء الحديث عن المبدأ الفاعليّ لهطول الأمطار، والسبب الفاعليّ لحركة البذور الهامدة وتحوّلها الىٰ سنابل وأغصان تتمتّع وتنبض بالحياة النباتيّة، كما ذكر أيضاً المبدأ الأصليّ لايجاد الطرق في سلاسل الجبال البيضاء والحمراء والسوداء، ومن هو الموجد لأنواع الثمار والفواكه والحبوب الغذائيّة.


[1] . سورة فاطر، الآية 27.

[2] . سورة الانعام، الآية 141.

[3] . سورة الأنبياء، الآية 30.

تسنيم، جلد 1

78

والمقصود هو أنّ الدراسات العلميّة والفلسفيّة المتداولة حول أيّة ظاهرة معيّنة في العالم، كالنجم أو الجبل أو... أو حول كلّ العالم دون تخصيص جزء منه، لها سير افقيّ محض، فهي تبحث عن هذا الموجود المعيّن أو عن مجموع العالم، ماذا كان من قبل، وما هي حقيقته الآن، وماذا سيكون فيما بعد، ولا يوجد فيها ذكر للسير والحركة العموديّة للأشياء، خلافاً للقرآن الكريم الّذي يحرص في بيانه العلميّ للأشياء (بالمقدار الّذي تعرّض له) وفي تحريره الفلسفيّ لأصل العالم ان يضيف ذكر المسير العموديّ للأشياء، أي انّه يقول من هو المبدأ الفاعليّ لهذا الأمر وما هو مبدأه الغائيّ والهدف النهائيّ المقصود منه.

6. انتخاب المقاطع التاريخيّة ذات العبرة عند بيان القصص: فالقرآن الكريم ليس كتاباً تاريخيّاً حتّىٰ يسجّل وقائع كلّ قصّة ويسرد كلّ ماحدث فيها، بل انّه يتصدّىٰ لبيان مشاهد القصّة المرتبطة والمنسجمة مع هدفه وهو (الهدىٰ)، ثمّ يتحدّث عنها بعنوان انّها سنّة الٰهيّة أو (فلسفة التاريخ).

مثلاً نرىٰ أنّ القرآن قد ذكر اسم الكليم موسىٰ(ع) أكثر من مائة مرّة وقصّته ذكرت في 28 سورة وبنحو مفصّل، لكن لم تذكر فيها الاُمور ذات الطابع التاريخيّ والقصصيّ المحض، كتثبيت تاريخ مولده ووفاته الّذي لم يرد له ذكر في القرآن، بل إنّه يركّز علىٰ الجوانب الحسّاسة وذات العبرة في القصّة، فمثلاً ترىٰ القرآن الكريم لايتحدّث عن تاريخ ولادة موسىٰ وطول فترة رضاعته، لكن يتحدّث عن الحادثة المهمّة في الوحي الإلهيّ لاُمّ موسىٰ في ان تقذفه في اليمّ، وايجاد الإطمئنان في قلبها، والبشارة لها بعودة ولدها إليها بعد أن يبلغ ويكبر ويحظىٰ بكرامة

تسنيم، جلد 1

79

الرسالة، كما لم يذكر القرآن الكريم تاريخ هجرة موسىٰ من مصر إلىٰ مدين ولا زمان رجوعه من مدين إلىٰ مصر، لكن تحدّث القرآن عن خدمة موسىٰ المجّانيّة في سقي أغنام بنات شعيب واشتغالهنّ برعي الأنعام وكذلك الحديث عن عفافهنّ وشرفهنّ، وعن الطريقة الّتي تعرّف بها موسىٰ علىٰ شعيب، وعن كيفيّة اختيار الشخص للوظائف والأعمال حيث انّه يجب أن يكون أميناً في وظيفته وقويّاً ومتمكّناً من السيطرة علىٰ عمله. وكذلك تحدّث القرآن عن رؤية النار والذهاب إليها ومشاهدة النور واستماع الكلام التوحيديّ الإلهيّ من الشجرة.

7. إنّ أحد الاُمور المهمّة الّتي يمتاز بها القرآن الكريم عن الكتب العلميّة البشريّة هو انّ المحور الأصليّ للتعليم في الكتب البشريّة هو العلوم الّتي يمكن الحصول عليها بسهوله، ولكنّ محور التعليم في القرآن الكريم هو العلوم والمعارف الّتي لايمكن للبشريّة ان تنالها دون الاستمداد من نور الوحي قال تعالىٰ: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يتْلُوا عَلَيكُمْ آياتِنَا وَيزَكِّيكُمْ وَيعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾[1]، وقال تعالىٰ ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾.[2]

وصحيح انّ الأنبياء قد قاموا بتفعيل وترشيد استعداد البشريّة في العلوم الّتي يتيسّر الحصول عليها والمستقلاّت العقليّة: «يثيروا لهم دفائن العقول»[3] ولكنّ محور تعليم الأنبياء هو كشف حجب الغيب والإبتكار


[1] . سورة البقرة، الآية 151.

[2] . سورة البقرة، الآية 239.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 1، الفقرة 37.

تسنيم، جلد 1

80

العلميّ والمعرفيّ للبشر. والقرآن الكريم بتعبيره الدقيق ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾ يشعر بهذه النكتة، لأنّ معنىٰ هذه الجملة ليس هو ما لم تعلموا، بل إنّها تعني أنّكم ما كنتم لتعلموا ذلك بالطرق المعتادة. كما انّ الله سبحانه يقول لنبيّه الأكرم(ص) علىٰ رغم ما له من الاستعداد والنبوغ الفائق: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيكَ عَظِيما﴾[1]، يعني انّ الله قد علّمك معارف لم يكن باستطاعتك ان تتعلّمها بالطرق المتعارفة، ولذلك فإنّ هذه الميزة في القرآن الكريم لاتختصّ بعصر التخلّف والانحطاط العلميّ، بل هي دائمة إلىٰ الأبد، فالقرآن معلّم لعلوم ليس للبشريّة إليها من سبيل.

كما وقد نبّه القرآن أيضاً في مواضع خاصّة إلىٰ هذه الحقيقة وهي أنّ الأسرار الكامنة والمخفيّة في العالم لايمكن رؤيتها إلاّ بنور الوحي، كما في قوله تعالىٰ: ﴿كُتِبَ عَلَيكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾[2]، وهذا الخطاب شامل لجميع الأفراد، أعمّ من الضعفاء والمتوسّطين والأوحديّ من أهل العلم والعمل.

8. بيان المصداق وتجنّب الكلام بالعموميّات. ليس متعارفاً في الكتب العلميّة وفي مقام تبيين حقيقة مّا ان تذكر مصاديقها، مثلاً أن يذكر الأبرار في تعريف البرّ، ولكنّ القرآن الكريم استعمل هذا الاُسلوب، فهو مثلاً يقول في تعريف البرّ: ﴿لَيسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ


[1] . سورة النساء، الآية 113.

[2] . سورة البقرة، الآية 216.

تسنيم، جلد 1

81

الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيومِ الآخِرِ و...﴾[1] فالمفسّرون الّذين يحسبون أنّ القرآن كباقي الكتب العلميّة، يبحثون في مثل هذه الموارد عن محذوف أو يقومون بتبريرات اُخرىٰ كي يثبتوا إنسجام ومطابقة الاُسلوب البيانيّ للقرآن الكريم مع الأساليب المتداولة في الكتب العلميّة، وقد فاتهم انّ القرآن الكريم ليس كتاباً علميّاً محضاً حتّىٰ يتّبع الطرق المتعارفة للكتب العلميّة البشريّة. ولذلك تراه أحياناً يذكر الموصوف بدلاً من الصفة، وهذا يعدّ من الطرق المهمّة في القرآن.

والمثال الآخر قوله تعالىٰ: ﴿يوْمَ لاَ ينفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ٭ إِلاَّ مَنْ أَتَىٰ اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيم﴾[2] فهٰهنا يقتضي الإنسجام بين المستثنىٰ والمستثنىٰ منه أن يقول «الاّ سلامة القلب»، ولكنّ القرآن يترك ذكر الصفة ويتحوّل إلىٰ ذكر الموصوف. والهدف هو كما في الآية السابقة حيث انّه كان يريد ترغيب المجتمع في عمل البرّ، لا أن يفسّر لهم فقط معنىٰ البرّ، كذلك هنا أيضاً فهو يريد للاُمّة الإسلاميّة أن تبلغ درجة القلب السليم، لا أن يذكر لهم فقط بأنّ سلامة القلب عامل للنجاة في يوم القيامة.

تنويه: انّ تبيين المصداق يكون أحياناً في آيات اُخرىٰ لا في نفس الآية الّتي هي محلّ البحث، كما في الآية الكريمة ﴿... فَبَشِّرْ عِبَادِ ٭ الَّذِينَ يسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيتَّبِعُونَ أَحْسَنَه﴾[3] فالكلام هنا عن أحسن الأقوال، ولكنّ مصداقه ذكر في موضع آخر، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ


[1] . سورة البقره، الآية 177.

[2] . سورة الشعراء، الآيتان 88 ـ 89.

[3] . سورة الزمر، الآيتان 17 ـ 18.

تسنيم، جلد 1

82

قَوْلاً مِمَّن دَعَا إِلَىٰ اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين﴾.[1] وكذا في سورة الحمد حيث جاء ذكر مجمل وكلّي عن المنعم عليهم: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم...﴾ ولكن في سورة النساء بُيِّن مصداق المنعم عليهم بقوله تعالىٰ: ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين...﴾.[2]

9. تكرار المواضيع: انّ سرّ التكرار في القرآن الكريم هو انّ القرآن كتاب نور وهدىٰ، وفي مقام الهداية يصبح من اللازم أن يؤدّىٰ المعنىٰ الواحد في كلّ مناسبة بتعبير خاصّ حتّىٰ تكون له صفة الموعظة، خلافاً للكتب العلميّة الّتي يذكر فيها الموضوع في مكان واحد ولا يكون تكراره مفيداً. والسرّ في لزوم التكرار في كتاب الهدىٰ هو انّ الشيطان والنفس الأمّارة؛ بما انّهما سببان للضلالة والعذاب، يكونان دائماً منهمكين في إضلال الانسان، ونشاطهما وإن خفّ أحياناً ولكنّه لايتوقّف، ولذلك كان تكرار الهداية والإرشاد ضروريّاً.

10. انّ احدىٰ الظرائف الأدبيّة والفنّية في القرآن الكريم هو التغيير المفاجئ في السياق، فمثلاً ترىٰ في جملة مّا وبعد ذكر عدّة كلمات مرفوعة، وفي الأثناء تفاجأ بذكر كلمة منصوبة وذلك حتّىٰ يتوقّف القارئ ويدفعه ذلك الىٰ التأمّل والتدبّر، كما في قوله تعالىٰ: ﴿لٰكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيوْمِ الآخِرِ


[1] . سورة فصّلت، الآية 33.

[2] . سورة النساء، الآية 69.

تسنيم، جلد 1

83

أُؤلٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيما﴾[1]، حيث انّه في هذه الآية الكريمة ذكرت خمس صفات، والسياق الأدبيّ يقتضي أن تكون هذه الصفات مرفوعة كما هو الحال في الصفتين المقدّمتين (الراسخون والمؤمنون) وفي الصفتين المؤخّرتين (المؤتون والمؤمنون)، ولكن نرىٰ بين هذه الصفات الأربع المرفوعة صفة واحدة منصوبة وهي صفة (المقيمين)، وذلك لأجل أن يلفت نظر المتدبّرين والتالين لكتاب الله إلىٰ أهمّية الصلاة الّتي هي عمود الدين، كما هو متعارف في كتابة اليافطات والإعلانات حيث تكتب بعض الكلمات مثل كلمة «شهيد» باللون الأحمر كي تلفت نظر المشاهد. فإذاً بتغيير الاُسلوب وتبديل السياق يتمّ التنبيه علىٰ أهمّية وخصوصيّة المحتوىٰ لذلك اللفظ.

الفصل الثاني: خصائص تفسير القرآن

امكان وضرورة تفسير القرآن

التفسير يعني التوضيح وكشف الحجاب عن وجه الكلمة أو الكلام الّذي يدلىٰ به وفقاً لقانون المحاورة وثقافة واُسلوب التفاهم ويكون معناه غير بيِّن وواضح. وعليه فإنّ الألفاظ ذات المعاني الواضحة والبديهيّة ليست بحاجة الىٰ التفسير. كما انّ الكلام الّذي يؤتىٰ به من باب الألغاز والتعمية والإبهام ومن سنخ الرموز فهو ليس مطابقاً لثقافة المحاورة والتفاهم وله حكمه الخاصّ به. وعليه فإنّ اللفظ المفرد أو الجملة الّتي لو تمّ التأمّل والتدبّر العقلائيّ فيها لظهرت مبادئها التصوّرية والتصديقيّة، فهي بحاجة


[1] . سورة النساء، الآية 162.

تسنيم، جلد 1

84

الىٰ التفسير، وتفسيرها عبارة عن: تحليل المبادئ المذكورة لأجل الوصول الىٰ مقصود المتكلّم والمدلول البسيط والمركّب للفظ، والتفسير بهذا المعنىٰ لايختصّ بالنصوص الدينيّة كالقرآن الكريم. وان تعارف اطلاق فنّ التفسير علىٰ شرح وتوضيح القرآن خاصّة.

انّ تفسير القرآن وان كان له شروط وآداب عديدة، لكنّ أهمّ شروطه المحوريّة والأساسيّة هو لزوم كون القرآن واضحاً من جهة حتّىٰ يكون لمن راجعه قابلاً للنظر وللفهم، وكون المفسِّر بصيراً وقادراً علىٰ النظر من جهة اُخرىٰ لكي يكون مؤهّلاً لرؤية معارفه وإدراكها، لانّ الشيء وان كان مثلاً كالشمس ساطعة منيرة، لكنّ الأعمىٰ والأعور والأحول والأكمه إمّا أن لا يراها أصلاً أو لا يراها كما هي. والقرآن الكريم وإن كان نوراً كما جاء في قوله تعالىٰ: ﴿يا أَيّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيكُمْ نُوراً مُبِينا﴾[1]، وقوله تعالىٰ: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾.[2] وقوله تعالىٰ ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَه﴾[3]، وقوله تعالىٰ ﴿قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين﴾[4] لكن هو نور ثقيل ووزين وليس ضعيفاً وتافهاً كما قال تعالىٰ: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيكَ قَوْلاً ثَقِيلا﴾.[5] ولذلك فإنّه لأجل رؤية مثل هذا النور لاتوجد هناك وسيلة الاّ ان يمتلك الإنسان البصر الحديد والرؤية العلميّة الثاقبة والعميقة. بل لقد قيل حول القرآن:


[1] . سورة النساء، الآية 174.

[2] . سورة التغابن، الآية 8.

[3] . سورة الأعراف، الآية 157.

[4] . سورة المائدة، الآية 15.

[5] . سورة المزمّل، الآية 5.

تسنيم، جلد 1

85

«انّ القرآن غريم لايقضىٰ دَينه وغريب لا يؤدّىٰ حقُّه»، لأنّ ذروة معارفه وعمق مطالبه لاتمسّها إلاّ يد الفكر الوهّاج للمعصومين(ع ): ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ٭ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ٭ لاَ يمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون﴾[1] ولأجل ذلك فقد تمّ أخذ قيد (بمقدار طاقة البشر) في تعريف مفهوم تفسير القرآن. وبناء علىٰ ذلك فإنّه إضافة إلىٰ ضرورة كون المفسِّر بصيراً وواعياً فمن اللازم عليه إن أراد أن يستلهم المزيد من معارف القرآن الكريم أن يرجع الىٰ (المطهّرون) وهم أهل بيت العصمة والطهارة(ع )، وفي البحوث التالية سيتّضح نطاق الرجوع الىٰ السنّة الواردة عن المعصومين(ع ).

وبناءً علىٰ ماتمّ تبيينه فانّ القرآن الكريم أوّلاً: قابل للتفسير وثانياً: تفسيره ضروريّ. وقبول القرآن للتفسير يعني أنّه منزّه من آفة (التفريط في البداهة) ومصون من خلل (الافراط في التعمية)، فلا هو بسيط وساذج جدّاً بحيث لايحتاج إلىٰ تحليل المبادئ التصوّرية والتصديقيّة، ولا هو معقّد ومبهم كاللغز بحيث يكون خارجاً عن قانون المحاورة والتفاهم وثقافة المحادثة وبعيداً عن متناول يد التفسير. فمع انّ القرآن الكريم نور ولكنّ فيه معارف راقية وعميقة تجعله قابلاً للتفسير، لأنّ كون القرآن نوراً يعني انّه في مقابل ظلمة الابهام، وليس في مقابل كونه نظريّاً وعميقاً، حتّىٰ يكون النور بمعنىٰ البداهة الّتي تغني عن التفسير.

وأمّا أنّ التفسير ضروريّ ولازم، وبدونه لايتيسّر لعامّة الناس إدراكه وفهمه فلأجل ما قد اُشير اليه ضمناً، وسرُّ ذلك يوضّحه القرآن الكريم نفسُه، فالقرآن الكريم من جهة يذكر لنفسه صفاتٍ يلزم منها ضرورة


[1] . سورة الواقعة، الآيات 77 ـ 79.

تسنيم، جلد 1

86

التفسير، وهو من جهة اُخرىٰ يطرح علوماً لاتدرك بغير التفسير، فهو يمتدح نفسه بأنّه كلام رصين وقول وزين ومليء باللّب: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيكَ قَوْلاً ثَقِيلا﴾[1] ويعتبر سلاسل الجبال أمام هيمنته وسيطرته تعالىٰ خاضعة خاشعة ومتصدّعة متفتّتة: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يتَفَكَّرُون﴾[2] كما يدعوا الجميع من الجنّ والإنس الىٰ المبارزة، ويعلن عجزهم في هذا السجال الشاقّ الشامل: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْآنِ لاَ يأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا﴾[3] فالظهور الاطلاقيّ في جملة «لا يأتون» يعني انّ مجتمعي الإنس والجنّ جميعاً في هذا الصراع الحامي عاجزان وكليلان إلىٰ الأبد، كما أنّه يعلم من قوله تعالىٰ: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوْا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين﴾[4] عجز وهزيمة المقاتلين الأبديّة في هذه المعركة.

من جهة اُخرىٰ فإنّ القرآن يطرح علوماً ومعارف خاصّة في الرؤية الكونيّة التوحيديّة، والأسماء الحسنىٰ الإلهيّة، والصفات الأزليّة العليا، والقضاء والقدر، والجبر والتفويض والإختيار، وتجرّد الروح، وعصمة الملائكة، وعصمة وطهارة الأنبياء وأئمّة أهل البيت(ع )، والإمامة والقيادة


[1] . سورة المزّمل، الآية 5.

[2] . سورة الحشر، الآية 21.

[3] . سورة الاسراء، الآية 88.

[4] . سورة البقرة، الآية 24.

تسنيم، جلد 1

87

في النظام الإسلاميّ، والحكم علىٰ العقائد والأديان الاُخرىٰ، وتوضيح سيرة الانبياء السلف وأوامر ونصائح الأولياء الخلف وعشرات المسائل العميقة في الحكمة النظريّة والحكمة العمليّة الّتي لايمكن ولا يتيسّر فهمها العامّ دون شرح وتوضيح العقلاء لها.

ولأجل ذلك فإنّ ضرورة تفسير القرآن تكون من جهتين:

إحداهما انّ الكتاب العلميّ العميق ذو الثقل النظريّ لايمكن بالتأكيد أن يدرك بغير تفسير (هذا من الناحية العلميّة). والثانية هي انّ كتاب الهداية إذا كانت رسالته تؤكّد علىٰ: ﴿إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يهْدِي لِلَّتي هِي أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيرا﴾[1] فإنّه لاوسيلة له لأجل هداية المجتمع البشريّ إلاّ بتوضيح مفاهيمه وتفسير معانيه (وهذا من الناحية العمليّة).

وانّ ضرورة تفسير القرآن للمتضلّعين والمتعمّقين في مختلف العلوم وأنواع الفنون أوضح. ولذلك كان تفسير القرآن منذ عصر النزول والىٰ الآن سنّةً حسنةً متداولة ورائجة بواسطة الرسول الأكرم(ص) وأهل بيته المعصومين الأطهار، وكذلك الصحابة، والتابعين للصحابة، والقدماء والمتأخّرين من علماء الدين. وإن كان بعض السابقين قد نأوا بأنفسهم عن تفسير القرآن وكانوا يحتاطون منه، لكنّ الجميع كان يستفيد من التفسير بالمأثور، وفيما بينهم عدّة كانوا يمتنعون من إظهار الرأي، وسيأتي تفصيل ذلك في فصل التفسير بالرأي، وحتّىٰ القرن الخامس الهجريّ لم يكن هناك غير (التفسير الروائيّ) اُسلوب متداول آخر بعنوان


[1] . سورة الاسراء، الآية 9.

تسنيم، جلد 1

88

انّه (التفسير عن دراية) وهو التفسير الإجتهاديّ، سوىٰ ماكان علىٰ نحو الاجتهاد الأَدَبيّ واللغويّ الّذي كان مشهوداً في آثار السلف.

مصادر تفسير القرآن

حيث انّ تفسير القرآن بغير علم وقبل البحث والتحقيق أمر مذموم ويعدّ مصداقاً للتفسير بالرأي الّذي هاجمته الأحاديث الشريفة، فقد أصبح من اللازم البحث في مصادر علم التفسير ومعرفة اُصول وقواعد البحث والتحقيق لأجل التوصّل إلىٰ معارف القرآن، بحيث يكون تفسير القرآن دون تحقّق هذه القواعد تفسيراً بالرأي ومذموماً وبإتّباعها والعمل بها يكون تفسيراً عن دراية وممدوحاً.

إنّ اهمّ مصدر هو القرآن نفسه، حيث انّه مبيِّن وشاهد ومفسِّر لنفسه، وضرورة تفسير القرآن بالقرآن ودوره الكبير في بلوغ المعارف القرآنيّة أمر مبرهَن ومستدلّ عليه وقد خُصّص له فصل في هذه المقدّمة.

والمصدر الآخر لعلم التفسير هو سنّة المعصومين(ع ). فحسب حديث الثقلين المتواتر فإنّ العترة الطاهرين(ع ) يعدّون عِدلاً للقرآن، والتمسّك بأحدهما دون الآخر يعدّ تركاً لكليهما، والإعتصام بأيّهما لايكون إلاّ بالتمسّك بالآخر. وسيأتي بيان ضرورة الجمع بين القرآن والحديث في تفسير القرآن الكريم خلال الفصول الآتية.

والمصدر الثالث هو العقل البرهانيّ المصون من آفة مغالطة الوهم ومن ضرر التخيّل، والمراد من العقل البرهانيّ هو ذلك الّذي يثبت بعلومه المتعارفة أصل وجود الله وضرورة صفاته سبحانه من الوحدة والحياة والأبديّة والأزليّة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر

تسنيم، جلد 1

89

والحكمة والعدل وسائر صفاته العليا، بحيث يكون الاستدلال به في اثبات هذه الصفات محكماً ومتيناً، وإن كان الدليل النقليّ أيضاً يثبت بعض هذه الأسماء والصفات المذكورة. فإذا ما أثبت العقل البرهانيّ أمراً ما أو نفاه، فإنّ من المؤكّد في تفسير القرآن أن يكون ذلك الأمر الثابت محفوظاً ولا ينفيه ظاهر أيّة آية، وأن يكون الأمر المنفيّ بالبرهان منتفياً في تفسير القرآن ولا يثبته ظاهر أيّة آية. مثلاً إذا كانت هناك آية فيها عدّة احتمالات، وجميعها منتفية عقلاً باستثناء محتمل معيّن واحد، فهنا يجب حمل الآية في مورد البحث علىٰ ذلك المحتمل وذلك بالاستمداد من العقل البرهانيّ. أو إذا كانت هناك آية فيها عدّة محتملات وكان أحدها ممتنعاً بحكم العقل البرهانيّ فإنّه يجب بالتأكيد نفي ذلك المحتمل الممتنع، ويتمّ حمل الآية علىٰ أحد المحتملات الممكنة من دون ترجيح (في حالة عدم وجود المرجّحات).

تنويه: انّ النتائج العلميّة وإن كان لايمكن فرضها علىٰ القرآن لكنّ البراهين العلميّة القطعيّة أو الشواهد الباعثة علىٰ الإطمئنان في العلوم التجربيّة والتاريخيّة والفنّية وأمثالها يمكن إعتبارها حاملة لمعاني ومعارف القرآن، بحيث تكون علىٰ مستوىٰ الشاهد والقرينة، والأرضيّة لأجل فهم خصوص المواضيع المرتبطة بأقسام العلوم التجربيّة والتاريخيّة وأمثالها، وليس ماعدا ذلك.

أقسام تفسير القرآن

انّ التفسير لمتن مقدّس مثل القرآن الكريم إمّا أن يكون بالنقل (التفسير القرآنيّ والروائيّ)، وإمّا بالعقل (التفسير بالدراية). والتفسير النقليّ إمّا أن

تسنيم، جلد 1

90

يتمّ بالإستمداد من نفس المتن المقدّس، كالآية الّتي تكون شاهداً تصوّريّاً أو تصديقيّاً لآية اُخرىٰ (تفسير القرآن بالقرآن)، وإمّا أن يتمّ بالاستعانة بمتن نقليّ آخر كالحديث المعتبر الّذي يكون شاهداً لمعنىٰ خاصّ في الآية (تفسير القرآن بالسنّة)، وكلا القسمين المذكورين داخلان في التفسير النقليّ، ويمكن التعبير عنهما بـ(التفسير بالمأثور)، (وعليه فإنّ اصطلاح المأثور لايكون مختصّاً بالحديث).

والتفسير العقليّ أيضاً إمّا أن يتمّ بالتفات العقل الىٰ الشواهد الداخليّة والخارجيّة، اي انّ العقل يدرك معنىٰ الآية من خلال الجمع بين الآيات والروايات، وفي هذا القسم فإنّ للعقل دور «المصباح» فقط، ومثل هذا التفسير العقليّ الاجتهاديّ لمّا كان مستنبطاً من المصادر النقليّة فهو يعدّ من أقسام التفسير بالمأثور، وليس من أقسام التفسير العقليّ، وإمّا أن يتمّ التفسير العقليّ بإستنباط بعض المبادئ التصوّرية والتصديقيّة من المصدر الذاتيّ للعقل البرهانيّ والعلوم المتداولة، وفي هذا القسم يكون للعقل دور المصدر، وليس هو عندئذٍ مجرّد مصباح. وبالنتيجة فإنّ التفسير العقليّ يختصّ بالمورد الّذي تُستنبط فيه بعض المبادئ التصديقيّة والمباني المستورة والمطويّة للبرهان علىٰ موضوع مّا بواسطة العقل بحيث تُحمل الآية في مورد البحث علىٰ خصوص تلك المعاني المستنبطة.

وبناءً علىٰ هذا فإنّه يمكن تقسيم التفسير ابتداءاً الىٰ عقليّ ونقليّ، وبعد ذلك يقسّم التفسير النقليّ إلىٰ قسمين، ونتيجة هذا كلّه هو الأقسام الثلاثة التالية:

1. تفسير القرآن بالقرآن.

تسنيم، جلد 1

91

2. تفسير القرآن بالسنّة.

3. تفسير القرآن بالعقل.

وأمّا تفسير القرآن علىٰ أساس الرأي وهو الّذي يسمّىٰ باصطلاح المفسّرين «التفسير بالرأي» فهو في الواقع ليس «تفسيراً» بل هو «تطبيق» وفرض للرأي علىٰ القرآن.

انّ القرآن الكريم ليس سُفْرةً ولا سِماطاً خُلواً من الطعام حتّىٰ يأتي كلّ فرد بما أحضره بيده من طعام ويضعه عليه ويتناول منه، بل هو بتعبير الرسول الأكرم(ص) «القرآن مأدبة»، أي انّه طعام حاضر[1]: «القرآن مأدبة الله فتعلّموا مأدبته ما استطعتم».[2]

بناءً علىٰ ذلك فإنّ الآراء والأفكار الجاهزة لايمكن فرضها علىٰ القرآن، حيث انّ هذا هو نفسه (التفسير بالرأي) المذموم وهو من أسوأ طرق وأساليب معرفة القرآن، بل هو فرض للرأي علىٰ القرآن وتطبيق للقرآن مع رأي المفسّرين، وليس تفسيراً. وقد قال النبيّ(ص) ناقلاً كلام


[1] . يقول الجوهريّ في الصحاح: والأدب أيضاً: مصدر أدَبَ القوم يأدِبهم بالكسر إذا دعاهم إلىٰ طعامه والآدِب: الداعي... ويقال أيضاً آدَبَ القوم إلىٰ طعامه يؤدبهم إيداباً... وإسم الطعام المأدَبَة والمأدُبة (ج1، ص86 أدب) ويقول ابن الفارس في مقاييس اللغة أيضاً: «فالأدب أن تجمع الناس إلىٰ طعامك وهي المأدَبَة والمأدُبة» (ج1، ص74) وجاء أيضاً في تاج العروس: «والمأدُبة... كلّ طعام صنع لدعوة... أو عُرس وجمعه المآدِب» (ج2، ص13)، كذلك يقول ابن الأثير في النهاية: «... المأدُبة وهي الطعام الّذي يصنعه الرجل يدعو إليه الناس ومنه حديث ابن مسعود: «القرآن مأدُبة الله في الأرض» يعني مدعاته، شبّه القرآن بصنيع صنعه الله للناس لهم فيه خير ومنافع» (ج1، ص30).

[2] . البحار، ج89، ص19.

تسنيم، جلد 1

92

الله سبحانه حيث قال: «ما آمن بي من فسَّر برأيه كلامي».[1] انّ الفِطَر البشريّة المتعطّشة والجائعة يجب أن ترد علىٰ الكوثر الإلهيّ المتدفّق والمأدبة الإلٰهيّة الفاخرة، كي ترتوي وتشبع منها.

وشرط الاستفادة من القرآن هو ان لا يأتي الانسان الىٰ خدمة القرآن ومعه اُصوله وقواعده الجاهزة وفرضيّاته ونظريّاته البشريّة المسبقة ليجعل القرآن ضيفاً علىٰ اصوله الموضوعة ويفرضها عليه. نعم انّ العلوم السابقة يمكن ان توسّع الاُفق الفكريّ للمفكّرين فتدخل تحت عنوان المبدأ القابليّ، لا أن تكون بعنوان المبدأ الفاعليّ ممّا يؤدّي إلىٰ حصول التغيير في تفسير القرآن.

والتفسير بالرأي اضافة إلىٰ كونه ممنوعاً عقلاً فهو ممنوع نقلاً أيضاً. ومنعه النقليّ يستفاد من مصدرين: أحدهما الآيات الكثيرة والآخر هو الروايات الّتي ذكرت انّ النار والخروج من الدين والارتداد وعدم الايمان كلّها من التبعات والعواقب المرّة لتفسير القرآن بالرأي، وستذكر في فصل (التفسير بالرأي).

وفي الفصول القادمة سيبحث حول أقسام التفسير النقليّ والعقليّ وبعدهما التفسير بالرأي. وبالتأمّل في هذه البحوث ستتّضح منزلة تفسير القرآن بالقرآن في مقابل بقيّة طرق التفسير، وما هو مدىٰ دور السنّة في ذلك، وكيفيّة الجمع بين مناهج التفسير بالدراية والتفسير الروائيّ ولزوم مراعاة الترتيب بينها، كما سيُعرض أيضاً طريق لحلّ بعض أوجه التعارض المحتملة.


[1] . البحار، ج89، ص107.

تسنيم، جلد 1

93

الفصل الثالث: تفسير القرآن بالقرآن

انّ أفضل وأكفأ طريقة لتفسير القرآن، وهي أيضاً الطريقة التفسيريّة لأهل البيت(ع )، هو الاُسلوب الخاصّ الّذي يعرف بـ(تفسير القرآن بالقرآن). في هذا الاُسلوب فإنّ كلّ آية من القرآن الكريم تظهر وتتفتّح معانيها بواسطة التدبّر في سائر الآيات القرآنيّة والإستفادة منها. وتبيين الآيات الفرعيّة بواسطة الآيات الأصليّة والمحوريّة، والاستناد إلىٰ الآيات الأقوىٰ والاستدلال بها في التفسير يبتني علىٰ هذا الأساس وهو انّ بعض آيات القرآن الكريم تحتوي في داخلها علىٰ جميع الموادّ اللازمة لتأسيس بنيان معرفيّ مرصوص، وبعض آياته تتحمّل فقط مسؤوليّة جزءٍ من موادّ ذلك البناء. فآيات المجموعة الثانية يتمّ تبيينها وتفسيرها بالاستمداد من آيات المجموعة الاُولىٰ.

إنّ أفضل طريق لفهم النصوص الدينيّة المقدّسة هو التدبّر التامّ في نفس ذلك النصّ الإلٰهيّ المنزّه، والقرآن الكريم أيضاً لكونه نوراً فليس فيه أيّ إبهام أو عتمة وظلمة. انّ القرآن ثقيل وعميق، ولكنّ ثقله العلميّ وعمقه النظريّ لايتنافىٰ مع نورانيّته، لأنّ النور وكما مرّ ذكره هو في مقابل ظلمة الإبهام وليس في مقابل أنّه نظريّ وعميق.

فكون القرآن نوراً لايعني أن يكون بديهيّاً بحيث لايحتاج الىٰ التفسير.

هناك جماعة، ونتيجة لرواسب عادات الجاهليّة من جهة، وغبار الأفكار الغربيّة المغايرة من جهة اُخرىٰ فقد ابتلوا بمانعين أحدهما علميّ والآخر عمليّ بحيث منعاهم من رؤية وفهم نور الوحي: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ

تسنيم، جلد 1

94

عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يكْسِبُون﴾[1]، ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَىٰ الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾[2] ﴿وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْي عَن ضَلاَلَتِهِم﴾[3] فبما انّهم ليسوا مبصرين فهم محجوبون عن الرؤية العلميّة لنور الوحي وإدراك ضياء الإلهام الإلهيّ: ﴿وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَيفْقَهُون﴾[4]، ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَيفْقَهُونَ بِهَا﴾.[5] إذن عدم رؤية الشيء لاتدلّ علىٰ عدم وضوحه، لأنّ عدم رؤية الشيء يمكن أن تكون نتيجة (لكون المرئيّ مظلماً) وقد تكون بسبب (عمىٰ الناظر)، لكنّ رؤية الشيء دليل علىٰ أمرين: أحدهما انّ المرئيّ واضح والآخر انّ الناظر بصير. وقد بيّن الله سبحانه انّ القرآن واضح مُبين، وانّ الفاهمين المدركين له مبصرون وسامعون: ﴿لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَىٰ السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد﴾[6]، وانّ المحجوبين عن فهمه عمي وصُمّ وعلىٰ قلوبهم أكِنَّة، وطبع علىٰ قلوبهم، وختم علىٰ قلوبهم.

تنويه: انَّ تفسير القرآن بالقرآن يطرح هنا للبحث بعنوان انّه منهج واُسلوب، وكون القرآن مصدراً دينيّاً غير كونه منهجاً تفسيريّاً ولكلٍّ حكمه الخاصّ به. وإن كان في خلال البحث عن اسلوب تفسير القرآن بالقرآن سيتمّ الاستعانة بالقرآن كمصدر، ولاشكّ انّ مصادر مباني أحكام الدين هي الكتاب وسنّة المعصومين(ع ) والعقل. أمّا الإجماع فهو يرجع


[1] . سورة المطفّفين، الآية 14.

[2] . سورة الحجّ، الآية 46.

[3] . سورة النمل، الآية 81.

[4] . سورة التوبة، الآية 87.

[5] . سورة الأعراف، الآية 179.

[6] . سورة ق، الآية 37.

تسنيم، جلد 1

95

إلىٰ السنّة وليس في مقابلها. والبحث الحاضر يدور حول اُسلوب تفسير القرآن بالقرآن، ومسائله هي كالتالي:

1. هل انّ مثل هذا التفسير حجّة ومعتبر؟

2. وعلىٰ فرض حجيّته فهل انّ حجيّته فعليّة أم شأنيّة؟

3. وعلىٰ فرض كون حجيّته فعليّة، فهل انّ حجيّته هي علىٰ نحو الانحصار؟

اي هل انّ هناك شيئاً آخر في مقابل النتيجة الحاصلة من تفسير القرآن بالقرآن له حجّية أم لا؟ وفيما يلي نأتي علىٰ جواب هذه الأسئلة الثلاثة.

حجّية تفسير القرآن بالقرآن:

كان السؤال الأوّل حول طريقة تفسير (القرآن بالقرآن) هو: هل انّ مثل هذا التفسير حجّة ومعتبر أم لا؟ وفي الجواب يجب أن يقال انّ بعض الاُمور لاحجّية لها أصلاً مثل (شهادة الفاسق) إذ ليس لها أيّةُ قيمة في محكمة القضاء الإسلاميّة، وبعض الاُمور لها حجيّة، لكنّها لاتبلغ نصاب الحجيّة والإعتبار بمفردها، مثل شهادة (العدل الواحد) في المحكمة، حيث انّ هذه الشهادة معتبرة وحجّة في الجملة لا بالجملة. ولذلك يقال عنها بأنّها مؤهّلة للإعتبار ولها حجيّة شأنيّة، أي لو ضُمّت إليها شهادة عدل آخر فإنّ ما كان مؤهّلاً للإعتبار وله الشأنيّة للإحتجاج يبلغ نصاب الفعليّة، لكنَّ حجيّة «شهادة العدلين» وإن كانت علىٰ نحو الإستقلال، ولكنّها ليست علىٰ نحو الإنحصار؛ لأنّ هناك حججاً اُخرىٰ موجودة في مقابل حجيّة شهادة العدلين، فمثلاً قد تقوم أحياناً شهادة عدلين آخرين في مقابل شهادة هذين العدلين، وكلّ منهما حجّة مستقلّة، ولكنّ أَيّاً

تسنيم، جلد 1

96

منهما ليس حجّة منحصرة، وكذلك حجيّة اُمور اُخرىٰ في مقابل حجيّة شهادة العدلين مثل علم القاضي ويمين المنكر.

انّ القرآن الكريم من حيث انّه كلام الله سبحانه وهو يثبت بإعجازه دعوىٰ انتسابه الىٰ الله سبحانه فهو يعدّ من المصادر الدينيّة الّتي تكون حجيّتها ذاتيّة كحجيّة القطع، والنتيجة الحاصلة من التدبّر فيه والجمع بين آياته المتناسبة مع بعضها حجّة بالتأكيد، وليست هي مردودة أبداً كشهادة الفاسق حتّىٰ لاتكون حجّة أصلاً، لكنّ مواضيع القرآن بعضها تكون نصوصاً قطعيّة وبعضها ظواهر وظنّية، والقسم الأوّل (حجّة قطعيّة) والقسم الثاني (حجّة ظنّية). وعلىٰ كلّ حال، فإنّ القرآن الكريم هو كلام صاحب الشريعة وهو في مجال الحجيّة ليس مديناً لأحد سواه، وحجيّته ذاتيّة.

استقلال القرآن في الحجيّة وتبيين المعارف:

والسؤال الثاني حول تفسير القرآن بالقرآن قد كان مفاده هو انّ هذا التفسير علىٰ فرض حجيّته، فهل انّ حجيّته (فعليّة) أم (شأنيّة). وفي الجواب يجب أن يقال: انّ القرآن (النتيجة الحاصلة من تفسير القرآن بالقرآن) ليس جزءاً من حجّة ولا هو نصف دليل كي يكون في أصل اعتباره وحجيّته محتاجاً إلىٰ ضميمة، وبدون إنضمام تلك الإضافة يصبح كشهادة العَدْل الواحد الّذي تكون حجيّته مؤهّلة للإعتبار وشأنيّة وليست فعليّة، لأنّ تلك الضميمة هي السنّة، والسنّة أوّلاً: مدينة للقرآن في أصل حجيّتها. وثانياً: لاتكون معتبرة وحجّة إلاّ عندما يُعرض محتواها علىٰ القرآن ويثبت عدم اختلافها مع القرآن بأيّ وجه من الوجوه (في

تسنيم، جلد 1

97

خصوص السنّة غير القطعيّة). إذن فمن المؤكّد انّ نتيجة البحث القرآنيّ يجب أن تكون حجّة بالفعل قبل عرض الحديث عليها وذات اعتبار مستقلّ وغير محتاجة الىٰ ضميمة، حتّىٰ يتيسّر أن تكون ميزاناً لتقييم السنّة. إذن فحجيّة القرآن كحجيّة شهادة العدلين الّتي تُعرف اصطلاحاً (بالبيّنة العادلة)، فعليّة ومستقلّة وصالحة للإستدلال.

انّ القرآن الكريم مستقلّ في أصل الحجيّة، ومستقلّ في تبيين الخطوط العامّة لمعارف الدين أيضاً، أي انّ حجيّته ذاتيّة، وهو يقبل التفسير بنفسه، وإن كانت الأفكار والمعلومات الخارجيّة مؤثّرة في فهم القرآن علىٰ نحو المبدأ القابليّ. والمخاطَبون بالقرآن لكي يستطيعوا استثمار ظواهر القرآن والإنتفاع بها فإنّهم لايحتاجون إلىٰ ثروة أوسع من العلوم الأساسيّة المؤثّرة في فهم القرآن ومن القلب غير المعتم بظلمة الذنوب.

انّ استقلال القرآن الكريم في الحجيّة وتبيين المعارف وكذلك إتقان طريقة تفسير القرآن بالقرآن يمكن اثباتهما بعدد من الأدلّة:

1. انّ القرآن الكريم وكما مرّ في الفصل الأوّل يعرّف نفسه بأنّه نور: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين﴾[1]، ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَه﴾[2] وأجلىٰ صفات النور هو أنّه واضح نيِّر بنفسه وموضّح أيضاً لغيره أي انّه في كونه بيّناً في نفسه ومبيِّناً للأشياء الاُخرىٰ غير محتاج للغير.

انّ مقتضىٰ كون القرآن نوراً هو أنّه لايحتاج إلىٰ الغير لا في كونه نيِّراً بنفسه ولا في إنارته لغيره، لأنّه لو كان محتاجاً إلىٰ مبيِّن آخر فإنّ


[1] . سورة المائدة، الآية 15.

[2] . سورة الأعراف، الآية 157.

تسنيم، جلد 1

98

ذلك المبيِّن سيكون هو الأصل وسيكون القرآن الكريم فرعاً وتابعاً له، وكون القرآن فرعاً وتابعاً لا يتلاءم مع كونه نوراً.

من جهةٍ اُخرىٰ فممّا لاريب فيه انّ الكثير من معارف القرآن تحصل بواسطة ضمّ آيتين أو أكثر، ولايتيسّر الوصول إلىٰ تلك المعرفة بواسطة الآية الواحدة بمفردها. فكون القرآن نوراً يوجب ان يتمّ البحث سويّة في جميع الآيات الّتي تبيّن الحدود والقيود والقرائن المتعلّقة بموضوع ما كي لا يبقىٰ في القرآن موضوع معتم ومبهم في أيّ قسم من الأقسام.

2. انّ احدىٰ صفات القرآن الكريم هي: (تبيان لكلّ شيء): ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيكَ الْكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَي‏ء﴾[1] فالكتاب المبيّن لجميع العلوم والمعارف الضروريّة والمفيدة للبشر أو المبيّن لجميع حقائق عالم الخلق لايحتاج إلىٰ الغير في تبيين نفسه، بل هو في بيان نفسه معتمد علىٰ ذاته، وبعض آياته يبيّن البعض الآخر ويفسّرها، وإلاّ فالكتاب الّذي لايكون تبياناً لنفسه، كيف يمكنه أن يكون تبياناً لكلّ شيء آخر؟

وينبغي الإنتباه إلىٰ أنّ المقصود من قولنا: (إنّ القرآن من حيث انّه تبيان كلّ شيء فهو مبيّن لنفسه أيضاً) ليس هو انّ كلّ آية بما أنّها تبيان كلّ شيء فهي مبيّنة لنفسها أيضاً، بل المقصود من ذلك هو أنّ (مجموع القرآن) بما انّه تبيان لكلّ شيء فهو تبيان لنفسه أيضاً. وعليه فإنّ نقص كلّ آية يكتمل حتماً بآية اُخرىٰ وعن طريق الجمع النهائيّ لجميع الآيات المتناسبة مع بعضها في اللفظ والمعنىٰ ينبثق المعنىٰ الواضح لتلك الآيات.

3. إنّ القرآن الكريم وإلىٰ جانب دعوته الناس إلىٰ التدبّر فهو يدّعي


[1] . سورة النحل، الآية 89.

تسنيم، جلد 1

99

الإنتساب إلىٰ الله سبحانه وانّه منزّه من أيّ نوع من أنواع الاختلاف والتناقض الداخليّ.

وإنّ لله سبحانه نحوين من البيان حول الإنسجام والتوافق الشامل الموجود في القرآن بعضه مع البعض الآخر: أحدهما ناظر إلىٰ عدم اختلاف آيات القرآن المجيد فيما بينها، والآخر يتعلّق بانعطاف آيات القرآن علىٰ بعضها وميل بعضها إلىٰ البعض، أمّا البيان الأوّل فيستفاد من الآية: ﴿أَفَلاَ يتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا﴾[1] لأنّ مفاد الآية المذكورة دعوة الجميع إلىٰ التدبّر التامّ في جميع الكتاب الّذي نزل خلال مايقرب من ربع قرن في الظروف الصعبة والمواتية وفي الحرب والسلم وفي الغربة والوطن وفي السرّاء والضرّاء وفي الشدّة والرخاء وفي الهزيمة والنصر، وبالنتيجة فإنّه قد نزل منسجماً وعلىٰ نسق واحد في ظروف سياسيّة وعسكريّة واجتماعيّة مختلفة. وتحليل القياس الاستثنائي المستفاد من هذه الآية وتقرير تلازم المقدّم والتالي وتقريب بطلان التالي واستنتاج بطلان المقدم من ابطال التالي يكون بالاستمداد من العقل البرهانيّ الّذي هو من المصادر الغنيّة والقويّة لتفسير القرآن الكريم وهو من داخل الدين لا من خارجه كما سيأتي بيانه في فصل التفسير بالرأي. فالمقصود هو انّ الآية المذكورة تحثّ علىٰ التدبّر في كلّ القرآن وتطرح دعوىٰ عدم الاختلاف علىٰ نحو السالبة الكليّة، وتعتبر نتيجة ذلك التدبّر الشامل اثبات صحّة هذه الدعوىٰ، وترفق الادّعاء المذكور بتلك البيّنة والشهادة الصادقة.


[1] . سورة النساء، الآية 82.

تسنيم، جلد 1

100

أمّا البيان الثاني لله سبحانه فهو مستنبط من الآية: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ ذٰلِكَ هُدَىٰ اللهِ يهْدِي بِهِ مَنْ يشاءُ وَمَنْ يضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هاد﴾[1]، لأنّ محتوىٰ الآية الكريمة المذكورة هو انّ جميع آيات القرآن المجيد تكون من جهة شبيهة بعضها بالبعض ومتجانسة ومتّسقة، ومن جهة اُخرىٰ هي منثنية ومنعطفة ومتمايلة بعضها علىٰ بعض. ومعنىٰ انثناء وانعطاف وميل مواضيع الكتاب العلميّ هو انّ أيّ موضوع فيه يصبح مشروحاً أو أبسط شرحاً بواسطة الموضوع الآخر أو يصبح به واضحاً أو اشدّ وضوحاً. ومثل هذا الكتاب الّذي تكون جميع آياته متمايلة بعضها مع البعض هو بالتأكيد مُفسّر ومُبيّن بعضه لبعض، وهو المفصِّل والشارح الداخليّ لنفسه.

انّ الدعوة الىٰ التدبّر وادّعاء النزاهة من الاختلاف كما هو شاهد ناطق علىٰ عموميّة فهم القرآن فإنّه من أفضل الشواهد علىٰ استقلال القرآن في الحجيّة وتبيين المعارف وأيضاً علىٰ صحّة وكفاءة اُسلوب تفسير القرآن بالقرآن، لأنّ آيات القرآن لو كانت منقطعة الصلة فيما بينها وكان كلّ منها ناظراً إلىٰ مطلب خاصّ ولم تكن تربط بينها علاقات مثل الإطلاق والتقييد، التعميم والتخصيص، التأييد والتبيين والشرح والتفصيل، لما كان ايّ منها موافقاً ولا مخالفاً للآخر، حيث لايوجد فيما بينها عامل مشترك ولا علاقة دلاليّة كلاميّة وقوليّة، والموافقة والمخالفة فرع العلاقة والترابط والميل المشترك، في حال انّ إدعاء كون الآيات


[1] . سورة الزمر، الآية 23.

تسنيم، جلد 1

101

منسجمة يشعر بوجود الارتباط والعلاقة، كما انّ دعوىٰ نفي الاختلاف هي من قبيل عدم الملكة. فلابدّ اذاً من وجود ترابط فيما بين الآيات. وحينئذٍ يمكن القول: انّ مثل هذا الكتاب لو كان محتاجاً في بيان مسائله إلىٰ غيره لأصبح برهان هذه الآية الكريمة واستدلالها غير تامّ.

توضيح ذلك: هو انّ مخالفي القرآن إذا كانوا يدَّعون وجود الاختلاف فيه ولم يمكن دفع شبهاتهم عن طريق الدلالة اللفظيّة للقرآن الكريم وباُسلوب تفسير القرآن بالقرآن، فلن يجدي ايّ طريق آخر لحلّ هذا الاختلاف المتوهّم، كالإرجاع إلىٰ النبيّ الأكرم(ص) ونفي النبيّ هذا الاختلاف الداخليّ دون شاهد من ألفاظ القرآن، وبيانه المراد من الآية بنحو ليس فيه تقابل بين الآيات، فالمخالفون الذين لايعتقدون بعصمة النبيّ(ص) وصدقه سوف لن يقتنعوا بذلك.

وبعبارة اُخرىٰ فإنّ رفع الاختلاف المتوهّم بواسطة مرجع كالنبيّ الأكرم(ص) انّما يقنع المعتقدين بنبوّته وعصمته فحسب. في حين انّ المحور الأصليّ والمخاطبين الأساسيّين في خطاب هذه الآية هم المخالفون لدعوىٰ الرسول الاكرم(ص) والمنكرون لصحّة دعوته، وهم الأفراد الّذين لايؤمنون بنبوّته وعصمته ولا يقبلون حكمه دون شاهد من القرآن.

المنهج التفسيريّ لأهل البيت(ع )

انّ الرسول الأكرم(ص) والأئمّة المعصومين(ع ) في أحكامهم القضائيّة واحتجاجاتهم وأجوبتهم علىٰ الأسئلة التفسيريّة، كانوا يُرجعون بعض آيات القرآن إلىٰ بعض، وكانوا يفسّرون الآية الّتي تقع مورداً للبحث

تسنيم، جلد 1

102

بواسطة سائر الآيات القرآنيّة، كما استفاد امير المؤمنين(ع) من الآية الكريمة: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَين﴾[1] والآية ﴿... وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرا﴾[2] فأثبت نظر القرآن الكريم في أنّ الحدّ الأقلّ لمدّة الحمل هو ستّة أشهر وبذلك رفع حكم الرجم عن إمرأة كان قد حُكم عليها به بتهمة الزنا.[3]

كذلك اعتبر الإمام الجواد(ع) بواسطة ضمّ الآية الكريمة: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّه﴾[4] إلىٰ الآية: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيهُمَا﴾[5] انّ حدّ السارق هو قطع اصابع اليد[6]، في حين انّ المتشدّدين من الخوارج واعتماداً علىٰ خصوص الآية: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة...﴾ كانوا يعتقدون بوجوب قطع يد السارق من الكتف لأنّ كلمة يد تطلق علىٰ جميع ذلك المقدار!

كذلك الإمام الباقر(ع) وفي جوابه لِزُرارة الّذي سأله: كيف يستفاد من الآية الشريفة: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَة﴾[7] حكم وجوب القصر في صلاة المسافر مع انّ لسان الآية ليس لسانَ الزام؟ قال(ع): انّ تعبير (لاجناح) في هذه الآية مثل تعبير (لاجناح) في الآية الكريمة: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ


[1] . سورة البقرة، الآية 233.

[2] . سورة الأحقاف، الآية 15.

[3] . البحار، ج40، ص180 و232.

[4] . سورة الجن، الآية 18.

[5] . سورة المائدة، الآية 38.

[6] . تفسير العيّاشي، ج1، ص230.

[7] . سورة النساء، الآية 101.

تسنيم، جلد 1

103

جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يطَّوَّفَ بِهِمَا﴾[1] حيث المقصود منها هو حكم الوجوب لا الرجحان الصرف.[2]

وعليه فإنَّ تفسير القرآن بالقرآن قد كان هو السيرة العمليّة لأهل البيت(ع )، كما انّ ارجاع المفسّرين إلىٰ هذه الطريقة كان مشهوداً جدّاً أيضاً في السيرة العلميّة لأولئك الذوات المقدّسة، كقول الرسول الأكرم(ص): «انّ القرآن ليصدّق بعضه بعضاً فلا تكذّبوا بعضه ببعض»[3] كما قال الإمام عليّ(ع): «كتاب الله تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه علىٰ بعض».[4]


[1] . سورة البقرة، الآية 158.

[2] . وسائل الشيعة، ج5، ص538.

[3] . كنز العمّال، ج1، ص619، ح2861.

[4] . نهج البلاغة، الخطبة 133، المقطع 9. إنّ المقصود من تصديق آيات القرآن بالنسبة إلىٰ بعضها البعض الّذي جاء في كلام الرسول الأكرم(ص)، ليس هو التصديق الإصطلاحيّ كي يكون في مقابل التصوّر، بل هو بمعنىٰ نطق وشهادة الآيات بالنسبة إلىٰ بعضها البعض الّذي جاء في كلام الإمام عليّ7 يعني إذا كان المبدأ التصوّري لآية مّا فيما بين المعاني المحتملة لها يفسّر بواسطة معنىٰ تصوّري واضح لآية اُخرىٰ فهذا هو من سنخ تصديق بعض الآيات بالنسبة إلىٰ البعض الآخر، لأنّ الشهادة وكذلك النطق المذكور صادق في هذا المجال أيضاً. كذلك إذا كان المبدأ التصديقيّ لآية ما فيما بين معانيَ ومقاصد متعدّدة من جملة قرآنيّة يحلّ بواسطة جملة اُخرىٰ ذات مقصود واضح (يقال اصطلاحاً انّ احدىٰ الجملتين ظاهرة والاُخرىٰ أظهر أو احداهما ظاهرة والاُخرىٰ نصّ أو انّ احداهما ذات ظهور مشترك والاُخرىٰ ذات ظهور خاص)، فإنّ مثل هذا النطق والشهادة مصداق للتصديق المأخوذ في كلام الرسول الأكرم(ص)، ويعدّ من تفسير القرآن بالقرآن، بناء علىٰ هذا فإنّ اي نحو من أنحاء الشهادة والنطق بالنسبة الىٰ المعنىٰ التصوّري أو التصديقيّ لآية ما يحصل بواسطة آية اُخرىٰ فهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، ولا يختصّ التصديق والشهادة أبداً بحالة مابعد استقرار ظهور الآية كما ظنّ البعض (راجع كتاب مناهج البيان في تفسير القرآن، ج1، ص17 ـ 18).

تسنيم، جلد 1

104

تنويه: انّما ينقل عن السيرة العمليّة لأهل البيت في تفسير القرآن بالقرآن هو لأجل اثبات اصل المنهج، وإلاّ فإنّ التطبيق في بعض الموارد بغير التعبّد ليس أمراً سهلاً. انّ دراسة مواضع السجود في الآية: ﴿أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّه﴾[1] ووجوب قطع بعض المواضع منها في حالة تكرار السرقة وكذلك تفسير معنىٰ (جناح) شاهد علىٰ ذلك.

وحيث انّه قد ورد من ناحية أهل البيت(ع ) انّ تفسير القرآن بالقرآن منهج معقول ومقبول، فإنّ الصحابة والتابعين لهم إذا وجدوا شاهداً من القرآن علىٰ تفسير آية ما فإنّهم يبادرون الىٰ تفسيرها به وإن كانت أغلب تفاسيرهم من سنخ التفسير بالمأثور، لا تفسير القرآن بالقرآن، لأنّه يتطلّب اجتهاداً قرانيّاً وتدبّراً في محور جميع الآيات، ولا التفسير عن دراية وهو محمود وممدوح لأنّه يحتاج إلىٰ اجتهاد برهانيّ وتأمّل في دائرة العلوم المتعارفة أو الاُصول والقواعد الموضوعة المبرهنة، لكنّ طريقة تفسير القرآن بالقرآن موجودة لدىٰ الباحثين في القرآن منذ قديم الزمان[2]، وقد كان الاُسلوب العمليّ لكثير من كبار المفسّرين أيضاً وبنحو محدود لا واسع هو الاستعانة ببعض الآيات في تفسير بعضها الآخر.


[1] . سورة الجن، الآية 18.

[2] . انّ كاتب هذه السطور قد رأىٰ في تفسير ابي جعفر محمّد بن جرير الطبري (م 310) وكذلك في التفسير الكبير للفخر الرازي جملة: «القرآن يفسّر بعضه بعضاً» وهو في حال كتابة هذه المقدّمة وظروفها الخاصّة حيث لا قدرة له علىٰ المزيد من الفحص. والمحدّث الكبير العلاّمة المجلسيّ (ره) أيضاً يقول: «وقد قالوا انّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً» البحار، ج54، ص218.

تسنيم، جلد 1

105

وقد ذكر مؤلّف تفسير المنار شروطاً لأجل بلوغ المستوىٰ العالي من التفسير، وأوّل هذه الشروط هو بحث نفس الآيات والكلمات لأجل فهم القرآن نفسه. ثمّ قال: «وقد قالوا انّ القرآن يفسّر بعضه ببعض».[1]

هذا التعبير يدلّ علىٰ أنّ تفسير القرآن بالقرآن اُسلوب قد اتّفق عليه الجميع، وليس مختصّاً بفئة معيّنة. لكن لا صاحب تفسير المنار الشيخ محمّد عبده نفسه ولا رشيد رضا ولا الآخرون لهم القدرة علىٰ ذلك العمل العظيم الّذي هو استنطاق القرآن الكريم وجعله ينطق لكي تكون آياته المتماثلة والمتسانخة ناطقة وشاهدة ومصدّقة بالنسبة إلىٰ بعضها البعض، وإن كانوا قد نالوا التوفيق نسبيّاً في سلوكهم هذا المنهج النيِّر البهيج.

والمقصود هو انّ أقوال وسيرة وتأليفات الأقدمين والقدماء والمتأخّرين والمعاصرين يفوح منها شذىٰ تفسير القرآن بالقرآن علىٰ مشامّ الروح، لكنّ مثل هذا المسك ينبغي أن يبحث عنه في سوق نفائس «الميزان» الّذي نال جائزة السبق في هذا المضمار من الآخرين، وهو إن كان بلحاظ هويّته التفسيريّة يحمل علامة البنّوة لسلف المفسّرين لكن «فيه معنىٰ شاهد باُبوّته».[2]

وإن كان باعة الحُسن قد قدِمـوا لعـرض الجمـال

لكـن لا احـد يبـلـغ في حسنـه وجمـاله حبيبنا

وبحقّ عشـرتـنـا القديمة لا يوجد محـرم أسـرار

يـبـلغ صاحبنا الّذي لا همّ له سوىٰ اقامة الحقّ


[1] . المنار، ج1، ص22.

[2] . مقتبس من ديوان ابن الفارض.

تسنيم، جلد 1

106

الـف رسـم يـظـهـر مـن قـلـم الخـلـق ولـكن

لـيـس فـيـهـا واحـد جـذّاب كرسـم حبيـبنا

الـف نقـد يـؤتىٰ بـه إلىٰ ســـوق الكائـنـات

لكن واحدة منها لاتبلغ مسكوكة صاحب عيارنا[1]

الميزان وما أدراك ما الميزان: ﴿ذٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يؤْتِيهِ مَن يشَاء﴾[2] وسوف يتّضح فيما بعد سرّ نجاح وموفّقية المؤلّف الكبير للميزان في تفسير القرآن بالقرآن.

تنويه: انّ سيرة الفقهاء والاُصوليّين في استنباط الأحكام الفقهيّة من آيات الأحكام مبتنية علىٰ تقييد المطلقات وتخصيص العمومات لبعض آيات القرآن بواسطة المقيّدات والمخصّصات الموجودة في سائر آيات القرآن. كذلك إذا كان هناك احتمال نسخ في إحدىٰ الآيات[3]، فإنّهم يبحثون عن الناسخ في آيات اُخرىٰ، وبشكل عامّ فإنّه يتمّ الإستفادة من كلّ قرينة وشاهد قرآنيّ لأجل استنباط الفروع الفقهيّة من آيات الأحكام في القرآن الكريم.


[1] . ترجمة ابيات من ديوان حافظ الشيرازيّ.

[2] . سورة الجمعة، الآية 4.

[3] . روح وحقيقة النسخ المصطلح في دراسات العلوم القرآنيّة ترجع إلىٰ (التخصيص الزمانيّ) كما انّ قبلة المسلمين كانت في زمان ما بيت المقدس، ثمّ تحوّلت إلىٰ الكعبة المقدّسة، فزمان الحكم الّذي تبيّنه الآيات المنسوخة محدود منذ البداية، وحدّه معلوم لدىٰ الله سبحانه، لكنّ محدوديّته لم تبيّن من البداية، وإنّما بُيّنت بواسطة نزول الآيات الناسخة. والآية الشريفة: ﴿مَا نَنَسَخْ مِنْ آيةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ سورة البقرة، الآية 106 أيضاً إذا كانت تتعلّق بالآيات التدوينيّة لا التكوينيّة، فهي بمعنىٰ انّنا وبعد نسخ الحكم السابق نشرِّع حكماً أفضل لكم من الحكم الماضي أو مثل ذلك، لا بمعنىٰ انّنا ندلي لكم بخطاب اكمل وأكثر نضجاً من السابق.

تسنيم، جلد 1

107

وسيرة وطريقة العقلاء أيضاً في الاستفادة من آثار وتأليفات أو أقوال الكُتّاب والخطباء جارية علىٰ مقايسة جميع مسائل الكتاب أو الخطابة بعضها مع بعض وتأييد بعضها بالآخر أو نقضها، وقد كانت هذه السيرة أمام منظر ومسمع الشارع المقدّس ولم يصدر منه بالنسبة إليها أيّ منع أو ردع.

شبهات استقلال القرآن في الحجيّة والتفهيم

انّ القرآن الكريم الّذي هو المبيّن للخطوط العامّة لمعارف الدين، واضح جدّاً في تبيين الخطوط الأصليّة لمعارف الدين. ولا يوجد في كلّ القرآن ـ من الناحية التفسيريّة ـ موضوع مبهم وضبابيّ، لأنّه إذا كانت ألفاظ الآية بمفردها لاتستطيع أن تبيّن مقصودها، فإنّ الآيات الاُخرىٰ للقرآن تتكفّل بنحو تامّ توضيح أصل الموضوع فيها. امّا تبيين الجزئيّات، والخصوصيّات والحدود لتلك الخطوط العامّة فهو علىٰ عاتق الرسول الأكرم(ص) بإرشاد القرآن نفسه: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَينَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم﴾[1]، ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[2]، ﴿... أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول...﴾.[3] وبعد عصر الرسالة أيضاً وبوصيّة من الرسول الأكرم(ص) في حديث الثقلين فقد اُوكلت هذه المهمّة إلىٰ أئمّة أهل البيت(ع ).

ومقتضىٰ برهان النبوّة العامّة الشامل لنبوّة النبي الخاتم(ص) أيضاً هو انّ كتاب السماء والقانون الإلهيّ الموجود في يد النبيّ يكون قابلاً للفهم وصالحاً للعمل أيضاً.


[1] . سورة النحل، الآية 44.

[2] . سورة الحشر، الآية 7.

[3] . سورة النساء، الآية 59.

تسنيم، جلد 1

108

فالكتاب الّذي تكون قوانينه غير مفهومة للناس وغير قابلة للتنفيذ في المجتمع، لايكون لائقاً وجديراً برسول الله، لكنّ صلاحيّة وكفاءة قانون النبيّ للعلم والعمل ليست منحصرة في أن يكون نفس الكتاب النازل من السماء مبيّناً لجميع المعارف والأحكام بالتفصيل، بل من الممكن أن يوضّح بعضها علىٰ نحو مفصّل، ويفصّل بعضها الآخر عن طريق الوحي والإلهام إلىٰ النبيّ نفسه والنبيّ يبيّنها للمجتمع. او ان يكتفي أصلاً ببيان الخطوط العامّة للحِكَم والأحكام، ويلهم تفاصيلها إلىٰ النبيّ عن طريق الحديث القدسيّ. والنبيّ بدوره يقوم بإبلاغ ما أدركه من التفصيل إلىٰ اُمّته. والمقصود هو أنّ مايستفاد من برهان ضرورة الوحي والنبوّة هو وصول الرسالة الإلهيّة في مجال اُصول وفروع الدين إلىٰ الناس، وذلك البلاغ له طرق متعدّدة وليس منحصراً أبداً بالبيان التفصيليّ لنفس النصّ المقدّس النازل من السماء.

والقرآن الكريم ذو ظاهر وباطن وتأويل وتنزيل، والعلم بالباطن وتأويل القرآن الكريم أيضاً تحت تصرّف الأئمّة المعصومين(ع )، حيث انّ لاُولئك العظام طريقاً إلىٰ المقام المكنون للقرآن.

ولذلك يمكن القول: انّ العلم بمجموع القرآن الّذي هو أعمّ من الظاهر والباطن والتنزيل والتأويل منحصر بالمعصومين(ع )، أمّا الاستفادة من ظواهر ألفاظ القرآن وفي حدود تبيين كلّيات الدين مع مراعاة شروطها الخاصّة فهو نصيب الجميع.

والآن وبعد أن اتّضحت دعوىٰ (استقلال القرآن في مجال الحجيّة والدلالة علىٰ معارف الدين) يجب أن نجيب علىٰ الشبهات الّتي تدور

تسنيم، جلد 1

109

حول استقلال القرآن في تفهيم المعارف الدينيّة وحجيّة ظواهره[1] وطريقة تفسير القرآن بالقرآن.

الشبهة الاُولىٰ: افتراق الثقلين

في حديث الثقلين الشريف (كتاب الله وعترة رسول الله) جعلت (العترة) مساوية لكتاب الله ومتلازمة معه، ولازم هذه المساواة انّ روايات أهل البيت(ع ) تكون عِدلاً وملازماً ومثيلاً للقرآن الكريم، ولهذا قيل انّ عدم الرجوع إلىٰ روايات أهل البيت في فهم ظواهر القرآن يؤدّي إلىٰ افتراق الثقلين ويصبح عاملا للضلال المذكور في الحديث: «انّي تارك فيكم الثقلين، ما ان تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي... وهما كتاب الله... وعترتي أهل بيتي لن يفترقا...»[2]، وضرورة الرجوع إلىٰ العترة الطاهرة(ع ) في فهم ظواهر القرآن لايتناسب مع القول باستقلال القرآن في تبيين معارف الدين. ولذلك فإنّ القرآن الكريم وبضميمة روايات أهل البيت(ع ) يصبح حجّة إلهيّة وتبياناً لكلّ شيء.

جواب الشبهة

أوّلاً: انّ الّذي جُعِل في حديث الثقلين الشريف عِدْلاً للقرآن هو نفس العترة(ع )[3]، لا الرواية، ناهيك عن الخبر الواحد.


[1] . حجيّة ظواهر القرآن لاتعني الاستغناء عن الرجوع إلىٰ الروايات لأجل تشخيص مقيّداتها ومخصّصاتها، كما هو الحال في حجيّة الروايات أيضاً حيث انّها لاتعني الاستغناء عن الفحص عن مخصّصاتها ومقيّداتها.

[2] . البحار، ج23، ص108.

[3] . يقول الإمام الحسين7 حول الأئمّة(ع ): «نحن... أحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله ثاني كتاب الله تبارك وتعالىٰ» البحار، ج44، ص205.

تسنيم، جلد 1

110

ثانياً: انّ العترة الطاهرة وإن كانوا بلحاظ المقامات المعنويّة، وفي النشأة الباطنيّة برأي اساطين الدين كصاحب الجواهر[1] وكاشف الغطاء[2] ليسوا أقلَّ من القرآن، والكلام الرفيع لأمير المؤمنين(ع) «ما لله عزّ وجلّ آية هي أكبر منّي»[3] أيضاً شاهد علىٰ هذه الدعوىٰ، ولكن بلحاظ النشأة الظاهريّة وفي إطار تعليم وتفهيم معارف الدين، فالقرآن الكريم هو الثقل الأكبر واُولئك العظام هم الثقل الأصغر، وفي هذه النشأة يضحّون بأجسامهم فداءً لأجل حفظ القرآن[4]، وحديث الثقلين «طبقاً لأكثر النصوص الّتي نقل بها» بنفسه شاهد علىٰ هذا الإدّعاء: «وانّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله تبارك وتعالىٰ حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض وعترتي أهل بيتي».[5]

ثالثاً: انّ الروايات ظنيّة (غير قطعيّة) من ثلاثة أبعاد:

أ. بُعد السند وأصل الصدور، لأنّ الخبر المتواتر أو الخبر الواحد المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع نادر جدّاً.


[1] . جواهر الكلام، ج13، ص71 ـ 76.

[2] . كشف الغطاء، كتاب القرآن، ص298: «المبحث الرابع انّه (القرآن) أفضل من جميع الكتب المنزلة من السماء ومن كلام الأنبياء والأصفياء وليس بأفضل من النبيّ(ص) وأوصيائه(ع ) وإن وجب عليهم تعظيمه واحترامه... فتواضعهم لبيت الله وتبرّكهم بالحجر والأركان وبالقرآن وبالمكتوب من أسمائه وصفاته من تلك الحيثيّة لايقضي لها بزيادة الشرفيّة».

[3] . اصول الكافي، ج1، ص207؛ البحار، ج23، ص206.

[4] . انّ الأرواح الشريفة لأولئك العظماء لاتُفدىٰ لأيّ شيء حتّىٰ في النشأة الظاهريّة، وإنّما هي معدّة للقاء الله سبحانه.

[5] . البحار، ج89، ص13.

تسنيم، جلد 1

111

ب. بُعد جهة الصدور لأجل احتمال وجود التقيّة في الروايات.

ج. بُعد الدلالة لأنّ المستند في دلالتها علىٰ مضامينها هو الاُصول العقلائيّة كأصالة الإطلاق، وأصالة العموم، واصالة عدم التقييد واصالة عدم التخصيص واصالة عدم القرينة وأمثالها. لكنَّ القرآن الكريم في أكثر هذه الأبعاد قطعيّ، لأنّه من جهة السند، إسناده إلىٰ الله سبحانه قطعيّ، ولا يوجد أدنىٰ شكّ في كونه كلام الله. ومن حيث جهة الصدور فإنّه أيضاً لايمكن الاعتراض عليه، لأنّ الله سبحانه لايستعمل التقيّة في بيان الحقائق ولا وجود للتقيّة في القرآن اطلاقاً.[1]

والحاصل انّ القرآن في أصل الصدور قطعيّ وكذلك بلحاظ جهة الصدور قطعيّ أيضاً. وأمّا من ناحية الدلالة فعلىٰ رغم انّ آيات القرآن تظهر كالروايات لكن حيث انّها ـ من جهة ـ محفوظة ومصونة من احتمال الدسّ والتحريف ومن احتمال السهو والنسيان والخطأ في الفهم والعصيان في الإبلاغ والإملاء من جهة اُخرىٰ، ومن جانب هي متكفّلة لبيان الخطوط الكليّة للدين، لا فروعه الجزئيّة، لهذا فبعد إرجاع المتشابهات إلىٰ المحكمات وحمل مطلقها علىٰ مقيّدها وعمومها علىٰ خصوصها وإرجاع الظواهر إلىٰ النصوص أو الأظهر والجمع بين الآيات والمواضيع، فإنّ الأمر يصبح يقيناً أو بمنزلة اليقين، وعليه فإنّ القرآن الكريم مصدر قطعيّ أو مفيد للإطمئنان في الدين، وزمام الدين يجب أن يوكل إلىٰ الأمر القطعيّ لا الظنّي.


[1] . التقيّة بمعنىٰ اظهار الأمر غير الواقعيّ وهي لا وجود لها في القرآن، ولكنّ عدم ذكر بعض الاُمور لأجل مصلحة ما مثل الذكر الصريح لأوصياء النبيّ حيث لم يتعرّض القرآن لذلك وأوكل إلىٰ الرسول الأكرم(ص) فهذا موجود في القرآن ولكنّ هذا ليس من التقيّة.

تسنيم، جلد 1

112

رابعاً: انّ روايات المعصومين(ع ) تابعة للقرآن الكريم في أصل حجيّتها وفي تأييد مضمونها ومحتواها أيضاً.

أمّا في أصل الحجيّة فلأنّ مصدر حُجيّة سنّة النبيّ(ص) ـ الّتي تعني قوله وفعله وتقريره ـ هو القرآن، الّذي يرجع المسلمين إليه(ص) في آيات عديدة كقوله تعالىٰ: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول﴾[1]، و﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[2]، و﴿أَنزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم﴾.[3]

ومصدر حجيّة سنّة الأئمّة(ع ) أيضاً هو قول النبيّ الأكرم(ص) في حديث الثقلين الشريف. وعليه فإنّ حجّية وقيمة الصادر من النبيّ الأكرم والأئمّة(ع ) هي ببركة القرآن الكريم، الاّ أن تثبت نبوّة الرسول الأكرم(ص) بمعجزة اُخرىٰ غير القرآن وحينئذٍ لاتكون حجّية سنّة النبيّ الأكرم(ص) متوقّفة علىٰ القرآن. وفي عصرنا الحاضر حيث لاتوجد هناك معجزة سوىٰ القرآن فإنّه لايمكن إثبات حجيّة سنّة الرسول الأكرم(ص) بغير القرآن، الاّ إذا ثبت بالتواتر صدور معجزة اُخرىٰ غير القرآن فتثبت بها حجّية السنّة. وأمّا حجّية القرآن الكريم فهي ذاتيّة ولم تحصل من مصدر آخر. وبالنتيجة فإنّ حجّية القرآن وحجّية الروايات ليستا في مستوى ودرجة واحدة.

ومن الجدير بالذكر انّ المقصود من كون حجّية القرآن ذاتيّة، هي الحجيّة بالنسبة إلىٰ السنّة، وليس المقصود منها الذاتيّة الأوّليّة.


[1] . سورة النساء، الآية 59.

[2] . سورة الحشر، الآية 7.

[3] . سورة النحل، الآية 44.

تسنيم، جلد 1

113

والحال إذا كانت حجيّة ظواهر القرآن الكريم أيضاً تابعة للروايات وكان القرآن الكريم ـ حتّىٰ علىٰ مستوىٰ التفسير والدلالة علىٰ معاني ظواهر ألفاظه ـ متوقّفاً علىٰ الروايات، فهذا سوف يكون مستلزماً للدور (توقّف الشيء علىٰ نفسه) الّذي هو بديهيّ الاستحالة و... نعم لم تتمّ الاشارة إلىٰ فرض عدم الدور.

تنويه: انّ إرجاع المسلمين إلىٰ النبيّ الأكرم(ص) والأئمّة(ع ) قد تمّ أيضاً بواسطة القرآن نفسه، وهو من مصاديق ﴿تِبْياناً لِكُلِّ شَي‏ء﴾[1] إذن فنور القرآن يعرِّف البشريّة علىٰ هداتها ومرشديها، وليس الأمر بحيث انّ المجتمع الإنسانيّ ـ بغير هداية القرآن ـ يكون قادراً أو مكلّفاً بأن يرجع إلىٰ النبيّ(ص) وأهل البيت(ع ). وصحيح انّ مفتاح فهم الكثير من الحقائق القرآنيّة عند أهل بيت العصمة والطهارة(ع ) لكنّ القرآن نفسه هو الّذي أوضح مقام ومنزلة هذا المفتاح.

وأمّا تبعيّة الروايات للقرآن الكريم في تأييد المضمون والمحتوىٰ فلأجل انّ المعصومين(ع ) أنفسهم وفي أحاديث كثيرة أمروا بعرض كلامهم علىٰ الميزان الإلهيّ وهو القرآن الكريم وبأن تُقيَّم به أحاديثهم وفي حالة عدم المخالفة مع القرآن يتمّ قبولها، وهذه الأحاديث تعرف بـ(أخبار العرض علىٰ الكتاب) وهي علىٰ طائفتين:

الطائفة الاُولىٰ: تضمّ الروايات الّتي تتحدّث عن طريقة حلّ التعارض بين الأحاديث المتعارضة، ويطلق عليها في «باب التعادل والترجيح» من علم اصول الفقه اسم «النصوص العلاجيّة».


[1] . سورة النحل، الآية 89.

تسنيم، جلد 1

114

وأحد المعايير في حلّ تعارض الروايات بواسطة الأخبار العلاجيّة هو عرض الحديثين المتعارضين ـ اللذين لايوجد جمع دلاليّ لهما وقد استقرّ تعارضهما ـ علىٰ القرآن الكريم كي يؤخذ بالموافق للقرآن أو غير المخالف له، ويُردّ الحديث الّذي يتمّ تشخيصه بأنّه مخالف للقرآن: «... وكلاهما اختلفا في حديثكم... فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فيما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ويترك ماخالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة»[1]، «اعرضوهما علىٰ كتاب الله عزّ وجلّ فما وافق كتاب الله عزّ وجلّ فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه»[2]، «اذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما علىٰ كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه».[3]

الطائفة الثانية: وهي الروايات العامّة الّتي لا اختصاص لها بالأخبار المتعارضة، بل تعتبر صحّة مضمون ومحتوىٰ كلّ رواية مرهونة بموافقتها أو عدم مخالفتها للقرآن الكريم، وهذه توسّع دائرة لزوم العرض علىٰ القرآن إلىٰ جميع الأحاديث[4]، كالروايات التالية:


[1] . اصول الكافي، ج1، ص67.

[2] . وسائل الشيعة، ج18، ص80.

[3] . نفس المصدر، ص84.

[4] . أخبار العرض علىٰ الكتاب لاتشمل الروايات المنقولة بلاواسطة (السنّة القطعيّة) لانّ الّذي أدرك حضور النبيّ أو الإمام المعصوم7 وسمع كلاماً من لسانه المطهّر وأحرز جهة صدوره بنحو لا يحتمل فيه التقيّة أصلاً، فهو في هذه الحالة لايبقىٰ لديه أيّ احتمال للخلاف. وسماع الكلام من الناطق بالوحي سبب لحصول الجزم. وعليه فإنّ أخبار العرض علىٰ الكتاب مختصّة بالأخبار المنقولة مع الواسطة، هذا إذا لم يكن صدورها قطعيّاً.

تسنيم، جلد 1

115

1. قال رسول الله(ص): «انّ علىٰ كلّ حقّ حقيقة وعلىٰ كلّ صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه».[1]

أي انّ لكلّ حقّ أصلاً، وذلك الأصل هو ميزان قياس ومعيار تقيم ذلك الحقّ، وكلّ صواب (وهو الأمر الواقعيّ) له نور يعرف بواسطته ذلك الصواب المذكور. إذن كلّ ماكان موافقاً للميزان الإلٰهيّ، أي القرآن الكريم فخذوه وما كان مخالفاً له فدعوه. ومن تفريع ذيل الرواية: «فما وافق» يظهر انّ الروايات هي ذلك الحقّ الّذي حقيقته تتمثّل في القرآن الكريم، وصحّة مضمون الرواية رهن لموافقتها مع حقيقتها (أي القرآن الكريم)، والنور الّذي به يقاس صدق الروايات هو القرآن.

2. كذلك الإمام الصادق(ع) في جواب سؤال حول الأحاديث الّتي يكون بعض رواتها موثّقين والبعض الآخر غير موثّقين يقول: «إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله(ص) وإلاّ فالّذي جاءكم به أولىٰ به»[2] أي إذا كان الحديث موافقاً للقرآن أو لم يكن مخالفاً له فاقبلوه، وإذا كان مخالفاً للقرآن فإنَّ مسؤوليّته تقع علىٰ عاتق ناقله وراويه.

3. وفي هذا السياق أيضاً يقول الإمام الصادق(ع): «كلّ شيء مردود إلىٰ الكتاب والسنّة وكلّ حديث لايوافق كتاب الله فهو زخرف»[3] في صدر هذا الحديث يقول انّ الكتاب والسنّة مرجعان لتقييم كلّ كلام، ثمّ يقول بعد


[1] . اصول الكافي، ج1، ص69.

[2] . نفس المصدر.

[3] . نفس المصدر.

تسنيم، جلد 1

116

ذلك انّ القرآن الكريم وحده هو المرجع المعترف به للتقيم، لأنّ السنّة القطعيّة وإن كانت مستغنيةً عن العَرض علىٰ محتوىٰ القرآن، لكنّ أصل حجّية السنّة القطعيّة مرتبط بحجيّة القرآن واعجازه، لأنّ رسالة الرسول الأكرم ونبوّته تثبت بواسطة كون القرآن معجزةً، إلاّ أن يكون أصل الرسالة قد ثبت بمعجزةٍ اُخرىٰ غير القرآن، لكنّ معجزة كهذه سوف لن تكون خالدة ولا مؤثّرة ولا مفيدة للأجيال الحاضرة والقادمة الاّ إذا ثبت عن طريق التواتر أصل تلك المعجزة، ففي هذه الحالة ستكون نبوّة الرسول الأكرم(ص) خالدة في ظلّ الاعتماد علىٰ تواتر الإعجاز. والسنّة غير القطعيّة أيضاً بغضّّ النظر عن أصل حجيّتها فإنّها من ناحية المتن والمحتوىٰ يجب أن تُقيَّم بالقرآن الكريم فإذا كانت مخالفة لمحتواه فهي زخرف وباطل.

تنويه: يجب الالتفات إلىٰ أنّ لسان مثل هذه الروايات يأبىٰ التخصيص والتقييد ولا يمكن أبداً تخصيصها أو تقييدها.

4. متن الجملة الأخيرة من الحديث السابق، نُقلت في رواية اُخرىٰ بهذا النحو: «مالم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف»[1] أي انّ الحديث الّذي لايكون موافقاً للقرآن فهو باطل.

5. يقول الإمام الصادق(ع): «انّ النبي الأكرم(ص) في خطابه في أرض منىٰ قال: أيّها الناس ماجاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم اقله».[2] بناءً علىٰ هذا فحتّىٰ في غير حال التعارض أيضاً فالرواية الّتي تكون بحسب الظاهر واجدةً لأركان الحجيّة يجب أن


[1] . اصول الكافي، ج1، ص69.

[2] . نفس المصدر.

تسنيم، جلد 1

117

تقيَّم من ناحية المحتوىٰ بواسطة القرآن الكريم. هذه الأحاديث تدلّ جيّداً علىٰ انّ الحديث ليس في عرض وموازاة القرآن، بل هو في طوله، لأنّه لو كان في عرض القرآن ففي حالة تعارض ظاهر الحديث مع القرآن يصبح الكلام عن (تساقط المتعارضين) والرجوع إلىٰ الأصل الحاكم في المسألة أو (التخيير) في الأخذ بأحد المتعارضين، ولا يصحّ الكلام عندئذٍ عن كون الرواية المخالفة والمعارضة للقرآن زخرفاً وباطلاً.

تنويه: المخالفة المؤدّية إلىٰ سقوط الرواية عن الحجيّة هي المخالفة التباينيّة لا المخالفة الّتي بين المطلق والمقيّد أو العامّ والخاصّ، لأنّ مثل هذه المخالفة في عرف واضعي القوانين وكذلك في عرف العقلاء تعدّ مخالفة ابتدائيّة وليست مخالفة وتعارضاً مستقرّاً، فلايصل الأمر إلىٰ عدّها من الروايات المخالفة للقرآن الّتي تعتبر من الزخرف والباطل. كما انّ مخالفة وتعارض الحديثين أيضاً هي تلك المخالفة التباينيّة الّتي ليس لها جمع دلاليّ، ولذلك يصل الأمر إلىٰ النصوص العلاجيّة. فالنصوص العلاجيّة هي لأجل رفع التعارض المستقرّ، كما جاء في تلك النصوص: «واحد يأمرنا... والآخر ينهانا عنه».[1] والدليل علىٰ انّ المخالفة في العموم والخصوص والاطلاق والتقييد لاتعدّ من التعارض هو اوّلاً: انّ لها جمعاً دلاليّاً وعرفيّاً، وثانياً: انّ هذا النوع من الاختلافات موجود أيضاً بين آيات القرآن مع بعضها، مع انّ هذا الكتاب الإلهيّ يعلن كونه منزّهاً عن الإختلاف: ﴿أَفَلاَ يتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا﴾.[2]


[1] . وسائل الشيعة، ج18، ص88.

[2] . سورة النساء، الآية 82.

تسنيم، جلد 1

118

فالمقيّد بالنسبة إلىٰ المطلق والمخصِّص بالنسبة إلىٰ العامّ شارح ومفصِّل وليس معارضاً.

سرّ التأكيد علىٰ تقييم الحديث بواسطة القرآن

إنّ سرّ تأكيد الروايات المذكورة علىٰ ضرورة قياس وتقييم الروايات بواسطة القرآن الكريم، ونبذ وترك الأحاديث المخالفة للقرآن هو انّ كلام المعصومين(ع ) ليس كالقرآن الكريم الّذي هو غير قابل للتحريف وجعل المماثل، ولذلك فإنّ يد الجعل والوضع والدسّ والتحريف قد انطلقت منذ عصر الرسول الأكرم(ص) للقيام بجعل الأحاديث إلىٰ درجة انّ النبيّ الأكرم(ص) قال في خطابه: انّ الكذّابين قد اكثروا من الكذب عليّ.

وقد قال الإمام أمير المؤمنين(ع) في جواب سؤال قيس الهلاليّ الّذي سأله عن اختلاف الروايات في التفسير وغيره: «قد سألت فافهم الجواب: انّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعامّاً وخاصّاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً وقد كُذب علىٰ رسول الله(ص) علىٰ عهده حتّىٰ قام خطيباً فقال: «ايّها الناس قد كثرت عليّ الكذّابة فمن كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النار. ثمّ كُذب عليه من بعده...»[1] أي انّ الروايات الّتي هي في أيدي الناس والرواة مزيج من الحقّ والباطل، والصدق والكذب، والناسخ والمنسوخ، والعامّ والخاصّ، والمحكم والمتشابه، والأحاديث الّتي نقلت بأمانة فحفظت كما كانت واُخرىٰ


[1] . اصول الكافي، ج1، ص62.

تسنيم، جلد 1

119

تدخّلت فيها أوهام الرواة فتغيّرت ممّا حدىٰ برسول الله(ص) أن يقوم خطيباً فيقول انّ المفترين للكذب قد كذَّبوا عليّ كثيراً، فمن كَذَبَ عليّ فمكانه نار جهنّم، وبعد عصر الرسول أيضاً قد كذّبوا عليه... .[1]

ونظرة بسيطة وعابرة إلىٰ تاريخ الحديث، تكفي للشهادة علىٰ انّ الجاعلين والواضعين قد عبثوا بالأحاديث، فكتابة ونقل الحديث قد بقيا ممنوعين فترة استمرّت مائة وثلاثين سنة بعد الهجرة، وفي خلال هذه المدّة لم يتصدَّ لضبط وحفظ الحديث سوىٰ بعض الصحابة الخواصّ لأهل البيت(ع ). وفي هذه الفترة المظلمة ذهبت الكثير من الأحاديث الّتي لم يكن لها محلّ سوىٰ أذهان الرواة، فزالت وفقدت بموتهم. والجاعلون للحديث لم يقوموا بجعل الحديث فحسب، بل امتدّت دائرة الجعل إلىٰ الراوي واُصول الحديث أيضاً، فنُقل عن أشحاص علىٰ أنّهم رواة، ولم يكن لهم وجود عينيّ أبداً. وظهرت كتب بعنوان انّها (اُصول) تتضمّن احاديث مجعولة وصحيحة قد اختلقتها يد الناسخين وتجّار الكتابة.


[1] . يقول الرسول الأكرم(ص): «قد كثرت عليّ الكذّابة» (البحار، ج2، ص225). قال بعض شرّاح هذا الحديث: انّ هذا الحديث أفضل شاهد علىٰ وجود الأحاديث المجعولة، لأنّ هذا الحديث إمّا أن يكون قد صدر من المعصوم أو هو مجعول، فإذا كان من كلام المعصوم فهو يدلّ علىٰ وجود الأحاديث المجعولة بين الروايات المنقولة عنهم، وإذا كانت هذه الجملة ليست من كلام المعصوم، فهي بنفسها مصداق للحديث المجعول (مرآة العقول، ج1، ص221). وبعض الأحاديث المجعولة وضعها بعض الجهّال من الأصدقاء الّذين أرادوا بها ترويج القرآن، كبعض الروايات الواردة في ثواب قراءة بعض السور القرآنيّة، وبعض الأحاديث جُعلت بواسطة الأعداء الدهاة حتّىٰ يختلط زلال المعرفة الدينيّة بأقذار الكلام البشريّ فيؤدّي ذلك إلىٰ الحطّ من مكانة الدين السامية.

تسنيم، جلد 1

120

أحد هؤلاء الجاعلين للحديث هو عبد الكريم بن أبي العوجاء الّذي اعترف بجعل أربعين ألف حديث.[1] واستمرّ هذا الوضع إلىٰ زمان الصادقَين 8، وفي عصر هذين الإمامين الهمامين حدث تغيير وتطوّر. وخلال ذلك قام علماء الشيعة بالذبّ عن حريم الحديث وبذلوا مساعي جبّارة ولم يدَّخِروا جهداً في هذا المجال. فمن جملة ما قاموا به هو انّ بعض كبار العلماء أخرجوا رواة الأحاديث الضعيفة من قم حتّىٰ ينتظم وضع رواية الحديث.

وبالنتيجة، فإنّ القرآن يوفّر ويؤمِّن القيمة للروايات من ناحية السند (وان اُحتمل اثبات حجيّة السنّة بمعجزة اُخرىٰ غير القرآن) وكذلك قيمتها من ناحية الدلالة. وفي القسم الأخير لافرق في حجيّة السنّة بين أن تكون بواسطة القرآن أو بمعجزة اُخرىٰ، لأنّ السنّة غير القطعيّة من ناحية الإعتبار الدلاليّ يجب أن تعرض علىٰ القرآن في جميع الأحوال. فالقرآن سند للرسالة بلا واسطة، وهو سند للإمامة مع الواسطة، وهو في السند وفي الدلالة غنيّ عن الغير، وحجيّته ذاتيّة من الجهتين(طبعاً ليس بمعنىٰ الذاتيّ الأوّلي كالبرهان القطعيّ بل ذاتيّ بالنسبة إلىٰ السنّة).

وبناءً علىٰ هذا فإنّ الروايات يجب أن تبلغ نصاب الحجيّة في أحضان القرآن، وفي تأييد مضمونها يجب أن تُقيَّم بواسطة القرآن. هذه الحقيقة، هي رسالة القرآن الكريم الّذي يعتبر نفسه أصلاً ويعدّ سنّة المعصومين فرعاً (في إرجاع المسلمين إلىٰ النبيّ الأكرم(ص))، وكذلك


[1] . خمسون ومائة صحابي مختلق، ج1، ص31.

تسنيم، جلد 1

121

رسالة المعصومين(ع ) الّذين يرون القرآن أصلاً ويعدّون حديثهم فرعاً (في حديث الثقلين وأحاديث العرض علىٰ الكتاب).

تنويه: انّ السُنّة وكما سوف يتبيّن في الفصل الرابع تنقسم إلىٰ قسمين: أحدهما السنّة القطعيّة والاُخرىٰ السُنّة غير القطعيّة، والّذي يجب أن يعرض علىٰ القرآن هو السنّة غير القطعيّة، ولا حاجة أبداً لعرض السنّة القطعيّة علىٰ القرآن؛ لأنّ صدورها من مقام العصمة قطعيّ، ومثل هذا الصادر منتسب إلىٰ الله سبحانه يقيناً.

الشبهة الثانية: انحصار فهم القرآن بالمعصومين(ع )

يعتقد جماعة من الأخباريّين ـ واستناداً إلىٰ بعض الروايات غير المعتبرة ـ انّ آيات القرآن والأحاديث النبويّة كالرموز والألغاز ولا يفهمها أحد سوىٰ المخاطبين الأصليين بها (وهم المعصومون(ع )) وهي ليست من قبيل المحاورات العرفيّة كي يكون مقصود قائلها منها تفهيم عامّة الناس. ولذلك فلايجوز استنباط الأحكام النظريّة من ظواهر آيات القرآن والروايات النبويّة من دون الإعتماد علىٰ روايات الأئمّة(ع ). فالمحدّث الاستراباديّ الّذي هو من مؤسّسي الطريقة الاخباريّة يقول:

«... وانّ القرآن في الأكثر ورد علىٰ وجه التعمية بالنسبة إلىٰ أذهان الرعيّة وكذلك كثير من السنن النبويّة وانّه لاسبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام النظريّة الشرعيّة، أصليّة كانت أو فرعيّة الاّ السماع من الصادقين(ع ) وانّه لايجوز استنباط الأحكام النظريّة من ظواهر كتاب الله ولا ظواهر السنن النبويّة

تسنيم، جلد 1

122

ما لم يعلم أحوالهما من جهة أهل الذكر(ع ) بل يجب التوقّف والاحتياط فيهما...».[1]

هؤلاء حصروا فَهم القرآن بالمعصومين(ع ) واعتبروا باب إدراكه مغلقاً في وجه الآخرين، وبعض أدلّتهم هي عبارة عن:

أ. الأخبار الّتي تذمّ التفسير بالرأي.

ب. رواية: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن»[2] حيث تعدّ العقل البشريّ غير قادر علىٰ تفسير القرآن، ولذا يجب الرجوع في تفسير القرآن إلىٰ المعصوم فقط.

ج. كلام الإمام الصادق(ع) الموجّه إلىٰ أبي حنيفة الّذي كان يدّعي مقام الإفتاء والمعرفة الحقيقيّة للقرآن: «يا ابا حنيفة! لقد ادّعيت علماً، ويلك ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الّذين انزل عليهم ويلك ولا هو إلاّ عند الخاصّ من ذريّة نبيّنا محمّد(ص) وما ورّثك الله من كتابه حرفاً».[3]

د. كلام الإمام الباقر(ع) حيث يخاطب قتادة فقيه أهل البصرة: «بلغني انّك تفسّر القرآن؟» قال له قتادة: نعم. فقال له الإمام(ع): «يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت. ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به».[4]


[1] . الفوائد المدنيّة، ص47 ـ 48.

[2] . البحار، ج89، ص91.

[3] . وسائل الشيعة، ج18، ص30.

[4] . نفس المصدر، ص136.

تسنيم، جلد 1

123

وفي بعض الجوامع الروائيّة ادّعي بأنّ مثل هذه الروايات متواترة ودلالتها قطعيّة.[1]

جواب الشبهة:

وقد اُجيب بالتفصيل علىٰ شبهات الاخباريّين حول حجيّة ظواهر القرآن الكريم بواسطة علماء كبار كالمرحوم الوحيد البهبهانيّ، والميرزا القمّي والشيخ الأنصاريّ. فالمرحوم المحقّق القمّي يقول:

هذه الروايات (الّتي فهم الاخباريّون منها انحصار فهم القرآن بالمعصومين(ع ) ظاهرة أو صريحة في انّ المراد بها هو العلم بجميع القرآن (ظاهره وباطنه وتنزيله وتأويله) وهذا أمر مسلّم ومقبول. وإذا ورد مثل هذا المدّعىٰ في أخبار صريحة وصحيحة أيضاً فيجب توجيهه أو إرجاع العلم به إلىٰ أهله ولكن لا وجود لمثل هذه الأخبار».[2]

وفي جواب الشبهة الاُولىٰ ثبت انّ مستند حجيّة روايات المعصومين(ع ) هو القرآن الكريم. إذن فتوقّف حجيّة ظواهر ألفاظ القرآن الكريم علىٰ الروايات مستلزم للدور، واستحالة الدور بديهيّة. وكذا إذا كان أساس القرآن هو التعمية والرمز بين الله والنبيّ(ص)، بحيث لاينال معانيه الآخرون، فإنّه ـ عندئذٍ ـ لايمكن أن يصبح ميزاناً لعرض الأحاديث ومعياراً لتقييمها لأنّ اللغز ليس فيه أيّ نحو من الإيضاح والحكم حتّىٰ يجعل ميزاناً لقياس وتقييم الأحاديث. إذاً فما ورد في هذا


[1] . وسائل الشيعة، ج18، ص152.

[2] . قوانين الاُصول، ج1، ص397، بتصرّف.

تسنيم، جلد 1

124

المجال من الروايات إمّا أن يلزم منه الدور أو محذور ضرورة العرض علىٰ الألغاز، وكلاهما محال. فمن خلال التحليل العقليّ المذكور بالنسبة إلىٰ الروايات يظهر انّ المعصومين(ع ) لم ينفردوا أبداً بأصل فهم القرآن ولم يغلقوا باب فهمه في وجه الناس، ولم يرد في أحاديثهم انّ الناس لانصيب لهم من القرآن سوىٰ تلاوته، وحتّىٰ لو جاء هذا المعنىٰ في بعض الروايات، فحيث انّها مخالفة للخطوط العامّة للقرآن وللسنّة القطعيّة نفسها أيضاً فيجب أن يوكل فهمها إلىٰ أهلها.

والصفات الّتي هي من قبيل: «كتاب مبين»، «نور» و «تبيان كلّ شيء» والّتي وردت في حقّ القرآن لا هي مختصّة بالمعصوم(ع)، حتّىٰ يكون القرآن فاقداً لتلك الصفات بالنسبة إلىٰ الآخرين، ولا هي ناظرة إلىٰ مقام الثبوت حتّىٰ يكون القرآن فاقداً لهذه الصفات في مقام الإثبات، لأنّ الصفات المذكورة تتعلّق بالكتاب الّذي هو للهداية، وكتاب الهداية في مقام القيادة والدلالة والإرشاد له تلك الصفات، ومقام الدلالة والإرشاد يتميّز بأنّه أوّلاً: عامّ ولا اختصاص له بالمعصوم، وثانياً: هو ناظر إلىٰ مقام الإثبات لا الثبوت.

وظاهر الآية: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين﴾[1]، انّه أيضاً خطاب إلىٰ جميع الناس، دون أن يختصّ بالمعصوم وهو كذلك في مقام الهداية، لا مقام الثبوت، وكذا الآية (174) من سورة النساء والآية (8) من سورة التغابن والآية (157) من سورة الأعراف، فهذه الآيات هي في مقام الإرشاد وناظرة إلىٰ مقام الإثبات. نعم «كتاب مكنون» الّذي


[1] . سورة المائدة، الآية 15.

تسنيم، جلد 1

125

لايمسّه ولا يناله إلاّ «المطهّرون» هو درجة الكمال والمرحلة النهائيّة العالية لفهم القرآن، كما مرّ سابقاً... وهي مختصّة بأهل البيت الطاهرين(ع )، كما انّ قوله تعالىٰ: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِين﴾[1] أيضاً مثلها من بعض الجهات.

ومن الممكن أن يستظهر من بعض الروايات اختصاص فهم القرآن بالمعصوم(ع) مثل ماجاء عن الإمام الباقر(ع): «انّما يعرف القرآن من خوطب به»[2] لكنّ مثل هذا الاستظهار مخالف لظاهر القرآن الكريم نفسه، حيث يدعوا الجميع إلىٰ اُمور كالتدبّر والتحدّي والتعقّل، والحديث المخالف للقرآن لا إعتبار له. فالمراد من مثل هذه الأحاديث ـ وكما مرّ ـ هو الإحاطة التامّة بجميع أبعاد القرآن الّتي هي أعمّ من الظاهر والباطن، والمطلق والمقيّد، والعامّ والخاصّ، والناسخ والمنسوخ وأمثال ذلك.

كما انّ خطابات القرآن أيضاً ليست علىٰ مستوىٰ واحد، بل انّ مفاد ومضمون بعض الخطابات لايحيط بكنهه إلاّ المخاطبون الأصليّون بها. فالله سبحانه ينزل الآية تارة بعنوان: ﴿ياأَيّهَا النَّاس﴾، وأحياناً بعنوان: ﴿يا أَهْلَ الْكِتَاب﴾، وتارة بعنوان ﴿يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وأحياناً بعنوان ﴿يا أُولِي الأَبْصَار﴾ و﴿يا أُوْلِي الأَلْبَاب﴾ وتارة: ﴿يا أَيّهَا الرُّسُل﴾ وأخيراً فهو أحياناً يخاطب تحت عنوان: ﴿يا أَيّهَا الرَّسُول﴾ وهذا الخطاب مختصّ بالرسول الأكرم(ص). والعناوين المذكورة ليست في مستوىٰ واحد والاستنباطات أيضاً سوف لن تكون متساوية. فالاستنباط الجامع الكامل


[1] . سورة الأنعام، الآية 59.

[2] . وسائل الشيعة، ج18، ص136.

تسنيم، جلد 1

126

المحتوي علىٰ أسرار وكنه معارف وأحكام القرآن منحصر في أهل البيت المعصومين الأطهار(ع ) الّذين يتمتّعون بحقّ مسّ الكتاب المكنون.

بناءً علىٰ هذا فإنّ ما ندّعيه هو انّ فهم القرآن في حدود التفسير «لا التأويل» وفهم ظواهر ألفاظه مُيسّر للجميع وليس للمعصومين وحدهم، وانّ المعصومين لم يخصّوا أنفسهم به بل حثّوا الناس ورغّبوهم إليه. وبعض الشواهد الّتي تثبت أو تؤيّد هذا المدّعىٰ هي كما يأتي:

1. الأدلّة الّتي ذُكرت في الفصل الأوّل وهي تتضمّن إثبات كون لغة القرآن عامّة، مثل كون القرآن نوراً وتبياناً، ودعوة الجميع وترغيبهم بالتدبّر في القرآن، ودعوة العالمين إلىٰ الإتيان بكتاب مثله: «التحدّي».

2. حديث الثقلين الشريف الّذي يدعوا الناس بصراحة للتمسّك بالقرآن مثل تمسّكهم بالعترة ويقول: «ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».[1]

3. الروايات الّتي تدعو إلىٰ عرض الأخبار المتعارضة ـ بل مطلق الأخبار وإن لم تكن متعارضة ـ علىٰ القرآن الكريم.

4. الروايات الّتي تعتبر نفوذ وصحّة الشروط المختلفة في المعاملات مرهونة بعدم مخالفتها للقرآن، كما روي عن الإمام الصادق(ع) انّه يقول: «من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلايجوز له ولا يجوز علىٰ الّذي اشترط عليه. والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب الله عزّ وجلّ».[2] كذلك يقول(ع): «كلّ شيء خالف كتاب الله باطل».[3]


[1] . البحار، ج2، ص100 وج23، ص108.

[2] . وسائل الشيعة، ج12، ص353.

[3] . نفس المصدر السابق.

تسنيم، جلد 1

127

يظهر من مثل هذه الروايات انّ القرآن يجب أن يحكم في المجتمع الإنسانيّ بعنوان انّه الأصل والمرجع المستقلّ، وفهمه أيضاً ميسّر لجميع أصحاب النظر وسالكي طريق الفكر والتدبّر بمنهج معقول.

ولو كان القرآن لايفهم الاّ عن طريق الروايات، لأصبح الرجوع إلىٰ القرآن لأجل تقييم صحّة الروايات أو شروط المعاملات أمراً لغواً. ولو كان القرآن للتلاوة فقط، لم يرجع الأئمّة(ع ) المجتمع البشريّ إليه بهذا النحو أبداً.

ومن الجدير بالذكر انّ الرجوع إلىٰ القرآن لأجل تشخيص موافقة أو مخالفة شروط المعاملات يتمّ للفقيه بغير واسطة، وأمّا بالنسبة لمقلّديه فهو مع الواسطة، وإنّ وساطة الفقيه في تشخيص مخالفة أو موافقة الشرط مع القرآن لا منافاة لها مع حجيّة ظواهر القرآن للجميع، لأنّ المقصود من الحجيّة العامّة للظواهر هو انّ المطّلعين علىٰ قواعد الأدب العربّي وكذلك العلوم الأساسيّة الاُخرىٰ الدخيلة في فهم القرآن لهم حقّ التدبّر في مفاهيم القرآن والإحتجاج بنتيجة استنباطهم.

5. انّ الأئمّة المعصومين(ع ) كانوا يرجعون تلامذتهم وأصحابهم ومخاطبيهم إلىٰ القرآن الكريم في المجالات المختلفة، كالعقائد والمعارف، والمسائل الحقوقيّة والإجتماعيّة، والأحكام الفقهيّة وأدب تلاوة القرآن الكريم، ويشار فيما يلي إلىٰ نموذج من كلّ مورد منها:

أ. العقائد والمعارف: كما روي عن الإمام السجّاد(ع) في جواب سؤال حول التوحيد حيث قال: «انّ الله عزّ وجلّ علم انّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالىٰ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾ والآيات من

تسنيم، جلد 1

128

سورة الحديد إلىٰ قوله: ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور﴾[1] فمن رام وراء ذلك فقد هلك».[2] انّ أعلىٰ درجات السير الفكريّ للبشر في التوحيد قد توفّرت في هذين الموضعين من القرآن الكريم، بحيث انّ الإدبار عنهما يعدّ عاملاً للهلاك، والتقدّم عليهما أيضاً يصبح عاملاً للحيرة والضلال، لأنّه لايتصوّر أمر فوق ما ذكرته هذه الآيات. إذ انّ فوق الصمديّة وفوق الوجود اللامتناهي المطلق هو فرض محال وموقع في التِيه والضلال.

فإذا كان نصيب الناس من القرآن الكريم هو صرف التلاوة ليس غير، لم يكن هناك مجال للتعمّق واستخراج المعارف التوحيديّة السامية. في حين وطبقاً للحديث المذكور فإنّ المتعمّقين بالمعرفة مأذونون بل مأمورون بأن يغوصوا في القرآن ويستخرجوا منه الكنوز. ولذلك فإنّ الحكماء الإلٰهيّين قد استنبطوا معارف توحيديّة كثيرة من سورة الإخلاص المباركة. يقول الإمام الرضا(ع): «كلّ من قرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾ وآمن بها فقد عرف التوحيد».[3]

ب. المسائل الحقوقيّة: كما في استشهاد السيّدة الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع ) بآيات كثيرة من القرآن الكريم في خطابها لأجل استعادة فدك. فإنّها(ع ) وبعد أن نطقت بالحمد والشكر والثناء للذات المقدّسة الإلهيّة وبعد الشهادة بالتوحيد للحقّ سبحانه وتبيين الكثير من معارف الدين قالت: «كتاب الله بين أظهركم، اُموره ظاهرة وأحكامه زاهرة


[1] . سورة الحديد، الآية 6.

[2] . اُصول الكافي، ج1، ص91.

[3] . نفس المصدر السابق.

تسنيم، جلد 1

129

وأعلامه باهرة وزواجره لائحة وأوامره واضحة. قد خلّفتموه وراء ظهوركم. أَرَغْبَةً عنه تريدون؟ أم بغيره تحكمون ﴿بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا﴾[1]، ﴿وَمَن يبْتَغِ غَيرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين﴾.[2]

ثمّ قالت حول غصب فدك:

«... وأنتم الآن تزعمون ألاّ إرث لنا ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يوقِنُون﴾[3] أفلا تعلمون؟ بلىٰ تجلّىٰ لكم كالشمس الضاحية انّي ابنته أيّها المسلمون... يابن أبي قحافة أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيئاً فَرِيّا﴾[4] أفعلىٰ عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: ﴿وَوَرِثَ سُلَيمَانُ دَاوُد﴾[5] و... أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي(ص) أم هل تقولون أهل ملّتين لايتوارثان أولستُ أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي...».[6]

انّ هذا النحو من الإستدلال بالقرآن الكريم يدلّ علىٰ انّ المسلمين في صدر الإسلام لم يكن قد اُلقي في روعهم أنّهم لا حظّ لهم من القرآن إلاّ التلاوة وانّ فهمه منحصر ومختصّ بالمعصومين(ع )، وذلك


[1] . سورة الكهف، الآية 50.

[2] . سورة آل عمران، الآية 85.

[3] . سورة المائدة، الآية 50.

[4] . سورة مريم، الآية 27.

[5] . سورة النمل، الآية 16.

[6] . الاحتجاج للطبرسي، ص97، 108؛ البحار، ج29، ص220.

تسنيم، جلد 1

130

لأنّ استنباط المعصوم والإفتاء علىٰ أساس الاستظهار، غير الإحتجاج. ففي مقام الإحتجاج يجب أن يتمكّن طرفا الخصام من إمتلاك قوّة سند الإحتجاج. إذاً فإنّ الأفراد العاديّين وغير المعصومين الّذين كانوا طرفاً في الإحتجاج كانوا يفهمون ظاهر القرآن، وفهمهم يعتبر حجّة أيضاً.

ج. المسائل الفقهيّة، كجواب الإمام الباقر(ع) علىٰ سؤال زرارة حول كفاية مسح مقدار من الرأس والقدم: «ألا تخبرني من أين علمت وقلت انّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين... ثمّ قال: يا زرارة... انّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء...»[1]، حيث انّ الإمام قد علّم زرارة كيفيّة استفادة الحكم الفقهيّ من ظاهر القرآن. أو كلام الإمام الباقر(ع) في مقام نهي الدوانيقيّ عن قبول خبر النمّام: «... فإنّ النمّام شاهد زور... وقد قال الله تبارك وتعالىٰ: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا﴾».[2]

واستدلال الإمام علىٰ مسؤوليّة حاسّة سمع الإنسان بقوله: «أما سمعت الله يقول: ﴿إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُوْلٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا﴾».[3] وكذلك جوابه(ع) علىٰ سؤال عبد الأعلىٰ حول كيفيّة وضوء الجبيرة بقوله: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ، قال الله تعالىٰ: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾[4] امسح عليه»[5]، حيث انّ الإمام(ع) واستناداً إلىٰ نفي الحرج في القرآن وكون فتح الجبيرة أمراً حرجيّاً قال: امسح علىٰ الجبيرة.


[1] . اُصول الكافي، ج3، ص30.

[2] . البحار، ج10، ص218، (سورة الحجرات، الآية 6).

[3] . وسائل الشيعة، ج2، ص957 (سورة الإسراء، الآية 36).

[4] . سورة الحجّ، الآية 78.

[5] . وسائل الشيعة، ج1، ص327.

تسنيم، جلد 1

131

كذلك كلام الإمام الباقر(ع) إلىٰ زرارة ومحمّد بن مسلم حول صلاة المسافر: «... انّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَة﴾[1] فصار التقصير واجباً كوجوب التمام في الحضر. قالا: قلنا له: إنّما قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاح﴾ ولم يقل افعلوا فكيف أوجب ذلك؟ فقال: أوليس قد قال الله عزّ وجلّ في الصفا والمروة: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِ أَن يطَّوَّفَ بِهِمَا﴾[2]...»[3] وتقريب دلالة الآية علىٰ وجوب الطواف بحاجة لبعض المبادئ المطويّة الّتي لعلّها تُحلّ بالتأمّل.

فالإستدلال بالقرآن وتوجيه الناس إلىٰ آياته، يعتبر دعوة الىٰ فهم القرآن، لأنّ فهم القرآن الكريم لو اُنتزع من الناس لم يقم المعصومون أبداً بإرجاع تلامذتهم ومخاطبيهم إلىٰ القرآن، بل لقالوا لهم نحن أئمّة وحجّة الله عليكم وكلّ ما قلناه من القرآن (حتّىٰ في حدود الظواهر والتفسير) فعليكم قبوله ولا يحقّ لكم السؤال عنه أيضاً.

وتعتبر جملة «انّ هذا وشبهه يعرف من كتاب الله» دليلاً علىٰ انّ المسلمين يجب أن يحيطوا بما في القرآن، وفي الاُمور الّتي أمر القرآن الكريم الناس فيها للرجوع إلىٰ النبيّ وخلفائه المعصومين فإنّه يجب عليهم أن يرجعوا إليهم.

د. أدب التلاوة والتدبّر؛ كالّذي ورد عن الإمام الصادق(ع) انّه يقول:


[1] . سورة النساء، الآية 101.

[2] . سورة البقرة، الآية 158.

[3] . وسائل الشيعة، ج5، ص538.

تسنيم، جلد 1

132

عند تلاوة الآيات المتعلّقة بالجنّة فاسأل الله الجنّة، وعند تلاوة آيات وعيد العذاب، فاستعذ بالله من العذاب: «إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسأل الله الجنّة وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوّذ بالله من النار». والإمام السجّاد(ع) أيضاً يقول: «آيات القرآن خزائن العلم فكلّما فُتحت خزانة فينبغي لك أن تنظر فيها».[1]

والإمام أمير المؤمنين(ع) أيضاً يقول في وصف المتّقين:

«أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن، يرتّلونها ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً وظنّوا أنّها نُصْبَ أعينهم وإذامرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم و...».[2] فمثل هذه التوصيات والنصائح والمواعظ دليل علىٰ انّ باب فهم القرآن الكريم كان مفتوحاً أمامهم.

وعليه فإنّ الإسلام ـ وخلافاً لما هو معروف عند المسيحيّين في فهم الإنجيل (وليس الإنجيل نفسه) إذ جعلوه منحصراً بالكنيسة ـ قد دعا وشجَّعَ عامّةَ أتباعه علىٰ فهم القرآن والإستفادة منه.

ومن الجدير بالذكر انّ معنىٰ عموميّة فهم القرآن شبيه بعموميّة فهم أسرار الطبيعة وكتاب التكوين الّذي له شروطه ومقدّماته الخاصّة. وهناك جماعة مالت إلىٰ الإفراط في قبال جماعة التفريط الاخباريّة، فاعتبرت انّ فهم القرآن متيسّر لمن اطّلع علىٰ اللغة العربيّة، وزعموا انّها تغنيهم


[1] . بحار الأنوار، ج89، ص216.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 193، المقطع 8.

تسنيم، جلد 1

133

عن الإحاطة بعلم التفسير. في حين انّ القرآن هو من أعمق الكتب العلميّة، ومعرفة اللغة العربيّة وحدها غير كافية لفهمه. إذن فتفريط الاخباريّين وإفراط هذه الجماعة أيضاً، كلاهما باطل.

الشبهة الثالثة: آفة التحريف اللفظيّ

بعد إثبات انّ القرآن حجّة الله وانّ حجّيته ذاتيّة، وانّ هذا الكتاب الإلهيّ هو أوّل مصدر وسند للدين تثار شبهة سقوط القرآن عن الحجّية بسبب عروض آفة التحريف عليه. والاخباريّون قد تمسّكوا في إثبات عدم حجّية ظواهر القرآن بأدلّة أحدها هو التحريف.

جواب الشبهة

ليس المقصود من التحريف في هذا البحث هو التحريف المعنويّ الّذي تحدّث عنه القرآن الكريم في قوله تعالىٰ: ﴿يحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَواضِعِه﴾[1] وفي الحديث ذكر بعبارة: «أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده»[2]، بل المقصود هو التحريف اللفظيّ والتصرّف في ألفاظ القرآن الكريم.

فالتحريف المعنويّ لايضرّ بحجيّة ظواهر القرآن؛ لأنّ أصل القرآن بجميع مواصفاته محفوظ ويمكن الإستنباط المنهجيّ منه، أمّا التحريف اللفظيّ فإنّه يؤدّي إلىٰ سقوطه عن الحجّية. والتحريف اللفظيّ علىٰ قسمين: أحدهما التحريف بالزيادة والآخر هو التحريف بالنقصان. والتحريف بالزيادة الّذي هو بمعنىٰ اضافة شيء إلىٰ القرآن لم يقل به


[1] . سورة النساء، الآية 46.

[2] . روضة الكافي، ص53.

تسنيم، جلد 1

134

أحد من المسلمين. وأمّا التحريف بالنقصان فيعني طرح أو حذف بعض آيات القرآن، ولا يعتقد بهذا سوىٰ بعض الاخباريّين، وبما أنّنا قد أجبنا علىٰ شبهة تحريف القرآن في كتاب «القرآن في القرآن» فنحن لا نبحثها في هذه المقدّمة.

الشبهة الرابعة: نهي المعصومين(ع )

زعم بعض الاخباريّين انّ أهل بيت العصمة الأطهار(ع )، قد نهوا غيرهم عن تفسير القرآن بالقرآن، وانّ مقصود أهل البيت في الروايات الّتي ذمّت «ضرب القرآن بالقرآن» هو تفسير القرآن بالقرآن. وقد أجاب الشيخ الأنصاريّ (ره)[1] وسائر علماء الاُصول في مبحث «حجّية ظواهر القرآن» عن هذه الشبهة بما يلي: انّ المراد من (ضرب القرآن بالقرآن) هو إيجاد الخلط والتشويش والإضطراب في القرآن، وذلك بالرجوع إلىٰ العامّ والمطلق قبل الفحص عن المقيِّد والمخصِّص، والتمسّك بالمتشابه دون الإرجاع إلىٰ المحكم، وعدم مراعاة الناسخ عند الإستفادة من الآيات المنسوخة، والقرآن الكريم ذو نظام منسجم ومترابط. وعليه فإنّ التمسّك بآية من دون الرجوع إلىٰ الآيات الاُخرىٰ الشارحة والمفسّرة يؤدّي إلىٰ إخراج الآية من موضعها الخاصّ بها... وعلىٰ هذا الأساس فإنّ تفسير القرآن بالقرآن عامل لحفظ انسجام وترابط آيات القرآن، والتفسير بدون الاستمداد والإستعانة بسائر الآيات سيكون من قبيل ﴿جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِين﴾[2]، وذلك يعني تمزيق وتقطيع الجسم الواحد المنسجم للقرآن.


[1] . فرائد الاُصول، ج1، ص93.

[2] . سورة الحجر، الآية 91.

تسنيم، جلد 1

135

الجمع بين الروايات في باب فهم القرآن

ظهر من نتائج البحوث السابقة انّ فهم مجموع القرآن الّذي هو أعمّ من الظاهر والباطن والتأويل والتنزيل مختص بآل بيت الرسالة(ع )، وامّا فيما يخصّ ظواهر ألفاظ القرآن الكريم فلايوجد مثل هذا التحديد، والجميع مدعوّون إلىٰ الفهم المنهجيّ والعلميّ للقرآن، وبهذا النحو يتمّ الجمع بين الروايات المتعدّدة الّتي ذكرت في باب فهم القرآن. وفيما يلي بعض الشواهد علىٰ هذا الجمع:

الشاهد الأوّل: يقول أميرالمؤمنين(ع): «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن اخبركم عنه ألا انَّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم مابينكم»[1]، ولكن من جهة اُخرىٰ نلاحظ في موارد متعدّدة انّه يعيد الناس إلىٰ القرآن الكريم كما في الأمثلة التالية:

أ. «... والله سبحانه يقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَي‏ء﴾[2] وفيه تبيان لكلّ شيء وذكر انّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً وانّه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا﴾».[3]

ب. جوابه(ع) للرجل الّذي سأله عن صفة الله سبحانه حيث قال: «فانظر أيّها السائل: فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به واستضئ بنور هدايته».[4]

ج. كذلك يوصي الناس بتعلّم مفاهيم القرآن والتفقّه في معارفه


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 158، المقطع 2.

[2] . سورة الانعام، الآية 38.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 18، المقطع 5 (سورة النساء، الآية 82).

[4] . نفس المصدر، الخطبة 91، المقطع 8.

تسنيم، جلد 1

136

وأحكامه ومواعظه التربويّة فيقول: «وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور».[1]

د. وحول الحَكَمين أيضاً يقول(ع): «فإنّما حُكِّم الحكمان ليُحييا ما أحيا القرآن ويُميتا ما أمات القرآن».[2] فلو كان فهم القرآن مختصّاً بالمعصومين(ع ) فإنّ انتخاب الحكمين لإحياء ما أحيا القرآن واماتة ما أمات القرآن سيكون لغواً ولا طائل فيه.

هـ . قوله(ع): «... وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه وبيت لا تهدم أركانه وعزّ لا تهزم أعوانه...»[3] فمن هذا التعبير يظهر بأنّ القرآن حينما لايتكلّم في محلّ ما فإنّ المقصود من سكوته هو عن الأسرار والباطن وليس المفاهيم الظاهريّة الّتي ينطق بها القرآن دائماً وليس في لسانه إعياء ولا لُكنة.

و. قوله(ع): «وعليكم بكتاب الله فإنّه الحبل المتين والنور المبين والشفاء النافع والرِّي الناقع...».[4]

فالصفات والآثار الّتي ذكرت للقرآن في هذا النوع من الروايات مثل «الحبل المتين»، و «النور المبين»، و «الماء الزلال النافع» مرتبطة بفهم القرآن والعلم به، لا التلاوة البحتة، لأنّ التلاوة البحتة ليس لها مثل هذه الآثار.

ز. قوله(ع): «واعلموا أنّه ليس علىٰ أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 110، المقطع 6.

[2] . نفس المصدر، الخطبة 127، المقطع 9.

[3] . نفس المصدر، الخطبة 133، المقطع 3.

[4] . نفس المصدر، الخطبة 156، المقطع 7.

تسنيم، جلد 1

137

قبل القرآن من غنىٰ، فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به علىٰ لأوائكم فإنّ فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال فاسألوا الله به وتوجّهوا إليه بحبّه ولا تسألوا به خلقه... واستدلّوه علىٰ ربّكم واستنصحوه علىٰ أنفسكم واتّهموا عليه آراءكم واستغشّوا فيه أهواءكم».[1] أي ليس هناك من فقير بعد الاستفادة من القرآن، وليس هناك من غنيّ قبل تعلّم القرآن. وعليه فاطلبوا من القرآن شفاءَ أمراضكم واستعينوا به لأجل الغلبة علىٰ الشدائد، لأنّ في القرآن شفاءً من أكبر الأمراض وأخطرها ألا وهو الكفر والنفاق والضلالة. فاسألوا الله بواسطة القرآن وتوجّهوا إليه بمحبّة القرآن، ولا تسألوا خلق الله بواسطة كتاب الله... واعرفوا الله بالقرآن وعِظوا به أنفسكم. واعرضوا عليه أفكاركم فإذا كانت مخالفة له فاتّهموا أنفسكم وخطِّئوا أمام القرآن أهواءكم ورغباتكم (في المجالات المتنوّعة: الاعتقادية، والأخلاقيّة، والحقوقيّة والفقهيّة).

والنتيجة الّتي تظهر من الشواهد المذكورة هي انّ فهم القرآن في حدود ظواهر الألفاظ واتمام الحجّة في المسائل المتعدّدة: الإعتقاديّة، والأخلاقيّة والحقوقيّة والفقهيّة أمر مُيسّر للناس، وكلام أمير المؤمنين(ع): «لن ينطق» يقصد به أسرار وباطن القرآن. ولو كان نصيب الناس من القرآن هو التلاوة وحدها لا غير، لم يكن الأمر بعرض الآراء علىٰ القرآن واتّهام الأهواء به تامّاً. إذن فهم كلّ القرآن، بما في ذلك الظاهر والباطن،


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 176، المقطع 8. انّ الإنسان مجموعة من الأفكار والرغبات وبتعديل هٰذين البعدين فهو من أهل الرقيّ وإلاّ فهو من أهل السقوط، والإمام أمير المؤمنين7 في هذه الخطبة يوصي بالعرض علىٰ القرآن في كلا البُعدين في العلوم والأفكار الجاهزة من قبل وفي الرغبات والميول السابقة في النفس.

تسنيم، جلد 1

138

والتأويل والتنزيل، خاصّ بالمعصومين(ع )، ولكنّ فهم ظواهر القرآن عامّ للجميع.

الشاهد الثاني: الروايات الّتي تعتبر العلم بمجموع الظاهر والباطن، والتأويل والتنزيل فيما يتعلّق بالقرآن مختصّ بالمعصومين(ع ) وأمثلتها مايلي:

أ. كلام الإمام الباقر(ع): «مايستطيع أحد أن يدّعي انّه جمع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء»[1] والمقصود من جمع القرآن في هذا الحديث الشريف ليس هو الجمع بصورة الكتابة أو القول، بل المقصود هو الجمع العلميّ، لأنّ الاستنساخ والكتابة (الجمع بصورة الكتابة) صحيح في مورد الحروف والكلمات، ولكنّه غير صحيح في مورد باطن القرآن. إذاً فالقرينة المذكورة تدلّ علىٰ انّ المقصود من الجمع هو الضبط العلميّ، وليس الكتابة.

ب. يروي ابوحمزة الثماليّ عن الإمام الباقر(ع) أنّه قال: «ما أجد من هذه الاُمّة من جمع القرآن إلاّ الأوصياء».[2] والمقصود من الجمع، هو الجمع العلميّ كما سبقت الإشارة إليه، هذا ومن ناحية اُخرىٰ فإنّ الجمع الظاهريّ لآيات القرآن منقول عن غير الأوصياء أيضاً.

ج. يقول الإمام الصادق(ع): «إنّا أهل البيت لم يزل الله يبعث فينا من يعلم كتابه من أوّله إلىٰ آخره».[3] والعلم بالقرآن من البداية إلىٰ النهاية


[1] . البحار، ج89، ص88.

[2] . نفس المصدر، ص89.

[3] . نفس المصدر السابق.

تسنيم، جلد 1

139

يعني العلم بجميع المراحل وكذلك العلم بقيود المطلقات ومخصّص العمومات و... الخ.

د. ويقول الإمام الصادق(ع) أيضاً: «والله انّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلىٰ آخره كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر مايكون وخبر ماهو كائن قال الله: ﴿فيه تبيان كلّ شيء﴾»[1]، فمن خصائص العقل المعصوم والمحيط هو الاشراف التامّ علىٰ جميع منجزات الوحي وآثاره.

هـ . كذلك يقول(ع): «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم ونحن نعلمه».[2]

والنتيجة هي انّ القرآن الكريم من جهة يدعونا إلىٰ التدبّر في الكتاب الإلهيّ، والمعصومون(ع ) كذلك يرجعون تلامذتهم ومخاطبيهم في المجالات المختلفة وبأساليب متعدّدة إلىٰ القرآن، وفي مقام المناظرة مع مخالفيهم أيضاً كانوا يحتجّون بالقرآن. ومن جهة اُخرىٰ فبعض الأحاديث تعتبر فهم القرآن مختصّاً بالمعصومين(ع ). والجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات هو بالقول إنّ معرفة كُنه وحقيقة القرآن ومجموعه الشامل للظاهر والباطن والتأويل والتنزيل خاصّ بالمعصومين، أمّا ظواهر القرآن فهي حجّة للجميع وفهمها ميسّر لكلّ من تعلّم المقدّمات والعلوم الأساسيّة ونظر وتدبّر فيها وفقاً للمنهج الصحيح.

وجدير بالذكر، انّ الشواهد المذكورة تتضمّن جميع المعارف القرآنيّة، الّتي هي أعمّ من المسائل الإعتقاديّة والعمليّة. إذن أصبح من


[1] . البحار، ج89، ص89..

[2] . نفس المصدر، ص98.

تسنيم، جلد 1

140

المعلوم انّ جميع القرآن في جميع الأقسام حجّة. ولم تنقص منه ولا جملة واحدة، سواء كان في العقائد مثل التوحيد والمعاد والنبوّة والإمامة و... أو كان حول الأحكام الفقهيّة. وبناءً علىٰ ذلك فالقول بإحتمال التحريف في مسألة الولاية وأمثالها غير صحيح، وإن كان هناك دليل مستقلّ علىٰ إثبات نزاهة القرآن من التحريف الولائيّ.

القرآن الكريم حجّة غير منحصرة

كان السؤال الثالث حول تفسير القرآن بالقرآن هو هل انّ حجيّة واعتبار تفسير القرآن بالقرآن والنتيجة الحاصلة من مثل هذا التفسير هي علىٰ نحو الإنحصار أم لا؟ وفي الجواب لابدّ أن يقال انّ القرآن الكريم وإن كان حجّة بالفعل ومستقلاًّ وهو في أصل الحجّية لايحتاج إلىٰ غيره، لكنّه ليس حجّة منحصرة بحيث لاتكون هناك حجّة غير القرآن، بل انّ القرآن بنفسه يصرّح ويؤيّد انّ (العقل) وكذلك (السُنّة) حجّة.

وسيأتي تبيين حجّية العقل وكونه مصدراً دينيّاً في الفصول الآتية. أمّا حجّية واعتبار السنّة وسيرة المعصومين(ع ) فهي أمر قطعيّ؛ لأنّ نفس القرآن الكريم، جعل الرسول الأكرم(ص) واُولي الأمر واجبي الطاعة واعتبر الرجوع إلىٰ النبيّ الأكرم واجباً، والرسول الأكرم(ص) وطبقاً للنقل القطعيّ والمسلّم قد أعلن بأنّ القرآن والعترة متلازمان ومترابطان بحيث لن يفترقا، لكنّ أحد هذين الثقلين «ثقل اكبر» والآخر «ثقل اصغر» (في نشأة الكثرة)، وحجّية السنّة بالنسبة إلىٰ القرآن الكريم هي علىٰ نحو الشأنيّة وهي مؤهّلة لذلك، يعني ليست حجّة ابتداءً وفي عرض القرآن بنحو مستقلّ وفعليّ، اي انّ نفس السنّة غير القطعيّة وبغضّ النظر عن

تسنيم، جلد 1

141

القرآن المجيد والعرض عليه هي مؤهّلة ولها الشأنيّة للإعتبار، وبعد العرض وثبوت عدم التعارض والتباين والتخالف مع القرآن ستبلغ نصاب الحجيّة الفعليّة والإستقلاليّة وحينئذٍ فمثل هذه السنّة سيكون بالنسبة إلىٰ القرآن كمثل آيتين من القرآن كلّ واحدة منهما حجّة مستقلّة وليست منحصرة.

والفرق بين الاستقلال والانحصار مُبيَّن بالتفصيل في مبحث وجود المفهوم في الجملة الشرطيّة في فنّ اُصول الفقه. وحيث انّ حجيّة القرآن مستقلّة وليست منحصرة وإنّ السنّة بعد الاعتبار وبلوغ حدّ نصاب الحجيّة تكون ذات إستقلال في ضوء القرآن، لهذا يكون لها القدرة علىٰ أيّ لون من ألوان الشرح والتفصيل والتقييد والتخصيص بالنسبة إلىٰ القرآن الكريم. فالنتيجة هي اعتبار تفسير القرآن بالقرآن علىٰ نحو الإستقلال لا الإنحصار. وعلىٰ هذا الأساس، فإعتبار السنّة المُسلّمة للمعصومين(ع ) ـ الّتي هي من المصادر الغنيّة والقويّة للدين ـ سيكون مشهوداً في جميع شؤون تفسير القرآن.

ومن الجدير بالذكر انّ المراد من الحجّة المستقلّة، ليس هو الحجّة الفعليّة والتنجيزيّة حتّىٰ لاتكون بحاجة إلىٰ السنّة، بل تعني انّها في الدلالة علىٰ محتواها والهداية بالنسبة إلىٰ مضمونها مستقلّة. وإن كان لابدّ من البحث عن حجّة أو حجج اُخرىٰ، بسبب عدم انحصار الحجّة فيها.

تنويه: 1. إنّ اعتبار وحجّية السنّة، حدوثاً وبقاءً، وكما مرّ، مرتبط بالقرآن الكريم، لأنّه أوّلاً: القرآن هو الّذي أضفىٰ الإعتبار علىٰ السنّة.

وثانياً: انّ اعتبار السنّة غير القطعيّة مشروط بعدم التباين مع القرآن

تسنيم، جلد 1

142

وهذا الإشتراط يمكن استخراجه من ذلك الأصل الأوّل أي دلالة القرآن علىٰ اعتبار السنّة، لأنّ القرآن المجيد لو قال بإعتبار الشيء المخالف، والمعارض والمباين له فإنّ هذا يؤدّي حتماً إلىٰ التهافت ووقوع الإختلاف والتعارض والتباين الداخليّ فيه، وبهذا التعارض الداخليّ يفقد القرآن اعتباره. فالقرآن منذ البداية لم يعتبر إلاّ السنّة غير المباينة والسيرة غير المعارضة له، لا مطلق السُنّة حتّىٰ يكون خروج السنّة المباينة والمعارضة له من باب تخصيص العموم أو تقييد الإطلاق لدليل إعتبار السنّة؛ أي انّ خروج المباين هو من سنخ «التخصّص» لا «التخصيص» وهو من قبيل «التقيّد» لا «التقييد».

وعلىٰ كلّ حال، حيث انّ اعتبار السنّة يكون بواسطة القرآن الكريم، والقرآن الكريم مطروح أمام الجميع بعنوان كونه معجزة، فإذا لم يثبت إعجاز القرآن وغلبته في مواجهة التحدّي، فإنّه لاتثبت رسالة الرسول الأكرم (في حالة إنحصار الإعجاز في القرآن)، ومالم تثبت نبوّة الرسول الأكرم(ص) فسوف لن تثبت مرجعيّته في الشؤون الدينيّة وكذلك مرجعيّة المعصومين الآخرين. وبالنتيجة فإنّ الآيات الواردة في مجال نطاق الإعجاز والتحدّي، وضرورة الوحي والدين والنبوّة والعصمة، لايمكن في موردها الإستناد إلىٰ سنّة المعصومين(ع ) قبل ثبوت كون القرآن وحياً، لأنّه في هذه المرحلة لم يثبت بعد إعجاز القرآن ولم تثبت رسالة النبيّ الأكرم(ص) كي يتمّ الجمع بين سنّة المعصوم وآيات القرآن، وبالتالي فإنّ مثل هذا الإستناد والإستدلال يلزم منه محذور الدور.

لكنّه من الطبيعيّ انّ الرسول الأكرم في هذه المرحلة يمكن أن

تسنيم، جلد 1

143

يكون مرجعاً لتفسير القرآن لكن لا بعنوان الرسول المعصوم الّذي يعدّ كلامه حجّة تعبّدية، بل بعنوان «المعلّم العارف والمفسّر الخبير» في ثلاث جهات (1. تبيين تعليمات وأحكام الدين وتحليل مبادئه التصوّرية والتصديقيّة، 2. التعليل وإقامة البرهان بواسطة تعليم المقدّمات المطويّة، 3. الدفاع في مقابل نقد الناقدين الموجّه لأحكام الدين بالأنحاء الثلاثة للنقد وهي المنع والمعارضة والنقض) لا بعنوان كونه «مرجعاً تعبّدياً». وإدراك مضمون الآية الّتي تحضّ وتخاطب الكفّار أو تجعلهم في خطابها بدرجة متساوية مع عامّة المؤمنين، لابدّ أن يكون ميسوراً للعقلاء حتماً علىٰ نحو الإستقلال والإستغناء عن المرجع التعبّدي، وإلاّ فمع كون مرجعيّة الرسول الأكرم(ص) تعبّدية فإنّ المحاورة مع الكفّار سواء كانت بنحو خاصّ أو عامّ لن تكون مقبولة ولا هي صحيحة.

وصحيح انّه في حالة ثبوت رسالة النبيّ بواسطة معجزة اُخرىٰ فإنّ أصل حجّية سنّة الرسول(ص) تثبت بدون دور، لكنّنا سنواجه اطلاقات نصوص العرض علىٰ القرآن ممّا يستدعي أيضاً عرض جميع الكلمات غير المقطوع بصدورها عن النبيّ(ص) علىٰ القرآن الكريم. وعليه فإنّ السنّة في هذه الحالة أيضاً سوف لن تكون مرجعاً تعبّدياً.

ومهما كان، فالتعليم والتبيين والتعليل والدفاع عن الأحكام والحِكَم الإلهيّة ليس لها صفة تعبّدية قبل إثبات النبوّة والعصمة والإعجاز وأمثال ذلك من العناصر الأساسيّة للنبوّة، بل لها صفة التعليم والإرشاد والتحليل العقليّ فقط، وذلك حتّىٰ تتّضح المبادئ النظريّة الّتي هي أعمّ من التصوّرية والتصديقيّة للمخاطبين، وحتّىٰ يعلم التلازم بين المقدّم والتالي

تسنيم، جلد 1

144

أو يعلم بطلان التالي في القياس الإستثنائيّ، وليس في شيء منها صفة وجنبة التعبّد ولا صبغة السنّة. بل لها جنبة علميّة وصبغة عقليّة فقط. ومن هنا ستتّضح موارد القدح والنقد في كتابات البعض، وتفاصيل موارد النقد والقدح واضحة.[1]

والمقصود هو انّ الرسول الأكرم(ص) وقبل إثبات رسالته لايمكن أن يُقدَّم للناس بعنوان أنّه مرجع تعبّدي لتفسير القرآن، إلاّ أن يكون بمثابة العالم بجميع حقائق القرآن المجيد، الّذي يثبت المسائل القرآنيّة بالبرهان، وبتحليل المبادئ والمقدّمات المطويّة والاُسس المستورة والقضايا المكنونة ويقوم بتوعية وتعليم مُخاطبَيه كما يربّي المعلّم تلاميذه لا كما يلقي المرجع التعبّدي مسائله وأحكامه تعبّداً فتقبل منه. أجل إذا كانت رسالة النبيّ الأكرم(ص) قد ثبتت من قبل بمعجزة اُخرىٰ غير القرآن الكريم ففي هذه الحالة سيكون النبيّ مرجعاً تعبّدياً إضافة إلىٰ مرجعيّته في مجال التعليم والتبيين.

ويمكن أن يقال إذا كان قسم مهمّ من الآيات القرآنيّة ذا مفاهيم محكمة وبيّنة فهذا كافٍ أيضاً لكي يدعو الله جميع الناس دون استثناء للتأمّل في تلك الآيات، لكنّ مثل هذا القول غير صحيح، لأنّ من لم يؤمن بعدُ بالوحي الإلهيّ ولم يعتقد برسالة الرسول الأكرم(ص)، فإنّ مجرّد كون قسم مهمّ من آيات القرآن محكماً وبيّناً لايكفيه، لأنّ مثل هذا الفرد يحتمل أن يكون القسم الآخر من القرآن غير المفهوم له ولأمثاله مناقضاً ومنافياً ومتعارضاً مع القسم البيِّن المحكم منه، ومثل هذا الكتاب


[1] . مناهج البيان، ج1، ص45 ـ 53.

تسنيم، جلد 1

145

المحتمل فيه الإبتلاء بالتعارض والتناقض والتهافت الداخليّ ليس هو كلامَ الله، لأنّ الله سبحانه نفسه أعلن انّ كلّ القرآن محفوظ من التنافي والتباين؛ الاّ أن يثبت اعتماداً علىٰ رسالة الرسول انّ ذلك القسم الآخر ليس فيه تهافت مع القسم البيِّن المحكم، وهذا متوقّف علىٰ ثبوت الرسالة وليس قبل ذلك.

تنويه: انّ رسالة النبيّ الأكرم(ص) وكما مرّ، إذا ثبتت بمعجزة اُخرىٰ أيضاً فإنّ سنّته علىٰ الرغم من اكتسابها صفة المرجعيّة التعبّدية بالإضافة إلىٰ الصبغة التعليميّة إلاّ انّه يجب حتماً أن تُعرض السنّة غير القطعيّة علىٰ القرآن حتّىٰ لاتكون معارضة له بالتباين. نعم بعد العرض وإثبات عدم التباين فهي حجّة بعنوان كونها مرجعاً تعبّدياً.

2. انّ اعتبار القرآن وحجّيته المستقلّة هي في مقام الثبوت، وإلاّ ففي مقام الإثبات تكون بحاجة إلىٰ واسطة. وعن طريقين يمكن إثبات اعتباره، فالقرآن المجيد يحرز حجّيته المستقلّة في مرحلة الإثبات (لا الثبوت) عن طريقين علىٰ نحو القضيّة المانعة للخلوّ: الطريق الأوّل هو طريقة الأولياء الّذين يدركون حقانيّة القرآن بواسطة الشهود الباطنيّ والعلم الحضوريّ، ويظفرون بالقطع الشهوديّ (وهو عين اليقين) فيه. والطريق الثاني هو طريقة الحكماء والمتكلّمين حيث بواسطة العلم الحصوليّ والبرهان العقليّ يتمّ معرفة معنىٰ الإعجاز، والفرق بين المعجزة والعلوم الغريبة مثل السحر والطلاسم والشعوذة، وتمييزها أيضاً عن عمل المرتاضين، وكيفيّة اسناد المعجزة إلىٰ مدّعي النبوّة، والتلازم بين الإعجاز والصدق الضروريّ لصاحب دعوىٰ الرسالة، وسائر المسائل

تسنيم، جلد 1

146

العميقة في هذا المجال. وعندئذٍ تتّضح بالقطع الحصوليّ «علم اليقين» حقانيّة القرآن الكريم.

والطريق الأوّل يناله الأوحديّ من سالكي طريق الشهود، والطريق الثاني تسلكه جميع قوافل الفكر، وإذا كان هناك من يؤمن بنبوّة النبيّ لمجرّد الإستناد إلىٰ الحسّ والإحساس بتغيّر شكل ما ورؤية ظاهرة غير عاديّة، فإنّه برؤية حالة مشابهة لتلك في الظاهر من المتنبّي فسيتّبعه وينقطع عن النبيّ الصادق ويرتدّ عن الدين الحقيقيّ، كما فعل بعض بني اسرائيل السذّج الّذين آمنوا بموسىٰ(ع) عند رؤية عصاه وهي تتحوّل الىٰ حيّة تسعىٰ، لكنّهم عند سماع خوار عجل السامريّ تركوا كليم الله(ع) وارتدّوا عنه واتّبعوا السامريّ لأنّه: ﴿أَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَار﴾.[1]

ومن هنا تتّضح قدرة العقل وسيطرة البرهان العقليّ في مقام إثبات أحقّية الوحي والرسالة الإلهيّة، وأحقيّة القرآن الكريم المنزّهة في مقام الثبوت عن الحاجة إلىٰ أيّ عامل آخر، هي في مقام الإثبات بحاجة إلىٰ البرهان العقليّ. طبعاً هذا العقل كما سيأتي في بحث التفسير بالرأي يحمل مسؤوليّة الرسالة الإلهيّة وهو من مصابيح الهداية المضيئة في داخل اطار الدين لا من خارجه.

أقسام تفسير القرآن بالقرآن

إنّ لتفسير القرآن أنحاءً متعدّدة، بعضها سهل وبعضها الآخر صعب. فبعض تلك الأقسام يكاد من السهولة أن لايصدّق عليه وان ينصرف عنه


[1] . سورة طه، الآية 88.

تسنيم، جلد 1

147

عنوان «تفسير القرآن بالقرآن»، كما انّ بعضاً منها معقّد إلىٰ حدّ انّ ذهن المفسّر الفاحص المتتبّع يدركه بصعوبة بالغة، وحيث انّ ارتباط الآيات الخاضعة للتفسير ليس من قبيل ارتباط الكلمات والألفاظ، لذلك فإنّ البعض قد لا يعتبره من سنخ تفسير القرآن بالقرآن. وعلىٰ أيّة حال فإنّ عنوان (تفسير القرآن بالقرآن) ليس له تعريف لغويّ محدّد ولا حقيقة شرعيّة معيّنة بل هو تابع لقدرة المفسّر علىٰ الغوص في أعماق بحار القرآن أو علىٰ التحليق في أجواء سمائه، فإلىٰ أيّ مدىٰ يستطيع أن يطير بالعلم الحصوليّ وإلىٰ أيّ عمق يستطيع ان يغوص بالعلم الحضوريّ. وبعض أنحاء تفسير القرآن بالقرآن هي كالتالي:

1. تارة يكون صدر الآية قرينة علىٰ ذيلها أو يكون ذيلها شاهداً علىٰ صدرها. في هذا القسم من التفسير يكون القسم المفسِّر متّصلاً بالقسم المفسَّر؛ مثلاً بعض الكلمات الداخليّة لآية المباهلة يمكن تفسيرها بمساعدة الشاهد المتّصل الداخليّ ويمكن تفسيرها أيضاً بالإعتماد علىٰ الشاهد المنفصل الخارجيّ. فأصل الآية الكريمة هو: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَىٰ الْكَاذِبِين﴾.[1]

فيمكن أن نفهم من كلمة «أبناءنا» معنىٰ «نساءنا» وكذلك معنىٰ «أنفسنا» أيضاً، حيث يمكن بواسطة كلمة «أبناءنا» الاستظهار بأنّ كلمة «نساءنا» شاملة للبنت أيضاً، لأنّ هاتين الكلمتين قد وردتا سويّة في عدّة مواضع من القرآن ولم يكن المقصود من (نساءنا) فيها خصوص المرأة


[1] . سورة آل عمران، الآية 61.

تسنيم، جلد 1

148

بمعنىٰ الزوج؛ بل انّ القدر المتيقّن منها هو البنت كما في قوله تعالىٰ: ﴿... يذبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين﴾[1]، وذلك لأنّ فرعون كان يقتل أولاد بني اسرائيل إذا كانوا أبناءً ويبقيهم أحياءً إذا كانوا بناتٍ، وعليه فإنّ شمول كلمة نساء للبنت صحيح جدّاً وبلا مانع كما انّ شأن النزول يؤيّده.

كذلك يمكن بواسطة كلمة (أبناءنا) الإستنباط بأنّ كلمة «أنفسنا» ليست بمعنىٰ (رجالنا)، لأنّ كلمة أنفس لو كانت قد جاءت في مقابل كلمة نساء، لكان من الممكن أن يفهم من كلمة «نساء» معنىٰ المرأة أو الأزواج ومن كلمة «أنفس» معنىٰ «الرجال»، لكن حيث انّ كلمة «أبناء» قد ذكرت في الآية فيمكن الاستظهار بأنّ المقصود من كلمة «انفس» ليس هو الرجال والاّ لم يكن هناك داع لذكر كلمة «أبناء»؛ لأنّه إذا كان المقصود من الأنفس هو الرجال، فكلمة الرجال شاملة للإبن أيضاً كما هي شاملة للأخ والأب وأمثالهما، ولم يكن هناك حاجة إلىٰ ذكر كلمة أبناء. إذاً يظهر من هذا انّ المقصود من «أنفس» ليس هو الرجال.

2. وتارة يتّضح معنىٰ الآية من ظهور سياق الآيات، أو الهدف النهائيّ لها. وفي هذا القسم وإن كان المفسِّر والمفسَّر مُرتَبطِين ببعضهما، لكنّ الرابط بينهما ليس هو من قبيل الاتّصال اللفظيّ؛ كما يظهر من التدبّر في سياق آية التطهير حيث يدلّ علىٰ انّ مضمونها مختصّ بجماعة معيّنة وانّ نساء النبيّ(ص) ليست داخلة في ذلك. لانّ الآيات من 28 إلىٰ 34 من سورة الأحزاب قد جاءت جميعها مشتملة علىٰ ضمائر بصيغة جمع


[1] . سورة القصص، الآية 4.

تسنيم، جلد 1

149

المؤنّث، والجملة الّتي اعلنت بيان التطهير هي وحدها الّتي جاءت مشتملة علىٰ ضميرين بصيغة جماعة الذكور، وهذان الضميران لاينسجمان مع السياق المتقدّم واللاحق لهذه الجملة. ومن هذا التغيير في الضمير والاختلاف في سياق التعبير يمكن الاستنباط انّ المراد من آية التطهير وهي جملة: ﴿إِنَّمَا يرِيدُ اللهُ لِيذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا﴾[1] ليس هو نساء الرسول الأكرم(ص) أبداً، كما انّ شأن النزول يؤيّد ذلك أيضاً، وإلاّ لكان التعبير بصيغة: عنكنّ وليطهّركن، كما قد عبّر عنهنّ أكثر من عشرين مرّة قبل وبعد هذه الجملة بصيغة ضمير جمع الإناث.

تنويه: انّ الجملة الّتي تكون في سياق آية أو آيات متعدّدة، امّا أن يكون معناها معلوماً أو مبهماً، فعندما يكون المراد منها واضحاً فلا حاجة إلىٰ الاستعانة بوحدة السياق، وعندما يكون المقصود منها مجهولاً فيمكن من خلال ظهور السياق المتقدّم واللاحق التوصّل إلىٰ ارتباط الجملة مع مفاد المجموع أو انسلاخها عنه.

والّذي مرّ بيانه في آية التطهير يقصد فيه انّ مايستفاد من سياق الآيات المتقدّمة واللاحقة لجملة ﴿إِنَّمَا يرِيدُ الله﴾ هو انّ هذه الجملة منسلخة ومنفكّة عن الآيات السابقة واللاحقة ومستقلّة عنها، سواء كانت نازلة بنحو منفصل أو كانت قد نزلت علىٰ نحو الجملة الإعتراضيّة، وتشخيص هذا الأمر خارج عن مسؤوليّة البحث الحاضر.

وتارة يمكن من خلال الاستعانة بظهور السياق استنباط ارتباط الكلمة المشكوكة بالمعلومة، مثلاً في الآية الكريمة: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ


[1] . سورة الأحزاب، الآية 33.

تسنيم، جلد 1

150

نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِي اثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلىٰ وَكَلِمَةُ اللهِ هِي الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾[1]، حيث انّ المحور الأساسيّ في هذه الآية هو نصرة الله الخاصّة بالرسول الأكرم(ص)، فضمائر المفرد المذكّر في الكلمات الخمس: «تنصروه»، «نصره»، «أخرجه»، «يقول»، «لصاحبه» تعود إلىٰ الرسول الأكرم(ص). أمّا مرجع الضمير في كلمة «عليه» وأيضاً علىٰ نحو الإحتمال في كلمة «أيّده» فهو مشكوك هل يرجع الضمير إلىٰ النبيّ(ص) أم إلىٰ صاحبه الّذي كان معه في الغار؟

فمقتضىٰ سياق الآية وبغضّ النظر عن الشواهد الخارجيّة الّتي هي أعمّ من القرآنيّة والروائيّة هو انّ الضمائر المشكوكة المرجع، مثل الضمائر الخمسة المعلومة المرجع ترجع إلىٰ شخص الرسول الأكرم(ص) لا إلىٰ غيره. وبناءً عليه فإنّ ارتباط هذين الضميرين بالضمائر السابقة يستنبط من ظهور السياق الّذي يمنع من انقطاع صلة هذين الضميرين بتلك الضمائر.

3. يعرف تارة من ذكر المبتدأ أو الخبر أو الفعل أو الفاعل وكذلك من ذكر الشرط أو الجزاء والمقدّم أو التالي في آية معيّنة، ما هو محذوف من هذه العناوين في آية اُخرىٰ، وفي هذا القسم من الممكن أن يكون هناك اتّصال لفظيّ بينهما أو أن يكونا منفصلين، مثلاً ترىٰ أحياناً فعلاً محذوفاً في جملة، ويمكن تقدير عدّة أفعال علىٰ البدل لكن


[1] . سورة التوبة، الآية 40.

تسنيم، جلد 1

151

بقرينة فعل معيّن موجود في جملة اُخرىٰ في نفس هذا السياق يمكن استظهار ماهو ذلك الفعل المحذوف بالتحديد، مثلاً في سورة الأعراف في قوله تعالىٰ: ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً...﴾[1] يمكن الاستعانة بالآية الاُخرىٰ في نفس السورة وهي قوله تعالىٰ: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِه﴾[2] والاستظهار بأنّ الفعل المحذوف هو ﴿أَرْسَلْنَا﴾ كما تشهد بذلك كلمة ﴿إِلَىٰ﴾، وبالنسبة إلىٰ قوله تعالىٰ: ﴿وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا﴾[3] يجري نفس الإستنباط، أي انّ الفعل المحذوف هو ﴿أَرْسَلْنَا﴾.

والمثال الآخر هو قوله تعالىٰ: ﴿وَمَرْيمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا...﴾[4] حيث يوجد عدّة احتمالات في تعيين الفعل المحذوف، لكنّ أنسب فعل محذوف لأجل نصب كلمة «مريم» هو الفعل المذكور في الآية السابقة وهو في قوله تعالىٰ: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْن﴾[5]؛ كما انّ الفعل المناسب الوحيد لسياق آيات السورة المذكورة الّتي تبدأ من الآية (10) منها هو «ضرب الله مثلاً». ولأجل تعيين الفعل المحذوف في بعض الموارد الاُخرىٰ لابدّ من الفحص والتدبّر الأكثر؛ لأنّ الشاهد في تلك المواضع مستور، لا مشهور؛ مثلاً في نفس سورة الأعراف في قوله تعالىٰ: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِه...﴾[6] لايعرف هل انّ الفعل


[1] . سورة الأعراف، الآية 73.

[2] . سورة الأعراف، الآية 59.

[3] . سورة الأعراف، الآية 65.

[4] . سورة التحريم، الآية 12.

[5] . سورة التحريم، الآية 11.

[6] . سورة الأعراف، الآية 80.

تسنيم، جلد 1

152

المحذوف هو ﴿أَرْسَلْنَا﴾ كي يكون منسجماً مع سياق الآيات أو هو فعل آخر مثل «أُذكر» حتّىٰ يكون منسجماً مع آية: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَاد﴾[1] ومن جهة يكون مناسباً أيضاً مع عدم ذكر «إلىٰ»، وإن كان يبدو انَّ ظهور وحدة السياق في أكثر السور الّتي تذكر قصص الأنبياء قبل لوط هو فعل «أرسلنا» لا فعل «اُذكر» مثل آيات سورة النمل من الآية 45 إلىٰ 54 وسورة العنكبوت من الآية 14 إلىٰ 28 حيث انّ الفعل المذكور الدالّ علىٰ الفعل المحذوف في مثل هذه المواضع هو «أرسلنا».

4. وتارة من خلال التصريح بالعلّة أو المعلول ومن ذكر العلامة أو الدليل ومن التعرّض إلىٰ اللازم أو الملزوم أو الملازم أو المتلازم في آيةٍ ما، يمكن أن يعرف المحذوف من هذه العناوين في آية اُخرىٰ، مثال ذلك عندما يذكر وصف أو حكم أو حال أو قيد لشخص أو جماعة، ولا تذكر علّته أو دليله، لكن يذكر سببه أو علامتُه في آية اُخرىٰ، مثلاً في آية يقول تعالىٰ: ﴿وَتَرَاهُمْ ينظُرُونَ إِلَيكَ وَهُمْ لاَيبْصِرُون﴾[2] فحكم علىٰ الكافرين بعدم الإبصار، لكن لم يذكر سبب عدم رؤيتهم، كذلك حكم عليهم في هذه الآية بعدم السماع فقال تعالىٰ: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَىٰ الْهُدَىٰ لاَيسْمَعُون﴾؛ لكن لم يذكر علّة عدم سماعهم، كما انّه حكم عليهم في آيات اُخرىٰ بالضلالة، ولكن لم يبيِّن سبب ضلالتهم في قوله: ﴿وَأُولٰئِكَ هُمُ الضَّالُّون﴾.[3]


[1] . سورة الأحقاف، الآية 21.

[2] . سورة الأعراف، الآية 198.

[3] . سورة آل عمران، الآية 90.

تسنيم، جلد 1

153

انّ الضلالة الّتي هي بمعنىٰ فقدان الطريق لها دليل وعلامة فارقة، وقد عبَّرت عنها الآية الكريمة بالكفر في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولٰئِكَ هُمُ الضَّالُّون﴾[1]، لكن لم تذكر علّة ذلك، كما انّه قد بُيِّنت علامة كذب الكافرين عند اخبارهم عن رؤية الضلالة والسفاهة لدىٰ أنبياء الله...: ﴿قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين﴾[2]، ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة﴾[3]، لأنّ تضليل وتسفيه النبيّ ـ يعني اسناد الضلالة والسفاهة وعدم التعقّل إلىٰ النبيّ ـ هو بنفسه دليل وعلامة علىٰ ضلالة وسفاهة المفترين علىٰ النبيّ بإسناد هذه الصفات إليه، ولم يوضّح في تلك الآيات سبب هذه النسبة الكاذبة المضلّلة، لكنّ آيات اُخرىٰ بيَّنت علّة هذا الإتّهام، وتلك العلّة هي العمىٰ الباطنيّ عند الكفّار، لأنّ الأعمىٰ يبتعد وينحرف عن الطريق ويضلّ ويظهر كذب ادعائه للرؤية: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِين﴾.[4]

انّ عمىٰ القلب هذا قد ذكر بأنّه علّة جميع هذه الرذائل المذكورة، كما انّ هذا العمىٰ هو سبب عدم رؤية الشيطان وجماعته المحترفة للشيطنة والخداع وتعليم الوسوسة واصطناع المكر وإثارة الفتنة: ﴿إِنَّهُ يرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيثُ لاَتَرَوْنَهُم﴾.[5] والسرُّ في عدم رؤية الشيطان هو انّ وسوسته تجري في الصدر. فينبغي أن تكون عين القلب مفتوحة


[1] . سورة آل عمران، الآية 90.

[2] . سورة الأعراف، الآية 60.

[3] . سورة الأعراف، الآية 66.

[4] . سورة الأعراف، الآية 64.

[5] . سورة الأعراف، الآية 27.

تسنيم، جلد 1

154

ومبصرة حتّىٰ ترىٰ الوسوسة والموسوس الّذي: ﴿يوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس﴾[1]، ولكن إذا كانت عين القلب عمياء فإنّ سبب عدم رؤية الوسواس والموسوس سيكون واضحاً: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَىٰ الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾.[2]

5. تارة تكون الآيات المفسّرة لبعضها البعض بحيث لايوجد بينها أيّ وجه من الاشتراك في المفردات والألفاظ كي يمكن جمع الآيات المناسبة بالاستعانة بالمعاجم اللغويّة، وإنّما يوجد بينها ارتباط معنويّ فقط، كما في عنوان «أَب» وعنوان «والد» حيث انّ عنوان «أب» وان اُطلق علىٰ الوالد لكنّه قد ورد إطلاقه في القرآن علىٰ غير الوالد أيضاً كالعمّ كما في قوله تعالىٰ: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلٰهَكَ وَإِلٰهَ آبائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾[3] لأنّ في هذه الآية قد ذكر إسماعيل بإعتباره أحد آباء يعقوب، مع انّ النبيّ إسماعيل عمّ النبيّ يعقوب ابن إسحٰق وليس والداً له.

وعلىٰ هذا فإنّ عنوان «الأب» كما يطلق علىٰ الوالد كذلك يطلق علىٰ غيره كالعمّ. ومن هنا ينشأ الشكّ في موضوع والد إبراهيم، هل انّ آزر العابد للأصنام والده أم لا؟ فالّذي يظهر من الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَة﴾[4] والآيات (42) من سورة مريم


[1] . سورة الناس، الآية 5.

[2] . سورة الحج، الآية 46.

[3] . سورة البقرة، الآية 133.

[4] . سورة الأنعام، الآية 74.

تسنيم، جلد 1

155

و(52) من سورة الأنبياء و(70) من سورة الشعراء و(85) من سورة الصافّات و(26) من سورة الزخرف و(114) من سورة التوبة و...؛ انّ أبا إبراهيم لم يكن موحّداً، لكن هل انّ هذا الأب هو نفس الوالد أم غيره، وهل انّ والد إبراهيم كان موحّداً أم لا؟ ايّ واحد من هٰذين الموضوعين لايستظهر من الآيات المشتملة علىٰ عنوان «الأب» لكنّ كلا المعنيين يمكن استنباطهما من آية اُخرىٰ استعملت فيها مفردة «والد» وليس كلمة «أب» فيعرف منها انّ آزر العابد للأصنام لم يكن والدَ إبراهيم كما يعرف انّ الشخص الآخر الّذي كان والداً لإبراهيم ولم يذكر اسمه في القرآن قد كان موحّداً، وليس مشركاً، لأنّ الله سبحانه قال:

أ. ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَىٰ﴾.[1]

ب. ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلَمَّا تَبَيّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْه﴾[2]، أي انّه بعد ذلك لم يستغفر للأب.

ج. إنّ نبيّ الله ابراهيم(ع) في زمان شيخوخته وأواخر عمره دعا فقال: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يوْمَ يقُومُ الْحِسَاب﴾[3]، ومن هذه الآيات يستنبط أمران الأوّل، انّ آزر عابد الأصنام لم يكن والداً لإبراهيم، لأنّ النبيّ إبراهيم(ع) بعد أن اتّضح له شرك آزر وعداوته لله تبرّأ منه ولم يستغفر له، والثاني: أنّ استغفار إبراهيم لوالديه في زمان شيخوخته يدلّ


[1] . سورة التوبة، الآية 113.

[2] . سورة التوبة، الآية 114.

[3] . سورة إبراهيم، الآية 41.

تسنيم، جلد 1

156

علىٰ استحقاق والديه لطلب الإستغفار أي أنّهما كسائر المؤمنين كانا من أهل الإيمان لا من أهل الشرك.

هذا القسم هو من تفسير الآية بآية اُخرىٰ بواسطة (الإرتباط المعنويّ) بين مضمونيهما، وليس هو من قبيل (ارتباط المفردات)، وإن كانت الكلمات والآيات المذكورة من ناحية اللغة متقاربة فيما بينها، وهذا القرب في المفردات يمكن أن يساعد في إيجاد الإرتباط بين الآيات المذكورة، لكنّ هذا ليس هو من سنخ تفسير القرآن بالقرآن في مجال المفردات المشتركة. هذا النحو من تبويب الآيات والجمع بينها يلاحظ أيضاً في تفسير (روح المعاني)[1]، كما جرىٰ بحثه وتحليله في «تفسير الميزان» بنحو مفصّل.

6. تارة تكون الآيات المتناغمة والمنسجمة فيما بينها في مجال التفسير فاقدة للإشتراك في مفردات الآيات، ليس هذا فحسب بل حتّىٰ كلماتها ليست متقاربة فيما بينها أيضاً، وليس فيما بينها الاّ الارتباط المفهوميّ العميق الّذي يمكن أن يكون مفتاحاً لتفسير الآية بآية اُخرىٰ، مثلاً قوله تعالىٰ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يصِفُون﴾[2] سند برهان «التمانع» المعروف الّذي هو محور لأبحاث كلاميّة وفلسفيّة مهمّة.

والبعض يشكّك في تلازم المقدّم والتالي، فيزعمون بأنّ الآلهة المتعدّدة إذا استندوا إلىٰ العلم بالواقع وتنزّهوا عن حبّ الجاه وسوء


[1] . روح المعاني، ج8، ص351 في ذيل الآية 41 من سورة ابراهيم.

[2] . سورة الأنبياء، الآية 22.

تسنيم، جلد 1

157

النيّة وكان هدفهم من أصل الخلق والإيجاد هو مصلحة المخلوقات وتربيتها وتكاملها علىٰ أحسن وجه فإنّ محذور الفساد لايقع، لأنّ منشأ الفساد، هو إمّا جهل الآلهة بالمصالح الواقعيّة للعالم، أو حبّ الجاه أو سوء النيّة، والآلهة مُحصّنون من آفة «الجهل العلميّ» وعيب ومرض «الجهالة العمليّة» حيث يمكن أن يكون الآلهة متعدّدين وان يخلقوا العالم ويديروه مطابقاً مع الواقع ونفس الأمر الّذي هو ليس أكثر من شيء واحد.

وحيث انّ مثل هذه الشبهة قد عرضت للبعض ولم تكن لهم القدرة علىٰ دفعها، لذلك فقد قاموا بإرجاع برهان التمانع إلىٰ برهان «توارد العلل»، أي استحالة توارد علّتين مستقلّتين علىٰ معلول واحد. وراحوا يفسّرون علىٰ أساسه الآية المذكورة ويبرّرون برهان التمانع الفلسفيّ والكلاميّ. لكن بواسطة التدبّر في بعض الآيات الاُخرىٰ الّتي تبيّن نفس موضوع التمانع علىٰ نحو التمثيل يتّضح معنىٰ آية سورة الأنبياء ويتمّ برهان التمانع ويتخلّص من النقد الموهوم أو المتوهّم دون الإرجاع إلىٰ برهان توارد العلل المتعدّدة علىٰ معلول واحد.

وتلك الآية الّتي جاءت علىٰ هيئة التمثيل هي: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مَتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يعْلَمُون﴾[1] فهنا يبيّن الله سبحانه مثلاً بسيطاً لأجل إثبات توحيده في الربوبيّة وهو: إذا كان هناك خادم تحت أمر سيّدين متشاكسين غير متّفقين وخادم آخر تحت أمر سيّد واحد فهل يستوي


[1] . سورة الزمر، الآية 29.

تسنيم، جلد 1

158

مثل هٰذين الخادمين في طريقة حياتهما وعملهما وسعيهما ونظم وانسجام معيشتهما؟ أم إنّ أحدهما منظّم ومنسجم وهادئ البال بينما الآخر دائماً مبتلىٰ بالشتات والإضطراب والحيرة؟ ممّا لاشكّ فيه أنّ كيفيّة إدارة شؤون هٰذين الخادمين المذكورين ليست متساوية بل هي يقيناً مختلفة. فإذا كان هناك أكثر من إلٰه واحد يريدون خلق هذا العالم وتدبير شؤونه فمن المتيقّن به أنّ ذلك العالم سيكون مشتّتاً وغير منسجم، وحيث انّ العالم الحاليّ منسجم ومنظمّ، فهذا يدلّ يقيناً علىٰ انّ هذا العالم تحت تدبير إلٰه واحد.

بالطبع انّ التقرير العقلائيّ لأصل القياس الإستثنائيّ كما سبق بيانه هو من شأن المستمع الواعي الّذي يتمتّع بعقل متمرّس مدرّب علىٰ منطق المحاورة واُصول الإستدلال، لكنّ تلك الملاحظة الأساسيّة الّتي تستفاد من آية التمثيل والّتي لها دور رئيسيّ في تقرير تلازم المقدّم والتالي في آية سورة الأنبياء هي: انّ الآلهة إذا كانوا متعدّدين، فلاشكّ أنّهم متشاكسون وغير منسجمين، ومنشأ عدم الإنسجام بينهم ليس هو «الجهل العلميّ» حتّىٰ يُقال بأنّ الإلٰه هو الّذي يكون عالماً بكلّ شيء، ولا هو «الجهالة العمليّة» والإبتلاء بحبّ الجاه حتّىٰ يقال: إنّ الإلٰه هو الّذي يكون منزّهاً ومحصّناً من عيوب الأغراض وآفات الغرائز البشريّة والإمكانيّة، بل انّ منشأ عدم الإنسجام الضروريّ هو كالتالي:

أ. الإلٰه هو البسيط المحض ولا يوجد فيه أيّ نحو من التركّب.

ب. الإلٰه هو الّذي يتّصف بجميع درجات الكمال العلميّ والعمليّ.

ج. حيث انّ الإلٰه بسيط وجامع لجميع درجات الكمال العلميّ

تسنيم، جلد 1

159

والعمليّ فكلّ تلك الصفات الكماليّة ـ وأحدها العلم الأزليّ وغير المتناهي ـ هي عين ذاته وليست جزءً من الذات ولا هي خارجة عنها.

د. وحيث انّ الذوات متباينة فالعلوم الّتي هي عين تلك الذوات ستكون متباينة أيضاً.

هـ . حيث انّه لايوجد في العالم شيء غير الله حتّىٰ يقوم الله بفعله مطابقاً له ووفقاً لميزانه، اذاً فالكلام عن «الواقع» و «نفس الأمر» إنّما يصحّ بعد إفاضة الله له، لا في عرض الله وقبل إفاضته. وبناءً علىٰ هذا فلا يمكن القول إنّ الله خلق العالم مطابقاً للمصلحة الموجودة في نفس الأمر؛ لأنّ أصل المصلحة ونفس الأمر، وكلّ شيء يفرض غير ذات الله فهو فعله، ومخلوق له ومحتاج إليه.

و. الواقع الوحيد هو وجود ذات الله، فإذا فرض إلٰهان فمعنىٰ ذلك وجود ذاتين متباينتين، وعلمين متشاكسين، وتشخيصين متنازعين، ويقيناً فالعالم الّذي سيوجد سيكون متشاكساً ومتنازعاً ومنفطراً ومتداعياً بالانفصام والتشتّت؛ كما انّ الآية الكريمة: ﴿... إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْض﴾[1] تؤيّد هذا المعنىٰ أيضاً، وحيث انّ العالم الموجود منزّه من الصفات السلبيّة المذكورة كما ورد في الآية الكريمة ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُور﴾[2] حيث اُشير فيها إلىٰ نفي الإنفطار والإنشقاق وعدم الإنسجام، إذاً يمكن الإعتقاد بالتوحيد الربوبيّ


[1] . سورة المؤمنون، الآية 91.

[2] . سورة الملك، الآية 3.

تسنيم، جلد 1

160

ونفي أيّ نحو من الشرك الربوبيّ. بواسطة هذا التحليل يحفظ لبرهان التمانع سداده وصوابه وإتقانه ولايحتاج عندئذ لإرجاعه إلىٰ برهان توارد العلل. والقسم المهمّ لتتميم برهان التمانع حاصل بواسطة آية التمثيل في سورة الزمر الّتي اُخذ فيها علىٰ نحو الضرورة تشاكس وتنازع الإلهين علىٰ انّه أصل مسلّم.

7. تارة لايوجد بين الآيات المنسجمة في التفسير إرتباط تصوّري أو تصديقيّ من ناحية تحليل مبادئ الفهم حتّىٰ يتّضح معنىٰ آية باُخرىٰ، بل يوجد بينها ارتباط ترتيبيّ وتاريخيّ، كالّذي يحصل عندما تضمّ آية إلىٰ آية اُخرىٰ فيعلم أيّهما سبقت في النزول وأيّهما نزلت بعد ذلك، مثلاً أيّهما نزلت في مكّة قبل الهجرة وأيّهما نزلت في المدينة بعد الهجرة. ومن الطبيعيّ أنّ البحث في الشواهد التاريخيّة الّذي يحصل من ضمّ الآيتين يضع في يد المفسِّر مفاهيم تفسيريّة جديدة، لكن نتيجة هذا الجمع المذكور هو التوصّل إلىٰ موضوع خارجيّ وهو الترتيب التاريخيّ لنزول الآيات، كالّذي يحصل من ضمّ الآية: ﴿... أَوْ يجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلا﴾[1] إلىٰ الآية: ﴿... فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة﴾[2] حيث يعرف هنا ما هو ذلك «السبيل» الّذي ذكر في سورة النساء، وبالإضافة إلىٰ هذا يتّضح أنّ سورة النور نازلة بعد سورة النساء أو علىٰ الأقل فإنّ هذا الجزء من سورة النور نازل بعد ذلك الجزء المعيَّن من سورة النساء.

8. تارة لايكون بين الآيات المنسجمة في التفسير ارتباط مفهوميّ


[1] . سورة النساء، الآية 15.

[2] . سورة النور، الآية 2.

تسنيم، جلد 1

161

حتّىٰ يتمّ حلّ المبادئ التصوريّة أو التصديقيّة لإحداها بواسطة الاُخرىٰ كما اُشير إليه في القسم السابع، بل انّ النضد والترتيب الخاصّ للاُمور في قوس النزول من مبدأ العالم أو في قوس الصعود نحو غاية ونهاية العالم الّذي هو المبدأ الأوّل، يظهر من ضمّ إحداها إلىٰ الاُخرىٰ، أي تعرف مراتب صدور الفيض من الله سبحانه وتتّضح مراحل نهاية وزوال النظام الكونيّ في رجوع البشريّة والعالم إلىٰ الله. مثلاً عند الحديث عن انتهاء سلسلة الجبال، يمكن من ضمّ الآيات المتعلّقة بها، الإستنباط بأنّه في أشراط الساعة وحين ظهور علامة القيامة، من أين تبدأ مسيرة زوال الجبال وأين تنتهي وأيّ ترتيب بين ﴿كَثِيباً مَّهِيلا﴾[1]، و﴿كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش﴾[2]، و﴿قَاعاً صَفْصَفا﴾[3] وأخيراً تتحوّل الجبال إلىٰ سراب: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكَانَتْ سَرَابا﴾.[4]

وتارة يستنبط من ضمّ الآيات المنعطفة علىٰ بعضها والآيات المتناغمة مسائل عميقة تجعل قاطبة خبراء التفسير الّذين أقاموا في ظلّ علوم القرآن ومفاهيمه ولم يفارقوا ربوعها يخّرون ساجدين شُكراً وتعظيماً أمام مثل هٰذه القراءة التفسيريّة ومثل هذا التفسير للقرآن بالقرآن وهذا العطاء غير المسبوق.

نعم انّ مثل هذا الفوز والفيض عزيز الوجود للغاية، وانّه لايتجلّىٰ إلاّ في خبايا وخفايا نتاجات الأقلام المكنونة والمكتومة للعاكفين في


[1] . سورة المزمّل، الآية 14.

[2] . سورة القارعة، الآية 5.

[3] . سورة طه، الآية 106.

[4] . سورة النبأ، الآية 20.

تسنيم، جلد 1

162

حرم الوحي والطائفين حول حريم الإلهام والراكعين في ربوع العترة والساجدين علىٰ عتبة الولاية: «أهل البصيرة يتعاملون مع من يعرفهم». طبعاً انّ مثل هذا التعامل وتبادل العطاء بين آيات القرآن الكريم موجود بين الآيات والروايات وبين الروايات نفسها أيضاً، بحيث إذا توفّرت تلك الإحاطة والإلمام لدىٰ المفسّر فعندها سيحظىٰ بالدنوّ والإقتراب نحو مراد الكلام الإلٰهيّ. وإنّ إرجاع الأحاديث إلىٰ بعضها بعنوان انّه أصل قطعيّ هو معقول ومقبول لدىٰ المحدّثين، والفقهاء والعالمين بعلم الحديث، وقد أشار الشيخ صاحب الجواهر (ره) إلىٰ جانب من هذا الموضوع قائلاً إنّ هؤلاء الذوات المقدّسة هم بمنزلة المتكلّم الواحد: «بعد ملاحظة أنّ كلامهم جميعاً بمنزلة كلام واحد يفسّر بعضه بعضاً».[1]

9. تارة تنزل الآية الكريمة علىٰ نحو نصّ يحمل معه أسئلة كثيرة، بحيث انّ بعض تلك الأسئلة يتمّ الجواب عليها بواسطة التصريح أو الظهور اللفظيّ لآيات اُخرىٰ نازلة بمثابة الشرح لذلك المتن والتفصيل لذلك المجمل، ولكنّ البعض الآخر من الأسئلة لايستنبط جوابه من ظهور منطوق الآيات التالية لها، وإنّما يظهر جوابها من خلال الإستلزام أو الملازمة أو التلازم وأمثاله، علىٰ نحو يتّضح فيه شرح ذلك النصّ من مجموع المذكور والمحذوف، أو المنطوق والمفهوم والمسكوت عنه.

مثلاً في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأَرْضَ


[1] . جواهر الكلام، ج26، ص67.

تسنيم، جلد 1

163

فِي سِتَّةِ أَيام﴾[1]، مضافاً إلىٰ معنىٰ الأيّام الستّة، هناك أسئلة تتبادر إلىٰ الذهن يشار إلىٰ بعضها:

أ. هل المقصود هو السماوات والأرض خاصّة أم الأعمّ الشامل لما هو بينهما؟

ب. وفي صورة انّ المقصود هو الأعمّ من السماوات والأرض ومابينهما، ففي كم يوم خُلقت السماوات، وفي كم يوم خُلقت الأرض، وفي كم يوم خلق مابينهما؟

يمكن استنباط الجواب علىٰ هذه الأسئلة بواسطة ضمّ سائر آيات خلق النظام الكونيّ إلىٰ الآية المذكورة وبالبحث عن المنطوق والمفهوم، والمسكوت عنه والمحذوف، لأنّ الّذي يجيب علىٰ السؤال الأوّل هو انّ الموجودات بين السماء والأرض قد شملتها الآية الاُولىٰ الّتي هي بمثابة المتن والنصّ، ولذلك قد ذكر في بعض الآيات مثل: ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيام﴾[2]، والجواب علىٰ السؤال الثاني هو انّ السماوات قد خُلقت في يومين: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَىٰ السَّماءِ وَهِي دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَينَا طَائِعِينَ ٭ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يوْمَين﴾[3]، والجواب علىٰ السؤال الثالث هو انّ خلق الأرض قد تمّ في يومين: ﴿قُلْ ءَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يوْمَينِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين﴾.[4]


[1] . سورة الأعراف، الآية 54.

[2] . سورة الفرقان، الآية 59.

[3] . سورة فصّلت، الآيتان 11 ـ 12.

[4] . سورة فصّلت، الآية 9.

تسنيم، جلد 1

164

وأمّا الّذي يُجيب علىٰ السؤال الرابع فهو أنّ خلق مابين السماوات والأرض قد تمّ في يومين، وهذه المعلومة يمكن استظهارها بواسطة الجمع النهائيّ وطرح الأيّام الأربعة المذكورة من مجموع الأيّام الستّة.

بالنسبة إلىٰ هذا القسم الأخير لاتوجد آية فيها تصريح أو ظهور، لابصورة المنطوق ولا المفهوم، وإنّما يمكن اقتناصه من الصمت المعبِّر للآيات المرتبطة بالموضوع، وأمّا مايمكن استظهاره من الآية الكريمة: ﴿قَدَّرَ فِيهَا اقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِين﴾[1] فالظاهر انّه يتعلّق بتوفير الموادّ الغذائيّة خلال الفصول الأربعة بلحاظ أغلب المناطق المعمورة، وليس المقصود منها انّ مجموع الأرض ومابين الأرض والسمٰوات قد خُلِق خلال أربعة أيّام وأنّ السماوات لوحدها قد خُلقت في يومين فيكون المجموع ستّة أيّام كما قال بذلك بعض المفسّرين.[2]

10. تارة تنزل الآية لترسم خطّاً أساسيّاً في التعليم والتهذيب دون أن تكون هناك أيّةُ آية اُخرىٰ تذكّر بالمضمون الصريح لتلك الآية ولا آية اُخرىٰ تقوم بتفصيل وتبيين وتحديد وتقييد وتخصيص النصّ الأصليّ للآية. لكنّ المفاد الشائع والبليغ والمطرِّد لجميع أو أكثر آيات القرآن الكريم ناظر إلىٰ ترسيم وتصوير وتبيين وتدقيق وتعميق وتحقيق المحتوىٰ والمضمون الأصيل للآية المذكورة.

هذا القسم من تفسير القرآن بالقرآن لايستظهر من عنوانه المعروف، بل انّ العنوان المتداول والمعروف بين المتمرّسين في علم


[1] . سورة فصّلت، الآية 10.

[2] . تفسير المنار، ج8، ص446، ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.

تسنيم، جلد 1

165

التفسير منصرف عن هذا القسم، ومثال ذلك الآية: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾[1]، حيث قد تمّت الإشارة في هذه الآية إلىٰ المقام السامي والشامخ للخلافة الإلٰهيّة، دون أن توجد أيّةُ آية اُخرىٰ نازلة في بيان وتوضيح المكانة العالية للخلافة الّتي هي بحاجة ماسّة إلىٰ الشرح والتفصيل، وليس انّه لم يرد بيان مبسّط حول هذا الموضوع فحسب بل حتّىٰ القدر المتوسّط من التفصيل لم ينزل أيضاً، بل حتّىٰ الإخبار المختصر لم يلاحظ أيضاً.

وأمّا ماجاء في الآية الكريمة: ﴿يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يوْمَ الْحِسَاب﴾[2] فسيظهر منها جزء وجانب من الخلافة الإلٰهيّة المطلقة المقترنة بسجود الملائكة، فالخلافة الداوديّة تختلف كثيراً مع الخلافة الكليّة، المطلقة، العامّة، والدائمة المختصّة بالإنسان الكامل النقيّ الأصيل، علىٰ الرغم من أنّ داود(ع) يبلغ مقامها بطريق آخر، ولكن مهما كان فإنّ خلافة سورة «البقرة» غير خلافة سورة «ص»، إلاّ أنّ الرسالة المشتركة والبيان البليغ لجميع أو أكثر الآيات هو تعليم الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ وتهذيب النفوس وتزكية الأرواح لأجل بلوغ المقام السامي للخلافة الإلٰهيّة، لأنّ


[1] . سورة البقرة، الآية 30.

[2] . سورة ص، الآية 26.

تسنيم، جلد 1

166

المحور الأساسيّ لخلافة الإنسان الكامل هو الإحاطة بحقائق عالم الوجود بعنوان الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ.

إنّ الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ منبثّة في جميع القرآن الكريم كالسدر المخضود والطلح المنضود والماء المسكوب، وهي منثورة في خبايا وثنايا وأطراف وأكناف ومتون وحواشي وزوايا الآيات الإلٰهيّة كي ينهل كلّ انسان من حقيقة معينها فينال بمقدار مستواه مرحلة من المراحل التشكيكيّة للخلافة الإلٰهيّة. وعليه فإذا ادّعىٰ أحد بانّ الهدف النهائيّ للقرآن هو إعداد الإنسان الكامل وتربية الإنسان الأصيل والموحّد وانّ الآيات الاُخرىٰ للقرآن الكريم هي شرح لآية خلافة الإنسان الكامل، فهو لم يدعّ شيئاً جزافاً واعتباطاً... وإن كان هذا النوع من التفسير ليس هو من أقسام تفسير القرآن بالقرآن المصطلح والمشهور.

الإتّجاه الموحّد لمعاني القرآن الباطنيّة

كما انّ مفردات القرآن متناغمة ومتناسقة من ناحية الفصاحة والبلاغة والفن الأدبيّ، ومفاهيم ألفاظ القرآن متّحدة في الجهة فيما بينها بلحاظ مبادئها التصوّريّة، ومقاصد آيات القرآن متّفقة بلحاظ مبادئها التصديقيّة وبالنتيجة فإنّ مواضيع القرآن كما يفسِّر بعضها البعضَ الآخر بلحاظ التفسير الظاهريّ، فكذلك هي بلحاظ الباطن أيضاً، حيث انّ جميع معارف القرآن في جميع مراحلها الباطنيّة متّحدة ومتّفقة في الاتّجاه فيما بينها ومفسِّرة لبعضها البعض ولا اختلاف أبداً بين بواطن القرآن ومراتبه العميقة الداخليّة، لانّ مراتبه الباطنيّة كمظاهره الخارجيّة كلّها كلام الله تعالىٰ. ولو كانت نازلة من غير الله لكانت مختلفة فيما بينها بالتأكيد. إذاً فجميع مواضيع القرآن منسجمة من

تسنيم، جلد 1

167

جميع الجهات، فالظواهر منسجمة فيما بينها، والبواطن أيضاً منسجمة مع بعضها، وكذا ارتباط كلّ ظاهر مع الباطن الأرفع منه درجة فإنّه يبقىٰ محفوظاً. ومن هنا يتبيّن انّ المُفسِّر المتعمّق وصاحب البصيرة الباطنيّة إذا حَظي بالسير العموديّ للتفسير، كالّذي كان أهل بيت الوحي(ع ) يعلمون به، فإنّه يستطيع بضمّ البواطن إلىٰ بعضها من خلال تطبيق الفنّ البديع والجذّاب لتفسير القرآن بالقرآن أن ينال النصيب الأوفىٰ والحظّ الأعلىٰ. ومن الضروريّ هنا التنبيه علىٰ ملاحظتين:

1. لكي نقوم بتفسير القرآن في المرتبة الظاهريّة لابدّ من الإعتماد علىٰ جناحين قويّين: أحدهما البرهان العقليّ، أي العلم الحصوليّ الّذي هو شرط مهمّ لكي يكون الإنسان مستعدّاً لمخاطبة الوحي له والتدبّر الكامل فيه، والآخر هو سنّة المعصومين(ع ) الّتي تتعلّق بالمواضيع التفسيريّة لظاهر القرآن. وللقيام بتفسير القرآن بالباطن أيضاً لابدّ من وجود جناحين قويّين: أحدهما «العرفان القلبيّ» أي العلم الحضوريّ والآخر هو سنّة المعصومين(ع ) وهي الّتي تتعلّق بالمعارف الباطنيّة للقرآن، لانّ نسيج الحبل الإلٰهيّ الممدود الّذي طرف منه يسمّىٰ «ثَقَل الوحي» وطرفه الآخر يسمّىٰ «ثقل الولاية» جميعه مرتبط ومتناسب بعضه مع بعض، وهذا الإرتباط الولائيّ يهب القدرة والجرأة للمفسِّر الجامع بين الظواهر من جهة والبواطن من جهة ثانية والظاهر والباطن في كلّ مرتبة متلاصقة، من جهة ثالثة أن يصدر الفتوىٰ بأنّ مثل هذه الطريقة في التفسير هي من مصاديق: «اقرأ وارق»[1]، لانّ هذا الحديث النورانيّ


[1] . اُصول الكافي، ج2، ص606.

تسنيم، جلد 1

168

لايختصّ بالقراءة بمعنىٰ تلاوة الألفاظ ولا هو مختصّ بالجنّة ولا بأهلها المنعّمين المستقرّين في جنّة الخلد، بل هو شامل للمفسِّرين المتعمّقين في الفكر الّذين هم مع قيامهم بالجمع السالم بين الجهات الثلاث المذكورة فهم محصّنون من أيّ نوع من الخلط بين الظاهر والباطن ومحفوظون من خطر المزج بين الداخل والخارج ومن الترقيع بين التنزيل والتأويل، وهم في حركة وطلب وسعي حثيث نحو بلوغ جنّة لقاء الله. طبعاً مثل هذا المقام محتَمل للأوحديّ من أولياء الله، لكنّ أصل امكان بلوغه أمر معقول.

2. من الممكن أن يرىٰ البعض عدم صحّة استعمال لفظ واحد في أكثر من معنىٰ واحد، وعليه فإنّ قصد أكثر من معنىٰ من لفظ قرآنيّ واحد ليس صحيحاً بنظرهم، لكن يجب الإلتفات إلىٰ أنّه أوّلاً علىٰ فرض صحّة ذلك المبنىٰ فإنّه يمكن تصوّر معنىٰ لجامع انتزاعيّ له ظهور عرفيّ بحيث يشمل جميع المراتب. ثانياً: إنّ المراتب الطوليّة هي مصاديق لمعنىٰ واحد وليست هي معاني متعدّدة للفظ واحد. ثالثاً: إنّ الامتناع المتوهّم إمّا أن يعود سببهُ إلىٰ ضيق وعاء اللفظ أو تقييد وتحديد قدرة المستمِع والمخاطَب أو ضعف وعدم سعة علم وإرادة المتكلّم، والقسم المهمّ المذكور في ذلك البحث علىٰ فرض تماميّته هو الّذي يعود إلىٰ ضعف العلم والإرادة عند المتكلّم لا المخاطَب.

فإذا كان المتكلّم والمريد هو الله سبحانه الّذي لا حدود ولا نهاية لعلمه وإرادته، فلا محذور في إرادة عدّة مواضيع من آية واحدة وعدّة معانيَ من لفظ واحد، كما أنّ الضعف والضيق المذكور إذا كان بلحاظ المخاطَب، فإنّ المخاطَب الأصيل للقرآن، هو الإنسان الكامل، أي

تسنيم، جلد 1

169

الرسول الأكرم(ص) الّذي لا محذور في سعته الوجوديّة من إدراك معانيَ متعدّدة مرّة واحدة، يعني إذا كان المخاطبون الآخرون لا يتمتّعون بكفاءة تلقّي المعاني المتعدّدة من لفظ واحد فإنّ الرسول الأكرم(ص) يتمتّع بمثل هذه الكفاءة.

ومن هنا نستنتج موضوعاً آخر يتعلّق بلغة القرآن، وهو انّ قانون المحاورة وإن كان يجب أن يُراعىٰ ويتّبع من ناحية اللفظ وبلحاظ المخاطب بالنسبة إلىٰ الأفراد العاديّين، لكن لا يمكن تسرية مثل هذا الحكم من ناحية المتكلّم بأن يقال انّ جميع أحكام المتكلّمين العاديّين حاكمة علىٰ المتكلّم في الوحي وهو الله سبحانه، إضافة إلىٰ أنّ المخاطَب الأوّلي والأصيل للقرآن الكريم، هو الرسول الأكرم(ص) الّذي منحته الخلافة الإلٰهيّة قدرة تحمّل المعاني المتعدّدة في موضع واحد. طبعاً لا شيء من الاُمور المذكورة، أي خصوصيّة المتكلّم، وامتياز المخاطَب الأصيل أي الرسول الأكرم(ص) يكون مانعاً من تطبيق قانون اللسان العربيّ المبين بالنسبة إلىٰ الآخرين.

ولعلّ أحد معاني الحديث المأثور عن الرسول الأكرم(ص): «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه علىٰ أحسن الوجوه»[1] هو أنّ للقرآن الكريم معارف طوليّة متنوّعة ومواضيع عرضيّة متعدّدة، فإذ لم يتيسّر الجمع بينها جميعاً فاحملوها علىٰ أحسن وجه، فإذا كانت تلك المعاني ليست صحيحة ولا تامّة، فإنّ القرآن الكريم لن يكون أبداً ذلولاً ومتساهلاً وليّناً للمعنىٰ الخاطئ، ولا يعدّ ذلك المعنىٰ من وجوه القرآن. فالمقصود هو


[1] . عوالي اللئالي، ج4، ص104.

تسنيم، جلد 1

170

أنّ كون القرآن ذا وجوه يمكن أن يكون ناظراً إلىٰ معنىٰ ذُكر في هذا القسم وهو الإرتباط بين مراتب الظاهر ومراتب الباطن وكذلك إرتباط الظواهر بعضها بالبعض الآخر والبواطن كذلك و...؛ كما يمكن أن يكون ناظراً إلىٰ أمر آخر.

فالقول بأنّ القرآن «ذو وجوه» جاء بمعنىٰ آخر في بعض الأحاديث، كما في الكتاب الّذي كتبه أمير المؤمنين(ع) إلىٰ ابن عبّاس عند الإحتجاج مع الخوارج حيث أمره بأن يجعل محور الإستدلال هو السنّة لا القرآن: «لاتخاصمهم بالقرآن فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون ولكن حاججهم (خاصمهم) بالسنّة فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً».[1] هذا الكلام يدلّ علىٰ انّ البعض وبواسطة التفسير بالرأي المذموم كانوا يفرضون علىٰ القرآن وجوهاً وآراءً ويفسِّرون الوحي الإلهيّ طبقاً لأهوائهم، ولذلك جعل الإمام(ع) سنّة الرسول الأكرم(ص) وهي المبيّن والشارح الحقيقيّ للقرآن الكريم محوراً للإحتجاج. ولذلك فإنّ «ذو وجوه» ليس بمعنىٰ القابليّة الحقيقيّة للقرآن للحمل علىٰ وجوه متعدّدة.

الفصل الرابع: تفسير القرآن بالسنّة

انّ الله سبحانه الّذي تولّىٰ تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة وتبيين المعارف الإلهيّة وتزكية النفوس، قد عهد بكلّ هذه الاُمور إلىٰ أنبيائه، وجعلها مسؤوليّة خاصّة علىٰ عاتق الرسول الأكرم(ص). فالله سبحانه


[1] . نهج البلاغة، الكتاب 77.

تسنيم، جلد 1

171

يصف نفسه بأنّه تالٍ للآيات بقوله تعالىٰ: ﴿نَتْلُوا عَلَيكَ مِن نَبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يؤْمِنُون﴾[1] وكذلك اعتبر نفسه مبيِّناً للآيات وهادياً للسنن[2] ومزكّياً للنفوس.[3]

ثمّ ينسب هذه الصفات الثلاث إلىٰ رسوله[4]، كما يعتبر مهمّة التبيين بنحو عامّ من خصائص النبوّة العامّة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُم﴾.[5] وهذا المعنىٰ بعينه وعلىٰ نحو الخصوص قد كُلّف به الرسول الأكرم(ص)، وبالتالي فإنّه يبيّن التكليف العلميّ للاُمّة أيضاً: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم﴾[6]، ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيه﴾[7]، كما أنّه قد جعل ضرورة تبيين الآيات والأحكام الإلٰهيّة علىٰ عاتق علماء الدين: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَينُنَّهُ لِلنَّاس﴾.[8]

إنّ من أفضل وأهمّ الطرق لمعرفة القرآن، هو تفسيره بسنّة المعصومين(ع ). وسنّة المعصومين، وكما مرّ، أحد مصادر علم التفسير واُصول البحث والتحقيق للحصول علىٰ المعارف القرآنيّة. والعترة


[1] . سورة القصص، الآية 3؛ وأيضاً سورة البقرة، الآية 252؛ سورة آل عمران، الآية 58 و108 وسورة الجاثية، الآية 6.

[2] . سورة النساء، الآيات 26 ـ 176 و... .

[3] . سورة النساء، الآية 49.

[4] . سورة البقرة، الآيتان 129 و151؛ سورة آل عمران، الآية 164؛ سورة الجمعة، الآية 2.

[5] . سورة إبراهيم، الآية 4.

[6] . سورة النحل، الآية 44.

[7] . سورة النحل، الآية 64.

[8] . سورة آل عمران، الآية 187.

تسنيم، جلد 1

172

الطاهرة(ع ) وطبقاً لحديث الثقلين المتواتر هم عِدل القرآن، والتمسّك بأحدهما دون الآخر هو بمنزلة ترك كلا الثقلين، ولأجل بلوغ الإنسان إلىٰ درجة الدين الكامل فإنّه يجب عليه الإعتصام بأيّ واحد منهما مقترناً بالإعتصام والتمسّك بالآخر.

وتفسير القرآن بالسنّة وإن كان لازماً وضروريّاً لكنّ مثل هذا التفسير في مقابل تفسير القرآن بالقرآن هو كالثَقل الأصغر أمام الثَقل الأكبر، أي انّه في طوله، وليس في عرضه، وإنّ معيّة واقتران هاذين الاثنين هي علىٰ نحو اللازم والملزوم، وليس بنحو الملازم، وبصورة النهج الطوليّ وليس العرضيّ حتّىٰ تكون السنّة في عرض القرآن ابتداءً بحيث تستطيع أن تتعرّض له وتعارضه وتغدو معارضة له، كما أنّ الحديثين يكون أحدهما عِدلاً للآخر وله حقّ التعرّض لهُ والإعتراض عليه ومعارضته، وبالتالي تكون نتيجة مثل هذا التعارض هو إمّا التوقّف أو التخيير أو ترجيح أحدهما علىٰ الآخر؛ وإنّما لابدّ من القول انّ الحجّة أوّلاً هو كلام الله وإنّ الّذي جعل الله له الحجّية ثانياً في القرآن وهو سنّة المعصومين(ع ) مدين لحجّية القرآن، أجل بعد إستقرار الحجّية حدوثاً وبقاءاً هنالك ستكون السنّة متلازمة مع القرآن. نعم يمكن أن تثبت رسالة النبيّ الأكرم(ص) بواسطة معجزة اُخرىٰ غير القرآن وفي هذه الحالة فإنّ حجّية السنّة سوف لن تكون متفرّعة علىٰ حجّية القرآن ولا هي في مقابل إرشاده، لكنّ لزوم العرض علىٰ القرآن وتجنّب التعارض والتباين مع القرآن في خصوص السنّة غير القطعيّة هو أمر ضروريّ ولازم علىٰ كلّ حال.

وما يتمّ بحثه الآن أمران: أحدهما العترة، وهم الأفراد الكُمّل،

تسنيم، جلد 1

173

المعصومون وخلفاء الله، والآخر هو السنّة المأثورة عن اُولئك الأنوار. فأمّا نفس العترة فعلىٰ الرغم من انّ حديث الثقلين القطعيّ قد ذكرهم بعنوان الثَقل الأصغر، لكن وكما بُحث في رسالة مستقلّة[1]، فإنّ في نشأة الوحدة لاتكون حقيقة الإنسان الكامل المعصوم منفصلة عن حقيقة القرآن المجيد أبداً، ولايمكن بأيّ نحو كان إثبات أنّ القرآن أي كلام الله أعلىٰ شأناً من حقيقة خليفة الله الكامل الّذي هو أيضاً كلمة الله العليا...، كما أشار فقيه الإماميّة المعروف الشيخ كاشف الغطاء إلىٰ زاوية من زوايا هذا المعنىٰ[2]، لا إلىٰ ذروته ودرجته العالية، حيث انّ تحرير مثل هذا الموضوع السامي الرفيع العريق الأنيق العميق لا تناله يد حتّىٰ مثل هذا الفقيه أيضاً، «ولو كان لَبانَ» وعلىٰ كلّ حال فإنّ البحث الحالي لايدور حول القرآن والعترة بل هو حول القرآن والسنّة.

وأمّا سنّة المعصومين(ع ) فيجب الإلتفات أوّلاً، انّ الله سبحانه يصف كلامهُ الأصيل وغير المحرّف بأنّه «نور»، و«تبيان» وأمثال ذلك، وليست هذه الصفات مختصّة بالقرآن الكريم، فقد جاء بشأن كتاب موسىٰ الكليم(ع) قوله تعالىٰ: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدیٰ لِلنَّاس﴾[3]، ﴿وَآتَينَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِين﴾[4]، ﴿ثُمَّ آتَينَا مُوسَىٰ الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَىٰ الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَي‏ء﴾[5]، ﴿... وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ


[1] . عليّ بن موسىٰ الرضا والقرآن الحكيم، ص41.

[2] . كشف الغطاء، كتاب القرآن، ص298.

[3] . سورة الأنعام، الآية 91.

[4] . سورة الصافّات، الآية 117.

[5] . سورة الأنعام، الآية 154.

تسنيم، جلد 1

174

شَي‏ء﴾.[1] والشيء الّذي هو نور ومستبين وتفصيل لكلّ شيء، لابدّ أن يكون نيّراً في نفسه، واضحاً ومفصّلاً ومبسّطاً، وقد جاء أيضاً في شأن الأنبياء الآخرين من دون الإختصاص برسول معيّن قوله تعالىٰ: ﴿جَاءُوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِير﴾[2]، فكلّ نبيّ قد جاء ومعه كتاب فذلك الكتاب نيّر ومنير ولا يعتريه شيء من الإبهام، إلاّ أن تمتدّ إليه غياهب التحريف وظلمات التبديل البشريّة، وهذا الإختراق الباطل والظلام الغريب المتطفّل لايستطيع أبداً أن ينال من القرآن الكريم شيئاً ولن يجد له طريقاً إليه: ﴿... لاَ يأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَينِ يدَيهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِه﴾.[3]

ثانياً: إنّ الله سبحانه يصف الرسول ـ أيّ رسول كان ـ بأنّه مبيِّن لآيات ومعطيات الوحي وشارح لمواهب الإلهام ومعلّم الكتاب والحكمة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم﴾[4]، ﴿... لكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَاب﴾.[5] وفيما يخصّ النبيّ الأكرم فإنّه مضافاً إلىٰ صفات المُبَيِّن والمعلّم للكتاب والحكمة[6] فقد ذُكر بصفةٍ متميّزة أيضاً وهي (السراج المنير): ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ٭ وَدَاعِياً إِلَى الله بإذْنهِ وَسِرَاجاً مُّنِيرا﴾.[7]


[1] . سورة الأعراف، الآية 145.

[2] . سورة آل عمران، الآية 184.

[3] . سورة فصّلت، الآية 42.

[4] . سورة ابراهيم، الآية 4.

[5] . سورة آل عمران، الآية 79.

[6] . سورة الجمعة، الآية 2.

[7] . سورة الأحزاب، الآية 46.

تسنيم، جلد 1

175

إنّ سنّة أيّ نبيّ ليست مباينة ولا معارضة ولا مخالفة لنصوص الكتاب الإلٰهيّ الّذي اُنزل عليه، وهذا الأمر أيضاً لا يختصّ بسنّة النبيّ الخاتم(ص)، لأنّ العقل البرهانيّ الّذي هو السلطان والمرجع القطعيّ لهذه المعارف يحكم بأنّه ليس لدىٰ الله سبحانه كلام متباين أو متعارض أو متخالف أبداً، وهذا الأمر من جملة أحكام النبوّة العامّة، وليس خاصّاً بالنبيّ الخاتم، كما انّ في السنّة القطعيّة للمعصومين(ع ) أيضاً إمضاءً لفتوىٰ العقل وحكمه هذا، لأنّ المفاد القطعيّ للسنّة الإسلاميّة هو ضرورة عرض الحديث علىٰ القرآن، حتّىٰ يُترك المخالف للقرآن ويؤخذ بغيره.

وفي هذا البحث يجب الإلتفات إلىٰ عدد من الملاحظات الأساسيّة:

1. انّ المقصود من السنّة ليس هو خصوص الحديث اللفظيّ، لأنّ كلّ ما ينتسب إلىٰ المعصوم فهو حجّة، أعمّ من السكوت وعدم الردع (التقرير)، والفعل والقول، أي انّ القرآن لفظ فقط ولكنّ سُنّة المعصومين شاملة لكلّ الأقسام الثلاثة، وإن كان اعتبار هذه الأقسام الثلاثة ليس في مستوىٰ واحد، لأنّ بعضها كالسكوت والفعل ليس لهما ظهور إطلاقيّ أو عموميّ، بل إنّ حجيّتهما تقتصر علىٰ القدر المتيقّن فقط، وبعضها الآخر مثل اللفظ المنقول، الّذي هو حجّة بعد إحراز أصل الصدور وجهة الصدور[1] والدلالة الّتي يمكن الإعتماد عليها، لكنّ أكثر أخبار المعصومين(ع ) هي منقولة بالمعنىٰ، وليست منقولة باللفظ، وحيث انّه قد اُجيز هذا النحو من النقل بالمعنىٰ وإنّ مبادئه حسّيّة أو قريبة من الحسّ، لذلك فإنّ الاُصول العقلائيّة كأصالة الإطلاق وأصالة العموم


[1] . المقصود من جهة الصدور هو الإحراز بأنّ الكلام لم يصدر تقيّة.

تسنيم، جلد 1

176

وأصالة عدم القرينة وأصالة عدم السهو وعدم النسيان تكون جارية في مثل هذه الروايات، كما انّ السيرة المستمرّة للعقلاء والعلماء قد جرت علىٰ تصديق اخبار الموثّقين علىٰ الرغم من أنّ غالبها لاينقل باللفظ، خلافاً للقرآن الكريم حيث انّه أوّلاً: جميع ألفاظه هي كلام الله بعينه، وثانياً ليس هناك أيّةَ حاجة فيه إلىٰ إجراء الاُصول العقلائيّة المذكورة المنافية للعصمة. وعلىٰ كلّ حال فإنّ سنّة المعصومين(ع ) في أيّ قسم كانت يمكن ان تكون مفسّراً للقرآن بعد ثبوت إعتبارها وحجيّتها.

2. إنّ ضرورة عرض سُنّة المعصومين علىٰ القرآن الكريم لها لوازم يُشار إلىٰ بعضها: أ. صيانة القرآن الأبديّة من آفة التحريف لأنّ الكتاب المحرَّف الّذي هو في نفسه ساقط عن الحجيّة لايمكن أن يكون ميزاناً لاعتبار أيّ شيء آخر، وحيث انّ الدين الإسلاميّ الحنيف خالد وأبديّ وضرورة عرض السنّة علىٰ القرآن دائميّة ومستمرّة إذن يُعلم من ذلك أنّ نزاهة القرآن من آفة التحريف أبديّة وخالدة أيضاً، وأمّا الشبهات الواهية الّتي يطرحها المتوهّمون للتحريف فإنّها قد اُجيب عليها بنحو مستقلّ وذُكر بعضها في كتاب (القرآن في القرآن). وكلّ ما جاء خلافاً للمتوقّع في تفسير «بيان السعادة في مقامات العبادة» من كلام حول التحريف فهو خاطئ للغاية.[1]

ب. إمكانيّة تحريف السُنّة من جهة السند أو الدلالة، لأنّ سُنّة المعصومين(ع ) لو كانت غير قابلة للدسّ والتحريف والجعل والوضع ولم تقع مورداً للتحريف فإنّه لم تكن هناك حاجة للعرض علىٰ القرآن المجيد.

ج. حجيّة ظاهر القرآن، لأنّ القرآن غير المحرَّف إذا لم يكن قابلاً


[1] . ج1، ص19.

تسنيم، جلد 1

177

للفهم العامّ وصالحاً لمقارنة السنّة إليه فإنّه لايصلح إطلاقاً ليكون معياراً وميزاناً لإعتبار وحجيّة السُنّة.

3. إنّ السُنّة المعروضة علىٰ القرآن الكريم وكما مرّ[1]، تكون علىٰ قسمين؛ فتارةً تحتاج إلىٰ العرض بسبب الإبتلاء بالمعارض، كما هو مفاد النصوص العلاجيّة، وتارةً لأجل تشخيص الإعتبار، وذلك في جميع أنحاء السُنّة سواء كان لها معارض أو كانت بلا معارض، كما هو مقتضىٰ النصوص الاُخرىٰ الّتي تُفيد مثل هذا الأمر، وقد وردت أيضاً في الجوامع الروائيّة للإماميّة.

4. حيث إنّ ضرورة عرض السُنّة علىٰ القرآن في مقام إثبات حجيّة السُنّة، لذلك فإنّ جميع صفات القرآن المذكورة كالصيانة من التحريف، وحجيّة الظاهر و... تكون ناظرة إلىٰ مقام إثبات القرآن الكريم ولا اختصاص لها بمقام ثبوته.

5. إنّ الهدف من عرض السنّة علىٰ القرآن لأجل تقييم إعتبار السنّة ليس هو إثبات موافقة السنّة للقرآن، لأنّ الموافقة للقرآن ليست «شرطاً» في الحجيّة، بل إنّ المخالفة مع القرآن هي «مانع» للإعتبار والحجيّة. إذاً فالمقصود من العرض الّذي بيّنت السُنّة القطعيّة ضرورته هو إحراز (عدم المخالفة) للسُنّة المعروضة مع القرآن الكريم، لا «إثبات الموافقة» معه، لأنّ الكثير من الأحكام والفروع الجزئيّة لم ترد في القرآن وقد تمّ تحديدها وبيانها طبقاً للأمر الإلٰهيّ بالرجوع إلىٰ السنّة.

6. صحيح أنّ الهدف من عرض السُنّة علىٰ القرآن هو إحراز عدم


[1] . ص91 من (الترجمة‌العربيّة) كتاب تسنيم، ج1.

تسنيم، جلد 1

178

مخالفتها معه، لا إثبات موافقتها له، ولكن من أجل إحراز عدم المخالفة مع القرآن يجب الإعتراف بأنّ جميع معارف وأحكام القرآن الكريم هي واضحة وبشكل شفّاف وإن كان ذلك يتمّ بمساعدة الآيات المتناسبة لكي يمكن القول بصراحة بأنّ الأمر الفلانيّ الّذي ورد في السنّة وبعد العرض علىٰ القرآن قد اتّضح بأنّه غير مخالف للقرآن. ولو كانت بعض الآيات مبهمة ولا تتّضح أبداً بغير السنّة، فإنَّ ذلك العرض وذلك الإستنتاج لن يتم إطلاقاً... طبعاً انّ السنّة بعنوان كونها المرجع العلميّ والتبيينيّ هي غير السُنّة بعنوان انّها المرجع التعبّدي.

والقصد هو أنّه وإن كانت الموافقة مع القرآن ليست شرطاً في إعتبار السُنّة، ولكن المخالفة مع القرآن مانع من إعتبارها، والحكم بعدم مخالفة السُنّة مع القرآن متوقّف علىٰ إحراز معنىٰ ومقصود كلّ القرآن (علىٰ نحو الموجبة الكليّة)، ولو كانت بعض الآيات (علىٰ نحو الموجبة الجزئيّة) لا تفهم بغير السُنّة أصلاً ولا يُعرف مفادها والمقصود منها، فهذا يعني أنّ فهم جزء من القرآن متوقّف علىٰ إعتبار السنّة بينما إعتبار السنّة يتمّ بأن لا يكون بينها وبين جميع آيات القرآن (علىٰ نحو السلب الكلّي) أيّةَ مخالفة ولا معارضة ولا تباين. فإذاً يجب أوّلاً: أن تكون جميع آيات القرآن واضحة، وثانياً: أن لا يكون فهم أيّةَ آية متوقّفاً علىٰ السُنّة، وثالثاً: إذا كان فهم بعض الآيات متوقّفاً علىٰ السُنّة فإنّه يلزم الدور في هذا القسم، ونتيجة مثل هذا الدور تنتهي إلىٰ التناقض المستحيل، وفي هذا الموضوع لافرق بين إثبات حجيّة السنّة عن طريق القرآن وإثبات حجيّتها عن طريق معجزة اُخرىٰ.

تسنيم، جلد 1

179

وبناءً علىٰ هذا، فإنّ جميع القرآن بما هو ميزان للتقييم يجب أن يكون واضحاً من دون الرجوع إلىٰ السنّة، وأن تكون له حجيّة مستقلّة لا منحصرة، كي يكون قابلاً لعرض السنّة عليه، وبعد إحراز عدم مخالفة السُنّة للقرآن ستكون هناك حجّة مستقلّة اُخرىٰ إلىٰ جانب القرآن الّذي هو حجّة مستقلّة قبل ذلك، فتُضمّ هاتان الحجّتان المستقلّتان إلىٰ حجّة مستقلّة اُخرىٰ هي «البرهان العقليّ»، فتصبح هذه الحجج الثلاث إلىٰ جانب بعضها البعض من دون أن يكون لإحداها دعوىٰ الإنحصار (لأنّ الإستقلال وكما سبق بيانه هو غير الإنحصار)، وعندئذ وبعد ملاحظة مجموع هذه المصادر الثلاثة المستقلّة وغير المنحصرة والجمع النهائيّ بينها يمكن التوصّل إلىٰ معرفة الرسالة الإلٰهيّة والحكم الإلٰهيّ القطعيّ... .

ومن الضروريّ والمؤكّد أن يتمّ الإلتفات بعمق إلىٰ أمرين:

أحدهما انّ السنّة بما هي أعمّ من القطعيّة وغير القطعيّة ستكون دائماً وبالنسبة إلىٰ جميع الآيات مرجعاً للتعليم والتبيين والتفصيل؛ لكنّ المرجعيّة التعبّديّة المختصّة بالسنّة غير القطعيّة تحصل بعد إتّضاح مفاد ومضامين كلّ القرآن. والآخر هو انّ القرآن بدون السُنّة الأعمّ من القطعيّة وغيرها ليس بحجّة أبداً، والقول بحجيّة القرآن بدون السنّة القطعيّة وغير القطعيّة فصل وتفريق واضح بين العِدلين الغير القابلين للإفتراق. والقصد هو أنّ سبب ضرورة عرض السنّة علىٰ القرآن هو إحتمال الجعل والكذب والتحريف فيها، وهذه الاُمور لاوجود لها في السُنّة القطعيّة، فيجب التمييز في جميع هذا الكتاب بين السُنّة القطعيّة وغير القطعيّة. كما انّ روايات عرض السُنّة علىٰ القرآن سواء كانت الروايات

تسنيم، جلد 1

180

المتعارضة فيما بينها أو الروايات غير المتعارضة إنّما يُقصد بها السُنّة غير القطعيّة؛ لأنّ السُنّة القطعيّة الّتي هي بمنزلة القرآن تكون معروضاً عليها وليست معروضة.

فاتّضح من البحوث السابقة أين يكون محور إعتبار وحجيّة السُنّة ومدار عرضها علىٰ القرآن وكيف تكون حجيّة السنّة في مقابل القرآن الكريم، كذلك اتّضحت مساحة نفوذ تفسير القرآن بالسنة، ومنزلة إمامة القرآن بالنسبة للحديث، وكون الحديث اُمّة للقرآن، ومقام كون القرآن والحديث عِدلين أحدهما للآخر، واتّضحت مساواة أحدهما للآخر، كما تبيّنت ضرورة إعادة النظر في بعض ما يُكتب.[1]

وفي بحث مساواة القرآن والعترة (لا القرآن والحديث) يوجد هناك أمران: أحدهما أنّ القرآن هو الثَقل الأكبر بالنسبة إلىٰ العترة والآخر هو كون كلّ منهما عِدلاً للآخر؛ كما أنّ الروايات الواردة في هذا الشأن هي علىٰ طائفتين: فلسان إحداهما هو «أحدهما أكبر»، ولسان الطائفة الاُخرىٰ هو أنّ الرسول الأكرم(ص) جعل السبّابتين من كلتي يديه إلىٰ جانب بعضهما وقال: «انّي قد تركت فيكم أمرين... كهاتين»، وجعل السبّابة والوسطىٰ إلىٰ جانب بعضهما وقال: «لا أقول كهاتين».[2]

تنويه: انّ التفسير كما سبق، بمعنىٰ بيان مدلول الألفاظ وكشف الستار عن وجه الكلمات وعبارات الآيات. وعليه فإنّ تبيين الحدود والجزئيّات وكيفيّة تنفيذ ماجاء في القرآن من اُمور كليّة وخطوط عامّة


[1] . مناهج البيان، ج1، ص15 ـ 19.

[2] . اُصول الكافي، ج2، ص415.

تسنيم، جلد 1

181

ليس هو من التفسير. فمثلاً الروايات الواردة في بيان حكم الإخفات في بعض الصلوات ليست تفسيراً للآية الكريمة: ﴿أَقِيمُوا الْصَّلاَة﴾، بل هي مبيّنة لأحكامها الجزئيّة.

فالقرآن الكريم مسؤول عن تبيين الخطوط الكليّة لمعارف وأحكام الدّين، وأمّا تبيين الحدود والجزئيّات وأساليب التطبيق والتنفيذ لها فهي مسؤوليّة النبيّ الأكرم(ص) والعترة الطاهرين(ع )، فمثلاً أصل وجوب الصلاة قد جاء في القرآن الكريم في قوله تعالىٰ: ﴿أَقِيمُوا الْصَّلاَة﴾، وأمّا الأحكام الجزئيّة وكيفيّة أداء وإقامة الصلاة فهي تشتمل علىٰ مايقارب أربعة آلاف حكم فقهيّ واجب ومندوب، وقد بيّنها المعصومون(ع ).

فالقرآن الكريم هو بمثابة الدستور الأساسيّ للدين الّذي يتضمّن الاُصول والمحاور الأساسيّة، والروايات المبيّنة للفروع وجزئيّات الأحكام الكليّة هي بمثابة القوانين المقرّرة في مجالس سنّ القوانين، ومن الواضح انّ القوانين المذكورة لاتُعَدُّ مفسِّرة وشارحة للدستور.

مميّزات السنّة القطعيّة

انّ البحث في منهج تفسير القرآن بالقرآن يُعدّ جزءً من علوم القرآن، وأمّا تحليل طريقة تفسير «القرآن بالحديث» فهي بالاضافة إلىٰ ضرورة الإطّلاع علىٰ العلوم القرآنيّة، تحتاج إلىٰ معرفة الحديث وحتميّة إتّباع قواعد علم الحديث.

والملاحظة الّتي تُذكر في علم الحديث والّتي لها دور رئيسيّ في مسألة عرض الحديث علىٰ القرآن هي أوّلاً: انّ السُنّة تنقسم إلىٰ قسمين: أحدهما السُنّة القطعيّة والثاني هو السُنّة غير القطعيّة. ثانياً: انّ الّذي يجب

تسنيم، جلد 1

182

عرضه علىٰ القرآن هو السُنّة غير القطعيّة، وأمّا السُنّة القطعيّة فهي لا تحتاج أبداً إلىٰ العرض علىٰ القرآن، لأنّ صدورها من مقام العصمة قطعيّ، ومثل هذا الصادر ينتسب يقيناً إلىٰ الله سبحانه. ثالثاً: السُنّة القطعيّة كالقرآن الكريم فبالإضافة إلىٰ استغنائها عن العرض علىٰ أيّ مصدر آخر، فإنّها هي بنفسها مصدر مستقلّ يصلح لعرض السُنّة غير القطعيّة عليه، أي انّ الحديث غير القطعيّ كما يعرض علىٰ القرآن، فهو يعرض أيضاً علىٰ السنّة القطعيّة. رابعاً: صحيح أنّ السُنّة القطعيّة كالقرآن الكريم من جهتين، أي في عدم حاجتها للعرض علىٰ مصدر آخر، وكونها بنفسها صالحة لعرض السُنّة غير القطعيّة عليها، لكنّ حجيّتها وإعتبارها متوقّف علىٰ ثبوت رسالة الرسول الأكرم(ص)، ورسالته متوقّفة علىٰ كون القرآن معجزة (فيما إذا لم تعتمد رسالة النبيّ علىٰ معجزة اُخرىٰ).

بناءً علىٰ هذا، تكون رُتبة حجيّة وإعتبار القرآن الكريم قبل ثبوت رسالة الرسول الأكرم(ص)، في حين أنّ ثبوت رسالة الرسول مقدّم علىٰ إعتبار وحجيّة السُنّة القطعيّة؛ لأنّ نفس السُنّة القطعيّة ليست معجزة حتّىٰ تكون حجّة ومعتبرة بذاتها، بل هي بواسطة رسالة الرسول الأكرم(ص) مرتبطة بإعجاز القرآن الكريم.

وبالنتيجة فإنّ إعتبار السُنّة القطعيّة ليس مساوياً لحجيّة القرآن الكريم، بل هو متأخّر عنها بلحاظ الرتبة. نعم لأجل إثبات الأحكام الشرعيّة فإنّه لامفرّ من الرجوع إلىٰ السنّة كالمصادر الغنيّة والمعتبرة الاُخرىٰ.

وجدير بالذكر، انّ السُنّة القطعيّة ليست كثيرة، لأنّ أهمّ واسطة وحلقة لإرتباط الاُمّة بسنّة الرسول الأكرم(ص) هم أهل بيت العصمة

تسنيم، جلد 1

183

الأطهار(ع )، ومن المؤسف انّهم قد هُجِروا وحوصروا واُبعدوا عن الاُمّة، كما أنّ نشر وتدوين وكتابة الحديث الّتي هي أهمّ وأفضل طرق المحافظة علىٰ السُنّة وبقائها ودوامها قد مُنعت ـ مع الأسف الشديد ـ لمدّة طويلة، ولو انّ اهل البيت المعصومين(ع ) لم يُحكم عليهم بالمحاصرة والتبعيد عن الاُمّة، ولو لم يُغصَب منهم منبر الثقافة وكرسيّ التدريس والتعليم؛ ولو انّ الآخرين لم يتقمّصوا ثوب الخلافة، لكان علم الحديث الشريف يظهر بوضع أفضل ممّا هو عليه، ولكانت مضامينه تظهر وتتألّق أكثر، وبالنتيجة لكان حجم ومقدار السُنّة القطعيّة يتّسع ويزداد أكثر ممّا هو عليه الآن.

صعوبة فهم السُنّة

صحيح انّ أفضل وأهمّ طرق معرفة القرآن هو تفسيره بواسطة سُنّة المعصومين(ع )، لكن يجب الإلتفات إلىٰ انّ فهم السُنّة أيضاً كفهم القرآن هو عمل في غاية الصعوبة؛ وذلك لأنّ معارف أهل بيت العصمة الأطهار(ع ) في نفس مستوىٰ المعارف القرآنيّة، الّتي يصفها القرآن بالقول الثقيل، وإدراك القول الثقيل صعب، سواء تجلّىٰ علىٰ نحو القرآن أو تبلور علىٰ نحو السُنّة، لأنّ أساس وجذر الإثنين هو من «لدن» الله العليّ الحكيم. ولذلك يؤخذ في تعريف علم السنّة أيضاً قيد (بقدر الطاقة البشريّة) كما تمّ أخذ هذا القيد أيضاً في علم معرفة القرآن.

وإضافةً إلىٰ السبب المذكور. فهناك سبب آخر لصعوبة فهم السُنّة، وقد تضمّنه حديث الإمام الصادق(ع) حيث يقول: «ما كلّم رسول الله العباد بكنه

تسنيم، جلد 1

184

عقله قطّ»[1] اي انّ الرسول في طول عمره الشريف لم يتحدّث مع العباد بكامل فهمه وأعلىٰ درجات فكره وإدراكه وعمق شهوده وسعة علمه.

وهناك بعض الملاحظات المفيدة حول هذا الحديث نذكرها كما يلي:

1. انّ المقصود من عنوان العباد هم الأفراد العاديّون المتعارفون، وإلاّ فإنّ أهل بيت العصمة مثل أمير المؤمنين وباقي المعصومين(ع ) غير مشمولين للحديث المذكور، فإنّ مثل هذا الكلام منصرف عن الأفراد النورانيّين الّذين هم بمنزلة روح النبيّ وجميعهم قد كانوا في نشأة الوحدة نوراً واحداً كما ورد في الزيارة الجامعة: «اشهد... وانّ أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة طابت وطهرت بعضها من بعض»[2]، كما انّ العلوم الّتي ورثها أهل البيت(ع ) من رسول الله(ص) بواسطة الإرث الولائيّ، لا الإرث الحقوقيّ المعتاد قرينة علىٰ انّ الحديث المذكور يُقصد به الأشخاص العاديّون.

2. انّ الله سبحانه قد أثنىٰ علىٰ نبيّه بالجود والسخاء ونفىٰ عنه جميع أنحاء الضنّة والبخل في نشر المعارف الإلٰهيّة وبيان وتفصيل مسائل الغيب وما من شيء يتلقّاه من نشأة الملكوت إلاّ ويقوم بإبلاغه إلىٰ نشأة الملك: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِين﴾[3]، كما انّ كلّ ما يقوم به في نشأة الملك من إملاء وإبلاغ وإنشاء فجميعه مستوحىٰ من نشأة الملكوت: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ٭ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾.[4] إذاً فرسول الله(ص)تسنيم، جلد 1 من ناحية نقل المعارف من الغيب إلىٰ الشهادة، جواد وأمين ومعصوم ولا يكتم شيئاً، وكذلك من ناحية الإملاء والإنشاء والإبلاغ فهو متعبّد ومتوقّف ومعصوم بحيث انّه لاينطق بشيء حتّىٰ ينزل إليه بالوحي. فعصمة النبيّ الأكرم قطعيّة من الجهتين، والّذي يهمّنا الآن هو عدم كتمان أخبار الغيب.

والآية المذكورة وإن كانت شاملة قطعاً لآيات القرآن لكنّها ليست مقتصرة عليها، بل يمكن إعتبار المعارف القدسيّة الّتي يعبّر عنها بالحديث القدسيّ مشمولة بالآية المذكورة أيضاً؛ أي انّ الرسول الأكرم(ص) لم يكن ضنيناً ولا بخيلاً بأيّ معرفة لكي يكتمها ولا ينطق بها، إلاّ أن يكون هناك موضوع سرّي وخاصّ بحيث يعدّ الغير بالنسبة إليه غريباً وأجنبيّاً، وإنّ الأمر بكتمانه عنهم قد صدر من الله سبحانه.

3. انّ سنّة جميع الأنبياء والأولياء الإلهيّين جرت علىٰ التكلّم مع الناس بقدر عقولهم وكما قال النبيّ(ص) «انّا معاشر الأنبياء اُمرنا أن نكلّم الناس علىٰ قدر عقولهم».[5] إذاً فما جاء حول الرسول الأكرم(ص) يدخل تحت عنوان إحدىٰ السنن الجامعة والشاملة للنبوّة العامّة وليس مختصّاً بسُنّة الرسول الأكرم(ص).

4. لعلّ المقصود من عدم التكليم بكنه عقل الرسول هو أنّ جميع الأسرار الباطنيّة علىٰ نحو التفصيل الشامل والسلس والمبسّط ليست في متناول جميع الأفراد الّذين يُتقنون ثقافة المحاورة وقواعد التفاهم فيدركون معاني الآخرين ويوصلون إليهم مقاصدهم علىٰ أساسها، وذلك لأنّ الجميع


[1] . اُصول الكافي، ج1، ص23.

[2] . مفاتيح الجنان، الزيارة الجامعة.

[3] . سورة التكوير، الآية 24.

[4] . سورة النجم، الآيتان 3 ـ 4.

[5] . روضة الكافي، ص268.

تسنيم، جلد 1

186

في إدراك الأسرار الإلهيّة ليسوا بدرجة متساوية، بل انّ كلام الرسول الأكرم(ص) مثل القرآن الكريم يشتمل علىٰ ظاهر وباطن وتنزيل وتأويل ومحكم ومتشابه، والبلوغ إلىٰ أعماق حديث الرسول(ص) المستلزم لإكتناه حقيقة نفس المتحدّث ليس متيسّراً لغير أهل بيت العصمة الطاهرين(ع ).

5. كما يُقال لقارئ القرآن والمفسِّر والمبيّن له والعامل بأحكامه، والمتخلّق بأخلاقه «إقرأ وارقَ»[1] فإنّه يقال أيضاً لعالم الحديث المتعبّد المتخلّق العامل بالأحكام العارف بالحِكَم: إقرأ وارق، ولذلك ينبغي ـ بل يجب ـ أن يؤخذ في تعريف علم الحديث قيد (بقدر الطاقة البشريّة)، لأنّ العلوم المكتسبة من قِبَل عامّة البشر يمكن تعلّمها علىٰ نحو الإكتناه، لكنّ بلوغ كنه أقوال الأفراد الّذين يتلقّون الأخبار والمعلومات من «لَدُن»، و«امّ الكتاب» و«كتاب مبين» لن يكون في متناول الأفراد العاديّين.

6. عندما يُضمّ إلىٰ الحديث المذكور انّ الأفراد الكُمَّل والمعصومين وخلفاء الله كلّهم من سنخ واحد فإنّنا نستنتج أمرين ذُكر أحدهما تصريحاً والآخر تلويحاً: أحدهما انّ الحديث المذكور منصرف عن أهل البيت(ع )، لأنّ الرسول الأكرم(ص) كلّما كان يتلقّىٰ موضوعاً بمقدار كنه عقله فهو يستطيع أن يبيّنه لأهل بيته المعصومين(ع ) وهم يدركونه بنحو تام. والآخر هو انّ أهل البيت(ع ) بأنفسهم مثل الرسول الأكرم(ص) لم يتحدّثوا بكنه عقولهم مع عامّة الناس (بنفس المعنىٰ الّذي مضىٰ بيانه).

7. كلّ ما جاء حول صعوبة واستصعاب أمر أهل البيت(ع ) فإنّه ناظر إلىٰ موارد مختلفة ومتعدّدة بعضها يتعلّق بولايتهم التكوينيّة وعلمهم


[1] . البحار، ج8، ص133.

تسنيم، جلد 1

187

بالغيب ممّا يصعب إدراكه بنحو منزّه من الغلوّ وبعيد عن التفويض الباطل، وبعضه يتعلّق بالخلافة السياسيّة وقيادة الاُمّة الإسلاميّة ممّا يكون تحمّله مستصعباً لعبيد الدنيا المُتقمّصين لرداء الخلافة المغصوب من قِبَل تيم وعَديّ أو المفتونين بالطعام الأدسم الاُموي أو الجبناء الخائفين المرتجفين من السيوف المسمومة للناكثين والقاسطين والمارقين.

وبعضها يعود إلىٰ معرفة الملكوت وما هو أعلىٰ منه حيث انّ ارتفاعه وعلوّه أسمىٰ من «بُعد الهِمم». وغَورهُ أعمق من (غوص الفطن)، فلا الحكماء والمتكلّمون العاديّون ـ بما اُوتوا من قدرة وسعة في العلم الحصولي ـ قادرون علىٰ التحليق والإرتقاء إلىٰ تلك الدرجة، ولا العرفاء بوسائل علمهم الحضوريّ والشهوديّ يتيسّر لهم أن يغوصوا إلىٰ أعماق ذلك اليمّ أو يسبروا غوره.

والعناوين المأخوذة في لسان أحاديث الصعوبة والإستصعاب متعدّدة؛ منها: «أمر» و«علم» و«حديث». وكلّ من يستطيع أن يتحمّل منح وهبات اُولئك الذوات النورانيّة فهو الّذي يحظىٰ بالفوز وينعم بالعطايا الإلٰهيّة الخاصّة، وهو امّا «ملك مقرّب» أو «نبي مرسل» أو «عبد ممتحن بتقوىٰ الله». ولذلك يجب أن يؤخذ في تعريف علم الحديث قيد (بقدر الطاقة البشريّة)، مثلاً إذا كان إدراك الأسماء الحُسنىٰ الأربعة ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن﴾[1] وكذلك معرفة الرجوع بصورة الإنقلاب للأشياء نحو الله سبحانه: ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُون﴾[2] وأمثالها


[1] . سورة الحديد، الآية 3.

[2] . سورة العنكبوت، الآية 21.

تسنيم، جلد 1

188

أمراً صعباً، بحيث يضطرّ البعض لتفسيرها بتقدير مضاف محذوف وأمثال ذلك، فإنّ إدراك معنىٰ دخول الله سبحانه في جميع ذرّات الأشياء دون الإمتزاج بها وخروجه منها دون البينونة والإنفصال عنها أمر مستصعب أيضاً: «ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج».[1]

8. انّ السرَّ في صعوبة الإدراك الصحيح لسنّة المعصومين(ع ) هو عين السرّ في صعوبة الإدراك الصحيح للقرآن الكريم ويرجع ذلك إلىٰ أمرين: أحدهما انّ ثِقَل الكلام ومتانته يؤدّي إلىٰ صعوبة استيعابه الفكري لاسيّما إذا كان المتكلّم وهو الله سبحانه قد وصف القرآن بالثقيل: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلا﴾[2]، وآل البيت المعصومون(ع ) قد وصفوا كلامهم بالصعب؛ كما يقول أمير المؤمنين(ع) «انّ أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلاّ عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان»[3]، كذلك يقول النبيّ الأكرم «انّ حديث آل محمّد صعب مستصعب».[4] والآخر هو انّ المتكلّم قد تجلّىٰ في كلامه كما تحدّث أمير المؤمنين عليّ(ع) حول القرآن فقال: «فتجلّىٰ لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه»[5] وهذا المعنىٰ بعينه صادق أيضاً في مجال تجلّي النبوّة والرسالة والولاية والإمامة في الأحاديث الخاصّة للنبيّ وآله.


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 186، المقطع 4.

[2] . سورة المزمّل، الآية 5.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 189، المقطع 4.

[4] . اُصول الكافي، ج1، ص401.

[5] . نهج البلاغة، الخطبة 147، المقطع 2.

تسنيم، جلد 1

189

لأنّ كل متكلّم فهو يختبئ تحت لسانه «المرء مخبوء تحت لسانه»[1] والله سبحانه وخلفاؤه الحقيقيّون قد تجلّوا في كلامهم الخاصّ، وحيث انّ قدرة الإدراك والإستيعاب لثقافة الحوار وأداة التفاهم ومِرآة الأدب البشريّة لاطاقة لها علىٰ تحمّل تجلّي المتكلّم السماوي ورؤية الملكوت، لذلك فإنّ من الصعوبة جدّاً علىٰ المُخاطَبين أن يدركوا بسلوك طريق العلوم الأدبيّة المتعرّج ودهاليز قوانين المعاني والبيان والبديع والمفردات الإنسانيّة الضيّقة مقصود المتكلّم الخارج عن مجال الطبيعة، وأن يعرفوا ذلك المتكلّم جيّداً بواسطة النظر إلىٰ مجال تجلّيه وأن يقفوا بعمق علىٰ مقصوده النهائيّ وغايته المستورة.

9. انّ السرَّ في صعوبة إدراك العلم الخالص النقيّ المرتبط بسُنّة المعصومين(ع ) ليس دائماً في مستوىٰ واحد فهو للمحقّقين والمجتهدين من ذوي الأتباع والمؤيّدين يكون صعباً إذا أفل كوكب برهانهم أو غابت شمس شهودهم، سواء كانت دولتهم وشوكتهم مؤجّلة أم مُعجّلة، وإذا كان لهم حظ وافر ودائم من النور الباطني للبرهان والبرق اللامع المكنون للعرفان، فإنّ الدولة الكريمة لفكرهم الحصوليّ أو شهودهم الحضوريّ لها حظ من البقاء والدوام، وهي من الفيض الثابت وإذا كانت «كالبرق الخاطف» للخائض في الظلمات، فإنّها محكوم عليها بالفناء والزوال: «ليس في البرق الخاطف مُستمتع لمن يخوض في الظلمة».[2]

وهو للمقلّدين المطيعين والتابعين مستصعب عندما يخلعون يد


[1] . نهج البلاغة، الحكمة 148.

[2] . البحار، ج74، ص286.

تسنيم، جلد 1

190

الطاعة والتبعيّة وتُرفع عنهم يد رعاية ومداراة الاُستاذ ووليّ النعمة ويزول ظلّه من فوق رؤوسهم، لأنّ المتكلّم أو الكاتب المقلّد كالأعمىٰ المستند إلىٰ عصا هداية وإرشاد المحقّق المجتهد، فإذا ما خمدت جذوة ذلك القائد، فإنّ قدم التابع الأعمىٰ سوف ترتبك، وما إن تسقط عصا التقليد من يده حتّىٰ يتوقّف ويهوي نحو أسفل محلّه السابق، لأنّ السبب الوحيد لوعيه واهتدائه إلىٰ الطريق هو قيادة القائد اليقظ وولي الأمر الحاذق، فإذا ما قطعت حلقة التبعية والإهتداء بالمحقق الجدير بالطاعة والإتباع فإنّه سينحدر نحو العمىٰ والضلال ويعتريه الذبول والجفاف، لأنّ المصدر الوحيد لحركة ونشاط ذلك المتحدّث أو الكاتب المقلّد هو الطاعة والتبعيّة للمحقّق، فهو مدين له في بصيرته وحركته فإذا ما انفصمت عرىٰ الإرتباط بينه وبين وليّ النعمة ومصدر العطاء فإنّ أمره سيؤول إلىٰ العمىٰ والضمور وانّ ينابيعه ستغور وتنضب، لأنّ المقلّد المطيع الّذي ينهل بفضل تقليده من عين الماء ويرتوي منها ما إن يُسلب منه توفيق الإهتداء بالتقليد والوصول إلىٰ الماء الزلال حتّىٰ يقع في السراب. إذن من الأفضل للإنسان أن يقيم اُموره ويكتفي بذاته ويعتمد علىٰ نفسه ولا يكون كلاًّ علىٰ غيره فيقترض من الغير، لأنّ مثل هذا القرض سيُلقي بالإنسان في الهمّ والغمّ والذل: «ايّاكم والدَيْن فإنّه همٌّ بالليل وذلّ بالنهار».[1]

الإرتباط الوثيق بين القرآن والعترة(ع )

في البحوث السابقة مضىٰ الحديث عن ضرورة الرجوع إلىٰ النبيّ


[1] . البحار، ج100، ص141.

تسنيم، جلد 1

191

الأكرم(ص) وعترته الطاهرة(ع ) في تفسير القرآن الكريم، وفي هذا البحث سنتناول تفصيل حديث الثقلين الشريف وبيان كيفيّة ودرجة الإرتباط بين الثقلين. فقد قال النبيّ الأكرم(ص) في حديث الثقلين المتواتر الّذي رواه الفريقان: «انّي قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض وعترتي[1] أهل بيتي ألا وانّهما لن يفترقا حتّىٰ يردا عليّ الحوض».[2]

انّ القرآن والعترة هما ثمرة النبوّة وعامل استمرار الرسالة الّتي تؤمّن الهداية للبشريّة إلىٰ يوم القيامة، وغياب هٰذين الثَقلين المتّحدين عن المجتمع الإنسانيّ سبب لانفصام سلسلة النبوّة وانقطاع الرسالة وعدم دوامها لأنّه يؤدّي إلىٰ زوال ثمرة رسالة الرسول الأكرم(ص)، وحيث لا نبيّ يأتي بعده فيقع محذور إرتفاع النبوّة في عصر من العصور.

انّ الإعلان عن عدم افتراق الثقلين خبر غيبيّ بحيث يلزم من صدقه وصحّته، بقاء الإمام المعصوم إلىٰ يوم القيامة، وعصمة الإمام، وعلم الإمام بالمعارف والحقائق القرآنيّة، وكذلك إحتواء القرآن علىٰ الأحكام والمعارف الضروريّة والنافعة للبشر، وكذلك صيانة وحفظ القرآن من آفة التحريف.

وينبغي هنا بيان هذا الأمر وهو معنىٰ عدم افتراق الثقلين، حيث انّ عدم افتراق الثقلين ليس بمعنىٰ أنّ الإمام يصطحب معه مصحفاً دائماً،


[1] . المقصود من العترة(ع ) في حديث الثقلين، هو شخصيّتهم الحقوقيّة، وإلاّ فإنّ شخصيّتهم الحقيقيّة ليست في متناول الكثير من المسلمين. وعليه فالرجوع إلىٰ الإمام يعني الرجوع إلىٰ الإمامة والأحكام والحِكَم الصادرة من ذلك المقام الشريف.

[2] . البحار، ج23، ص106.

تسنيم، جلد 1

192

بل هو بمعنىٰ عدم الإنفصام والإنفكاك بين الإمامة والوحي القرآنيّ، فالأئمّة(ع ) هم المبيّنون والمفسّرون للقرآن الكريم والشارحون لتفاصيله وكيفيّة تنفيذ كلّياته، والقرآن أيضاً يدعو الناس إلىٰ الرجوع إلىٰ المعصومين ويجعل لسنّتهم القيمة والإعتبار والحجيّة.

ولو لم يكن النبيّ الأكرم(ص) قد أعلن في حديث الثقلين عدم إمكانيّة افتراق الثقلين لكان هناك مجال للتوهّم بأنّ التمسّك بأحدهما كاف لهداية البشريّة؛ لكنّ الجزء الأخير من حديث الثقلين الشريف أعلن عدم صحّة هذا الظنّ الباطل ببيانه انّ القرآن والعترة حجّتان مستقلّتان، وهما مترابطتان في مجال بيان الدين الكامل أي الدين الصالح للإعتقاد والعمل، وأيّ منهما لاتستغني عن الاُخرىٰ.

إذاً فالقرآن الكريم علىٰ الرغم من كونه مستقلاًّ في أصل الحجيّة وفي دلالة الظواهر، وتبعيّته للروايات في هذا المجال تستلزم الدور، لكنّه ليس حجّة منحصرة أبداً. والروايات أيضاً علىٰ الرغم من كونها حجّة مستقلّة بعد تثبيت أصل حجيّتها بواسطة القرآن (سواء كان في السُنّة القطعيّة او السُنّة غير القطعيّة) وبعد إحراز عدم مخالفتها للقرآن (بخصوص السُنّة غير القطعيّة)، لكنّها حجّة غير منحصرة، وهاتان الحجّتان المستقلّتان وغير المنحصرتين تنضمّان إلىٰ حجّة مستقلّة ثالثة هي البرهان العقليّ فيكون لدينا ثلاثة مصادر مستقلّة غير منحصرة لمعارف الدين، وبواسطة التدقيق والنظر في كلّ هذه المصادر الثلاثة والجمع بينها يمكن التوصّل إلىٰ معرفة الحكم الإلٰهيّ القطعيّ وشريعة الله سبحانه. إذن مفاد حديث الثقلين الشريف ليس هو انّ التمسّك بأحد الثقلين (القرآن أو العترة) من دون التمسّك بالآخر يكون سبباً للهداية.

تسنيم، جلد 1

193

فالإستقلال في الحجيّة لا يعني انّ الدليل بمفرده ومع غضّ النظر عن باقي الأدلّة يكون كافياً للوصول إلىٰ معرفة حكم الله وانّه لايتوقّف علىٰ أمر آخر في ايّ مرحلة بحيث يستطيع المولىٰ والعبد أن يحتجّ أحدهما علىٰ الآخر به. وما يقال في البحوث الاُصوليّة والفقهيّة من انّ مصادر الأحكام هي الكتاب والسنّة والعقل فهو لا يعني انّ كلّ واحد منها حجّةٌ مستقلّة بمفرده وغنيّ عن الأدلّة الاُخرىٰ، بل معناه انّ هذه المصادر الثلاثة المستقلّة من حيث انّها ليست منحصرة فلابدّ من النظر في هذه الأدلّة الثلاثة والجمع فيما بينها لأجل الوصول إلىٰ الحكم الإلٰهيّ، مثلاً إذا قامت ثلاثة أدلّة (أحدها قرآني والآخر روائي والثالث عقلي) علىٰ فرع من الفروع الفقهيّة كوجوب العدل وحرمة الظلم، فإنّ هذه الأدلّة الثلاثة، هي بمثابة دلالة ثلاث آيات من القرآن علىٰ الحكم المذكور.

انّ الإستناد إلىٰ آيات القرآن والإستدلال بها في العقيدة والعمل لايصحّ أبداً دون ملاحظة الروايات، لأنّ المقيّدات، والمخصّصات وشواهد الآيات القرآنيّة قد وردت في الروايات وبعد الفحص في الروايات وعدم العثور علىٰ أيّ مقيّد أو مخصّص أو شارح للآية المعيّنة، عندها يمكن القول بأنّ هذا هو مفاد الآيات ومقصودها في مجال العقيدة أو العمل.

ومسلك الفقهاء أيضاً علىٰ هذا المنوال. فهم لا يستدلّون بآيات القرآن قبل الفحص عن المقيّد والمخصّص في الروايات، لأنّ الإستدلال بالقرآن دون الفحص في الروايات هو من قبيل الإستدلال بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص وهو عمل غير جائز عندهم. فلا يمكن الإستناد إلىٰ العامّ في مضمار الإعتقاد والعمل قبل الفحص عن المخصّص. وفي

تسنيم، جلد 1

194

الإستدلال بالروايات أيضاً (في خصوص السُنّة غير القطعيّة) يجب ابتداءً عرضها علىٰ القرآن وتقييمها به، وعند إحراز عدم المخالفة للقرآن تكون ثاني الحجج الدينيّة قد تمَّت وتوفّرت. وعليه فإنّ الحجّة الثانية أي الحديث التامّ والمعتبر إذا دلّ علىٰ حكم فكأنّه قد دلّت آية اُخرىٰ من القرآن علىٰ الحكم الفقهيّ المذكور.

ودلالة العقل علىٰ الحكم الفقهيّ المنسجم مع محكمات القرآن يُحقّق أيضاً دليلاً ثالثاً، والإجماع أيضاً يرجع إلىٰ السُنّة وهو كالروايات يجب أن يُعرض علىٰ القرآن الكريم فيكون حجّة في حالة إحراز عدم مخالفته للقرآن.

وبهذا البيان اتّضح انّ الثقلين غير قابلين للإفتراق، وإنّ القرآن هو «الثقل الأكبر»، ودلالة الأدلّة المتعدّدة العقليّة والنقليّة علىٰ موضوع معيّن هي بمثابة دلالة آيات من القرآن علىٰ ذلك الموضوع، وانّ الأدلّة القرآنيّة، والروائيّة والعقليّة معاً هي بمنزلة دليل موحَّد وحجّة واحدة.

والنتيجة هي انّ القرآن والعترة ثقلان متّحدان وهما يقدّمان معاً الدين الكامل الصالح للإعتقاد والعمل، فليست الحقيقة انّ هناك ثقلاً واحداً وليست الحقيقة انّ هناك ثقلين مفترقين. وعلىٰ أساس حديث الثقلين الشريف فإنّ العترة بدون القرآن ستكون «كالعترة بدون العترة»، وكذلك القرآن بدون العترة سيكون بمثابة «القرآن بدون القرآن». إذاً فالقرآن والعترة هما بمثابة الحجّة الإلٰهيّة الواحدة لأجل تقديم الدين الجامع. وفي البحث التالي سيأتي توضيح مدىٰ استقلاليّة القرآن والسنّة وكذا نطاق إرتباط واتّحاد الثقلين.

تسنيم، جلد 1

195

دائرة اتّحاد الثقلين

بعد بيان الإرتباط الوثيق بين القرآن والعترة وتوضيح مرجعيّة القرآن الكريم يجب أن تُبيَّن مدىٰ استقلاليّة القرآن والحديث ودرجة اتّحادهما وترابطهما.

بناء علىٰ البحوث المذكورة في الفصول السابقة فإنّ القرآن الكريم مستقلّ في ثلاث جهات:

1. في أصل الحجيّة؛ لأنّ القرآن هو المعجزة الإلٰهيّة الّتي تعدّ حجيّتها ذاتيّة وهو من ناحية السند قطعيّ وغير محتاج إلىٰ الغير. بالطبع انّ المراد من الذاتي هنا هو الذاتي النسبيّ وإلاّ فإنّ الحجّة الذاتيّة هي المبدأ الأوّل.

2. في دلالة ظواهر الألفاظ؛ لأنّ تبعيّة القرآن للأحاديث المرويّة عن المعصومين(ع ) في هذا المجال (علىٰ النحو الّذي يزعمهُ الإخباريّون) مستلزم للدور المحال. وعليه فإنّ مايستفاد من ألفاظ القرآن سواء كان نصّاً أم ظهوراً فهو حجّة مستقلّة، وإن كان المستفاد من الظهور أمراً ظنيّاً غير قطعيّ.

3. في تقديم الخطوط الأصليّة والعامّة للدين؛ إذاً فالقرآن في جميع شؤونه مستقلّ وليس تابعاً لغيره، لكن حيث انّ الدين، في بيان حكمه الأخير، تابع للقرآن ولسُنّة المعصومين أيضاً لذلك ففي دائرة (بيان الدين الصالح للعقيدة والعمل) فإنّ القرآن والسنّة غير قابلين للإفتراق، بهذا النحو وهو أن يكون القرآن مسؤولاً عن بيان الخطوط الكليّة للدين والسُنّة مسؤولة عن بيان (حدود وجزئيّات وتفاصيل الأحكام).

تسنيم، جلد 1

196

وأمّا الروايات فتنقسم إلىٰ مجموعتين: أحداهما الروايات الظنيّة الصدور والاُخرىٰ هي الروايات القطعيّة الصدور، أمّا الروايات الّتي هي ظنيّة الصدور من المعصومين(ع ) اي «السنّة غير القطعيّة» فهي تابعة للقرآن في السند وفي الدلالة أيضاً، أمّا في السند فلأجل انّ القرآن الكريم لمن لم تثبت له نبوّة الرسول الأكرم بمعجزة اُخرىٰ غير القرآن هو المُستند المباشر لإعتبار كلام النبيّ الأكرم(ص) والمستند غير المباشر (أي مع الواسطة) لإعتبار كلام العترة الطاهرين(ع )، وأمّا في الدلالة فلأجل انّ حجيّة مضامين الأحاديث غير القطعيّة رهن عدم مخالفتها للقرآن الكريم وأمّا عرض الروايات غير القطعيّة علىٰ القرآن فهو من أجل تمييز الحجّة عن غير الحجّة والصدق من الكذب والحق من الباطل.

وأمّا الأحاديث القطعيّة الصدور فهي مرتبطة بالقرآن من جهة السند فقط، أي في اصل الحجيّة (لا السند في الإصطلاح الرجالي) بالنسبة لمن لم تثبت له نبوّة الرسول الأكرم عن طريق معجزة اُخرىٰ غير القرآن، وبعد إثبات أصل حُجيّتها بواسطة القرآن فهي في جميع الشؤون عِدل للقرآن الكريم، اي هي في طول القرآن الكريم حجّة مستقلّة غير منحصرة، فهي مِثل القرآن في انَّ مضمونها حجّة وفي نفس مستوىٰ القرآن هي ميزان لتقييم السُنّة غير القطعيّة. ولذلك فإنّ أحاديث العرض علىٰ الكتاب تعتبر السُنّة القطعيّة مثل القرآن ميزاناً لتقييم السُنّة غير القطعيّة.

والنتيجة هي، أوّلاً، انّ الثقلين لن يفترق أحدهما عن الآخر أبداً، بل هما متّحدان، وهما معاً يشكّلان حجّة إلهيّة واحدة، غاية الأمر انّ

تسنيم، جلد 1

197

أحدهما أصل والآخر فرع، وأحدهما نصّ والآخر شرح «القرآن والعترة لا هما مفترقان ولا أحدهما في عرض الآخر» فالدين إذن تابع للقرآن وللسنّة أيضاً، في بيان حكمه النهائيّ والأخير.

ثانياً: لايحتاج القرآن الكريم إلىٰ غيره (أي الأحاديث) لا في مجال السند ولا في مجال حجيّة الظواهر ولا في مجال تقديم الخطوط العامّة للدين، فهو مستقلّ إذن حدوثاً وبقاءً، وهو يُعدّ الثَقَل الأكبر بالنسبة إلىٰ الروايات الّتي تعتبر تابعة للقرآن حدوثاً وبقاءً، لأنّ المقصود من الإستقلال هو الإستقلال النسبيّ وليس النفسيّ. وبناءً علىٰ هذا فإنّ الإعتماد علىٰ الاُصول العقلائيّة في فهم معاني ألفاظ القرآن الكريم لا يتنافىٰ مع استقلال القرآن في الحجيّة والدلالة.

ثالثاً: انّ دائرة تبعيّة الروايات للقرآن تشمل جهة إعتبار السند (سواء كان في السنّة القطعيّة أو السنّة غير القطعيّة)، وأيضاً جهة إعتبار المتن (في خصوص السنّة غير القطعيّة). لكن بعد إحراز أصل إعتبار وحجيّة السُنّة بواسطة القرآن، فالسُنّة تعتبر أيضاً حجّة مستقلّة غير منحصرة مساوية للقرآن.

حجيّة الحديث في المعارف العقائديّة

انّ ما مرّ بيانه إلىٰ الآن، هو حجيّة كلام المعصومين(ع ) في تفسير آيات القرآن، والآن يجب أن يبحث في حجيّة كلام المعصومين في «المعارف العقائديّة» و«الأحكام العمليّة» (وليس خصوص تفسير النصوص المقدّسة كالقرآن).

انّ مسائل الدين يمكن تقسيمها ـ من إحدىٰ الجهات ـ إلىٰ قسمين:

تسنيم، جلد 1

198

«المعارف العقائديّة» و«الأحكام العمليّة». وفي الأحكام العمليّة ـ حيث مجال التعبّد والعمل ـ فإنّه بالإضافة إلىٰ القطع والإطمئنان يكون الظنّ الخاصّ نافعاً ومجدياً.

وعلىٰ هذا فإنّ كلام المعصومين(ع ) حتّىٰ إذا كان علىٰ نحو الخبر الواحد ولم يكن محفوفاً بالقرائن المورثة للقطع، فهو حجّة تعبّديّة في المسائل العمليّة والفرعيّة سواء كان في مجال الأحكام الإلزاميّة (الوجوب والحرمة) أو كان في الأحكام غير الإلزاميّة (الإستحباب والكراهة).

وقد تمّ بيان هذا الأمر جيّداً في علم اُصول الفقه، وأمّا الّذي يتمّ بحثه هنا فهو حجيّة كلام المعصومين(ع ) في مضمار المعارف العقائديّة حيث انّ الظن فيها لا إعتبار له وهو غير صالح للتعبّد، بل يجب الحصول علىٰ القطع واليقين فيها كي تطمئنّ النفس إليها وتتقبّلها.

والقرآن الكريم كما مرّ هو الأساس الأوّل في تبيين معارف الدين وكما وصفه حديث الثقلين الشريف فإنّه (الثقل الأكبر) وهو الميزان الإلٰهيّ لتقييم مضامين الأحاديث غير القطعيّة للمعصومين.

امّا كلام المعصومين في مجال المعارف العقائديّة فهو علىٰ قسمين:

1. الروايات الّتي تتّصف بالجزم واليقين في أركانها الثلاثة، أي انّها قطعيّة في «أصل الصدور» و«جهة الصدور» و«الدلالة علىٰ المضمون»، يعني انّ الرواية من ناحية السند خبر متواتر أو خبر واحد محفوف بالقرينة القطعيّة، ومن ناحية جهة الصدور أيضاً نعلم قطعاً انّ الكلام صادر لغرض بيان المعارف الواقعيّة ولم يصدر عن تقيّة، ومن جهة

تسنيم، جلد 1

199

الدلالة أيضاً فالرواية نصّ، لا ظاهر. ومثل هذه الروايات علىٰ الرغم من قلّتها، لكن لانّها مفيدة لليقين فهي مؤثّرة ومفيدة وحجّة في إثبات معارف الدين ويمكن الإستعانة بها في إثبات المسائل الاُصوليّة.[1] فإذا كان هناك شخص في مجلس الإمام المعصوم(ع) ولم تكن هناك تقيّة في ذلك الموقف وكان المعصوم بصدد بيان الواقع، ففي مثل هذا المورد يمكن جعل كلام المعصوم حدّاً وسطاً في البرهان والوصول منه إلىٰ اليقين، ومثل هذه الأدلّة النقليّة لاتختلف عن البراهين العقليّة الاّ في الإجمال والتفصيل.

2. الروايات والأدلّة النقليّة الفاقدة لليقين في أركانها الثلاثة وبالنتيجة هي غير مفيدة لليقين، بل تفيد الظنّ فقط إنّما هي ناظرة إلىٰ ثلاثة أقسام:

أ. معارف اُصول الدين، كأصل التوحيد والنبوّة والمعاد وأصل وجود الجنّة والنار. وفي مثل هذه المعارف الّتي هي من اُصول الدين والإعتقاد بها ضروريّ ويشترط فيه اليقين والجزم لايمكن الظفر باليقين عن طريق الأدلّة النقليّة الظنيّة، ولذلك فإنّ مثل هذه الأدلّة النقليّة ليست حجّة في هذا القسم.

ب. المعارف الّتي ليست من اُصول الدين حتّىٰ يكون الإعتقاد


[1] . بإستثناء أصل إثبات المبدأ الّذي لا يثبت إلاّ عن طرق الدليل العقليّ، ولا يثبت بالدليل النقلي وحده، بل هو غير قابل للإثبات حتّىٰ بالمعجزة أيضاً، لأنّ المعجزة من أجل تثبيت (الدعوىٰ) لا لإثبات صحّة (الدعوة) إلىٰ أصل المبدأ. فمضمون الدعوة في المقدار الّذي يتعلّق بإثبات أصل المبدأ لايثبت إلاّ عن الطريق العقليّ وحده، وماعدا ذلك حتّىٰ المسائل المتعلّقة بالتوحيد يمكن الإعتماد فيها علىٰ كلام المعصوم7.

تسنيم، جلد 1

200

التفصيليّ بها ضروريّاً بل انّ الإيمان الإجماليّ بها كاف ومؤثّر، كما في حقيقة العرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة. وفي هذا القسم يمكن أن يكتفي الإنسان بالعلم الإجماليّ واليقين المجمل لا التفصيلي. وعليه فيمكن الإكتفاء في هذه الموارد بالإيمان الإجماليّ وقبول مفاد الروايات الظنّية علىٰ مستوىٰ الإحتمال.

ج. المعارف الّتي لا هي من اُصول الدين ولا هي من القسم الثاني، بل هي مبيّنة للقضايا العلميّة والآيات الإلٰهيّة في الخلق، كالروايات الّتي تحدّثت عن انّ السماوات والأرض كانتا في بداية الخلق «رتقاً» ومغلقة، وبعد ذلك حدث (الفتق) وفُتحت.[1] والأخبار والروايات المبيّنة لهذا القسم من المعارف لا توجد فيها ثمرة عمليّة ولا يعتبر فيها الجزم العلميّ، وفي هذا القسم أيضاً فإنّ الروايات غير القطعيّة صالحة للقبول علىٰ مستوىٰ الإحتمال، ولكنّها ليست حجّة تعبّدية، وذلك لأنّ أدلّة حجيّة الخبر الواحد تتعلّق بالمسائل العمليّة والتعبديّة، وأمّا في المسائل العلميّة فإنّه لايمكن تعبّد أحد بالعلم مالم تحصل مبادئه التصديقيّة.

تنويه: 1. انّ النصوص الدينيّة الأعمّ من القرآن والحديث تتكلّم حول السماوات والأرض والكواكب الاُخرىٰ وما يستنبط من مضامينها بنحو ظنّي يمكن إسناده إلىٰ الدين بمستوىٰ الظنّ لا أكثر، وعند حدوث تغيير في النظريّة العلميّة، فإنّه يمكن أيضاً إعادة النظر في الإستنباط من النصوص الدينيّة. وتغيّر المسائل الطبيعيّة المستفادة من الأدلّة النقليّة شبيه بتغيّر المسائل الشرعيّة المستنبطة منها وليس بينهما اختلاف من هذه


[1] . سورة الأنبياء، الآية 30.

تسنيم، جلد 1

201

الجهة، ولا يلزم الوهن أيضاً من ذلك لكن لو اسندنا في المسائل العلميّة مضامين الروايات غير القطعيّة كأخبار الآحاد إلىٰ الدين بنحو قطعيّ وجعلنا بعض الفرضيّات والنظريّات العلميّة الموجودة في حساب الدين وطبّقناه عليها، فحينئذٍ عند تغيير النظريّة والفرضيّة باُخرىٰ يلزم الوهن في الدين عند أصحاب النظر، كما قامت بذلك فئة عندما فرضت نتائج الهيئة البطلميوسيّة علىٰ القرآن فأوقعوا أنفسهم في وضع غير مقبول.[1]

2. إذا سُمِع الموضوع من نفس المعصوم(ع) ولم يكن هناك فيه أيّ احتمال للخلاف كالتقيّة، فإنّ هذا السماع يدخل في دائرة السُنّة القطعيّة وهو معادل للبرهان العقليّ ومفيد للقطع في المسائل العلميّة والعمليّة، وإذا وصلنا موضوع عن طريق راوي الحديث، وأفادت الشواهد والقرائن الداخليّة والخارجيّة حصول القطع به: فهو أيضاً مفيد في جميع المسائل العلميّة والعمليّة.

المراحل الخمس في فهم معارف الدين

انّ القرآن الكريم وكما مرّ، هو المصدر الأوّل للمعرفة الدينيّة، وطبقاً لبيان المعصومين(ع ) فإنّه (الثقل الأكبر) ومستند حجيّة الروايات، وأمّا كلام


[1] . انّ ما جاء من القدماء حول معرفة الفلك والفضاء له طابع رياضي، لا طبيعي، يعني انّ هناك مدارات كانوا يصوّرونها لحركة المنظومة الشمسيّة لكي يفسّروا النظم الحاكم في الحركات والمتحرّكات. وشيئاً فشيئاً وجدت بين القدماء نزعة طبيعيّة فتوّهموا للكواكب السماويّة أفلاكاً وأجساماً طبيعيّة وبعدها دخلوا في بحث لوازمها من قبيل الخرق والإلتيام وصارت موضوعاً للنقاش والمناظرة. ثمّ جاء دور المتأخّرين الّذين قوي عندهم نظر القدماء ومالوا إلىٰ القول باتّصاف المنظومة الشمسيّة بالجانب الرياضي لا الطبيعي.

تسنيم، جلد 1

202

العترة الطاهرة الّذي هو (الثقل الأصغر) فهو في أصل الحجيّة وفي تأييد مضمونه معتمد علىٰ القرآن الكريم ويجب أن يعرض عليه ويقيّم به.

وعرض الرواية علىٰ القرآن، كما سبق، هو لأجل انّ مضمونها لم يكن في معارضة ومخالفة القرآن، ولا يوجد بينهما اختلاف تبايني، وإلاّ فإنّ تقييد المطلق، وتخصيص العامّ، وتبيين الكلّي، وتبيين الحدود وتفصيل الإجمال لايُعَدُّ من قبيل المخالفة.

والرواية الّتي ليس لها اختلاف تبايني مع القرآن فإنّها تقع في دائرة القرآن وهي حجّة وصالحة للإستناد إليها. من جهة اُخرىٰ حيث انّ الرسول الأكرم(ص) مسؤول عن تبيين الجزئيّات وتفصيل كليات الشريعة وهو المعلّم الّذي عيّنه الله لتعليم القرآن الكريم: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم﴾[1] وهو أيضاً طبقاً لحديث الثقلين المتواتر عهد بهذه المسؤوليّة إلىٰ خلفائه: «... انّي تارك فيكم الثقلين... وهو كتاب الله... وعترتي أهل بيتي لن يفترقا»[2] إذن فتبيين حدود وجزئيّات المعارف والأحكام الكليّة القرآنيّة علىٰ عاتق المعصومين(ع )، وكلامهم يخصّص عمومات القرآن ويقيِّد مطلقاته. وعليه فإنّ الإستناد إلىٰ القرآن لأجل الإيمان «بالاُصول العقائديّة» والعمل «بالفروع العمليّة» دون الرجوع إلىٰ الروايات لا قيمة له، وفي الحقيقة فإنّ كلام الإسلام هو كلام (مجموع الثقلين)، لا كلام أحدهما بمفرده. وطبقاً للبحوث السابقة فقد تبيّن انّه لأجل القيام بتفسير كلّ آية من الآيات القرآنيّة يجب طيّ المراحل التاليّة:


[1] . سورة النحل، الآية 44.

[2] . البحار، ج23، ص108.

تسنيم، جلد 1

203

1. يجب فهم الآية المقصودة بغضّ النظر عن باقي آيات القرآن، ولكن في هذه المرحلة لايصحّ أن يقال انّ رأي القرآن هو هذا، بل يمكن القول انّ هذا هو مفاد هذه الآية بمفردها مع غضّ النظر عن الآيات الاُخرىٰ.

2. حيث انّ القرآن الكريم مفسِّر ومصدِّقٌ لبعضه البعض: «وانّ القرآن لم ينزل ليكذِّب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدِّق بعضه بعضاً»[1]، «ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه علىٰ بعض»[2]، فيجب إذن تفسير الآية المقصودة بواسطة الإستفادة من باقي الآيات القرآنيّة. وفي هذه المرحلة فإنّ المعنىٰ الناتج ـ الّذي هو ثمرة تفسير القرآن بالقرآن ـ يمكن إسنادهُ إلىٰ القرآن، ولكن لايصحّ إسناده إلىٰ الإسلام، بمعنىٰ أن يفهم انّ هذا هو كلام الإسلام ومفاد الدين، ولذلك فإنّ قبوله والعمل به سيكون مصداقاً لقول: «حسبنا كتاب الله»، ومثل هذا القول والعمل مخالف للسُنّة القطعيّة للرسول الأكرم(ص) الّتي جعلها القرآن أيضاً مصدراً لمباني واُسس وأدلّة الدين.

3. يجب أن تبحث جميع الروايات الواردة حول الآية في سياق شأن النزول أو التطبيق أو التفسير وكذلك الروايات الّتي لها لون من الإرتباط مع معنىٰ الآية، ويتمّ الجمع فيما بينها حتّىٰ تظهر في دائرة كلام الثَقل الأصغر المقيّدات والمخصِّصات وسائر القرائن، ويتبلور مفاد (الثقل الأصغر) بنحو واضح.


[1] . الدرّ المنثور، ج2، ص8.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 133، المقطع 8.

تسنيم، جلد 1

204

4. بعد جمع الروايات المذكورة تعرض نتيجتها وثمرتها علىٰ القرآن الكريم، وعند عدم ملاحظة مخالفة تباينيّة مع القرآن، توضع في دائرة القرآن الكريم بعنوان انّها مقيّد أو مخصّص أو قرينة أو شارح ومفصِّل.

5. وعند تحقّق الإنسجام بين مفاد الثقل الأصغر وكلام الثَقل الأكبر، يتمّ الجمع النهائيّ والأخير، فإنّ هذه المجموعة المنسجمة تعتبر مفاد ورسالة الإسلام.

والسرّ في انّ المراحل الخمس المذكورة ابتدأت بالبحث القرآنيّ ومن ثمّ ذُكر البحث الروائيّ هو انّ القرآن الكريم هو الأساس والقاعدة الاُولىٰ للإنطلاق نحو تبيين معارف الدين، وهو المستند لحجيّة الروايات، وبإمتلاك هذه القاعدة الّتي يكون سندها وكذلك دلالتها على الاُصول والخطوط الكليّة للدين كلاهما قطعيّين يمكن اعتبار الروايات حجّة ويمكن الاستفادة منها، وإلاّ فقبل تلقّي مفاد الثَقل الأكبر فإنّ تبيين مفهوم الآية بواسطة الرواية مستلزم للدور.

والروايات، كما سبق في الفصول الماضية سواء كانت من ناحية السند أو من ناحية المتن، تابعة للقرآن الكريم، والمفسِّر إذا لم يتقن البحث القرآنيّ ويستخرج الخطوط الأصليّة لمعارف الآية وما لم يفرغ من البحث القرآنيّ، فإنّه لايصحّ له أن يذهب نحو الروايات، لأنّ إعتبار الروايات يكون بعد عرضها علىٰ القرآن وكشف عدم مخالفتها للقرآن. ثمّ من الطبيعيّ بعد تخطّي المراحل المذكورة أن يصل الدور إلىٰ التقييد والتخصيص والشرح والتفسير وتطبيق الآية علىٰ مصاديقها بمساعدة الروايات.

تنويه: 1. انّ العقل البرهاني المصون من آفة المغالطة وعيوب التخيّل

تسنيم، جلد 1

205

هو بمنزلة الرسول الباطنيّ لله سبحانه، وهو مثل النصّ النقلي يُعَدُّ من المصادر المستقلّة للمعرفة الدينيّة ومن مصادر الفتوىٰ الشرعيّة، وهو يتمتّع بالإعتبار الأصيل والحجيّة الذاتيّة.

انّ مثل هذا العقل يشيّد ويؤسّس ـ بواسطة قواعده وعلومه المتعارفة وبراهينه الخالصة النقيّة ـ البنيان المرصوص للعقائد الأصيلة، مثل أصل تحقّق مبدأ الوجود ووحدته وسائر صفاته العليا وأسمائه الحسنىٰ، وضرورة الوحي والرسالة، وضرورة المعاد وسائر المسائل الكلاميّة المتقنة، وهو في هذا التشييد والتأسيس أيضاً ثابت وصلب ومحكم. وعلىٰ هذا الأساس فإنّ العقل البرهانيّ له حضور مؤثّر في جميع مراحل الإستنباط من القرآن والسُنّة، بعنوان كونه حجّة الهيّة، أعمّ من أن يكون ذلك في مرحلة الإستنباط من خصوص آية واحدة أو من مجموع القرآن، وكذلك الإستنباط من حديث واحد أو من مجموع السُنّة، وكذلك الإستنباط من مجموع القرآن والسنّة لأجل تقديم الرسالة والمفاد النهائيّ للدين.

ولتوضيح ذلك نقول: انّ المعارف المستفادة من النصوص النقليّة (الأعمّ من القرآن والحديث) هي ثلاثة أنواع، وانّ للعقل في كلّ قسم منها حكمه الخاصّ كما يلي:

أ. هناك معارف ليس للعقل قدرة علىٰ معرفتها وليس لديه فيها حكم لا بالنفي ولا بالإثبات، بل هو ساكت في مقابلها. في مثل هذه المعارف يكون فقط مستمعاً واعياً لمفاد النصّ النقليّ، وهو يعترف بأنّ تكليفه في مقابل هذا النوع من المعارف هو الإستماع والإنصات وقبول رسالة ومفاد الدين.

تسنيم، جلد 1

206

ب. وهناك بعض المعارف الّتي للعقل قدرة علىٰ معرفتها وهو يحكم فيها (بالتصويب والتأييد). وفي هذه الحالة يكون البرهان العقليّ إلىٰ جانب النصّ النقلي متحدّثاً ومتكلّماً بإسم دين الله.

ج. وتوجد بعض المعارف الّتي للعقل قدرة علىٰ معرفتها لكن يحكم فيها (بالتخطئة والتكذيب)، وهذا يعني انّ البرهان العقليّ يحكم بخلاف ظواهر الكتاب والسنّة. وفي هذه الحالة يكون مفاد العقل المبرهن مقدّماً علىٰ ظواهر النصّ النقليّ، وذلك لانّ العقل هو بمنزلة الدليل اللُبّي المتّصل أو المنفصل للكلام الإلٰهيّ، ومن الواضح انّ استنباط حكم الدين من النصوص النقليّة من دون الرجوع إلى قرائنها المتّصلة والمنفصلة أمر غير صحيح.

ومن الجدير بالذكر، انّ العقل الّذي هو مصدر للدين، وحجيّته ثابتة في علم اُصول الفقه ـ هو كالنصّ النقلي ـ يجب أن يكون أصيلاً وغير محرَّف. ولذلك فإنّ المقدّمات والمبادئ المتوهّمة والمتخيّلة لا تنفع شيئاً، وإن زُعم أنّها عقل خالص. ولذلك يجب تحرّي غاية الدقّة عند تقديم العقل علىٰ النقل وعند حمل المنقول علىٰ خلاف الظاهر، ويعدّ الإحتياط والحذر ـ المقترن بالتدبّر والتأمّل وخوف الحرمان من رسالة الوحي الإلٰهيّ وتحمّل تبعاته ومضاعفاته المُرّة ـ أمراً لازماً وضروريّاً.

ملاحظة: حيث لايمكن التعارض بين العقل القطعيّ والنقل اليقينيّ، فإذا ما حدث مثل هذا الأمر فهو ابتدائيّ ومؤقّت بالتأكيد، وسرعان ما يزول باعمال النظر الدقيق، كما يجري ذلك في الدليلين العقليّين القطعيّين أو الدليلين النقليّين القطعيّين فإنّهما لايتعارضان فيما بينهما أبداً.

تسنيم، جلد 1

207

2. كما هو الحال في عدم جواز اسناد الموضوع القرآنيّ إلىٰ الإسلام إلاّ بعد سلوك المراحل الخمس المذكورة، كذلك في إسناد الموضوع الروائيّ إلىٰ الإسلام أيضاً فإنّه يجب قطع مراحل متعدّدة، ولا يجوز أبداً أن ننسب إلىٰ الإسلام مضمون كلّ حديث صحيح بمجرّد عثورنا عليه، نعم يمكننا أن نتكلّم في حدود دائرة ذلك الحديث.

3. انّ السرّ في فصل البحوث الروائيّة عن البحوث التفسيريّة في هذا التفسير وفي تفسير الميزان القيّم هو انّ البحث في الروايات المرتبطة بكلّ آية وإن كان ضروريّاً وبدونه لايمكن العلم بمفاد القرآن في المجالات العلميّة ولا العمل في المجالات العمليّة، لأنّ تقييد المطلقات وتخصيص العمومات وتفصيل كليّات الآيات القرآنيّة هو مسؤوليّة المعصومين(ع )، ولكنّ البحث في الرواية يجب أن يكون بعد تحليل آيات القرآن، لا في عرضه بحيث يفهم أصل معنىٰ الآية بواسطة الرواية، لأنّ الرواية «موزونة» والقرآن هو (الميزان) لتشخيص وزنها، وفي التفاسير الّتي لم تسلك منهج المراحل المذكورة ولم تجعل ترتيباً بين البحوث القرآنيّة والروائيّة، يُلاحظ أنّها قد خلطت بين الميزان والموزون واعتبرت حجيّة الروايات في عرض حجيّة القرآن، في حين انّ حجيّة الروايات التفسيريّة في طول القرآن، لا في عرضه.

4. انّ المعرفة المنظّمة والمرتّبة للعناصر الأساسيّة للدين تعتبر مكانة ومنزلة القرآن مُقدّمة علىٰ مفاد الرسالة، ومنزلة الرسالة مقدّمة علىٰ مفاد الروايات، كما مرّ دليل ذلك في بحث «مميّزات السنّة القطعيّة»، ولا يُسمح أبداً في النظام المحكم للمعرفة بتقديم المتأخّر وتأخير المتقدّم،

تسنيم، جلد 1

208

ولن يكون هناك أحد يصغي لنغمة «قدِّم المفضول علىٰ الفاضل» وهي نغمة مزعجة منكرة، والرجوع إلىٰ الحديث في غير محلّه سيؤدّي إلىٰ هجر كلام الله ويؤدّي إلىٰ جفاء الوحي والحجر عليه، لأنّه في الرتبة الّتي يجب أن يذكر فيها كلام الله الّذي لا حديث أصدق منه: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثا﴾[1] إذا ذُكِر فيها كلام عبدالله، فهذا يؤدّي إلىٰ تقديم الثَقل الأصغر علىٰ الثَقل الأكبر وتأخير الثقل الأكبر عن الثقل الأصغر وهذا الإخلال في الترتيب هو الّذي سيؤدّي إلىٰ الهجر والحجر المذمومين.

وقد جاء في بعض التفاسير:

«اعتمدت ـ قبل كلّ شيء ـ في تفسير الآية وبيان المراد منها، علىٰ حديث ثبت في سنّة الرسول(ص)، لأنّها ترجمان القرآن والسبيل إلىٰ معرفة معانيه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[2] فإذا لم يكن حديث من السنّة اعتمدت ظاهر الآية، وسياقها، لأنّ المتكلّم الحكيم يعتمد في بيان مراده علىٰ ما يفهمه المخاطب من دلالة الظاهر... وإذا وردت آية ثانية في معنىٰ الاُولىٰ، وكانت أبين وأوضح ذكرتهما معاً، لغاية التوضيح، لأنّ مصدر القرآن واحد، ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه علىٰ بعض».[3]

وهذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ الإعتماد علىٰ سياق الآية والإعتماد علىٰ الشواهد الداخليّة لآيات القرآن علىٰ أساس نطق بعضها ببعض وشهادة بعضها علىٰ بعض وتوافقها وتناغمها مع بعضها مقدّم علىٰ


[1] . سورة النساء، الآية 87.

[2] . سورة الحشر، الآية 7.

[3] . تفسير الكاشف، ج1، ص15.

تسنيم، جلد 1

209

الحديث المأثور، فعلىٰ الرغم من انّ الآية (7) من سورة الحشر أمرت بإتّباع سنّة الرسول الأكرم(ص) لكن السنّة نفسها علىٰ قسمين: أحدهما أساسيّ وأصليّ والآخر فرعيّ. فأمّا ذلك القسم الأصليّ والمؤثّر فمضمونه معرفة السُنّة وتقييم الصحيح منها والسقيم عن طريق العرض علىٰ القرآن، وأمّا ذلك القسم الفرعيّ فيتضمّن مواضيع جزئيّة ومحدودة حول أحكام لاُمور خاصّة. ومن الواضح انّ القسم الأصليّ من السُنّة مقدّم علىٰ الفرعيّ منها، والحكم المسلّم به في مجال القسم الأوّل هو ضرورة إحراز صحّة الحديث قبل البحث في تفاصيل مضمونه، وأهمّ طريق لمعرفة الحديث هو عرض مفاد الحديث علىٰ القرآن الكريم. فيجب أوّلاً الرجوع إلىٰ نفس القرآن الّذي هو ترجمان وتبيان لنفسه ومفسّر صادق لحقيقة وحي الله، وبعد ذلك يتمّ الرجوع إلىٰ الحديث، وذلك كما مرّ الكلام في هذه المقالة حول التنظيم والترتيب الضروريّ لهذين المعيارين الثقيلين وأصبح من المعلوم تماماً انّه أوّلاً: انّ السنّة القطعيّة لاتحتاج أبداً إلىٰ العرض علىٰ القرآن، وثانياً: انّ الموافقة مع القرآن ليست شرطاً في إعتبار الحديث، بل انّ المخالفة مع القرآن مانع عن إعتبار حجيّة الحديث. وثالثاً: انّ تبيين حدود الأحكام وتحليل اسرار الخليقة وتفصيل جزئيّات المعاد وأمثال ذلك قد اُوكِل بيانها إلىٰ السُنّة.

وبناء علىٰ هذا يظهر الخلل والنقص في الكلام الّذي ذكرهُ القرطبيّ نقلاً عن البعض، فهو قد نقل في كتابه عن البعض مايلي (وإن كان غير موافق لجميع ما نقل): 1. انّ الحديث القائل: «إذا جاءكم الحديث فاعرضوه علىٰ كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإن لم يوافقه فردوه» لا أصل له.

تسنيم، جلد 1

210

2. انّ القرآن أحوج إلىٰ السُنّة من السُنّة إلىٰ القرآن.

3. السُنّة قاضية علىٰ الكتاب وليس الكتاب بقاضٍٍ علىٰ السُنّة. قال الفضل بن زياد سمعت أبا عبدالله يعني أحمد بن حنبل وسُئل عن هذا الحديث الّذي روي انّ السُنّة قاضية علىٰ الكتاب فقال: «ما أجسر علىٰ هذا أن أقوله ولكنّي أقول انّ السُنّة تفسّر الكتاب وتبيّنه».[1]

حيث انّ أحاديث لزوم عرض الحديث علىٰ القرآن لم تتّضح جيّداً لبعض أهل السنّة ولم تحض بالإهتمام كما حَظيت به في الجوامع الروائيّة عند الإماميّة، لذلك لم يتّضح له الأمر فقال انّ نصوص العرض باطلة ولا أساس لها.

والنتيجة المستخلصة من البحوث السابقة هي انّه لاينبغي الغفلة عن انّ القرآن والسنّة القطعيّة عدلان متساويان من جهة وانّ القرآن متقدّم علىٰ السُنّة غير القطعيّة من جهة اُخرىٰ وانّ السُنّة محكومة للقرآن وليس العكس من جهة ثالثة.

الروايات التطبيقيّة والتفسيريّة

انّ القرآن الكريم كتاب عالميّ وخالد بحيث انّ نطاق وآفاق رسالته لاتحدّها الحدود الجغرافيّة ولا تؤطّرها الحدود الإقليميّة ولا تؤثّر علىٰ نطاق سعته واحاطته فواصل امتداد الزمان، ومثل هذا الكتاب جارٍ في ماضيه كما هو في حاضره، وينطبق علىٰ السابق واللاحق كما ينطبق علىٰ الحال... والأحكام والصفات الّتي يذكرها القرآن لنفسه أوسع من حدود الزمان والمكان.


[1] . الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص44.

تسنيم، جلد 1

211

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الصفة بـ(الجري)، حيث يقول الإمام الباقر(ع): «ولو انّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكنّ القرآن يجري أوّله علىٰ آخره مادامت السماوات والارض...».[1]

ويقول هذا الإمام(ع) أيضاً انّ جميع آيات القرآن لها ظاهر وباطن... والبعض من (مصاديقها) قد حدثت والبعض منها لم تأت بعد. وانّ القرآن يجري كالشمس والقمر: عن الفضيل بن يسار قال سألت أبا جعفر(ع) عن هذه الرواية: «مافي القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن» فقال: «ظهره تنزيله وبطنه تأويله منه مامضىٰ ومنه مالم يكن. يجري كما يجري الشمس والقمر كما جاء تأويل كلّ شيء منه. يكون علىٰ الأموات كما يكون علىٰ الأحياء»[2]، في هذا الحديث الشريف اعتبر انطباق آيات القرآن الكريم علىٰ الموارد الّتي تحصل بواسطة التحليل من قبيل الجري.

والكثير من الروايات الّتي ذُكرت في التفاسير الروائيّة مثل «نور الثقلين» و«البرهان» ووصفت بأنّها «روايات تفسيريّة» ليست هي بصدد تفسير الآية، لانّ التفسير هو بمعنىٰ بيان معاني الألفاظ والجمل القرآنيّة، وأكثر تلك الأحاديث ليست من هذا القبيل، بل هي بصدد تطبيق الآية علىٰ بعض المصاديق، وفي مواضع كثيرة هي لغرض التطبيق علىٰ أبرز مصاديقها كما حدث بالنسبة للآية الكريمة: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّين﴾ حيث طبّقت علىٰ اليهود والنصارىٰ، والعلامة علىٰ انّ مثل هذه


[1] . تفسير العيّاشي، ج1، ص10.

[2] . بصائر الدرجات، ص216.

تسنيم، جلد 1

212

الروايات تطبيقيّة هو أوّلاً: انّ مفاهيم ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم﴾ و﴿الضَّآلِّين﴾ عامّة ولها مصاديق كثيرة، وذكر مصداق واحد لا يعني أبداً عدم انطباق المفهوم الجامع علىٰ سائر المصاديق، الاّ أن يكون هناك دليل علىٰ الانحصار كما سيأتي في التنبيه القادم. ثانياً، هذه العناوين بنفسها قد طبّقت في روايات اُخرىٰ علىٰ طوائف غير اليهود والنصارىٰ، مثل تطبيق ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم﴾ علىٰ النواصب و﴿الضَّآلِّين﴾ علىٰ المشكّكين الجاهلين بالأئمّة(ع ). ثالثاً، في بعض الروايات طُبِّق عنوان الضالين علىٰ كلتا الطائفتين اليهود والنصارىٰ.[1]

والشاهد الآخر علىٰ كون أكثر الروايات التفسيريّة تطبيقيّة هو القول الفصل الّذي خاطب به الإمام الباقر(ع) خيثمة حين قال: «يا خيثمة! القرآن نزل أثلاثاً: ثلث فينا وفي أحبّائنا وثلث في أعدائنا وعدوّ من كان قبلنا و...».[2]

وبناء علىٰ هذا فإنّ هذه الروايات علىٰ فرض صحّتها وكون سندها وجهة صدورها تامّين فإنّها لاتحدّد أبداً سعة وشمول وعموم معنىٰ الآية، وذكر مصداق لها أو المصداق الكامل لاينفي المصاديق الاُخرىٰ ولايقيّد يد المفسِّر في تطبيق الآية علىٰ باقي المصاديق، بل انّ الآية لها معنىٰ عام وهي لا تزال باقية علىٰ عمومها.

وفائدة ودور الروايات التطبيقيّة هو انّ بيان بعض مصاديق الآية يرشد المفسِّر الىٰ فهم المعنىٰ العامّ.


[1] . نور الثقلين، ج1، ص24 ـ 25.

[2] . تفسير العياشي، ج1، ص10.

تسنيم، جلد 1

213

تنويه: في بعض الموارد يكون المصداق للآية منحصراً ومحدوداً ولا يسري فيها قانون الجري والتطبيق كما في آية الولاية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون﴾[1]، وآية المباهلة: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهل...﴾[2]، وآية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا﴾.[3]

الفصل الخامس: تفسير القرآن بالعقل

كما مرّ في بحث أقسام التفسير، فإنّ أحد مصادر علم التفسير واُصول البحث والتحقيق للحصول علىٰ المعارف القرآنيّة هو العقل البرهانيّ النقيّ من الوهم والتخيّل. والمقصود من العقل البرهانيّ هو الّذي يثبت باُصوله وعلومه المتعارفة أصل وجود مبدأ العالم وصفاته وأسمائه الحسنىٰ.

والتحقيق حول تفسير القرآن بالعقل يحتاج الىٰ بحث شروط البرهان وموانعه بالاضافة الىٰ ضرورة الإلمام بالعلوم القرآنيّة حتّىٰ يمكن الاستفادة من البرهان العقليّ مع تجنّب الوقوع في المغالطة، لانّ العقل هو الرسول الباطنيّ لله سبحانه، وكما انّ مدعي الرسالة الظاهريّة يكون


[1] . سورة المائدة، الآية 55.

[2] . سورة آل عمران، الآية 61.

[3] . سورة الاحزاب، الآية 33.

تسنيم، جلد 1

214

صادقاً تارة اي «نبيّاً» واقعيّاً وتارة اُخرىٰ يكون كاذباً أي «متنبياً»، فالعقل الّذي هو الرسول الباطنيّ كذلك، تارة يكون ذا رسالة صادقة عندما يفكّر ويستنتج طبقاً للشروط الخاصّة للبرهان وتارة يكون كاذباً عندما يُبتلىٰ بالمغالطة فيكون كالمتنبّي الّذي لا حظ له من الرسالة الإلٰهيّة. أجل انّ الرسول الواقعيّ في عالم الظاهر معصوم دائماً ولايمكن أن يصيّر نبيُّ الله متنبّياً أبداً، ولكنّ الرسول الباطنيّ ليس كذلك لأنّه يمكن أحياناً أن يقع في الخطأ كالمدّعي للنبوّة (المتنبّي).

والتفسير العقليّ، كما مرّ، امّا أن يحصل بإلتفات العقل الىٰ الشواهد الداخليّة والخارجيّة، بأن يدرك العقل الفطن والوقّاد معنىٰ الآية من الجمع بين الآيات والروايات، وفي هذا القسم يكون للعقل دور «المصباح» لا أكثر، ومثل هذا التفسير العقلي الإجتهاديّ يُعدّ جزءً من التفسير بالمأثور وليس تفسيراً عقليّاً لانّه يتحقّق من المصادر النقليّة، وامّا أن يحصل بإستنباط بعض المبادئ التصوّرية والتصديقيّة النابعة من المصدر الذاتيّ للعقل البرهانيّ والعلوم المتعارفة، وفي هذا القسم يكون للعقل دور «المصدر» وليس دور المصباح فقط. وعليه فإنّ التفسير العقليّ يختصّ بالمورد الّذي يقوم فيه العقل باستنباط بعض المبادئ التصديقيّة والمباني المستورة والمطويّة لبرهان الموضوع ثمّ يحمل عليها الآية الّتي هي مورد البحث.

وهنا نصل الىٰ قاعدة مهمّة في علم التفسير، وهي انّ المفسّر علىٰ الرغم من انّه يعمل علىٰ أساس مالديه من القطع، ويفسّر الآية وفقاً لعلمه اليقينيّ، لكنّ البحث في علوم القرآن وعلم التفسير يحتّم عليه

تسنيم، جلد 1

215

الانتباه الىٰ انّه بأيّ لون من ألوان القطع يمكن تفسير النصّ المقدّس، لانّ بعض ألوان القطع، كما سيتّضح فيما بعد، غير قادر علىٰ تفسير ظاهر الآية، وبعض ألوانه له القدرة علىٰ ذلك. طبعاً من الممكن أن يقوم المفسّر بتغيير المسير الظاهريّ للآية طبقاً ليقينه وقطعه الخاصّ ويكون قطعه خطأ وغير مطابق للواقع، لكنّ المفسِّر المذكور يُعدّ معذوراً إذا لم يكن مقصّراً في المبادئ والمقدّمات.

والقطع بالمبدأ التصديقيّ إذا كان من سنخ اليقين بمواضيع العرفان النظريّ والفلسفة والكلام والمنطق والرياضيّات، بحيث يكون ثبوت المحمول للموضوع علىٰ نحو الضرورة، ويكون سلب المحمول عن الموضوع محالاً، فإنّ مثل هذا القطع يفيد الضرورة، لأنّه علىٰ أساس امتناع اجتماع النقيضين يكون سلب المحمول عن الموضوع محالاً. ومن هنا فإنّه سيتمّ حتماً تفسير الآية القرآنيّة أو الحديث المأثور بما ينسجم مع مثل هذا القطع المفيد للضرورة.

لكن إذا كان اليقين والقطع بالمبدأ التصديقيّ من سنخ القطع بالمواضيع التجربيّة فإنّه يجب الإلتفات إلىٰ مايلي: أوّلاً انّ القطع في الموضوع التجربيّ والمختبريّ صعب، لأنّ الإستقراء التام صعب، وتحصيل القياس الخفيّ الّذي يحقّق التجربة ويميّزها عن الاستقراء هو أمر مستصعب. وعليه فليس من السهولة تحصيل اليقين المنطقيّ في مجال الاُمور التجربيّة. وثانياً: علىٰ فرض حصول قطع تجربي بثبوت المحمول للموضوع، فإنّ مثل هذا اليقين في أغلب الأحيان يكون من جانب واحد، أي انّه يتحقّق القطع بثبوت المحمول للموضوع، ولكن

تسنيم، جلد 1

216

لايمكن أبداً أن نجد طريقاً «لحصر المحمول في الموضوع» و«انحصار اتّصاف الموضوع بالمحمول»، لأنّ نتيجة التجارب المتكرّرة هي أنّنا الىٰ الآن كلّما جرّبنا واختبرنا فقد وجدنا انّ هذا الموضوع له هذا المحمول، وذاك المحمول قد ثبت لذاك الموضوع (أي القطع بالدوام)، لكن لايحصل لنا يقين بضرورة ثبوت المحمول للموضوع، بحيث لو حصل عن طريق الاعجاز خرق هذه العادة والدوام والظاهرة المستمرّة العاديّة وحصلت ظاهرة اُخرىٰ للزم الامتناع العقليّ، فتكون الآية محلّ البحث والّتي تدّعي الاعجاز وخرق العادة قد ادّعت امراً محالاً، اي انّ القطع التجريبيّ لايفيد أكثر من «الدوام» و«العادة» ولا يثبت «الضرورة». ولذلك فإنّه لامنافاة بينه وبين اعجاز الاُمور الخارقة للعادة.

اذاً فإنّ اليقين الحاصل من التجربة لايمكن أن يحكم علىٰ الآية محلّ البحث بأنّها خلاف العلم لتحمل علىٰ خلاف الظاهر، لانّ الإعجاز دائماً يكون علىٰ خلاف العادة، ولكنّه لايكون أبداً مخالفاً للضرورة العقليّة، مثلاً انّ ما جرّبهُ الانسان حول النار يفيد انّه متىٰ ما لامست بدن الإنسان فهو يحترق، ولكن هل انّ هذا الإحراق والإحتراق أمر ضروريّ أم عادي؟ وهل انّ مجرّد تماسّ النار مع بدن الانسان هو علّة تامّة للإحراق والإحتراق حتّىٰ لايمكن الفصل بينهما، ام انّ مثل هذا الأمر ليس أكثر من عادة مستمرّة وظاهرة دائميّة، وذلك لايرقىٰ إلىٰ إثبات «الضرورة العقليّة» و«امتناع الإنفكاك»؟ وعليه فإنَّ قصّة إبراهيم الخليل(ع) والمحافظة عليه بعد إلقائه في النار محال عادي وليس محالاً عقليّاً، ولذلك يثبت بالمعجزة، ولا حاجة ولا مُسوّغ لحمل الآية الكريمة: ﴿يَانَارُ كُونِي بَرْداً

تسنيم، جلد 1

217

وَسَلاَماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيم﴾[1] علىٰ خلاف ظاهرها. أو مثلاً في قصّة توقّف ماء النهر وظهور الطريق اليبس في وسط النيل الجاري وسائر مواضع الإعجاز فهي كلّها من سنخ المحال العاديّ لا المحال العقليّ.

والأصل الكلي في جميع هذه الموارد هو انّه لم يقم فيها برهان منطقيّ علىٰ «ضرورة ثبوت المحمول للموضوع» أو «انحصاره فيه». ولذلك فإنّ من الممكن أن ينفصل المحمول عن موضوعه العاديّ والمألوف ويمكن أيضاً أن يثبت ذلك المحمول لموضوع أجنبيّ غير الموضوع المعتاد، لأنّه لادليل علىٰ الضرورة في المورد الأوّل، ولا برهان علىٰ الإنحصار في المورد الثاني. اذن عند حمل الآية علىٰ خلاف الظاهر أو النصّ لابدّ أن نرىٰ هل انّ القطع الموجود في المسألة منطقيّ أم نفسي، وإذا كان منطقيّاً فهل هو يفيد «الضرورة» أم «الدوام»، وإذا كان مفيداً للضرورة فهل هو علىٰ نحو «الانحصار» أم لا، لأنّه إذا كانت ثمرة الدليل في المسألة هي دوام المحمول للموضوع لا ضرورته، فإنّ انفكاك المحمول عن الموضوع بصورة الإعجاز ممكن، وإذا كانت الضرورة ليست علىٰ نحو الإنحصار فإنّ تحقّق ذلك المحمول لموضوع آخر غير مألوف علىٰ نحو خرق العادة أمر ميسّر وممكن. إذن في تفسير الآية أو الحديث لايمكن الحمل علىٰ خلاف الظاهر أو النصّ بمجرّد حصول القطع بموضوع ما.

وإذا لم تكن الآية محلّ البحث بصدد التحدّي والإعجاز بل كانت لغرض بيان موضوع عاديّ فإنّه يمكن تفسيرها وفقاً للاُصول والقواعد


[1] . سورة الأنبياء، الآية 69.

تسنيم، جلد 1

218

الموضوعة، لانّ الغرض هو كونها في مقام بيان السير الطبيعيّ للأشياء وليست في مقام خرق العادة والتحدّي، فهنا ينظر فيها إلىٰ المبدأ الفاعليّ والغائيّ للشيء وهو الله سبحانه، وانّ تحقّق ذلك الشيء يمكن أن يتمّ بعدّة وجوه، وانّ ايّ واحد من تلك الوجوه لايتّصف بالضرورة العقليّة ولا بالامتناع، وإذا ظهر فيما بعد خلاف ذلك فإنّ هذا التخلّف يعود الىٰ فهم المفسّر لا إلىٰ الوحي الإلهيّ، كما في استنباط الأحكام الفرعيّة من المباني الأصليّة، حيث تارة يكون الاستنباط مطابقاً للواقع، وتارة اُخرىٰ يكون مخالفاً له دون كشف الخلاف، وفي بعض الحالات يكون مخالفاً للواقع مع كشف الخلاف وفي صورة كشف الخلاف فإنّ خطأه يعود الىٰ فهم الفقيه لا إلىٰ الشريعة الغرّاء. نعم يجب في اسناد أيّ موضوع الىٰ صاحب الشريعة أن يؤخذ بنظر الإعتبار مقدار فهم المستنبط وقوّة الدليل الّذي يعتمده ونوع اليقين والقطع الّذي في نفسه، اي انّ الإسناد تارة يكون قطعيّاً وأحياناً يكون ظنيّاً، والإسناد اليقينيّ يختصّ بحال القطع والإسناد الظنّي للذي لايملك الاّ الظنّ.

العواقب الوخيمة لإبعاد العترة(ع )

بعد تبيين خصائص وشروط تفسير القرآن الكريم وبيان الدور الأساسيّ للقرآن نفسه وكذلك العقل وسنّة المعصومين(ع ) في تفسير القرآن، يتّضح بشكل أكبر مدىٰ الأضرار والخسائر الناتجة من إبعاد المعصومين(ع ).

فالعترة الطاهرة هم الأفراد الكُمّل وخلفاء الله التامّون ومن لهم الإحاطة الكاملة بالأضلاع الثلاثة لمثلّث الدين وهي القرآن والسُنّة والعقل البرهانيّ.

تسنيم، جلد 1

219

ولو كانت المرجعيّة والقيادة العلميّة والعمليّة للاُمّة الإسلاميّة بيد اُولئك الأنوار ولم يُغصب منهم مثل هذا المقام، لكانوا يقدّمون الىٰ المجتمع البشريّ كل تلك المصادر الثلاثة الغنيّة والقويّة وفق منهج كامل وتام، وذلك لانّ اُولئك الذوات القدسيّة من جهة هم في تفسير القرآن بالقرآن كرسول الله(ص) يرون انّ آيات القرآن المجيد يُصدّق بعضها بعضاً، وناطقة وشاهدة علىٰ بعضها، ولذلك كانوا يستدلّون استدلالاً تامّاً بالأقوال المفسِّرة والشهادة المبيّنة والتأييد والتعيين المصدّق للآيات بعضها في مقابل البعض الآخر، ومن جهة اُخرىٰ فإنَّ سُنّتهم الّتي هي لديهم أعلىٰ درجة وأشدّ وضوحاً من الآخرين: «أهل البيت أدرىٰ بما فيه» تكون محلاً للإستشهاد والإستعانة بها في التفسير، ومن جهة ثالثة فإنَّ اولئك الأنوار هم ورثة الأنبياء(ع ) حقّاً وصدقاً، ولهم في إثارة دفائن العقول حظّ وافر، ولذلك فهم أساس إثارة وتفتّح العقل البرهاني، كما أشار أمير المؤمنين(ع) بشكل اجماليّ إلىٰ هذا المعنىٰ بقوله: «فبادروا العلم من قبل تصويح نبته ومن قبل أن تُشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله»[1] أي بادروا للتعلّم قبل أن تذبل نبتة العلم وقبل أن تبتلوا بما يبعدكم عن معادن العلم ومحال إثارة الفكر وتفتّحه. وخلاصة القول هي انّ الخسارة الّتي أصابت عالم البشريّة ولاسيّما الاُمّة الإسلاميّة بسبب ابعاد الأفراد الكمّل المعصومين هي غير قابلة للحصر، لأنّ اُولئك الأنوار كانوا جامعين لمصادر الدّين الثلاثة، وأمّا الآخرون فلم يكونوا جامعين في مجال معرفة المصادر، ولو فرض انّهم استطاعوا أن يجمعوا العلم بها


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 105، المقطع 12.

تسنيم، جلد 1

220

فإنّ جمعهم غير سالم بل هو حتماً جمع تكسير أو محتمل الكسر.

الفصل السادس: التفسير بالرأي

انّ التفسير الّذي يعني توضيح وإبانة الشيء الّذي ليس ضروريّاً ولا واضحاً، والتفسير الّذي يعني اماطة اللثام ورفع الستار عن وجه الجملة أو اللفظ الّذي لايكون معناه واضحاً وبيّناً ـ انّ التفسير بهذا المعنىٰ هو موضوع نظريّ ـ كالآراء النظريّة الاُخرىٰ ـ لابدّ أن يَرجع إلىٰ البديهيّ ويصبح مبيّناً في ظلّ المعنىٰ البيّن الواضح، ولا فرق من هذه الناحية بين المفرد والقضيّة، لانّ المبادئ التصوريّة كالمبادئ التصديقيّة تارة ضروريّة وأحياناً نظريّة والتفسير جار في كلا القسمين (أي المفرد والقضيّة).

والتفسير نحو من التصديق، لأنّه الحكم بأنّ هذا هو معنىٰ الآية وهو مقصود الله منها، فهذا هو نوع من القضيّة والمسألة. ولذلك فإنّ علم التفسير كالعلوم الاُخرىٰ له مبادئ ومسائل، وكما سبق فإنّه ينبغي أن يؤخذ في تعريفه قيد: «بقدر الطاقة البشريّة».

والتفسير لكلّ كلام ـ أعمّ من أن يكون كلاماً دينيّاً أو غير دينيّ؛ والدينيّ أعمّ من أن يكون قرآنيّاً أو روائيّاً ـ يجب أن يكون منهجيّاً كي يمكن إسناده إلىٰ من صدر منه ذلك الكلام. فلايمكن أن تفسِّر كلام أيّ متكلّم برأيك ثمّ تنسبه إلىٰ ذلك المتكلّم، ومن هذه الناحية أيضاً لافرق بين الكلام الدينيّ وغيره، وإن كان التفسير بالرأي للنصوص الدينيّة يقترن بخطر العقوبة الإلٰهيّة.

والتفسير بالرأي إمّا أن يكون بسبب «الجهل» في مقابل العلم

تسنيم، جلد 1

221

والوعي أو بسبب «الجهالة» في مقابل العقل والورع، حيث انّ أحدهما يرجع الىٰ النقص في العقل النظريّ والآخر يرجع الىٰ النقص في العقل العمليّ. فكلُّ آية تُفسَّر خلافاً للقواعد العلميّة: ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة﴾ وخلافاً للفضائل النفسانيّة: ﴿يُزَكِّيهِم﴾ فتفسيرها تفسير بالرأي، ومن هذه الناحية لافرق بين آيات الدعوة العامّة وآيات الأحكام والمعارف الخاصّة، يعني انّ الأمر الصريح والنص والضروريّ ليس بحاجة الىٰ التفسير سواء كان من سنخ الدعوة والهداية العامّة أو كان ناظراً الىٰ بيان الأحكام الفقهيّة وأمثالها، وأمّا الأمر غير الضروريّ وإنّما هو نظريّ وغير صريح والّذي يدعوا الىٰ الإستفهام والتأمّل فهو يحتاج الىٰ التفسير، وهنا لايصحّ التفسير بالرأي.

ومن التفسير بالرأي التفسير غير المطابق لموازين ومعايير المحاورة والمفاهمة العربيّة وأيضاً غير الموافق لاُصول ولقواعد العلوم العقليّة المتعارفة وكذلك التفسير غير المنطبق مع الخطوط الكليّة للقرآن نفسه و... وامّا التفسير المنهجيّ والعلميّ المصون من الآفات والعيوب المذكورة فهو تفسير جائز وصحيح. والشاهد علىٰ اختصاص التفسير بالرأي بما ذُكر هو انّ النصوص الناهية عن التفسير بالرأي محفوفة بقرائن متعدّدة؛ لأنّه قد جاء في بعض هذه النصوص: «من فسّر القرآن برأيه فقد افترىٰ علىٰ الله الكذب ومن أفتىٰ بغير علم لعنته ملائكة السماء والارض. كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها الىٰ النار».[1] ففي هذا


[1] . تفسير البرهان، ج1، ص18.

تسنيم، جلد 1

222

الحديث جُعل التفسير بالرأي الىٰ جانب الإفتاء بغير علم، وكلاهما قد اعتبر بدعة. ومن الواضح انّ المقصود من الإفتاء بغير علم هو الإفتاء بالرأي، والاّ فإنّ المجتهد الجامع لشروط الإفتاء وإن كان يبيّن رأيه لكنّ ذلك الرأي العلميّ ليس أبداً مصداقاً للفتوىٰ بغير علم. أمّا في التفسير بالرأي فإنّ الأمر يكون بهذا الشكل.

وقال أميرالمؤمنين(ع): «قال الله جلّ جلاله: ما آمن بي من فسَّر برأيه كلامي وما عرفني من شبّهني بخلقي وما علىٰ ديني من استعمل القياس في ديني».[1] ففي هذا الحديث جعل التفسير بالرأي الىٰ جانب تشبيه الخالق بالمخلوق وفي حكم القياس بالدين وكلا الأمرين بعيد عن العلوم المتعارفة والاُصول العلميّة البيّنة، وبالنتيجة فهما من الجهل وليسا من العلم.

وقال الإمام الصادق(ع) في جواب سؤال حول القضاء والحكومة: «من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ومن فسَّر برأيه آيةً من كتاب الله فقد كفر».[2] في هذا الحديث ذُكر التفسير بالرأي الىٰ جانب الحكم المستند الىٰ الجهل والهوىٰ، أي انّ قضاء الحاكم إذا لم يستند الىٰ العلم الناشئ من الأدلّة والشواهد أو الشهادة واليمين فإنّه مستند الىٰ رأي الحاكم وهواه فحسب. وتفسير القرآن بالرأي هو أيضاً بهذا المعنىٰ، فإذا لم يكن التفسير طبقاً لقانون التفاهم والمحاورة من جهة ومطابقاً للشواهد العقليّة والقرآنيّة من جهة اُخرىٰ وللشواهد الروائيّة في موضع الحاجة وعدم لزوم الدور من جهة ثالثة، فإنّه تفسير مذموم.


[1] . تفسير البرهان، ج1، ص18.

[2] . نفس المصدر، ص19.

تسنيم، جلد 1

223

ومن الطبيعي أن تكون الشواهد العقليّة والأدلّة العلميّة وما يستنتجه البشر عن طريق العقل لا الوهم والخيال والقياس والظنّ، من جملة مصادر تفسير القرآن وليست جميعها. وعليه فإنّ من اللازم البحث في جميع المعارف القرآنيّة من جهة والتأمّل في جميع الأحاديث وشواهد السيرة وأسباب النزول التابعة من جهة اُخرىٰ. وبهذا تتّضح معاني بعض الأحاديث الناهية عن التفسير بالرأي.

مثلاً، ماجاء عن الإمام الصادق(ع) من قوله: «ليس شيء أبعد من عقول الرجال منه [القرآن] إنّ الآية لتنزل أوّلها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء وهو كلام متّصل ينصرف علىٰ وجوه».[1] ناظر إلىٰ النهي عن الإستبداد في الرأي في فهم القرآن أو البحث عن كنه وباطن الآيات، أي لايحقّ لأيّ مفسِّر أن يفسّر آية من القرآن اعتماداً علىٰ الشواهد العلميّة والبراهين العقليّة وحدها، ويغفل عن الشواهد النقليّة الأعمّ من القرآنيّة والروائيّة والتاريخيّة، أو أن يقول بالجمع بين الأدلّة العقليّة والنقليّة ويدّعي التوصّل الىٰ معرفة كُنه الآيات ويقول: انّ رأيي موافق لبواطن وأعماق المقصود القرآنيّ. إذاً فمثل هذه الروايات ليست هي بصدد النهي عن أصل التفسير العلميّ ولا تهدف الىٰ منع حجيّة ظواهر القرآن.وكما اُشير سابقاً وهو يظهر أيضاً من التشبيه بالقضاء فإنّ حكم التفسير بالرأي كحكم القضاء بالرأي بين المتخاصمين، إذ انّ هذا الرأي حتّىٰ لو صادف الواقع أيضاً فهو علىٰ الرغم من انّه حكم ذو حُسن فعليّ لكنّ القاضي الجاهل بسبب فقدانه الحسن الفاعليّ ولأجل تجرّيه الوقيح وتجاسره القبيح يستحقّ الجزاء


[1] . تفسير البرهان، ج1، ص19.

تسنيم، جلد 1

224

الإلهيّ والعقوبة بالنار. وكذلك حكم التفسير بالرأي. فقد جاء في خصوص باب القضاء: «رجل قضىٰ بحقّ وهو لايعلم فهو في النار»[1] فإذا ما ارتقىٰ رجل سُدّةَ القضاء ظُلماً وزوراً وراح يقضي ويحكم عن جهل فهو من أهل جهنّم، وإن كان حكمه مطابقاً للواقع. نعم يمكن أن تكون عقوبة مثل هذا الحاكم أقلّ من عقوبة الحاكم الّذي يتولّىٰ منصب القضاء بغير علم ويحكم خلاف الواقع أيضاً. وفي مسألة التفسير بالرأي يوجد مثل هذا الفرق أيضاً، ولكنّ أصل الحرمة الفقهيّة وجهنّم الكلاميّة باقية في محلّها. والسبب في منع القضاء بدون علم والتفسير بالرأي هو المبادرة مع الجهل، سواء كان هناك علم بالخلاف أم لا. طبعاً إذا كان لدىٰ مثل هذا المفسِّر علم بالخلاف فإنّ وزره سيغدو أكبر وعقوبته مضاعفة.

وما نُقل عن بعض القدماء من انّهم كانوا يبتعدون عن تفسير القرآن ويتجنّبون الاقدام عليه فهو شبيه بإحتراز جماعة من المحتاطين عن الفتوىٰ وأيضاً عن التصدّي للقضاء وفضّ الخصومات وابتعادهم عن ذلك. ولذلك إذا كان معنىٰ الآية واضح المعالم فإنّهم لايتركون التفسير عن دراية، وماجاء عن قدماء المفسّرين أي الصحابة والتابعين لهم فليس جميعه من سنخ التفسير الروائيّ، بل كان من نوع التفسير عن دراية وكانوا يفسّرون تبعاً لاختلاف القابليّات ودرجات الفهم والإستنباط. ومن جهة اُخرىٰ لو كان تفسير القرآن منحصراً بحالات وجود الرواية المفسّرة للزم بقاء الكثير من آيات القرآن بغير تفسير، لانّ الروايات المأثورة في باب التفسير قليلة جدّاً.


[1] . البحار، ج75، ص247.

تسنيم، جلد 1

225

أقسام التفسير بالرأي

انّ الحالات الممنوعة في مضمار التفسير بالرأي هي علىٰ نحو الإجمال كالتالي:

1. التفسير مع الجهل بأصل مضمون ومحتوىٰ الآية، اي انّ المفسّر يستظهر ويفهم موضوعاً من الآية ويفرضه عليها، مع انّ هذا الموضوع غير مطابق للبرهان، وفي هذه الجهة لافرق في البرهان بين أن يكون فلسفيّاً أو كلاميّاً أو تجربيّاً أو نقليّاً، لانّ برهان كلّ موضوع هو تابع لسنخ ذلك الموضوع ومضمونه، فإذا كان مضمونه من المعارف التجريديّة فإنّ إثبات ذلك المضمون يحتاج الىٰ برهان فلسفيّ أو كلاميّ، وإذا كان مضمونه من المسائل التجربيّة، فإنّ إثباته يحتاج الىٰ شاهد من المختبر والتجربة، وإذا كان من قصص وسير الأنبياء والأولياء(ع ) فإنّ إثباته يحتاج الىٰ سند نقليّ معتبر.

فإذا كان هناك موضوع تابع لأحد الإختصاصات العقليّة أو النقليّة، وتمّ استظهاره من الآية بلا دليل، وفُرضَ عليها، ثمّ حملت الآية علىٰ المعنىٰ المفروض، فمثل هذا التفسير الجاهل تفسير بالرأي وغير جائز. والقرآن الكريم له في هذا المجال كلمة جامعة لاتختصّ بالتفسير بل تتعلّق بالنهي عن كلّ قول بغير علم وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُوْلٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا﴾.[1]

2. التفسير مع الجهل بالارادة الجديّة للمتكلّم واسناد المضمون إليه، أي أن يُستظهر من الآية معنىٰ معيّن بحيث يكون من جهة تبعيّته لبرهانه


[1] . سورة الاسراء، الآية 36.

تسنيم، جلد 1

226

المناسب له الأعمّ من العقليّ والنقليّ والتجربيّ صحيحاً وتامّاً، لكنّه يحتاج الىٰ دليل معتبر لإثبات الإرادة الجديّة للمتكلّم وانّه أراد من الآية هذا المضمون بنفسه، والدليل الّذي يضمن صحّة اسناد المضمون المذكور الىٰ المتكلّم إمّا عقليّ أو نقليّ، فإذا لم يتمّ تقديم دليل عقليّ تامّ علىٰ استحالة أو بطلان المعنىٰ الآخر وعدم تناسب المضمون الآخر مع مفاد الآية، ولم يتمّ تقديم دليل نقليّ معتبر علىٰ ارادة المعنىٰ المذكور بالخصوص من الآية محلّ البحث، فإنّ اسناد الإرادة الجديّة والحتميّة لخصوص المعنىٰ المعهود الىٰ المتكلّم هو من سنخ التفسير بالرأي المذموم والمنهيّ عنه. وتكليف المفسِّر في مثل هذه الحالة هو الإسناد الإحتماليّ للمعنىٰ المذكور الىٰ المتكلّم، اي ان يعتبر المضمون المذكور أحد المعاني المحتملة لمراد المتكلّم ويقول: يمكن أن يكون المتكلّم قد قصد هذا المضمون، لا أن يقول: انّ المتكلّم أراد هذا المعنىٰ بعينه حتماً ولم يرد سواه.

3. التفسير مع الجهل بالإرادة الجديّة للمتكلّم وإسناد الإرادة الإحتماليّة إليه، بأن يستظهر من الآية معنىٰ معيّناً مطابقاً للبرهان المناسب لفنّه وتخصّصه، لٰكنّه قام الدليل العقليّ أو النقليّ المعتبر علىٰ انّ المتكلّم لم يرد هذا المعنىٰ حتماً في خصوص هذه الآية الّتي هي مورد البحث، بل أراد مضموناً آخر، ففي مثل هذه الحالة ليس الإسناد القطعيّ وحده ممنوعاً ويعدّ من التفسير بالرأي المنهيّ عنه، بل حتّىٰ الإسناد الإحتماليّ للموضوع المذكور للمتكلّم سيكون له نفس الحكم أيضاً، لأنّه مع قيام شاهد عقليّ أو نقليّ معتبر علىٰ عدم إرادة الموضوع المذكور من قبل

تسنيم، جلد 1

227

المتكلّم وانّه أراد أمراً آخر، لايمكن عدّ المضمون المذكور من المعاني المحتملة للآية.

وعلىٰ كلّ تقدير فإنّ جميع هذه الحالات ممنوعة من وجهة نظر القرآن الكريم، والدليل القرآني قائم علىٰ منع هذه الاُمور المذكورة: أوّلاً الآية الكريمة: ﴿... أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَيَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾[1]، لأنّه طبقاً لهذه الآية فإنّ اسناد الأمر بغير علم الىٰ الله غير صحيح، والإسناد بغير علم يكون علىٰ قسمين: أحدهما انّ أصل الموضوع غير مطابق للعلم، والآخر هو أن يكون الموضوع علميّاً وصحيحاً، لكنّ اسناد الموضوع العلميّ إلىٰ الله يكون بغير شاهد علىٰ ذلك ولهذا فهو غير صحيح، لأنّه علىٰ الرغم من انّ الله سبحانه لايقول إلاّ بعلم، لكنّ المسألة في الآية محلّ البحث هي هل انّ الله أراد هذا الموضوع العلميّ أم أراد موضوعاً علميّاً آخر، وهذا بحاجة الىٰ دليل مستقلّ. فإذا قام دليل علىٰ حصر الموضوع الصحيح فحينئذٍ يجوز اسناد ذلك الموضوع المحصور بعينه الىٰ الله سبحانه، والاّ فإنّه يسند الىٰ الله تعالىٰ علىٰ نحو الإحتمال.

والدليل القرآنيّ الآخر علىٰ منع اسناد الشيء الىٰ الله مع عدم العلم بالإستناد هو قوله تعالىٰ: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾[2]، وذلك لأنّ ما لايعلم كون الله تعالىٰ قد قاله فإنّه لايجوز نسبته إليه، ولو كان ذلك الأمر في نفسه صحيحاً، لكنّ اثبات تعلّق الإرادة الجديّة لله سبحانه بذلك


[1] . سورة الأعراف، الآية 169.

[2] . سورة الأعراف، الآية 28؛ سورة يونس، الآية 68.

تسنيم، جلد 1

228

الأمر المعيّن من الآية محلّ البحث هو بحاجة الىٰ دليل ولا يمكن اسناد أي شيء الىٰ الله سبحانه بغير دليل.

طبعاً إذا كان ذلك الموضوع باطلاً، كالشرك وعبادة الأصنام، فإنّ اسناده الىٰ الله سبحانه افتراء عظيم «وظلم أفحش»، وإذا كان أصل الموضوع صحيحاً وفي خصوص الآية محلّ البحث اُسند الىٰ الله بغير دليل فهو «ظلم فاحش». والحالة الوحيدة الّتي يصحّ فيها إسناد الشيء الىٰ الله هي أن يكون الشيء في نفسه صحيحاً وأن يُحرز استناد صدوره الىٰ الله أيضاً.

4. أمّا التفسير مع اسناد الموضوع علىٰ نحو الغفلة الىٰ الإرادة الجديّة للمتكلّم فيما إذا كان أصل الموضوع المستظهر من الآية محلّ البحث صحيحاً والمتكلّم أيضاً قد أراد هذا الموضوع الصحيح، لكنّه لم يكن لدىٰ المفسِّر دليل وطريق لإثبات إرادة المتكلّم أو انّه لم يسلك ذلك الطريق، ففي مثل هذه الحالة يكون الحسن الفعليّ متحقّقاً ولكنّ الحسن الفاعليّ غير متوفّر، لانّ المفسّر قد اسند المعنىٰ المذكور الىٰ المتكلّم دون أن يحقّق في صحّة استناده إليه، وهذا الفعل الثاني غير صحيح، وإن كان الفعل الأوّل وهو أصل استنباط المعنىٰ المذكور من الآية محلّ البحث صحيحاً. ومن هنا يمكن القول انّ المفسِّر قام بعملين أحدهما واجد للحُسن والآخر محروم منه، لانّ العمل الثاني وإن صادف الواقع لكن المفسِّر لم يستخدم برهاناً في هذا العمل وقد تحرّك بغير بصيرة. وهو وإن كان قد بلغ المقصد من دون الإصطدام بالعقبات لكنّه يستحقّ التوبيخ علىٰ التجرّي، والمذمّة علىٰ تجاسره وجرأته علىٰ المتكلّم.

5. التفسير مع وجود الغفلة عن أصل المضمون. فيما إذا كان المعنىٰ

تسنيم، جلد 1

229

المعهود في نفسه صحيحاً والمتكلّم أيضاً قد أراد ذلك المعنىٰ الصحيح، لكنّ المفسّر لم يُجرِ أيَّ تحقيق لا في صحّة صدور واستناد المعنىٰ المعيّن إلىٰ المتكلّم ولا في صحّة أصل المطلب، وقد فسَّرَ الآية بمجرّد تخمينه وأسند المعنىٰ التخمينيّ الىٰ المتكلّم.

فمثل هذا التجرّي والوقاحة يمكن أن يصدق عليه عنوان التفسير بالرأي، وهو علامة علىٰ انّ المفسّر لا يبالي وفاقد لما ينبغي له من عقال الإحتياط وحزام الحزم، لانّ مثل هذا المفسّر مستحسن لرأيه ومكتف به ولا يبحث عن الأدلّة في استنباط الموضوع من الآية وكذلك في اسناد مضمونها الىٰ المتكلّم وليس له مرجع ومستند سوىٰ ظنّه وزعمه ولا يعتمد علىٰ أساس علميّ لا علىٰ الشواهد العقليّة ولا النقليّة، فهو معجب برأيه ويتكلّم بغير علم سواء طابق كلامه الواقع أم لا، وهو في هذا التهوّر والإستخفاف لايفرّق بين أصل استنباط الموضوع من الآية وبين إسناد ما استنبطه الىٰ المتكلّم، فهو يفسِّر برأيه لا بالدليل ويسند طبقاً لرأيه لا حسب الشواهد، وإطلاق دليل «من فسَّر القرآن برأيه...»[1] أو إطلاق دليل «من قال في القرآن بغير علم... من تكلّم في القرآن برأيه»[2] شامل للحالات المذكورة من بعض الجهات.

التفسير بالرأي من وجهة نظر المفسِّرين

يقول ابوجعفر محمّد بن جرير الطبري (م 310هـ .ق) بعد نقل اخبار النهي عن التفسير بالرأي وبغير علم:


[1] . البحار، ج89، ص110.

[2] . نفس المصدر، ص111.

تسنيم، جلد 1

230

وهذه الاخبار شاهدة لنا علىٰ صحّة ماقلنا؛ من أنّ ماكان من تأويل (تفسير) آي القرآن الّذي لايدرك علمه الاّ بنصّ بيان رسول الله(ص) أو بنصبه الدلالة عليه، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه، بل القائل في ذلك برأيه، وإن أصاب الحقّ فيه، فمخطئ فيما كان من فعله، بقيله فيه برأيه، لأنّ اصابته ليست اصابة موقنٍ انّه مُحِقّ، وإنّما هي إصابة خارص وظانّ. والقائل في دين الله بالظنّ قائل علىٰ الله مالم يعلم. وقد حرَّم الله جلّ ثناؤه ذلك في كتابه علىٰ عباده فقال: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾[1] وبعد ذكر الآية ينقل حديث الرسول الأكرم(ص): «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ»[2] أي انّ من يفسّر القرآن طبقاً لرأيه فهو مخطئ في فعله وإن كان قوله صائباً. وبناء علىٰ هذا فإنّ التفسير العلمي الّذي يكون فيه تحليل المبادئ التصوريّة والتصديقيّة لمضمون الآية مستنداً إلىٰ القواعد والقوانين العلميّة فهو ليس تفسيراً بالرأي وليس مشمولاً بأدلّة النهي عن التفسير بالرأي. وينبغي الالتفات الىٰ انّ الطبريّ في مسألة التفسير بالرأي المهمّة لم يَذكر شيئاً سوىٰ نقل عدد من الروايات مع توضيح موجز، فما ذكره لايستحقّ أن يكون موضعاً للنقد والبحث، وإن كان قد تعرّض في أثناء كتابه الىٰ موقف المفسّر الّذي يعتمد في تفسيره علىٰ مجرّد اللغة ولا يستند الىٰ آثار الصحابة واعتبر الطبري هذا الموقف من قبيل التفسير بالرأي وعدّه غير مقبول، ولكنّ الطبريّ لم يطرح مسائل عميقة في معنىٰ التفسير بالرأي.


[1] . سورة الأعراف، الآية 33.

[2] . تفسير الطبري، ج1، ص27.

تسنيم، جلد 1

231

أمّا شيخ الطائفة ابوجعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ره) (385 ـ 460هـ .ق) فهو أوّلاً: ذَكَر الروايات المتناصِرة بالحثّ والترغيب في قراءة القرآن والتمسّك بما فيه، وعرض وردّ الأخبار المخالفة في الفروع الىٰ القرآن وحديث الثقلين المتواتر واستنتج منها انّ القرآن موجود في جميع العصور كوجود أهل البيت(ع ) في جميع الأزمان. ثمّ بيّن ضرورة الإشتغال بالتفسير وبيان معاني القرآن وترك ماعدا ذلك.

ثانياً: أشار الىٰ روايات الإماميّة الدالّة علىٰ عدم جواز تفسير القرآن الاّ بالأثر الصحيح عن المعصومين(ع ) وعدم جواز التكلّم حول القرآن بالرأي، ونقل رواية العامّة عن الرسول الأكرم(ص): «من فسَّر القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ» وبيّن كراهة واحتراز واجتناب عدد من التابعين وفقهاء المدينة مثل سعيد بن المسيّب وعبيدة السلمانيّ ونافع ومحمّد بن القاسم وسالم بن عبدالله عن التفسير بالرأي.

ثالثاً: هيّأ الأرضيّة للجمع بين الأدلّة المذكورة كما يلي:

أ. انّ كلام الله وكلام النبيّ(ص) مصون من التناقض والتضادّ.

ب. قال الله تعالىٰ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّا﴾[1]، ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين﴾[2] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِه﴾[3]، وانّ في القرآن تبيان كلّ شيء: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ‏ء﴾[4]، فكيف يصف الله كتابه بالعربيّ المبين وانّه نازل بلسان قوم الرسول الأكرم(ص) وانّه بيان للناس، ومع هذا كلّه


[1] . سورة الزخرف، الآية 3.

[2] . سورة الشعراء، الآية 195.

[3] . سورة ابراهيم، الآية 4.

[4] . سورة الأنعام، الآية 38.

تسنيم، جلد 1

232

لايفهم من ظاهره شيء؛ أليس هذا الاّ نعتاً للقرآن بالالغاز والرموز والقرآن منزّه عنها؟

ج. انّ الله مدح اقواماً علىٰ استخراج معاني القرآن فقال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم﴾[1]، وذمّ آخرين لم يتدبّروا القرآن فقال: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[2]، وقال الرسول الأكرم(ص): «انّي مخلف فيكم الثقلين...» فبيّن انّ الكتاب حجّة كما انّ العترةَ حجّة. وكيف يكون ما لا يفهم منه شيء حجّة؟ وجاء عن الرسول الأكرم(ص) والأئمّة مايدلّ علىٰ وجوب عرض الحديث علىٰ القرآن وقبول الموافق للقرآن وردّ المخالف له، والشيء غير المفهوم كيف يكون معياراً لعرض الأشياء عليه. فكلّ هذه الشواهد تدلّ علىٰ انّ الظاهر الإبتدائيّ لحصر فهم القرآن بالحديث متروك.

د. (في الجمع النهائيّ بين الأدلّة قال مايلي) انّ معاني آيات القرآن الكريم علىٰ أربعة أقسام:

1. ما اختصّ الله تعالىٰ بالعلم به، فلا يجوز لأحد تكلّف القول فيه ولا تعاطي معرفته، وذلك مثل قوله تعالىٰ: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُو﴾[3] ومثل قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة﴾.[4]

2. ما كان ظاهره مطابقاً لمعناه فكلّ من عرف اللغة الّتي خوطب بها


[1] . سورة النساء، الآية 83.

[2] . سورة محمّد(ص)، الآية 24.

[3] . سورة الأعراف، الآية 187.

[4] . سورة لقمان، الآية 34.

تسنيم، جلد 1

233

عرف معناها مثل: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقّ﴾[1]، و﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾.

3. ما هو مجمل بحث لاينبئ ظاهره عن المراد به مفصّلاً مثل قوله تعالىٰ: ﴿أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ وَآتُوا الْزَّكَاة﴾[2]، و﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾[3]، و﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه﴾[4] و﴿فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُوم﴾[5] لأنّ تفصيل عدد فرائض الصلاة وعدد ركعاتها، وتفصيل مناسك الحجّ وشروطه، ومقادير النصاب في الزكاة لايمكن استخراجه إلاّ ببيان النبيّ الأكرم(ص)، فتكلّف القول في ذلك خطأ ممنوع منه، ويمكن أن تكون الأخبار المذكورة (الناهية عن التفسير بالرأي) شاملةً له.

4. ماكان اللفظ فيه مشتركاً بين معنيين فما زاد عنهما، وإرادة كلّ واحد منهما بمفرده أمر صحيح. وفي هذا المجال لايمكن تقديم معنىٰ معيّن من دون كلام المعصوم (النبيّ أو الإمام)، ويمكن فقط القول علىٰ مستوىٰ الإحتمال: انّ أيّ واحد من تلك المعاني بمفرده يمكن أن يكون مقصوداً لله تعالىٰ والله سبحانه أعلم بمراده. نعم إذا كان اللفظ مشتركاً بين معنيين ودلّ الدليل المنفصل علىٰ امكان إرادة معنىٰ معيّن، وليس غيره، ففي هذا المورد يمكن القول انّ مراد الله تعالىٰ هو ذلك المعنىٰ المعيّن.[6]


[1] . سورة الأنعام، الآية 151.

[2] . سورة البقرة، الآيتان 43 و83.

[3] . سورة آل عمران، الآية 97.

[4] . سورة الأنعام، الآية 141.

[5] . سورة المعارج، الآية 24.

[6] . تفسير التبيان، ج1، ص3 ـ 6.

تسنيم، جلد 1

234

وعلىٰ الرغم من انّ الكلام العميق للمحقّق الطوسيّ (ره) قد تضمّن ملاحظات مفيدة، لكن هناك بعض الملاحظات النافعة نذكرها كما يلي:

1. انّ دلالة الآيات الّتي تعتبر العلم بموعد القيامة مختصّاً بالله سبحانه هي مثل دلالة بعض الآيات الاُخرىٰ تامّة ولا شبهة فيها ولا إبهام وانّ استنباط حصر مثل هذا العلم بالله من هذه الآيات هو من سنخ التفسير العلميّ لا التفسير بالرأي المنهيّ عنه، وتحديد موعد القيامة وتعيين وقت قيام المعاد موضوع لم تتحدّث حوله آية الاّ وحصرت علمه عند الله، وليس هناك مفسِّر تصدّىٰ للبحث في تعيينه، بل ان المفسِّر بصدد تحليل معنىٰ الآية، ويُستظهر من هذه الآيات جيّداً حصر العلم بالمعاد ذاتاً بالله سبحانه، ولذلك فإنّ هناك شيئاً من الخلط بين (تفسير الآية المذكورة) و(تعيين وقت القيامة) يلاحظ في أقوال المحقّق الطوسي (ره).

2. انَّ في لزوم عرض الحديث علىٰ القرآن اضافة الىٰ دلالته علىٰ حجيّة ظاهر القرآن وإمكان استظهار المعنىٰ منه فهو يفيد أمراً مهمّاً آخر أيضاً لم يرد في أقوال المحقّق الطوسي (ره) وهو تعيين وتشخيص مقام ومنزلة أصل إعتبار الحديث في رحاب القرآن الّذي تُثبته روايات العرض علىٰ القرآن، إذ قبل الحديث يجب أن يتبلور المضمون القرآني جيّداً بعنوان انّه الميزان لتقييم صحّة وسقم الحديث، كي يُعرض الحديث عليه، وإذا كان اعتبار مضمون القرآن منوطاً بالحديث أيضاً لزم محذور الدور الّذي سبق ذكره في الفصل الثالث بالتفصيل عند بيان منزلة الحديث بالنسبة إلىٰ القرآن.

3. وإن كان النقاش في المثال غير صحيح، لكن جعل الآية الكريمة:

تسنيم، جلد 1

235

﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾ مساويةً للآية الكريمة: ﴿لاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقّ﴾، واعتبار مجرّد الإطّلاع علىٰ اللغة العربيّة كافياً لتفسيرها، لاينسجم مع حديث الإمام السجّاد(ع) الّذي يقول فيه: «انّ الله عزّ وجلّ علم انّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالىٰ: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾ والآيات من سورة الحديد إلىٰ قوله: ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور﴾».[1]

اضافة إلىٰ انّ معنىٰ الأحديّة والصمديّة تضيق به أفهام وعقول العرب في الجاهليّة الّذين كانت قمّة أدبهم لاتتعدّىٰ المعلّقات السبع، ولا تستوعبه أفهام الملحدين والمشركين والمشبّهين العالقين بالطبيعة ووثاق المادّة.

وبالطبع فإنّ الإدراك الإبتدائيّ وتحليل المبادئ الأوّليّة للآيات المذكورة هو في متناول خبراء اللغة العربيّة.

4. انّ آيات الأحكام معيّنة بالمقدار الّذي تتعرّض له، وهي ليست مبهمة ولا مجملة ولا مغلقة بل هي قابلة للتفسير والفهم، وتُعد بعنوانها المطلق مرجعاً لرفض القيود المشكوكة، وحسب إرجاع القرآن الكريم نفسه وكذلك حديث الثقلين ونظائره فإنّ تحديدها وتقييدها وتخصيصها يتمّ حتماً بواسطة روايات أهل البيت(ع )، وفي كلّ مورد لم يوجد فيه دليل علىٰ التخصيص أو التقييد فإنّه يرجع فيه إلىٰ ذلك المطلق أو العامّ القرآني استناداً إلىٰ (اصالة الإطلاق) أو (أصالة العموم)؛ الاّ أن يثبت انّ تلك الآية الخاصّة هي لغرض بيان أصل التشريع، وليست لغرض بيان حكم الإطلاق أو العموم.


[1] . تفسير نور الثقلين، ج5، ص706.

تسنيم، جلد 1

236

وعلىٰ كلّ حال ففي جميع المواضيع المذكورة الأعمّ من المتصدّية لأصل التشريع أو بيان الأحكام، يمكن الاستظهار من الآية المعيّنة مفادها المتعلّق بها وهل انّها بصدد التشريع أم لا. فتفسير الآية بالمقدار المرتبط بنفس الآية ممكن وميسور، امّا بالنسبة إلىٰ الآيات الاُخرىٰ فلا استقلال لها بالحجيّة. وبالنتيجة فقد وقع خلل في هذه المقالة بسبب الخلط بين صحّة «التفسير في الجملة» وبين «التفسير بالجملة» وبالاستقلال.

واشير في كلام المحقّق الطوسي (ره) إلىٰ اعتبار «الإجماع» في التفسير، وسيطرح هذا الموضوع للبحث في الفصل السابع في فصل منزلة آراء المفسّرين.

المعرفة من (داخل إطار الدين) و(خارج إطار الدين)

في الفصل السابق من البحث تبيّنَ إلىٰ حدّ ما معنىٰ التفسير بالرأي، من ناحية الموضوع والحكم، وأصبح موضوعه وحكمه واضحين، وانّه مذموم وخطأ عقلاً ونقلاً. لكن هل انّ تفسير النصوص الدينيّة دون معرفة من خارج إطار الدين ممكنة أم لا؟ وهل انّ النص الدينيّ محتاج حتماً إلىٰ المعرفة من خارج إطار الدين، لكنّ المعرفة الخارجة يجب أن تكون منقّحة واستدلاليّة أم لا؟ هذا الموضوع يحتاج إلىٰ بحث مفصّل ولا يؤدّىٰ حقّه إلاّ بكتاب مستقل، لكنّنا نكتفي بطرحه هنا علىٰ نحو الإجمال:

انّ بعض الباحثين في المعرفة الدينيّة قد مزّقوا الحقيقة الجامعة والكاملة للدين وقطّعوها «اِرْباً اِرْباً»، وجعلوها «عضين»، فتارة فصلوا السياسة عنه وحكموا بـ(فصل الدين عن السياسة) أو جعلوا (الإدارة

تسنيم، جلد 1

237

العلميّة) في مقابل (الإدارة الفقهيّة) حيث انّ مقصودهم من الإدارة الفقهيّة هو الإدارة الدينيّة. وتارة اُخرىٰ أبعدوا العلم عنه وحكموا بفصل الدين عن العلم. وتارة اهملوا دوره في بناء شخصيّة الإنسان وجعلوا عوامل اُخرىٰ كالثقافة الإيرانيّة والثقافة الغربيّة أو الشرقيّة أو الأقاليم الاُخرىٰ شريكة معه في بناء شخصيّة الإنسان، وأسّسوا شركة مساهمة مسجّلة لصنع شخصيّة الإنسان، وجعلوا حقيقة الدين الإلٰهيّ مساوية للثقافات الناشئة من النزعات والأهواء القوميّة والمحلّية والإقليميّة وأمثالها، وبالنتيجة صوّتوا لصالح تساوي الدين (الثقافة الإلٰهيّة) مع غير الدين (مثل الثقافة الإيرانيّة والغربيّة) في تأسيس وبناء الشخصيّة والهويّة الإنسانيّة.

وتارة أيضاً وبالإعتماد علىٰ تلك البضاعة الفكريّة المغتصبة والأساس المتزلزل والأرض الهشّة حكموا بفصل العقل عن الدين وابتعاد الدّين عن العقل فراحوا يقولون بانّ هذا الموضوع عقليّ وليس دينيّاً، أو هذا عقليّ وغير شرعيّ، في حين انّ العقل واقع في مقابل النقل وليس في مقابل الدين، لانّ الموضوع الدينيّ تارة يستنبط من العقل وحده، وتارة من النقل فقط، وأحياناً يستنبط من مجموع العقل والنقل، والعقل دائماً يكون في مقابل السمع والنقل لا في مقابل الدين.

والذي يطرح في علم اُصول الفقه هو حجيّة الحكم والعلم القطعيّ العقليّ. وما يطرح في علم الفقه هو وجوب اطاعة حكم العقل. وما يطرح بين أفراد المجتمع الملتزم بالدين والمتشرّعة هو مدح اتّباع العقل وذمّ التمرّد عليه وما يطرح في علم الكلام هو الوعد والوعيد والثواب

تسنيم، جلد 1

238

والعقوبة وذلك جزاء لامتثال حكم العقل أو عصيان أمره. فالعقل من مصادر الدين وهو إلىٰ جانب النصّ النقليّ يُعدُّ مصدراً من مصادر استنباط الفتاوىٰ الدينيّة. طبعاً انّ العقل الّذي يكون مصدراً للدين ـ هو كالنقل ـ يجب أن يكون أصيلاً وغير مزيّف، أي انّه ـ كما سبق بيانه ـ يجب أن يكون طبقاً للاُصول والقواعد الّتي يثبت بها أصل وجود مبدأ العالم والتوحيد وسائر الاُمور الفلسفيّة والكلاميّة المتقنة وضرورة الوحي والنبوّة وقطعيّة المعاد، فإذا بلغت مسألة مّا درجة النصاب هذه من اليقين والقطع والعلم فهي من مصادر الدين ويمكن أن تكون دليلاً لبيّاً متّصلاً أو منفصلاً، بحيث يؤدّي إلىٰ تقييد الإطلاق أو تخصيص العموم أو تكون قرينة أو شاهداً علىٰ المجاز في الآية أو الرواية.

طبعاً ليس هناك انسان فارغ الذهن من الاُصول والقواعد الموضوعة والمقدّمات المفروضة مسبقاً يمكنه إدراك الطبيعة أو الشريعة، وأوّل قضيّة تنقدح في ذهن الإنسان هي أصل عدم التناقض، وبعد هذا الأصل البديهي الأوّلي تدرك سائر الاُصول البديهيّة، ومن ثمّ تدرك الاُصول والقضايا المبيَّنة والّتي تنتهي في ظلّ تلك الاُصول البديهيّة الىٰ الأصل الأوّلي وتتّضح به. وكلُّ موضوع يدرك بمثل هذه الثروة العلميّة الوافرة والطريقة العلميّة النقيّة الخالصة، فإنّ الأحكام الثلاثة السابقة في الاُصول والفقه والكلام مترتّبة عليه. ومن الواضح كما انّ في الإستنباط من النصّ النقليّ يقع أحياناً الإنحراف والتعسّف والإختطاف والإنتقاء والخلط، كذلك في الإستفادة من النصّ العقلي يوجد أحياناً مثل هذا الإنحراف، والبحث في أنحاء هذا الإنحراف خارج عن محلّ البحث الحاليّ.

تسنيم، جلد 1

239

ومن هنا يُعلم انّ التقسيم الىٰ ماهو «داخل إطار الدين» و«خارج إطار الدين» و«الدين بما يشمل الأقلّ» و«الدين بما يشمل الأكثر» وباقي المواضيع المذكورة كلّها ناشئة من المُثلة بحقيقة الدّين وتقطيع أجزاء الدين من الدين، وبالتالي جعل أجزاء الجسم الواحد في مقابل بعضها، وصوت مثل هذا التمثال اليدويّ وخُوار مثل هذا العجل السامريّ الصنع يُعلن عدم انسجام العقل والدين وفصل العلم عن الدين وعزل الدين عن السياسة وعدم الإرتباط بين الدين وشخصيّة الإنسان والفصل بين الإدارة العلميّة والإدارة الفقهيّة و... . ونتيجة الضرب علىٰ هذا الوتر هو ان يجعلوا العقل المقابل للنقل في تعارض مع الدين.

وعلىٰ الرغم من انّ بعض كلمات القدماء تضمّنت عبارات عن تقابل بين العقل والشرع، لكنّ مقصودهم كان «العقل والسمع» أو «العقل والنقل»، وذلك لانّهم لم يجعلوا العقل أبداً في مقابل الدين في مجالات العلوم الثلاثة المذكورة (اُصول الفقه والفقه والكلام)، بل انّهم كانوا يرون دائماً انّ إرشاد العقل هو بمستوىٰ هداية النقل جزءٌ من الأحكام والمسائل والقضايا الدينيّة، وكما انّ بعض الاُمور طبقاً للأدلّة النقليّة إمّا واجب أو حرام، وبعضها مقدّمة للواجب أو مقدّمة للحرام، كذلك بعض الاُمور طبقاً للأدلّة العقليّة إمّا واجب أو حرام، امّا مقدّمة للواجب أو مقدّمة للحرام، وإذا وجب الشيء عقلاً بعنوان انّه مقدّمة فلا ينبغي فصله عن الواجب الشرعيّ، لانّ الواجب الشرعيّ (أي ما يثبت بواسطة مصادر الشرع) أعمّ من الغيريّ والنفسيّ، وكلّ شيء يجب أو يحرم بعنوان انّه مقدّمة للواجب أو للحرام، فليس له حكم مستقلّ عن ذي المقدّمة، لا انّه

تسنيم، جلد 1

240

ليس له حكم أيضاً، تبعاً لذي المقدّمة. فالحكم التبعيّ للمقدّمة ثابت دائماً، سواء كانت المقدّمة للواجب أو الحرام وسواء قد ثبت الحكم عن طريق العقل أو النقل.

وحيث انّ المعرفة الدينيّة يجب أن تتمّ بدون مُثلة وتجزئة وانفصام وتشريح وتقطيع، وانّ الدين المقطّع والممزّق والمفكّك ليس ديناً تامّاً بل هو جزء من الدين، فإنّه يُعلم من ذلك مدىٰ صحّة وخطأ التقسيم إلىٰ ماهو «داخل إطار الدين» و«خارج إطار الدين»، وتوضيح ذلك كالآتي:

اوّلاً: انّ ما يستفاد من نصوص القرآن المقدّسة ومن السنّة المعتبرة للمعصومين(ع )[1]، وكذا حصيلة العقل البرهانيّ الّذي يقدّم الموازين القطعيّة الإلٰهيّة، كلّ هذه تشكّل الأساس لأحكام الدين.

ثانياً: أصل الدين هو تلك الإرادة الإلٰهيّة الّتي تكتشف تارة بواسطة العقل، وتارة اُخرىٰ تتّضح بواسطة النقل، وأحياناً تُعلم بفضل كلا السببين علىٰ نحو الإستقلال أو الإنضمام.

ثالثاً: النقل (النصّ المنقول) موجود ممكن، وهو مخلوق وكاشف عن إرادة الله. والعقل (النصّ المبرهن المعقول) أيضاً موجود ممكن، وهو مخلوق وشاهد علىٰ الإرادة الإلٰهيّة. والعقل كما وصف في لسان النقل المعتبر بأنّه رسول من الباطن، كما انّ النقل القطعيّ هو رسول من الظاهر، علىٰ نحو يمكن فيه إعتبار العقل القطعيّ (شرعاً داخليّاً) ويمكن


[1] . الخبر والإجماع والشهرة القطعيّة الكاشفة وأمثالها، كلّ ذلك يرجع إلىٰ السنّة، والإجماع بأيّ تقريب يتمّ تقريره وتصويره فهو داخل في دائرة السنّة لاخارجها.

تسنيم، جلد 1

241

إعتبار الشرع أيضاً (عقلاً خارجيّاً)، ولكنّ الإثنين واقعان في دائرة الدين، وإن كان أحدهما خارج الذهن الصائب المدرك للبشر العاديّين والآخر داخلاً فيه. ولذلك فلاعجب في كون العقل القطعيّ واحداً من مصادر مباني أحكام الدين.

رابعاً: انّ معرفة الإنسان بالنسبة إلىٰ مباني وأحكام الدين علىٰ قسمين: أحدهما صائب وصادق وحقّ وصحيح والآخر خطأ وكاذب وباطل وغير صحيح فذلك القسم الصادق الصحيح يتمّ حتماً بفضل الهداية الإلٰهيّة، لابغيرها، ومثل هذه المعرفة الصادقة والصائبة هي معرفة دينيّة قطعاً، ومثل هذا الصوت الجذّاب الممتع المطابق لإرادة الله والّذي ينطلق من الهداية الإلٰهيّة ومن مصباح عقل عبدالله هو بالتأكيد من قبل الله سبحانه وإن كان صادراً (من حنجرة عبدالله) وحيث انّ مثل هؤلاء الأفراد العاديّين جاهلون بما يحيط بهم من الأشياء، ومخطئون، وبالنسبة إلىٰ بعض الأعمال يحتمل أن يكونوا مفسدين وعاصين، فهم بعيدون عن فضاء وأجواء الوحي الإلٰهي والمقام السامي للرسالة والإمامة، ولكن إذا سطع المعنىٰ القطعي البرهانيّ في أذهانهم فمثل هذا العقل يكون حتماً من مصادر الدين، ولايمكن أبداً اعتبار مثل هذه المعرفة «معرفة بشريّة» في مقابل «المعرفة الدينيّة»، بل يجب أن تعدّ هذه المعرفة الصائبة «معرفة عقليّة دينيّة» في مقابل «المعرفة النقليّة الدينيّة»، لأنّه كما قد ذكر كرّات ومرّات انّ العقل هو في مقابل النقل لا في مقابل الدين.

وما يكون في مقابل الدين هو الهوىٰ والميول النفسانيّة والإنشداد الىٰ العقائد الإلحاديّة وأمثالها، حيث جعل كبار وصناديد تلك المذاهب

تسنيم، جلد 1

242

من أفكارهم آلهة لهم، وتحرّكهم الأهواء فيطوفون حول حرم شهواتهم ورغباتهم، وطبقاً للآية الكريمة: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾[1] فهم فرحون بعلمهم الإلحاديّ مقتنعون به، ويستهزئون بآيات الوحي الإلٰهيّ. وهم غافلون عن انّهم قد حاقت بهم أعمالهم القبيحة وانّهم محاطون بجدار سيّئاتهم.

خامساً: انّ معرفة الطبيعة ومعرفة الشريعة من هذه الناحية متساويتان، بمعنىٰ انّ المعرفة الصحيحة للنظام العينيّ للعالم علم دينيّ، لانّ مبدأها الفاعليّ هو الله سبحانه الّذي تنشأ منه جميع النِعَم العلميّة والعينيّة: ﴿مَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾[2]، ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم﴾[3] وكذلك غايتها وهي الإستثمار الصحيح في مجال العقائد والأخلاق والأعمال ونيل رضا الله ولقائه، وكذا حجيّتها في علم اُصول الفقه، ووجوب الطاعة لها في علم الفقه، والوعد والوعيد والثواب والعقاب المترتّب عليها في علم الكلام، كلّ ذلك علامة ودليل علىٰ كون مثل هذه المعرفة دينيّة.

سادساً: انّ الحصول علىٰ الطبيعة الصافية النقيّة ونيل الشريعة الخالصة أمر ممكن بل انّ بعضاً منها واقع قطعاً، وذلك لانّ الآراء المتضاربة حول معرفة الطبيعة والبحث عن الشريعة تكون أحياناً متناقضة، أي يكون هناك رأيان حول الطبيعة أو الشريعة أحدهما نقيض


[1] . سورة غافر، الآية 83.

[2] . سورة النحل، الآية 53.

[3] . سورة العلق، الآية 5.

تسنيم، جلد 1

243

الآخر، وبما انّ الجمع بين النقيضين كارتفاعهما أمر محال، إذن أحدهما حقّ وصائب قطعاً كما انّ الآخر باطل وخطأ يقيناً. ومن الطبيعيّ انّ تمييز الخالص عن غير الخالص والحق عن الباطل يبحث في إطار علم الطبيعة أو علم الشريعة لا في نطاق علم المعرفة، الّذي يشار إليه الآن.

وتارة يمكن أن تطرح آراء عديدة وكلّها صحيحة أو كلّها خاطئة مع الإختلاف في درجات الصحّة أو دَرَكات الخطأ، وهذا يتحقّق في حالة كون الآراء المطروحة واقعة في طول بعضها، لا في مقابل بعضها لتصبح متناقضة، ولمّا لم تكن متناقضة فإنّ الجمع بينها في مجال الصدق والصواب وكذلك رفعها جميعاً في مجال الخطأ والكذب أمر ممكن ومحتمل.

سابعاً: انّ حصول التغيير في فهم الطبيعة أو الشريعة ليس أمراً ضروريّاً، لانّه يمكن أن تكون بعض المباني العقليّة والعلميّة لفهمها ثابتة دائماً ومحفوظة من العيوب والآفات، بينما البعض الآخر منها معرّضة للتغيير والتبدّل. والتغيير أيضاً يستند تارةً الىٰ تبدّل الرأي الإجتهادي وأحياناً يحدث بسبب غلبة شيطان الهوىٰ علىٰ مَلَك الهدىٰ في إطار روح المحرِّف المنحرف والمحترف المتعسّف الّذي يقوده انحرافه النابع من الهوىٰ إلىٰ التحريف المتعمّد لبعض ظواهر النصوص الدينيّة وتدفعه مهنة بيع الدين وشراء الدنيا الىٰ اتّباع الشهوات وسلوك الطريق المعوّج في تفسير النصوص النقليّة كما يصف ذلك القرآن الكريم حيث يقول: ﴿... مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَواضِعِه﴾[1]، ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن


[1] . سورة النساء، الآية 46.

تسنيم، جلد 1

244

مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِه﴾[1]، ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوه﴾.[2] اذاً فثبات بعض الآراء والأفهام في الطبيعة وفي الدين وكذلك تغيّر بعض الآراء بسبب التطوّر العلميّ والعصريّ وكذلك تغيّر بعض الأفهام بواسطة تسويل النفس كلّ هذه الأقسام الثلاثة ممكنة ومحتملة.

ثامناً: انّ ما ذكر تحت عنوان تهافت العقل والشرع في تأليفات المدّعين للتعارض بين الفلسفة والدين، وما جاء في جواب ذلك التعارض تحت عنوان: «تهافت التهافت» كلّ ذلك ناشئ من التسامح في التعبير، أو التغافل عن وحدة السنخ أو أحياناً اتّحاد الصنف والترابط والالتحام القائم بين مفادي العقل والنقل، ولو كان قد تمّ تحليل حجيّة العقل ودائرة عمل حكمه لما جُعل العقل أبداً في مقابل الدين، وأفضل طريق لتشخيص مكانة العقل وتعيين منزلته في نظام الثقافة الإلٰهيّة هو السؤال والإستفتاء من نفس العقل.

ومن الطبيعيّ أن تكون المواقف المنكرة للملحدين المنكرين للمبدأ والمعاد وجهالة الشياطين المنكرين للمعارف الميتافيزيقيّة خارجة عن البحث، لانّ مثل هذا الفكر الإلحاديّ يعتبر الدين اُسطورة. امّا الّذي أثبت عن طريق عقله البرهانيّ انّ الدين حقيقة الهيّة تمنح الحياة فإنّه لايجعل العقل الإستدلاليّ أبداً في مقابل الدين، ولا يتخيّل في ذهنه تهافتهما، ولا يزعم انّ أحدهما أجنبيّ عن الآخر ليحكم بفصل البرهان عن القرآن؛


[1] . سورة المائدة، الآية 13.

[2] . سورة البقرة، الآية 75.

تسنيم، جلد 1

245

كما انّ التعب المجهد والسعي الحثيث لمدعيّ عدم التهافت والمنادين بالإنسجام والنفي لوجود أيّ نحو من الغرابة بين العقل والشرع يجب أن يكون مسبوقاً بتحليل حقيقة العقل وحجيّته في علم اُصول الفقه وكونه مصدراً لمباني الأحكام في علم الفقه، وذلك لأنّ العقل مع اُسسه ورأسماله الإلٰهيّ والدينيّ تارة يكون مستمعاً واعياً ورقيباً مطّلعاً أميناً وممتازاً، وأحياناً يكون متكلّما خبيراً ومتحدّثاً صادقاً بإسم الدين، أي انّه تارة يكون صراطاً وسراجاً أي يؤدّي دور الطريق والمصباح فهو طريق واضح، وتارة يكون سراجاً فقط ينير الطريق الّذي هو الصراط المنقول.

وبناءً علىٰ هذا فلا ينبغي عند تفسير النصوص النقليّة للدين السعي لإفراغ العقل وتجريد الذهن، لأنّ مثل هذا العمل علىٰ فرض امكانه فهو ليس عملاً دينيّاً أبداً، بل يجب السعي لتصفية وتنقية المبادئ البرهانيّة المحكمة والرصينة من المواضيع الموهونة والموهومة الذهنيّة حتّىٰ لايحلّ الوهم والخيال الجامح مكان العقل، ومثل هذا العمل «ممكن» و«لازم» وكذلك فإنّه «واقع» في الجملة.

تاسعاً: قانون العلّية والمعلوليّة هو مبنى دينيّ (بالمعنىٰ العميق لكون القانون دينيّاً ممّا بُيّن سابقاً). يثبته العقل في الحكمة والكلام، ويعتبره النقل أيضاً أمراً مفروغاً عنه، كما في قول أمير المؤمنين(ع): «كلّ قائم في سواه معلول».[1] أمّا الّذي يذكر في العرفان فهو ليس نفياً لأصل العليّة، بل هو نفي للأسباب والعلل الموهومة أو المتوسّطة، والإستناد إلىٰ العلّة المعقولة أو النهائيّة. وأساس التوحيد العرفانيّ هو الإطلاق الذاتيّ


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 186، المقطع 2.

تسنيم، جلد 1

246

للواجب وعدم تناهيه المستلزم لـ(الوحدة الشخصيّة للوجود) والموجب لإرجاع (العليّة) الىٰ (التشأن) من جهة، وتبدّل (الصدور) إلىٰ (الظهور) من جهة اُخرىٰ، ورجوع (العلل الحقيقيّة) الىٰ (العلل الإعداديّة) من جهة ثالثة، وحصر العليّة الحقيقيّة في الموجود الحقيقيّ أي ذات الواجب من جهة رابعة.

والّذي يلاحظ في تفسير الميزان القيّم وعلىٰ أساسه يفهم العلاّمة الطباطبائي (ره) كلّ القرآن، هو الحكمة والكلام، وهذه هي (المرحلة المتوسّطة في التعقّل الدينيّ). نعم توجد في خبايا وزوايا «الميزان» مواضيع عرفانيّة عميقة بنحو مستور لا مشهور، وبشكل السرّ لا العلن، وبطريقة الإشارة لا العبارة، وبنحو الإشراق لا الإشراب، وهي مطويّة ومخزونة ومكتومة ومكنونة، بحيث لا يمسّها الاّ العارفون وما قاله جلال الدّين الرومي في كلماته المنثورة والمنظومة فهو يعتمد علىٰ مشهد العرفان الّذي يمثّل (المرحلة العليا للتعقّل الدينيّ)، والقرآن الكريم الّذي له مراتب ودرجات متعدّدة تبدأ من (عربيّ مبين) وترتفع الىٰ (امّ الكتاب)، ومن وادي اللسان الحجازيّ الىٰ قمّة العليّ الحكيم، فهو حبل ممدود طرفه الطبيعيّ متوفّر بين البشر وطرفه ممّا هو وراء الطبيعة فهو بيد الله سبحانه، وهو الرسالة الإلٰهيّة، وكلّ مفسِّر مادام مرتبطاً بهذا الحبل الممدود (بغير افراط وتفريط)، فتعقّله دينيّ وهو يفسّر النصوص الدينيّة النقليّة بواسطة الاُسس والمباني الدينيّة العقليّة وليس في ذلك كلّه ماهو خارج إطار الدين.

ولكي نذكر مثالاً للإختلاف الطوليّ بين الحكمة والعرفان وليس

تسنيم، جلد 1

247

تقابل النفي والإثبات بينهما نشرح علىٰ نحو الإجمال بعض الأبيات المنظومة لكبير عرفاء القرن السابع الهجريّ جلال الدين الروميّ الّذي كان يجمع بين الجمال والجلال، وهذه هي أبيات المنظومة:

انّ الانبياء جاءوا لقطع الأسباب واسـندوا معجـزاتهم الىٰ زُحَل

كلّ القرآن ينادي بقطع الأسباب وبه عزّ العارف وهلاك ابي لهب

كذلك قوله:

مــن أوّل الـقـرآن الىٰ آخــره رفض للأسباب والعلل والسلام[1]

فهناك بعض المواضيع تستفاد من الأبيات المذكورة وهي:

1. انّ الأنبياء جاءوا ليقدّموا رسالة التوحيد وحصر الوجود الحقيقيّ بالله الواحد هديّة للبشريّة، وفسّروا كثرة العالم بانّها آيات ومظاهر وشؤون لذلك الواحد الحقيقيّ، ولم يتعاملوا مع كثرات العالم بافراط في منحها حظّاً من الوجود، ولا بتفريط ليصفوها بالسراب، بل قالوا انّ كثرة العالم مرآة لتلك الوحدة وهي صادقة في انّها تعكس كالمرآة وليست كاذبة كالسراب.

2. انّ رسالة الأنبياء هي دعوة الناس الىٰ السبب الحقيقيّ، اي الله سبحانه، لا انكار أصل السببيّة وإلاّ لزم أن نقول إنّهم، معاذ الله، يدعون الناس الىٰ الإعتقاد بالصدفة والحظّ والهرج والمرج. فنفي الأسباب العاديّة يقترن مع إثبات السبب الحقيقيّ، ولم تقدّم النبوّة ابداً نفي العليّة والدعوة الىٰ قبول (الأمر المريج) أي الهرج والمرج.

3. المعجزة تقترن حتماً مع اصل العليّة، لا مع الصدفة ونفي العليّة،


[1] . المثنوي، الدفتر الثالث، الأبيات 2517، 2520، 2525.

تسنيم، جلد 1

248

لكنّ العلّة في معجزات الأنبياء مستورة، ومرتبطة من جهة بالارادة الأزليّة (المبدأ الفاعليّ أو منشأ الظهور) وبقداسة النفس النبويّة من جهة اُخرىٰ (المبدأ القابليّ أو المَظْهَر) وحكومة الإعجاز علىٰ الأرض والفضاء هي من سنخ حكومة الظهور الأقوىٰ علىٰ الظهور الأضعف.

4. في كلّ أنحاء القرآن حيث يعلو صوت التوحيد فإنّه ينادي بقطع السبب لا بقطع السببيّة، والاّ لزم الإنقطاع عن مسبّب الأسباب (معاذ الله)، لأنّه إذا انتفىٰ أصل السببيّة فلن يبقىٰ أيّ سبب في نطاق الوجود سواء كان سبباً قديماً وأزليّاً أو حادثاً زائلاً، وذلك لانّ نفي أصل العليّة مساوٍ للقول بالصدفة والحظّ والعشوائيّة.

5. انّ عزّ الصوفي والعارف وهلاك أبي لهب وأمثال ذلك لايرجع الىٰ العلل والأسباب الظاهريّة، بل يعود الىٰ إرادة مسبّب الأسباب الّذي هو مالك المِلك والمُلك والملكوت، فالسلطنة المطلقة هي مِلكه المطلق والمشاع: ﴿تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاء﴾[1]، ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعا﴾[2]، ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعا﴾.[3]

6. انّ القرآن وروايات الدعاء في نفس الوقت الّذي تؤكّد فيه علىٰ اصل العليّة من جهة وتؤيّد العلل والأسباب الإبتدائيّة والمتوسّطة من جهة اُخرىٰ فإنّها تصف الله سبحانه بعنوان (صانع الأسباب) حيث انّه يوفّر عليّة الأسباب الاُخرىٰ، كما انّه (مزيل الأسباب) حيث انّ ارادته


[1] . سورة آل عمران، الآية 26.

[2] . سورة النساء، الآية 139.

[3] . سورة فاطر، الآية 10.

تسنيم، جلد 1

249

الأزليّة قاهرة وغالبة علىٰ جميع الأشياء والعلل والأسباب، كما انّها تعدّه تعالىٰ (السبب الذاتي) الّذي لاتحتاج سببيّته الىٰ الغير ولا هي مغلوبة للغير هذا من جهة، وانّه (السبب القريب) المحض حيث انّه أقرب من كلّ شيء الىٰ أيّ شيء آخر. ولذلك فلاحاجة الىٰ الشفاعة والوسيلة والتسبّب والتعلّل الىٰ الغير، حيث: «انّ الراحل إليك قريب المسافة وانّك لاتحتجب عن خلقك الاّ أن تحجبهم الأعمال دونك...»[1] فإذا كانت المسافة بين العبد والمولىٰ هي أقرب مسافة (بشكل مطلق) إذن يمكن القول: «الحمد لله الّذي اُناديه كلّما شئت لحاجتي وأخلوا به حيث شئت لسرّي بغير شفيع فيقضي لي حاجتي...».[2]

وهذه المرتبة العالية من الرؤية التوحيديّة ليست هي (معاذ الله) لأجل نفي أصل الشفاعة والتوسّل، لأنّه توجد أدلّة قرآنيّة كثيرة من جهة وشواهد روائيّة عديدة من جهة اُخرىٰ وبيّنات جليّة وواضحة من الدعاء من جهة ثالثة تثبت شفاعة الملائكة والأنبياء والأولياء ونخصّ بالذكر أهل بيت العصمة الطاهرين(ع ) الّذين لايفارقون الفكر والذكر للرابضين في فِناء الولاء مثل مؤلّف هذه السطور، بل هذه الشفاعة هي لأجل الإرشاد إلىٰ آخر شفيع في يوم القيامة وهو الله أرحم الراحمين، لأنّ ماسوىٰ الله وبسبب المحدوديّة في «الوجود» أو المحدوديّة في «ظهور الوجود» فإنّ شفاعتهم محدودة ويحتمل أن لاتنال المستخفّ بالصلاة وأمثاله، لكنّ الشفاعة غير المحدودة المطلقة لله سبحانه سوف تبقىٰ


[1] . مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.

[2] . المصدر السابق.

تسنيم، جلد 1

250

موجودة ومحيية للأمل. ولذلك ففي نفس الوقت الّذي نلجأ فيه إلىٰ الأسباب الّتي يقتضيها علم (الحكمة) و(الكلام) فإنّه يجب أن يكون لنا رجاء وأمل بمسبب الأسباب علىٰ النحو الّذي يقتضيه (العرفان)، وفي نفس حال التوسّل والإستشفاع بذريّة طٰه وياسين يجب أن نمدّ يد الرجاء بالدعاء والتضرّع إلىٰ أشفع الشافعين، ومثل هذه الرؤية الجامعة تقتضي أن ندعوا الله بجميع أسمائه الحسنىٰ من غير أن يؤثّر مثل هذا التوسّل والإستشفاع علىٰ روح الموحّد ويدنّسها بشائبة الشرك.

والمقصود هو انّ هناك اختلافاً شاسعاً بين (رفض الأسباب والعلل) وهو كلام العارفين، وبين نفي العليّة وهو كلام الجاهلين وتشخيص ذلك أصعب من رؤية خيط أدقّ من الشعرة ومن السير علىٰ طريق أحدّ من السيف البتّار. وبهذا البيان الوجيز يتّضح سرّ وحقيقة الكلمات الرفيعة للاُستاذ العلاّمة محمّدحسين فاضل التوني (ره)، حيث انّه ذات يوم خلال درس شرح فصوص القيصري قال: انّ الخواص من طلبة الحوزة العلميّة في اصفهان[1] كانوا يدرسون كتاب المثنوي[2] سرّاً لدىٰ أحد المتخصّصين في هذا الفن.

وحيث يطرح هنا دور العقل والبراهين العقليّة بعنوان انّها جزء من العناصر الدينيّة في تفسير النصوص النقلية في الدين، ينبغي الإلتفات الىٰ


[1] . في عصر المرحوم جهانگير قشقائي والحاج الآخونذ الكاشي حيث انّ المرحوم الفاضل التوني 5 قد تتلمذ علىٰ يد هذين الفيلسوفين العظيمين.

[2] . المثنوي من الكتب الدراسيّة العميقة، وكونه مكتوباً باللغة الفارسية، ومنظوماً وحاوياً علىٰ القصص والحكايات والأمثال لايحطّ من عظمته وقيمته، فلايمكن استيعابه دون اُستاذ متضلّع وعارف ومتخصّص.

تسنيم، جلد 1

251

مسألة حسّاسة قد اُشير إليها فيما سبق أيضاً وهي انّه يجب أن يؤخذ حتماً في تعريف مفهوم التفسير قيد «بقدر الطاقة البشريّة» لانّ النصوص النقليّة للدين هي الوحي الإلٰهي الّذي تكلّم فيه الله سبحانه حول أسمائه الحسنىٰ وصفاته العليا وأفعاله الحكيمة من المُلك والملكوت والدنيا والآخرة والمادّي والمجرد و...، والإدراك الصحيح لـ(الكلمات التدوينيّة) لله كالفهم الصحيح لـ(الكلمات التكوينيّة) يكون بمقدار سعة وقابليّة المدرك، ومعرفة الكنه في مجال علوم ومفاهيم القرآن كمعرفة الكنه في مضمار أسرار ورموز العالم العينيّ تعتبر صعبة بل هي مستصعبة. ولهذا فكما ذكر في تعريف مفهوم الفلسفة انّها معرفة الوجود بقدر الطاقة البشريّة، فكذلك يذكر في تعريف مفهوم تفسير القرآن الكريم انّه معرفة مقصود المتكلّم أي الله سبحانه «بقدر الطاقة البشريّة»، يعني انّ قيد «بقدر الطاقة البشريّة» مأخوذ في تعريف تبيين العالم العينيّ (الفلسفة) وتبيين العالم العلميّ (التفسير).

ومن الجدير بالذكر انّه يجب ان تحدّد جيّداً دائرة العقل بالنسبة إلىٰ النقل، فهل العقل هو «ميزان الشريعة» أم «مصباح الشريعة» أم «مفتاح الشريعة»، وهل يعمل العقل في داخل الشريعة (كمقياس فقهيّ) أي بواسطة التمثيل المنطقيّ، كما افتىٰ جماعة بحجيّة القياس، بينما الفرقة الناجية تعتبره غير صحيح؟ انّ اختلاف هذه العناوين الأربعة المذكورة واثبات بعضها ونفي البعض الآخر يحتاج بيانه الىٰ بحث مستقلّ.[1]


[1] . راجع كتاب الشريعة في مرآة المعرفة، فصل اقتران الوحي والعقل، ص207، وهو باللغة الفارسيّة.

تسنيم، جلد 1

252

الحصر الخاطئ للدين في النصوص النقليّة

انّ الدين وكما سبق بيانه مجموعة من معطيات وثمرات العقل والنقل. والاُصول والقواعد الموضوعة، يعني الاُمور المفروضة مسبقاً والمقدّمات والمفاهيم الأوّليّة اللازمة لتفسير النص المقدّس لايلزم استخراجها من نفس النصّ النقليّ، ومعنى «داخل إطار الدين» ليس هو «داخل أعماق النصّ»، واذا كانت المبادئ العقليّة مطاعة ومتّبعة فليس لانّ حجيّتها جاءت من النص النقليّ، لانّ مافي النصوص النقليّة ممّا يتعلّق بسداد وصواب المباني العقليّة فكلّه يحمل صبغة التأييد والإمضاء والإرشاد، لا التأسيس والإبداع، وذلك لأنّ حجيّة المبادئ العقليّة والبراهين العلميّة ذاتيّة، وليست جعليّة، ولو اعتمد القطع العقليّ في حجيّته علىٰ النصّ النقلي للزم الدور، لانّ حجيّة النقل تثبت بواسطة العقل، وامّا نفس العقل الّذي يدرك اصل مبدأ العالم وحكمته وعنايته بهداية المجتمعات الإنسانيّة وبالتالي يدرك ضرورة الدين ويحكم بوجوبها وحتميّتها، فهو يتّصف بالاعتبار والحجيّة الأصيلة. وخلاصة القول هي انّ حصر الدين في النصوص النقليّة وإخراج العقل ومبادئه البرهانيّة من دائرة الدين وتوقّع تأييده من قبل النصّ النقلي ليس صحيحاً، علىٰ الرغم من انّ هذا المعنىٰ مترسّب في الأذهان ولايزول بسهولة.

وإذا كانت المبادئ التصديقيّة للقياس غير عقليّة وإنّما هي وهميّة أو خياليّة، وتحرّك المفسِّر بهذه المبادئ الموهومة أو المتخيّلة نحو تفسير النصوص النقليّة فحتّىٰ لوكان مخلصاً في هذا التحرّك ولا يقصد فرض مواقفه واستنتاجاته فإنّه مع ذلك متورّط بالتفسير بالرأي، لكنّ سوء

تسنيم، جلد 1

253

السريرة لايرافق مثل هذا التفسير، أي انّ المفسّر المذكور يتّصف بـ(السوء الفعلي) ولكنّه مصون من (السوء الفاعليّ). أمّا الّذي يقوم عن علم ووعي بفرض رأيه الموهوم أو المتخيّل علىٰ النصّ المقدّس كالقرآن وتطبيق مضمون القرآن علىٰ فهمه الوهميّ والخياليّ فإنّه مبتلىٰ بسوء السريرة الفاعليّ مضافاً إلىٰ السوء الفعليّ.

ومن الواضح انّ العقل البرهانيّ هو بمنزلة الرسول والنبيّ الباطنيّ، لكنّ الوهم والخيال هما بمثابة (المتنبّي) المدّعي للنبوّة الداخليّ. و«النبوّة الصادقة» و«ادّعاء النبوّة الكاذب» يتحقّقان في مجال الرسول الباطنيّ وكذلك في مجال الرسول الظاهريّ. وبناءً عليه فانّ قبول القياس الخياليّ والإقبال عليه يساوي رفض القياس العقليّ والإدبار عنه وهذا التخلّف والرجعيّة هو إرتداد عن الدين.

ولأجل التقريب الىٰ الذهن وتنزيل مستوىٰ الموضوع المذكور نذكر مثالاً بعنوان التشبيه، والتشبيه قد يبعّد المعنىٰ عن الذهن من بعض الجهات، لكنّ المقصود منه هو الجهة المقرّبة لا المبعّدة، والمثال هو: انّ لرسول الله جهتين، جهة بشريّة وعاديّة يتساوىٰ فيها مع الآخرين فلا يتلقّىٰ من الله رسالة خاصّة ولايبلّغ عنه شيئاً، وجهة اُخرىٰ ملكوتيّة وغير عاديّة يمتاز بها عن الآخرين، وبها يتلقّىٰ الوحي والرسالة الخاصّة من الله ويبلّغها الىٰ المجتمع، وهذه الجهة الملكوتيّة فيه حجّة الله عليه وعلىٰ غيره.

والإنسان العاقل والحكيم أيضاً لديه هاتان الجهتان البشريّة المُلكيّة والعقليّة الملكوتيّة، فمن جهة امتلاكه (الطبيعة البدنيّة) لايتلقّىٰ علماً من قبل الله سبحانه وهو في هذا الأمر مساوٍ للموجودات الطبيعيّة الاُخرىٰ،

تسنيم، جلد 1

254

ومن جهة امتلاكه (الفطرة الملكوتيّة) فإنّه يتلقّىٰ البرهان من قِبَل الله وذلك البرهان العقليّ هو حجّة الله عليه وعلىٰ كلّ الأفراد الّذين ظهر هذا البرهان الخالص العقليّ لفطرتهم الملكوتيّة، ومثل هذا البرهان الخالص العقليّ هو قطعاً من قبل الله سبحانه؛ لانّ البشر الطبيعيّ لايملك بذاته نوراً يستطيع به إدراك المعاني الصحيحة والمقبولة، كما انّ الله أعطىٰ للإنسان بعد خلقه بيان مافي وجدانه وداخله... وعلّمه مالم يكن يعلم: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ ٭ عَلَّمَهُ الْبَيَان﴾[1]، ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم﴾[2] فالعلم الصائب والإستدلال البرهانيّ من المواهب الإلٰهيّة، ومثل هذه الموهبة حجّة كما مرّ بيانه.

وعلىٰ هذا فإنّ الإنسان المتفكّر إذا صان الموهبة الإلٰهيّة من تدخّل شيطان الوهم والخيال وحَفِظ الرسالة الإلٰهيّة من ضرر وسوسة إبليس من الداخل والخارج وأدرك المعارف الصحيحة الخالصة وسعىٰ نحو تفسير الآيات الإلٰهيّة بتلك المبادئ البرهانيّة الّتي هي رأسماله الأساسيّ لنيل ثمار ومعطيات الوحي الإلٰهيّ القرآنيّ، فإنّه يستطيع أن يتحدّث عن رسالة الظاهر وحجّة الباطن ويقول للآخرين: انّني بشر عاديّ مثلكم لكن الرعاية الإلٰهيّة أسرجت نور المعرفة في مصباح ومشكاة روحي وبذلك حظيت بالمعارف الصحيحة. فالمقصود إذن هو انّ المسافة بين البشر العاديّ الّذي يدرك ويفهم بواسطة البرهان العقليّ بعض مواضيع الوحي الإلٰهيّ الّتي سمعها من الرسول، وبين نفس رسول الله هي ذات المسافة


[1] . سورة الرحمٰن، الآيتان 3 ـ 4.

[2] . سورة العلق، الآية 5.

تسنيم، جلد 1

255

الطويلة بين المعصوم وغير المعصوم والإختلاف العميق بين النبيّ والاُمّة، لكن في جميع الحالات الّتي يتلقّىٰ فيها المتفكّر العاقل معاني صحيحة لابدّ أن يعلم يقيناً انّ ذلك العلم الخالص هو موهبة الٰهيّة أوّلاً وهو حجّة الٰهيّة ثانياً.

ولذلك فانّ مثل هذا العلم يكون في دائرة الدين وإطاره، وكلّ ما يتمّ استنباطه من النصوص الدينيّة المقدّسة بواسطة هذا العلم البرهانيّ فإنّه لابدّ أن يقال انّه تمّ استظهار شيء من النص النقليّ المقدّس بواسطة الفهم المسبق والمفروضات السابقة من «داخل اطار الدين».

وما يجب تأكيده وتكراره لأجل الوقاية من آفة المغالطة هو انّ بين البرهان الصحيح العقليّ الّذي هو بمثابة (النبيّ الباطنيّ) وبين المغالطة الّتي هي بمثابة «المتنبّي الباطنيّ» فروقاً، وإذا تصدّىٰ المفسّر لتفسير النصّ النقليّ المقدّس وهو مبتلىٰ ببعض المباني الفاسدة والمبادئ الباطلة وجاء الىٰ التفسير وهو يحمل مفروضات ورؤىٰ سابقة من خارج إطار الدين، فاستظهاره من التفسير بالرأي المذموم وكل تفسير بالرأي المذموم فهو يتم بواسطة مقدّمات ومفاهيم من خارج الدين. لكن:

الف شخص من الخوارج لايشترىٰ بحبّة شعير

حتّىٰ وان ملأ جيـشه المنـافق ما بين جبلين[1]

كما انّ جميع انحاء التفسير بالرأي الممدوح والمحمود فإنّما يتمّ بمقدّمات ومفاهيم واُصول موضوعة من داخل الدين:

لا تكن فارغاً من العرفان حيث انّ روحي تطلب مزيداً من العشق


[1] . ديوان حافظ الشيرازي، مترجم من اللغة الفارسيّة.

تسنيم، جلد 1

256

انّ اهل النظر يتعاملون مع المعروف[1]

وما جاء عن طريق البرهان الخالص فهو قريب وليس غريباً ومن داخل الدين لا خارجه.

معيار «كون الشيء دينيّاً»

انّ المقصود من كون الموضوع دينيّاً هو انّ هذا الموضوع قد تمّ كشفه عن طريق العقل البرهاني أو النقل المعتبر وهو يتضمّن تعلّق ارادة الله بضرورة الإعتقاد أو التخلّف أو العمل بشيء من الأشياء. طبعاً انّ الأرضيّة والقاعدة الأصيلة لكون الشيء دينيّاً هو الإرادة الإلٰهيّة، وأمّا الدليل العقليّ أو النقلي فهو كاشف عنها فحسب. وإن سُمّي هذا المعنىٰ لكون الشيء دينيّاً خرافة واُسطورة في قاموس الملحدين والعلمانيين، كما نلاحظ ذلك في عبدة الأصنام والأوثان حيث وصفوا القرآن بالاُسطورة، وكما كان فرعون يقول لأهل مصر المظلومين عن موسىٰ كليم الله(ع): ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَاد﴾.[2]

فهو يعتبر عبادة الأصنام والطاعة لهواه وهوىٰ أتباعه الضالّين ديناً ولا يرىٰ الوحي الإلٰهي لموسىٰ الكليم ديناً صحيحاً، كما انّ تشخيص العقل النظريّ والعمليّ من جهة المصداق مختلف عند الأفراد المختلفين، فمثلاً عندما يُسأل الإمام الصادق(ع) ماهو العقل؟ فإنّه يقول(ع) «العقل ماعُبد به الرحمٰن واكتُسب به الجنان» وعندما يُسأل الإمام عن الشيء


[1] . ديوان حافظ الشيرازي، مترجم من اللغة الفارسيّة.

[2] . سورة غافر، الآية 26.

تسنيم، جلد 1

257

الّذي كان عند معاوية ماهو؟ فإنّه يقول: «تلك النكراء، تلك الشيطنة»[1]، وفي مقابل هذا يمكن للمختال المكّار أن يضفي علىٰ مكره وحيلته صبغة الثقافة ويزعم انّها عقل، ويَعدَّ العقل الإلٰهيّ لعباد الله الموحّدين ورجال التقوىٰ والورع وهماً وخيالاً.

وعلىٰ كلّ حال فإنّ معنىٰ كون الموضوع دينيّاً واضح لدىٰ المطّلعين علىٰ المعارف الإلٰهيّة. وما يجب الإلتفات إليه هنا هو انّ كون الشيء دينيّاً غير كونه عباديّاً، لأنّه توجد في الدين اُمور كثيرة تسمّىٰ بالأحكام «التوصليّة»، لا التعبّديّة، يعني انّ الإتيان بنفس العمل فيها كافٍ في امتثال الأوامر المتعلّقة بها وسقوط تلك الأوامر حتّىٰ ولو كان أداء العمل بغير قصد القربة، وهذا علىٰ العكس من الأحكام التعبديّة (في مقابل التوصليّة) الّتي لايكفي في امتثالها وسقوط أوامرها مجرّد أدائها، بل يجب الإتيان بها بقصد القربة وبنيّة الطاعة لأمر الله. إذاً ففي الأحكام التوصليّة وإن كان نيل الثواب متوقّفاً علىٰ قصد القربة ونيّة الطاعة لكن مجرّد تنفيذ العمل كافٍ في تحقّق أصل الإمتثال.

تنويه: تارة يستعمل اصطلاح التعبّدي في معنىٰ جامع، وهو يعني عندئذ الشيء الّذي ورد في الأوامر الإلٰهيّة وامتثاله واجب ولو كان سرّه الخفيّ وحقيقته الباطنيّة غير معلومة، مثل وجوب تطهير لباس المصلّي من بعض الأشياء المذكورة في الفقه، فمثل هذا التطهير وإن كان وارداً في الدين بشكل تعبّدي ولكنّه واجب توصّلي وليس تعبّديّاً (عباديّاً). وعليه فإنّ النسبة بين كون الشيء دينيّاً وكونه عباديّاً هي نسبة العموم


[1] . اُصول الكافي، ج1، ص11.

تسنيم، جلد 1

258

والخصوص المطلق. ففي الإسلام تعتبر بعض الاُمور واجباً نفسيّاً، وبعضها يُعدّ واجباً مقدميّاً، وكلّ واحد منهما ينقسم الىٰ التعبّدي والتوصّلي، كما انّ للواجب أقساما اُخرىٰ كثيرة مذكورة في محلّها، من قبيل التعييني والتخييري العينيّ والكفائيّ و... .

وبناءً علىٰ ما سبق ذكره يمكن القول: انّ العقل البرهانيّ إذا ادرك أمراً وكان ذلك الأمر بالفعل جزءً من العقائد أو الأخلاق أو الأحكام أو الحقوق الإسلاميّة فمثل هذا الموضوع هو بالفعل أمر دينيّ. وإذا أدرك العقل البرهانيّ موضوعاً ولم يكن هذا الموضوع بالفعل من الاُمور المذكورة ولكنّ هذا الأمر نافع بالنسبة للإنسان المتديّن أثناء العمل كأن يكون بنفسه واجباً أو مقدّمة لواجب فمثل هذا الموضوع هو أمر دينيّ بالقوّة وعند الحاجة وبلوغ النصاب المعيّن فإنّه يصير دينيّاً بالفعل.

مثلاً، إذا أثبت العقل التجربيّ بدليل معتبر خاصّ انّه ينتج من تركيب مادّتين معيّنتين دواء مؤثّر في علاج مرض خاص، فمثل هذا الموضوع ليس له صبغة دينيّة بالفعل لكن عندما يصاب شخص ذو نفس محترمة (يجب المحافظة عليها) بذلك المرض الّذي يعالج بذلك الدواء، فإنّ الحصول علىٰ ذلك الدواء عن طريق تحضيره بذلك التركيب المعيّن يكون واجباً، وإذا كان هناك شخص يمتلك القدرة العلميّة والعمليّة لتحضير ذلك الدواء ولم يبادر لذلك ولم يهتمّ بحفظ نفس ذلك الفرد المريض ذي النفس المحترمة فقد عصىٰ وسيحاسب علىٰ عمله هذا في يوم القيامة، لانّ حكم الله قد ابلغ الىٰ ذلك الشخص عن طريق العقل التجربيّ، وهو قد أهمل هذا الموضوع الدينيّ. وعليه فانّ كلّ شيء يقع

تسنيم، جلد 1

259

في مسير الفعل او الترك الدينيّ ونفعه أو ضرره يثبت بالعقل البرهانيّ أو التجربيّ فهو دينيّ بالفعل أو بالقوّة، حتّىٰ وإن لم يقم دليل نقليّ علىٰ نفيه أو إثباته.

وبناء علىٰ هذا فإنّه وإن كان مجرّد قيام البرهان العقليّ أو التجربيّ علىٰ كيفيّة تحقّق الشيء لايعدُّ سنداً علىٰ كون ذلك الشيء دينيّاً أو غير دينيّ، لكنّه بمجرّد أن يدخل ذلك الشيء في دائرة فعل الإنسان فإنّه يكون ـ بلحاظ المنافع والمضارّ المترتّبة عليه ـ أو تساوي الطرفين ـ محكوماً إمّا (بالوجوب)، أو مطلق (الرجحان) أو محكوماً (بالحرمة) أو مطلق (كونه مرجوحاً)، وفي حالة تساوي جانبي المنفعة والضرر فإنّه سيكون محكوماً (بالإباحة)، وسند هذه الأحكام الدينيّة الخمسة تارة يكون العقل المحض، وتارة يكون النقل المحض، وتارة يكون ملفّقاً من العقل والنقل.

ويمكن أن نوجز ماذكر بما يلي: 1. كلّ شيء يكون الإعتقاد به لازماً أو ممنوعاً، أو التخلّق به راجحاً أو مرجوحاً، أو امتثاله مفضّلاً أو الإجتناب عنه راجحاً، سواء كان علىٰ نحو الوجوب أو الاستحباب أو كان علىٰ نحو الحرمة أو الكراهة فهو موضوع دينيّ (بلحاظ مقام الثبوت).

2. كلّ دليل يثبت أحد الاُمور الإعتقاديّة أو الأخلاقيّة أو العمليّة فهو برهان دينيّ سواء كان الدليل عقليّاً أم نقليّاً (بلحاظ مقام الإثبات).

3. كلّ المعارف وطرق الإثبات المذكورة هي وصف للعقل، لانّ الفهم عمل العقل، سواء كان المفهوم والمعلوم مكشوفاً من قبل العقل نفسه أيضاً، كما في المستقلاّت العقليّة الّتي يكون فيها العقل الإستدلاليّ

تسنيم، جلد 1

260

صراطاً وسراجاً، اي انّه يكشف صراط وطريق الدين المستقيم بوضوح ويدلّ عليه، أو كان المفهوم والمعلوم مبيّناً بواسطة الأدلّة النقليّة، والعقل يدركها من النصوص المقدّسة، وهنا يكون للعقل دور السراج فقط، لا الصراط، بل النقل هو الصراط، والعقل سراج للصراط.

4. كلّ موضوع يكون العلم التفصيليّ به ليس جزءً من العقائد أو الأخلاق أو الأعمال، لكن اُشير إليه في النصّ الدينيّ مثل كون السماوات والأرض رتقاً في السابق: ﴿... أَنَّ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقا﴾[1] أو انّ السماوات كانت دخاناً قبل التسوية: ﴿... ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ... ٭ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات﴾[2] فالمعرفة البرهانيّة بها دينيّة أيضاً، أي انّ المعلوم والصراط قد استنبط أو يستنبط من النصّ الدينيّ المقدّس، كما انّ مثل هذه المعرفة هي دينيّة أيضاً.

5. الموضوع الّذي لاوجود له في أيّ نصّ ديني، لا في القرآن ولا الحديث ولا التاريخ والسيرة المنقولة عن المعصومين(ع )، فهو وإن كان العمل به في حال كونه مفيداً ونافعاً تحت عنوان الوجوب أو الإستحباب، وفي حال كونه مضرّاً تحت عنوان الحرام أو المكروه، فإنّه أمر دينيّ، لكنّ معلومه لايحمل صبغة دينيّة، أي انّ معرفة التكليف العمليّ لذلك الشيء أمر دينيّ، ولكنّ نفس ذلك المعلوم لا هو دينيّ ولا غير دينيّ، لانّ التقابل بين هذين الأمرين هو تقابل العدم والملكة وليسا هما متناقضين، ولذلك فانّ ارتفاعهما ممكن.


[1] . سورة الأنبياء، الآية 30.

[2] . سورة فصّلت، الآيتان 11 ـ 12.

تسنيم، جلد 1

261

القطع النفسيّ والمنطقيّ في تفسير النصوص المقدّسة

للقيام بتفسير النصوص المقدّسة فإنّ هناك صراطاً مستقيماً يحقّق هذه الغاية، وسلوك هذا الصراط ممكن أيضاً، وقد حقّق عدد من المفسّرين مأربهم بالسير علىٰ هذا الصراط. والفوز بالسير في هذا الصراط ليس وقفاً علىٰ عصر معيّن ولا مصر محدّد ولا جيل بعينه ولا قوميّة خاصّة.

والّذي يجب توفّره لأجل تفسير المعارف النظريّة للنصوص المقدّسة هو رأسمال علميّ خاصّ. فالمفسّر بالنسبة إلىٰ المبادئ التصديقيّة للتفسير تارة يكون علىٰ يقين واُخرىٰ في شكّ، ويقين المفسِّر بالنسبة إلىٰ بعض المبادئ التصديقيّة امّا منطقيّ ناتج من المبادئ والمقدّمات البرهانيّة وإمّا نفسيّ حاصل من الحالات النفسيّة والمميّزات الشخصيّة للمفسّر. وكذا إذا كان للمفسّر شكّ في بعض المبادئ التصديقيّة، فشكّه هذا امّا منطقيّ ناشئ من تكافؤ الأدلّة وتضارب الآراء المتساوية في المسألة، فيزول عند رجحان الدليل وتقوية البرهان في أحد الطرفين، وإمّا نفسيّ ناتج من الملكات والسجايا الباطنيّة والأوصاف النفسانيّة للفرد الشاكّ.

وعلىٰ الرغم من انّ كُلاًّ من القطع المنطقيّ والقطع النفسيّ له طريقه الخاصّ الّذي يتّبعه في الثبوت وفي السقوط، وكلّ منهما له طريقه الخاصّ في الظهور والزوال، لكن تأثيرهما التكوينيّ والطبيعيّ واحد، أي انّ الإنسان القاطع مادام قاطعاً بشيء معيّن فإنّه يتحدّث بمقتضىٰ قطعه فيفسّر ويحلّل ويعمل، سواء كان قطعه منطقيّاً أم نفسيّاً.

وفي علم اُصول الفقه هناك كلام في بحث «قطع القطّاع» متعلّق بحجيّة قطع القاطع النفسيّ وعدمها، لانّ أغلب القطّاعين يتميّزون بسرعة القطع

تسنيم، جلد 1

262

بسبب أوصافهم النفسانيّة، وعلاج هذه الحالة يتمّ علىٰ يد الخبير النفسي الماهر والباحث النفسانيّ المتسلّط والّذي يتقن تشخيص بواطن النفس.

وإذا ما استند تفسير النصّ المقدّس إلىٰ القطع النفسيّ فلا ثمرة له سوىٰ اقناع القطّاع النفسيّ، لانّه فاقد للمبادئ الفكريّة، ولذلك فهو غير قابل للانتقال العلمي الىٰ الآخرين. والماء المعين والعين الجارية ليس الاّ القطع المنطقيّ، لانّه بامتلاكه مبادئ الإستدلال قابل للنقل إلىٰ سائر الباحثين. والشكّ في المبادئ التصديقيّة هو مثل القطع أيضاً سواء كان منطقيّاً أم نفسيّاً، فإنّ له الأثر النفسي الخاص به من الترديد في اتّخاذ القرار وتزلزل العزم والإرادة. والإنسان الشاكّ مادام مبتلىً بهذه الحالة فإنّه لن يصل في تفسير النصّ الىٰ نتيجة واضحة وهو دائماً يبقىٰ تائهاً في وديان الإحتمال وربّما وليت ولعلّ.

وفي علم الفقه وعلم اُصول الفقه يجري مقدار من البحث حول الشكّ المنطقيّ والشك النفسيّ بنحو عابر، مثلاً إذا كان شكّ الفرد طبقاً للمتعارف أي كان منطقيّاً وناشئاً من تساوي العلل وعوامل النفي والإثبات، ويزول بواسطة رجحان أحد علل الإثبات علىٰ النفي أو العكس، ويتحوّل الىٰ جزم بالثبوت أو النفي. فإنّ مثل هذا الشكّ له آثاره الخاصة إذ يكون مجرىٰ لأصل الطهارة أو الحليّة أو الإستصحاب أو الإشتغال وأمثالها، وإذا لم يكن شكّ الفرد ناشئاً من تعادل وتفاعل علل وعوامل النفي والإثبات بل هو ثمرة اضطراب الخواطر وتلاطم الميول النفسانيّة ونزاع الخصال الباطنيّة فحكم مثل هذا الشكّ هو ان يُهمل ولا يعتنىٰ به حتّىٰ يرتفع تدريجيّاً ويُعالج بالتغافل، مثل شكّ كثير الشكّ في

تسنيم، جلد 1

263

عدد ركعات الصلاة. والشكّ المنطقيّ عامل لتطوير البحث وازدهار وتكامل المسائل العلميّة، لانّه يَدفع المحقّق البحّاث للفحص عن البرهان علىٰ الإثبات أو النفي، خلافاً للشكّ النفسيّ الّذي هو عامل للكآبة والقلق والذبول، وهو يجعل الشاكّ متوقّفاً وراكداً.

التفسير الثابت للنصوص المقدّسة

صحيح انّ روح الإنسان مجرّدة، لكنّها لاتمتلك التجرّد العقلي التام حتّىٰ تكون غير محتاجة في المبادئ الإدراكيّة إلىٰ الإحساس وشبهه، وحيث انّ الإحساس لايمكن بغير الإرتباط بالمادّة الخارجيّة، وأيّ نحو من الإرتباط بالمادّة الخارجيّة مقيّد بالزمان والمكان وأمثالهما، ومن جهة اُخرىٰ فإنّ الشيء المُدرك أيضاً يكون له زمان ومكان ووضع ومحاذات معيّنة، لذا قد يتصوّر انّ جميع ادراكات الروح مقيّدة بالزمان والمكان وما شابهما، في حين انّنا إذا اجتزنا مرتبتي الإحساس والتخيّل (وإن كان كلّ ادراك حتّىٰ الإحساس والتخيّل أمراً مجرّداً) وبلغنا مرتبة الإدراك الأصيل للروح فسنلتفت الىٰ مايلي:

1. انّ الروح مجرّدة من قيد الزمان والمكان وأمثالهما.

2. انّ الإدراك أمر مجرّد.

3. انّ الكلّي إذا تمّ إدراكه فهو خلو من كلّ قيد، لانّ الكلي غير الإشتراك اللفظيّ، بل هو معنىٰ مشترك بين أفراد كثيرين بحيث يصدق عليهم جميعاً دون أن يقيّد بقيد أي واحد منها.

4. انّ الشهود الحضوريّ للروح المجرّدة وكذلك الإدراك الكلّي للمجرّد أمر ممكن دون أن يكون هناك تاريخ وزمان للإدراك أو المُدرَك،

تسنيم، جلد 1

264

علىٰ الرغم من انّ إدراك الموجود المجرّد يحصل في زمان خاصّ ومكان معيّن، لكن لاشيء من هذه الاُمور الخارجة من دائرة ادراك الروح ونطاق الإدراك الكلّي له دور في تقييد الإدراك بعصر أو تقييد المُدرَك بمصر.

5. يجب أن تُلاحظ في تفسير النص المقدّس مفاهيم الألفاظ المستعملة في ذلك النصّ طبقاً للفهم المشهور والمتداول في عصر النزول، وإن كانت مصاديقها قد تعدّدت وتنوّعت مع توالي العصور والقرون واتّساع البلدان والأمصار والأقوام والاُمم. وعليه فمن الممكن للمفسّر أن يقدّم تفسيراً ثابتاً وخالداً بواسطة مايملك من مفروضات سابقة ورؤىً مفروضة (الاُصول والقواعد الموضوعة)، بحيث لا يكون المعنىٰ المستنبط بأيّ نحو من الأنحاء مختصّاً بزمان أو جيل أو له حدّ جغرافيّ أو اقليميّ، وإن كان تفسيره قد صدر في ظرف مكاني وزماني محدود، كما انّ المفسِّر المفروض يستنبط من القرآن موضوعاً ثابتاً ومجرّداً وكليّاً ودائميّاً، لاموضوعاً نسبيّاً، وإن كان من الممكن للمتخصّص في علم المعرفة أن يقول: انّ المفسّر المفروض وإن كان يستنبط من الآية معنىٰ مطلقاً وكليّاً وعامّاً، لكنّ فهم هذا الإطلاق والعموم والكلّي يتعلّق بالمفسِّر المذكور خاصّة، وهو معتبر بالنسبة له وحده، وهو غير معتبر بالنسبة للمفسّرين الآخرين.

ميزة تفسير النصوص المقدّسة

كما اُشير إليه سابقاً فإنّ تفسير كتاب أيّ مؤلّف ومقالة كلّ قائل استناداً إلىٰ رأي القارئ أو المستمع فحسب ليس صحيحاً، والتفسير بالرأي

تسنيم، جلد 1

265

للنصوص المقدّسة الدينيّة يتعلّق به النهي الخاص عقلاً ونقلاً، وقد بُيِّنت الىٰ حدّ ما مصادر التفسير الصحيح وكذلك تمّ معرفة معيار وميزان التفسير بالرأي. وهنا ينبغي البحث في مسألة حسّاسة وجديرة بالإهتمام وهي هل انّ تفسير جميع معارف القرآن أمر ممكن طبقاً لقواعد الأدب العربيّ في أقسامه المختلفة من اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع وسائر العلوم المرتبطة بالأدب، حتّىٰ يقال انّ مراعاة قانون المحاورة العربيّة في المحادثة والإحتجاج والمناظرة أو التفهيم والتفهّم، أو الأمر والنهي أو الوعد والوعيد كافية لإستنباط المعارف من القرآن، يعني وإن كانت العلوم الاُخرىٰ لازمة أيضاً ولكن أدوات التفاهم في مجال مواضيع القرآن هي المفردات العربيّة، وجميع العلوم الأساسيّة والأوّلية لأجل استظهار المواضيع الإسلاميّة من النصوص الدينيّة المدوّنة باللغة العربيّة يتمّ استعمالها فقط في دائرة قوانين الأدب العربيّ، أم انّه لاجل بلوغ قمّة المعارف الإلٰهيّة ينبغي أن نتدبّر بدقّة تامّة لاستيعاب الرسالة الخاصّة للقرآن وثقافة الوحي المتميّزة بالمقدار الممكن من دون التصرّف في المفردات العربيّة علىٰ نحو التوسّع، فيستفاد من قانون المحاورة في هذا السياق، وأمّا ما خرج من ذلك النطاق ممّا لايكون لوعاء لغة وأدب العرب سعة استيعاب تلك المعاني السامية والعميقة، فهنا يجب أن نلاحظ الفنّ الأدبيّ الخاصّ بالوحي الّذي جعله الله في قوالب المفردات العربيّة، وبواسطة تلك الأدوات تستنبط المعارف الإسلاميّة من النصوص الدينيّة؟

انّ الله سبحانه قد رفع مستوىٰ الأدب العربيّ بواسطة فنّ الأدب

تسنيم، جلد 1

266

الخاصّ بالوحي وبواسطة الشواهد والقرائن الخاصّة ومنح ذلك الظرف مزيداً من السعة ثمّ انزل في هذا الوعاء الأرضيّ حقيقة ملكوتيّة علىٰ نحو التجلّي وليس التجافي، وحفظ الإرتباط بين الجانب الطبيعيّ لهذا الوعاء واتّجاهه نحو البُعد الّذي يفوق الطبيعة.

وتوضيح ذلك: انّ العالم في عصر نزول الوحي وبعثة الرسول الأكرم(ص) بالرسالة الإلٰهيّة كان محروماً من إدراك التوحيد الخالص وكان صفر اليدين من المعارف التنزيهيّة والتقديسيّة المحضة، ولم يكن له نصيب من العلم بالأزليّة والأيدية والإطلاق الذاتيّ وعدم التناهي للموجود العيني الحقيقي واشباهها، وكما قال أمير المؤمنين علي(ع): «الىٰ ان بعث الله سبحانه محمّداً رسول الله(ص) ... واهل الارض يومئذ ملل متفرّقة وأهواء منتشرة وطوائف متشتّتة، بين مشبّه لله بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير الىٰ غيره فهداهم به من الضلالة...».[1]

والقوميّة العربيّة أيضاً كباقي القوميّات كانت تابعة لإحدىٰ هذه العقائد الباطلة، ولم يكن للتوحيد الخالص وسائر مسائله المرتبطة به وجود في محيط الناطقين بالعربيّة.

ومن جهة اُخرىٰ فإنّ المفردات اللغويّة عند كلّ امّة هي أدوات للتفاهم وتبادل الأفكار وانتقال الرغبات بين أفراد تلك الاُمّة، ومن الواضح انّ القوميّة الّتي ليس لها نظرة توحيديّة ولا نصيب لها من علم المعاد والّتي تحسب ماوراء الطبيعة والمادّة اُسطورة، فإنّ جميع ألفاظها الّتي تضعها ابتداء لمعاني خاصّة تنقل بعضها عن وضعها الأوّلي أو تترك


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 1، المقطع 41.

تسنيم، جلد 1

267

بعض الألفاظ وتهجرها بسبب انعدام مصداقها الأوّلي وتستعملها في مصداق آخر أو معنىٰ جديد، كلّ هذه الألوان من التعيين والتعيّن والوضع والنقل والهجر يتمّ في إطار مفاهيم مدركة ومفهومة عند اولئك القوم، والشيء الّذي لاسابقة له في افهام هؤلاء القوم، لن يصبح معنىٰ أيّ لفظ من الألفاظ المتداولة بين اُولئك القوم.

ومن جهة ثالثة فإنّ قوانين التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز والمرسل وسائر فنون المعاني والبديع والبيان علىٰ الرغم من قبولها فإنّ كلاًّ منها له دائرة خاصّة، يعني انّ الاُمّة الّتي لم تكن تدرك معارف الإسلام الخالصة مثل الحقيقة البسيطة المحضة، والإطلاق الذاتيّ للحقّ تعالىٰ. فإنّ مستوىٰ الكنايات ومجازات الألفاظ لايمكن أن يرقىٰ إلىٰ تلك القمّة الصعبة المنال، وكما انّ الوحي الإلٰهيّ لو اُنزل علىٰ الجبال فإنّها لاتطيق حمل قوّة الوحي الهائلة ولتصدّعت وتفتّتت، فكذلك المعارف الخالصة لو اُنزلت في قوالب اللغة العربيّة دون اعمال التوسعة الأدبيّة وترشيد وتطوير المفردات وتحرير اللغة من قيود عبوديّة الفهم العربيّ المتداول والمشهور، فإنّه سوف يلزم أحد محذورين: فإمّا أن تصبح المعارف الخالصة غير خالصة ومشوبة، وإمّا أن تتفكّك وتختلّ اُسس وقواعد الأدب العربيّ لانّ كلّ ظرف وإناء لايتحمّل أكثر من المقدار والحجم الخاصّ به.

ومن هنا ندرك اللغة المتميّزة للوحي ولسان القرآن الخاصّ وانّ القرآن قد عرض جميع المسائل المرتبطة بالدنيا والمُلك والمادّة ولوازمها وكذلك البدن وأحكامه الخاصّة والسماء الماديّة ولوازمها وكلّ

تسنيم، جلد 1

268

ماهو من سنخ الحس والخيال والوهم وحتّىٰ مافوق الوهم أي العقل المتعارف للناطقين بالعربيّة في ذلك العصر، كلّ ذلك عرضه القرآن بواسطة المفردات العربيّة وقانون المحاورة العربيّة وسائر الفنون والآداب المستخدمة في التفاهم ولاتزال باقية في نفس القوّة السابقة، وأمّا المعارف المتعالية الّتي لم تكن في صفحات الذهن العربيّ أو الفارسيّ، والّتي لايحيط بها النطاق الفكريّ للواضعين والمستعملين لتلك الألفاظ، والّتي لاتخطر علىٰ بال ولا تدخل في مجال إدراك اُدباء سوق عكاظ وشعراء (المعلّقات السبع) وأمثالها، فإنّه بعد إثارة دفائن العقول وتفهيم أصل موضوع ماوراء الطبيعة فقد هيّأ الأرضيّة للتوسعة الثقافيّة وزيادة سعة اللغة والتطوّر التكاملي للمفردات.

طبعاً انّ التوسعة لثقافة التفاهم لها طرق كثيرة من جملتها اقتراحان مشهوران في مجال المفردات اللغوية (وهما علىٰ نحو مانعة الخلوّ): احدهما انّ الألفاظ توضع لأرواح المعاني، فعلىٰ الرغم من انّ الواضعين الأوائل لايعلمون ببعض درجات ومراتب تلك الأرواح العالية، وبسبب الجهل أو الغفلة عن المراحل العالية فانّهم يتوهّمون انحصار المعنىٰ في مصداق خاص، والاقتراح الآخر هو انّه علىٰ الرغم من انّ الألفاظ توضع لتلك المرتبة من المعنىٰ الّتي يدركها ويفهمها الواضعون الأوائل لكنّ استعمالها في مصاديق اُخرىٰ أو تطبيق ذلك المعنىٰ علىٰ مصاديق أرفع وأعلىٰ يكون من قبيل التوسعة والمجاز، ولمّا كان كلّ واحد من هذين الاقتراحين وامثالهما يشبه ترتّب الغاية والفائدة في استعمال الألفاظ فهو يصبح ميزاناً للإستنباط ويُعدّ جزء من المعطيات الجديدة والبديعة للقرآن الكريم.

تسنيم، جلد 1

269

فالّذي لايعلم سوىٰ اللغة العربيّة بجميع تخصّصاتها وفنونها الأدبيّة لكنّه غير مطّلع علىٰ هذه الملاحظة الابداعيّة للقرآن فإنّه مهما بذل من سعي حثيث في حفظ الأمانة الأدبيّة فهو لن يفلح أبداً في مضمار استنباط المعارف من القرآن ولن يتخلّص من فخّ التفسير بالرأي الّذي يكبّل الإنسان ويصيبه بالسقم، لانّ حُلّة الأدب الجاهليّ وثياب الفنّ العربيّ تقصر عن قامة الوحي الإلٰهي الرفيعة، وشهادة دواوين الجاهليّة وشعرائهم واُدبائهم فيما يتعلّق بمعارف السماء العالية ستكون شهادة زور، وقاضي محكمة المفردات العربيّة متّهم برشوة الأنانيّة وحبّ الذات والماديّة والميل الىٰ الطبيعة: «لا تسل من الجاهليّ أمثال هذه المواضيع».

والقرآن الكريم يعلن انّ قسماً من المعارف المتعالية للقرآن ومعطيات الوحي خارجة عن نطاق القدرة البشريّة. ويمكن استنباط هذا المعنىٰ المدّعىٰ من الآيات التالية:

1. ﴿... إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٭ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم﴾[1]، يعني انّ هذا الكتاب جعلناه في قالب عربيّ واضح حتّىٰ يمكنكم بعد الإحاطة بقوانين العربيّة والأدب العربيّ ان تقطفوا الثمار العلميّة والعمليّة من مضامينه وان تتعقّلوه، وهذا الكتاب مع احتفاظه بعنوان القرآن له امتداد وجذور عميقة ومواضيعه ومعانيه العالية تسمو وترتفع حتّىٰ تكون حاضرة في اُمّ الكتاب، ونفس هذا القرآن العربيّ موصوف عند الله بصفتي (العلوّ) و(الحكمة)، فهو (عليّ حكيم). وعليه فانّ ثمرة سوق عكاظ لاتوفّر للمفسّر السطحيّ أمر الحصول علىٰ


[1] . سورة الزخرف، الآيتان 3 ـ 4.

تسنيم، جلد 1

270

بضاعة اُمّ الكتاب، وثروة المعلّقات السبع لا تمكّنه من ان يحترف تجارة العليّ الحكيم.

تنويه: حيث انّ ارتباط مرتبة (امّ الكتاب) مع مرتبة (عربي مبين) علىٰ نحو التجلّي لا التجافي، فانّ حبل الوحي والحبل المتين القرآنيّ قد احاط بجميع الملك والملكوت، وهو موجود في جميع هذه المراتب، وبما انّ معارف وحقيقة اُمّ الكتاب قد ظهرت علىٰ نحو الرقيقة في ألفاظ خاصّة فانّه لن يمكن بلوغ قِمّتها بالوسائل والأدوات الضعيفة والبضاعة المزجاة لأدب الحجاز المدنّس بالشرك وأدب نجد واليمن الملوّث بالكفر.

2. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾[1] يعني انّ رسولنا يقوم بعدّة مهمّات احداها: تلاوة الآيات علىٰ المجتمع البشري كي يتعلّم الناس قراءة كتاب الله، والاُخرىٰ: تهذيب الأرواح وتزكية النفوس كي تطهّر قلوب المجتمع، والثالثة: تعليم مواضيع الكتاب ومعارف الحكمة، والرابعة: تعليم الاُمور الّتي لايعلم بها المجتمع البشريّ ليس هذا فحسب بل لايمكن أن يستوعبها أبداً بواسطة وسائل وأدوات التعليم العاديّة الأعمّ من الأدبيّة والفلسفيّة والعرفانيّة، والتدبّر الكافي في كلمة ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾ يُفيد هذه الحقيقة وهي انّ ذلك المستوىٰ من المعارف العالية لايمكن أبداً أن تحظىٰ به القوّة العقليّة للبشر دون تعليم السماء، لانّ تعبير ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾ يختلف عن تعبير ﴿مَا لاَ


[1] . سورة البقرة، الآية 151.

تسنيم، جلد 1

271

تَعْلَمُون﴾، وفي هذا المنهج الرابع يمكن القول انّ المقصود منه لايقتصر علىٰ سنخ العلم الحصوليّ أو الحضوري، بل يمكن أن يكون من سنخ التزكية والتهذيب أيضاً، أي اضافة الىٰ العلوم النظريّة فإنّ النزاهة الروحيّة والفضائل الأخلاقيّة الخاصّة تقدّم الىٰ المجتمع البشريّ بواسطة الرسول الإلٰهي، ولعلّ المجتمع الإنسانيّ نفسه إذا رجع الىٰ حجّته الباطنة ومصباح خِلقته المضيء وهما العقل والفطرة وازاح عنهما غبار الأغيار. واستمع الىٰ ايقاع نغماتهما الجذّاب وادرك جميع ما فيهما من نصائح ومنافع فإنّه مع ذلك كلّه لايستطيع بدون الوحي أن يبلغ مقام التنزيه والتسبيح ذاك، لأنّه صحيح انّه في مجال تعلّم الكتاب والحكمة يكون الأمر كذلك الىٰ حدٍّ ما، ولكنّ المرتبة العالية من نزاهة الروح والدرجة السامية من العلم لاتدخل في دائرة البشر العاديّ أصلاً، وليس لها حضور وظهور في نطاق الانسان المتعارف أبداً، الىٰ درجة انّ اسم هذه المرتبة قد ورد علىٰ نحو الكناية: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾ ولم ترد أيّةُ اشارة الىٰ علاماتها وشواهدها وعللها ومعاليلها، كالّذي جاء في نعت بعض النعم الغيبيّة للجنّة في قوله تعالىٰ: ﴿... فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِن قُرَّةٍ أَعْيُن﴾.[1]

ولعلّ هذا المقام السامي الخفيّ هو لذلك الفرد الّذي قد حاز علىٰ العلم المكنون والنزاهة المحجوبة، يعني انّه في مجال المعارف العقليّة اضافة الىٰ تعليم الكتاب والحكمة له نصيب خاصّ من: ﴿يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾ ممّا يعدّ من بركات الوحي الإلٰهيّ، وأيضاً في مجال الفضائل الروحيّة اضافة الىٰ ﴿يُزَكِّيهم﴾ الّذي يُوهب لأغلب الأتقياء فإنّ


[1] . سورة السجدة، الآية 17.

تسنيم، جلد 1

272

له حظّاً وافراً من علم التنزيه والتهذيب الّذي لايحظىٰ به أحد الاّ عن طريق تعليم الغيب، ولعلّ الأوحديّ من أهل الجنّة يقصد من قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا الله﴾[1] انّ بلوغ هذا المقام الرفيع الشامخ لم يكن ممكناً بمجرّد العقل، وانّ الطرق العاديّة عاجزة عن بلوغه، فلم تكن الاّ العناية والهداية الإلٰهيّة هي الّتي أرشدت وأوصلت الىٰ ذلك.

وعلىٰ كلّ حال فإنّ الوحي الإلٰهي يحتوي ـ بالاضافة الىٰ المضامين المعروفة الّتي هي في متناول العقل ـ علىٰ مواضيع خارج العقل المعتاد والتي يعبّر عنها بإصطلاح: (طور وراء طور). ولذلك فانّ الخوض في تفصيل هذه المواضيع الّتي هي فوق العقل المتعارف اعتماداً علىٰ ميزان ثقافة المحاورة وبالاستعانة بالأساليب الأدبيّة لاُمّة العرب وحصرها في الدهاليز الضيّقة لحصيلة المعلومات الأرضيّة من النثر والنظم الجاهليّ أو المخضرم لن يتمّ بدون التفسير بالرأي.

وانّ الدور الوحيد للمفسِّر في مثل هذه المعارف العالية هو (في مثل هذا المكان يجب أن تكون كلّ الأعضاء أبصاراً وأسماعاً) لكي يتمّ أوّلاً: تلقّي وسائل التفاهم من معلّم الجميع. وثانياً يتعلّم طريقة استعمال تلك الوسائل من المعلّم الأوّل وهو الرسول الأكرم(ص) ومن هم في درجة روحه الملكوتيّة والجبروتيّة، وثالثاً يستوفي من معلّم الكتاب والحكمة طريقة الانتقال من مُلك الأدب العربيّ الىٰ ملكوت اللطائف الأدبيّة القرآنيّة. ورابعاً: يستوعب طريقة العروج من مرتبة العربيّ المبين الىٰ (امّ


[1] . سورة الاعراف، الآية 43.

تسنيم، جلد 1

273

الكتاب) والارتقاء من دائرة اللغة الىٰ فضاء مافوق اللغة والتحليق الىٰ مرتبة (عليّ حكيم) من معلّم ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾، اذ انّ تفسير القرآن دون سلوك هذه المراحل وبالاقتصار علىٰ قواعد المحاورة العربيّة وإن كان متيسّراً في الجملة لكنّه غير ممكن بالجملة، كما انّ خطر الابتلاء بالتفسير بالرأي متوقّع في «الحِمىٰ». ولعلّ قسماً من التحدّي العالميّ للقرآن الكريم يقصد به هذه المرتبة: ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون﴾، وتفصيل ذلك مرتبط بمبحث الاعجاز.

والمقصود هو انّ تفسير جزء من القرآن إذا لم يكن موافقاً لـ«امّ الكتاب» ومنسجماً مع «عليّ حكيم»، فلابدّ أن يكون غير مخالف لهما، حيث انّ الموافقة مع المعارف المتعالية لامّ الكتاب والمعاني الشامخة والعميقة لعليّ حكيم إذا لم تكن شرطاً حتميّاً في التفسير الصحيح فانّ المخالفة معهما ستكون حتماً مانعة من هذا التفسير، وبالنتيجة فانّ التفسير المخالف مع تلك المرتبة العليا هو تفسير بالرأي، لانّ من يريد أن يعتمد علىٰ مالديه من ثقافة المحاورة وقواعد التفاهم العربيّة الجاهليّة مع مافيها من سعة من جهة التشبيه والكناية والاستعارة والمجاز والمرسل و... ليستفيد من الوحي العظيم ذي الآفاق الواسعة والّذي حدّه العربيّ المبين من جهة وحدّه الآخر «امّ الكتاب» و«عليّ حكيم» فإنّ غاية مايناله هو غيض من فيض وجدّة من لجّة، وفقاعة من سيل، ومن الواضح انّ تصوّر كلّ الفيض غيضاً وحسبان الجدّة لُجّة وزعم الفقاعة انّها سيل هو حمل للوحي العظيم الواسع علىٰ الوهم الضيّق وفرض للسراب علىٰ الماء الزلال الصافي، وتخيل انّه ارتوىٰ من عين الماء

تسنيم، جلد 1

274

المعين، أي انّه وقع في تفسير القرآن بالرأي، وهذا هو ما نبّه اليه العلاّمة الطباطبائيّ (ره) حيث قال: انّ النهي عن التفسير بالرأي يقصد به طريق الكشف وليس المكشوف.[1]

كما يمكن ضمناً الاستعانة بما جاء في حديث الثقلين فيما يتعلّق بالقرآن الكريم حيث يؤكّد انّه حبل ممدود طرف منه بيد الله والطرف الآخر بيد الناس: «وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء الىٰ الارض»[2]، لانّ حقيقة القرآن موجود متّصل قد ارتبطت فيه المرتبة الإلٰهيّة برتبة العربيّ المبين، وتفسير الرتبة النازلة طبقاً لقواعد التفاهم العربيّة دون مراعاة المرتبة الإلٰهيّة يعتبر من سنخ تقطيع القرآن وجعله «عِضينَ» ويُعدّ تفسيراً بالرأي. طبعاً انّ سفر الانسان وحده في مثل ماء الحياة هذا ممكن إذا اصطحب معه خضر الولاية، وذلك أيضاً علىٰ قدر الإستعداد والقابليّة، ولذلك يجب أن يقترن مع المعرفة الإعتراف بالعجز في جميع المراتب.

وما اكّده أمير المؤمنين(ع) حول الإهتمام بالقرآن وجعله أساساً ومحوراً، واجتناب فرض الهوىٰ علىٰ الهدىٰ والتأكيد علىٰ عطف الهوىٰ علىٰ الهدىٰ وفرض الهدىٰ علىٰ الهوىٰ، يمكن أن يشمل بعض بحوث التفسير بالرأي: «ألا انّ كلّ حارث مبتلىٰ في حرثه وعاقبة عمله، غير حَرَثة القرآن، فكونوا من حرثته واتباعه، واستدلّوه علىٰ ربّكم واستنصحوه علىٰ أنفسكم واتّهموا عليه آراءكم واستغِشّوا فيه أهواءكم»[3]، «يعطف


[1] . الميزان، ج3، ص75 ـ 87.

[2] . البحار، ج23، ص108.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 176، المقطع 12.

تسنيم، جلد 1

275

الهوىٰ علىٰ الهدىٰ إذا عطفوا الهدىٰ علىٰ الهوىٰ ويعطف الرأي علىٰ القرآن إذا عطفوا القرآن علىٰ الرأي».[1] طبعاً انّ منشأ التفسير بالرأي في القرآن وغيره من النصوص الدينيّة هو الجهل العلميّ تارة، وأحياناً هو الجهالة العمليّة، فمرّة الشبهة العلميّة واُخرىٰ الشهوة العمليّة، تارة الضحالة واُخرىٰ المرض، تارة الغباء، واُخرىٰ عمىٰ القلب.

تأثير «التوقع من النصّ» في تفسيره

علىٰ الرغم من انّ تفسير النصّ المقدّس أو النصوص العاديّة لايتمّ دون وجود فهم سابق ومفروضات سابقة أي (اُصول موضوعة)، ولايتسنّىٰ تفسيرها دون امتلاك مجموعة من المبادئ التصوريّة والتصديقيّة الّتي هي القاعدة الأساسيّة لفهم النصوص المحتاجة الىٰ التفسير، لكنّ المفسِّر في مقدّمة تفسيره يبدأ بالاستفهام والسؤال ويعرض مايحتاجه من موضوع علىٰ النصّ المقدّس، لانّ النصّ المذكور يبيّن مقصده بلسان فصيح وباستعمال قوانين ثقافة التحاور، اي الأدب الحيّ الفعّال ودون ابهام واجمال وتعمية والغاز.

وفي هذه المرحلة يكون تكليف المفسِّر هو الصمت لا النطق، كما انّ دور النصّ المقدّس في هذه المرحلة هو النطق لا الصمت.

فإذا تحرّك المفسّر نحو النصّ المقدّس دون فهم سابق فلن يستفيد منه شيئاً، لانَّ كليهما صامت ولا يلمع من التقاء الساكنين برق ولا ترنّ نغمة من اصطدام الصامتين، وإذا جاء المفسّر إلىٰ النصّ المقدّس مع مفروضات خاصّة سابقة ولم يلتزم الصمت بعد الاستفهام والسؤال من


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 138، المقطع 1.

تسنيم، جلد 1

276

النصّ ولم يأذن للنصّ المقدّس بالكلام وتصدّىٰ هو للجواب علىٰ سؤاله متحدّثاً باسم النصّ المقدّس فمثل هذا يسمع صوت نفسه من لسانه، ومثل هذا التفسير مصداق بارز للتفسير بالرأي، وإذا أذن للنصّ المقدّس بالكلام لكنّه شارك النص المقدّس بتقديم بعض المواضيع من نفسه ففي هذه الحالة يستمع صوته ممتزجاً بصوت النصّ المقدّس ومثل هذا التفسير تحريف وترقيع وتدليس وتلفيق للآراء والنظريات الأرضيّة مع ثقافة السماء الواعية، وهذا أيضاً تفسير بالرأي، لانّ المجموع من الخارج والداخل والمركّب من الحقّ والباطل هو خارج وباطل، والاجتناب عن جميع ذلك ممكن، كما انّه قد صدر الأمر باجتناب جميعها، والنهي عن ارتكابها، كما انّ الكثير من الأفراد ممّن كانت لهم فرضيّات مسبقة متشابهة قد ذهبوا نحو النصّ المقدّس فسمعوا أجوبة متعدّدة ومختلفة، لانّ بعضهم قد ادّىٰ واجبه التفسيري والبعض الآخر لم يؤدّه، والتكليف المهمّ في هذه الحالة بعد الاستفهام من النصّ هو الصمت لا النطق.

هنالك سيكون جواب النصّ المقدّس بعد الاستنطاق متنوّعاً، لانّه تارة يؤكّد ويمضي نفس الفهم المسبق وأحياناً يضيف الىٰ امضاء وتأييد الفهم المسبق موضوعاً آخر يمضيه ويجعله عِدل ذاك، وتارة يبطل ذلك الفهم السابق ويؤسّس في مقابله موضوعاً آخر. ولذلك فانّ الأفراد النزيهين من وصمة التفسير بالرأي المذموم ومن وصمة كونهم المتكلّمين وحدهم، والّذين يتكلّمون في وقت الاستفهام من النصّ المقدّس ويسكتون في وقت الاستماع الىٰ الجواب والمبتعدين عن الأمرين اللذين يؤدّيان الىٰ فساد العقل واندثار الحكمة وهما «السكوت

تسنيم، جلد 1

277

عندما ينبغي الكلام» و«الكلام عندما ينبغي السكوت» فانّ تفسير مثل هؤلاء هو التفسير بالرأي المحمود والممدوح، أي لديهم تفسير عن دراية معقول ومقبول، ويقبلون ما يسمعونه من جواب من النصّ المقدّس بعد استفهامهم منه، وذلك الجواب يكون تارة امضاء للفهم السابق، وتارة يكون امضاءً مقترناً بموضوع معادل للرأي السابق، وتارة أيضاً يكون ابطالاً لذلك الفهم السابق. ولذلك ترىٰ مثل هؤلاء المفسّرين يعيدون النظر في فهمهم السابق. فكم من مفسِّرٍ كان له رأيه واعتقاده الخاصّ قبل الرجوع الىٰ النص المقدّس وبعد مراجعة النصّ المذكور إمّا أن يتراجع عن رأيه واعتقاده ويتبنّىٰ رأياً جديداً وإمّا أن يتزلزل يقينه بصحّة رأيه واعتقاده فيتحوّل الجزم الىٰ شكّ والعزم الىٰ ترديد.

وبناء علىٰ ذلك فعلىٰ الرغم من انّ التفسير لايتمّ من دون فهم مسبق والاُمّي المحض لا قدرة له علىٰ التفسير، لكنّ جواب النصّ ليس دائماً امضاءً وقبولاً لذلك الفهم المسبق؛ الاّ لدىٰ ذلك اللدود العنيد الّذي لايعترف بشيء آخر سوىٰ التفسير بالرأي المذموم. ومن هنا يتميّز التوقّع الصادق من التوقّع الكاذب، لانّ التوقّع الصادق هو انّ المفسّر عند ظهور اعتقاد أو رأي جديد في الرؤية الكونيّة والحياة فهو يعرضه علىٰ النصّ المقدّس بأمانة وباُسلوب سليم ولمّا كانت دعوىٰ النصّ المقدّس هي انّه يقدّم أكمل وأتمّ وأفضل فلسفة ورؤية للحياة والكون فهو يجيب بعد عرض السؤال عليه. أمّا إذا بادر المفسِّر الىٰ تقديم الجواب المقترن مع السؤال ولم يمهل النصّ المقدّس أو انّه بدأ يجيب أثناء جواب النصّ المقدّس فمثل هذا المفسِّر يستمع الىٰ رأي نفسه فحسب أو الىٰ الكلام

تسنيم، جلد 1

278

المختلط والمزيج من كلام الخلق والخالق ويقوم هو باشباع توقّعه الكاذب، وأمّا إذا صمت المفسِّر بعد الاستفهام وأنصت الىٰ كلام النصّ المقدّس وحده فانّ توقّعه صادق وسوف يجد حلّ مشكلته جاهزاً علىٰ يد النصّ المقدّس.

ومعرفة الدين، ومعرفة الانسان وما شابهها هي كلّها من هذا القبيل، فمع ظهور مدرسة ونظريّة جديدة في إحدىٰ هذه المسائل، فإنّ كلّ مفسّر يأتي ومعه فهمه الأوّلي السابق ومفروضاته السابقة الخاصّة ويطرح الأسئلة علىٰ النصّ المقدّس ثمّ يصمت كي يستمع الجواب من اللسان الناطق للنصّ المقدّس. ولذلك فانّه في حالات متعدّدة يستمع الىٰ أجوبة كثيرة ومتنوّعة. والقصد هو انّ التوقّع العلميّ الصادق هو غير التمنّي الكاذب وغير العلميّ حيث انّ الأوّل تفسير عن دراية ومعقول ومقبول، والثاني تفسير بالرأي وهو مذموم ومرفوض.

وصحيح انّ النص صامت من غير فهم سابق ومفروضات سابقة، لكنّه بعد القواعد والاُصول الموضوعة وطرح السؤال فإنّه ناطق تماماً، والمقصود من نطق النصّ هو دلالته الّتي يدلّ ويرشد اليها وقابليّته في ان يوصل صوته الخاصّ الىٰ سمع المستمع والمستنطق والمستفهم طبقاً لقواعد التفاهم وثقافة التحاور. وليس المراد أبداً من النطق هو (التلفّظ الصوتيّ)، ولذلك فلا فرق من هذه الناحية بين الملفوظ والمكتوب، وكما انّ الوجود اللفظيّ يرشد السامع فانّ الوجود الكتبيّ أيضاً سيرشد القارئ، والشرط اللازم للاستفادة من دلالة الوجود اللفظيّ أو الكتبيّ هو وجود الفهم السابق المذكور، وفي بعض الأحيان يرشد الوجود اللفظيّ أو الكتبيّ الىٰ تثبيت

تسنيم، جلد 1

279

وإبقاء المفروضات السابقة وأحياناً اُخرىٰ يرشد الىٰ تغييرها علىٰ نحو التكامل والترشيد أو علىٰ نحو الإبطال والنفي أو بأنحاء اُخرىٰ.

وليس معنىٰ التوقّع من النص المقدّس هو تبرير مفاسد المفسِّر أو تصحيح أخطائه وتصديق أكاذيبه وتصويب خطاياه. انّ مثل هذا التوقّع غير موجود ولا مقبول في قاموس علم المعرفة. وما يُطرح في مبحث (الهرمنوطيقيا) تحت عنوان «تأثير التوقّع من النصّ في تفسيره» هو انّ كلّ شخص عندما يرد الىٰ ميدان التفسير بمبناه العلميّ الخاصّ فانّ توقّعه العامّ والأوّلي هو ان يقدّم جواباً نهائيّاً حول نظريّة خاصّة من نظريّات فلسفة الوجود والرؤية الكونيّة ومعرفة الإنسان وعلم النفس وماشابه ذلك، والتوقّع الخاصّ والثانوي لبعض المفسّرين هو ان يتبنّىٰ النصّ المقدّس نظريّته ومبناه العلميّ، ومثل هذا التوقّع غير الجائز ليس صحيحاً ولا عامّاً، ومثل هذا التفسير حّتىٰ وإن كان صحيحاً لكنّه غير جائز بسبب سوء سريرة الشخص المفسِّر الّذي كان يريد فرض رأيه علىٰ النصّ المقدّس.

وخلاصة القول هي، انّ النصّ المقدّس كالقرآن وإن كان بالنسبة الىٰ الأعمىٰ ظلمة ولكنّه نور للبصير، وهو بالنسبة للاُمّي الّذي لايقرأ ولا يكتب صامت، لكنّه عند العالم المثقّف العارف بثقافة التفاهم والمطّلع علىٰ أدب التحاور ناطق، وأيّ نطق أفضل من الدلالة وأيّ تكلّم أكثر متعة للسمع من نصّ أو من ظاهر النصّ المقدّس الّذي فيه تبيان كلّ شيء مؤثّر في سعادة المجتمعات البشريّة، لانّه ناطق ويجيب علىٰ الأسئلة العلميّة جواباً متقناً. ولذلك يدفع السائل الّذي قَدِم الىٰ النصّ المقدّس

تسنيم، جلد 1

280

بمبناه وفهمه السابق الخاصّ أن يُقرَّ بشيء كان ينكره أو يلتزم بقبول شيء كان لايعترف به. فكون النصّ المقدّس يبعث تارة الىٰ (إقرار المنكر) أو (انكار المقرّ) أو (جزم الشاكّ) أو (شكّ الجازم) انّما هو علامة علىٰ انّ مثل هذا النصّ ناطق تماماً طبقاً لثقافة التحاور، وليس صامتاً وهو يجيب طبقاً للانتظار والتوقّع الصحيح، لا التوقّع السلبيّ والباطل.

الإجابة علىٰ نقد للميزان

صحيح انّ معنىٰ الوحي وكيفيّة تلقّي الرسل(ع ) للوحي ومعنىٰ الإعجاز وارتباط المعجزة بقانون العلّة والمعلول وأمثالها هي بحوث مستقلّة ولها محلّها الخاصّ في علوم القرآن، لكن حيث انّ البعض تحدّث عنها في مبحث التفسير بالرأي لذا فنحن نُشير إليها هنا علىٰ نحو الإختصار والإجمال:

1. انّ ما يذكر عن الوحي في كتب الفلسفة فهو إمّا أن يدور حول إمكانيّته في علم النفس عند بيان الشؤون العلميّة والعمليّة للنفس وبيان قداسة بعض النفوس وإمكانيّة ترقّيها الىٰ مقام العصمة والإرتباط مع ملائكة الله المعصومين (الّذين يعبّر عنهم بالعقول العالية كاصطلاح لا أكثر)، وإمّا أن يدور حول ضرورة الوحي والنبوّة الّذي يطرح في مبحث الفعل الإلٰهيّ وبالإستناد إلىٰ حكمة الله وعدله يتمّ إثبات الضرورة المذكورة.

2. انّ قانون العليّة والمعلوليّة هو قانون عقليّ وضروريّ، ونقضه ممتنع، وإذا أمكن أن يوجد معلول من غير علّة، أو احتمل أن يكون هناك موجود ووجوده ليس عين ذاته ويوجد بنفسه فانّ هذا الأمر يؤدّي إلىٰ انهيار جميع القوانين العينيّة والعلميّة، والمعجزة لاتجعل المحال العقليّ ممكناً، بل انّها توجد المحال العاديّ علىٰ أساس خرق العادة. إذاً

تسنيم، جلد 1

281

قانون العليّة والمعلوليّة من حيث انّه يرجع الىٰ أصل امتناع التناقض (أي يلزم من نفي العليّة اجتماع النقيضين) وهو مبدأ جميع المبادئ التصديقيّة في اثبات أصل وجود المبدأ وأسمائه الحسنىٰ وكذلك ضرورة الوحي والنبوّة، فهو أصل أوّلي معقول ومقبول، وليس هو قاعدة فلسفيّة تريد أن تحكم علىٰ جميع المعارف الإلٰهيّة، بل انّ نفس تلك القاعدة الأوّليّة أصل الهيّ وفطري تقوم علىٰ أساسه كلّ الاُصول والقواعد الاُخرىٰ. ومن الواضح انّه ليست القواعد الفلسفيّة والعرفانيّة النظريّة بهذا الشكل فكلّ واحدة منها لها حكمها الخاصّ بها.

وبالتأمّل فيما ذكر وبالعودة من جديد الىٰ كلام الاُستاذ العلاّمة الطباطبائي (ره)[1] يتّضح انّ نقد الناقد يتّجه الىٰ افكاره الخاصّة به لا إلىٰ كلام الاُستاذ (ره). فلايظهر أبداً من كلام العلاّمة: 1. انّ الرسول الأكرم(ص) في علوم القرآن مع سائر الناس في درجة واحدة. 2. انّ الناس مستقلّون وليسوا بحاجة الىٰ الرسول الأكرم(ص) في تحصيل علوم القرآن. 3. انّ الرسول الأكرم(ص) معزول عن مقام المرجعيّة في علوم القرآن. 4. انّ علوم ومعارف القرآن في متناول الجميع وهذا موجب لإهانة القرآن. 5. انّ الرسول(ص) علّم كلّ مالديه من علوم القرآن لأصحابه، وهم قد فسّروا القرآن للناس.[2]

ولا شيء من هذه الاُمور المذكورة تحطّ من مقام تفسير الميزان الرفيع ولا تمسّ كرامته. في حين انّه اوّلاً: يجب أن يُعلم ابداع العلاّمة


[1] . الميزان، ج3، ص87.

[2] . مناهج البيان، ج1، ص45 ـ 53.

تسنيم، جلد 1

282

في مجال معنىٰ التفسير بالرأي وما له من فكر تجديدي في هذا المجال. وثانياً: وان يلاحظ محذور الدور في المراجعة الىٰ الرسول الأكرم(ص). وثالثاً: يجب الفصل بين التبيين والتعليم الّذي يستفاد من الخبير المتخصّص وبين المرجعيّة التعبديّة. ورابعاً: يجب أن يوضّح استنباطه العميق من الجمع بين الآية: ﴿... لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون﴾[1] والآية ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا﴾[2] حيث يتّضح انّ التماسّ مع باطن القرآن وحقائقه المكنونة المخفيّة هو من نصيب أهل بيت العصمة والطهارة الخاصّ بهم وانّ الآخرين محتاجون اليهم قطعاً. وصحيح انّه قد جاء في كلمات القدماء كالغزالي انّ مسَّ مرتبة الباطن والعلم المكنون للقرآن الكريم ليس متيسّراً دون طهارة القلب، لكنّ تشخيص الذوات المطهّرة والأفراد المعصومين(ع ) وكون الحقائق المكنونة للقرآن الكريم ممسوسة لهم ومعلومة لديهم وفي متناول أيديهم، كلّ ذلك من بركات العلماء العظام للفرقة الناجية أمثال العلاّمة الطباطبائي (ره). والجدير بالمتأخّرين وما ينبغي علىٰ المتنعّمين في كنف الميزان ان يحوزوا اكبر قدر من الغنائم وان يستوفوا الحظّ الأوفر والنصيب الأعلىٰ من هذه المأدبة والمائدة الفاخرة الّتي فيها: ﴿مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُن﴾[3] وهذه الجنّة الّتي: ﴿أُكُلُهَا دَائِم﴾[4] وهذه الشجرة الّتي هي شجرة طوبىٰ الّتي ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ


[1] . سورة الواقعة، الآية 79.

[2] . سورة الأحزاب، الآية 33.

[3] . سورة الزخرف، الآية 71.

[4] . سورة الرعد، الآية 35.

تسنيم، جلد 1

283

وَفَرْعُهَا فِي السَّماء﴾[1] وأخيراً وليس آخراً من هذه الموسوعة الّتي: ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَة﴾[2] وإن كان النقد الصادر عن علم وحكمة مفيداً للعلماء والاشكال الناتج من التحقيق شأن العقلاء وانّ الإستفهام الحقيقي الناشئ عن حبّ الحقيقة فوز وفيض للمخلصين.

الفصل السابع: مكانة آراء المفسّرين وشأن النزول في التفسير

مضىٰ في الفصول السابقة بيان مكانة ودور القرآن والعقل وروايات المعصومين(ع ) في تفسير القرآن الكريم. وهنا سنأتي علىٰ بحث مكانة ودور آراء المفسّرين وكذلك روايات شأن النزول في تفسير القرآن.

1. آراء المفسّرين: كما انّ في علم الفقه، لاتكون لآراء وفتاوىٰ الفقهاء حجيّة عند الفقيه الآخر في استنباط الأحكام الفرعيّة من مصادر الدين، وانّما هي مؤثّرة ومساعدة في تحقيق النضج والتكامل العلميّ للفقيه المستنبط كذلك فانّ آراء المفسّرين أيضاً مؤثّرة في التعرّف علىٰ القرآن وحصول الفهم والإستظهار التفسيريّ عند المفسِّر، وليس فيها أيّ نحو من الحجيّة له، سواء كان المفسّرون المذكورون من الصحابة أو من التابعين أو من العصور المتأخّرة، لانّه ليس فيهم معصوم حتّىٰ يكون كلامه حجّة شرعيّة ومصدراً لاستنباط الأحكام وحِكَم الشريعة، الاّ أن تكون فيها ناحية روائيّة فتكون متعلّقة بالبحث السابق.

وآراء واستظهارات الصحابة والتابعين إذا كانت في حضور


[1] . سورة ابراهيم، الآية 24.

[2] . سورة البيّنة، الآية 3.

تسنيم، جلد 1

284

المعصومين(ع ) وكان هناك مجال للردع وكان الردّ ممكناً، لكنّه لم يقع ولم يصدر من المعصوم فهذا دليل علىٰ صحّة تلك الاستظهارات. ومن الطبيعيّ انّ صحّة الرأي لاتستلزم حصر معنىٰ الآية في ذلك الرأي، الاّ أن يكون فيه اشارة خاصّة مفادها بطلان مايناقض الرأي السائد بين الأصحاب.

2. شأن النزول: انّ المعلومات المتوفّرة حول شأن وسبب النزول تنقسم الىٰ عدّة أقسام:

أ. المعلومات الّتي قد وصلت إلينا علىٰ شكل تاريخ[1] لا علىٰ شكل رواية من المعصوم(ع) فمثلاً إذا روي عن ابن عبّاس انّ الآية نزلت في هذا المجال، فإنّ مثل هذه القصّة في شأن النزول هي مثل آراء المفسّرين لا حجيّة لها الاّ انّها فقط تساعد وتهيّء ذهن المفسّر للاستظهار والفهم التفسيريّ. نعم إذا حصل الإطمئنان في مورد مّا، كما إذا حصل وثوق واطمئنان من رواية ابن عبّاس، فهنا يكون الوثوق والإطمئنان معتبراً، لا أن يكون للتاريخ المحض اعتبار تعبّدي، خلافاً للحديث المعتبر الّذي تكون له حجيّة تعبديّة حتّىٰ ولو لم يحصل منه الإطمئنان.

ب. الروايات الفاقدة للسند الصحيح والمعتبر. ومثل هذه الروايات في شأن النزول وإن كانت تختلف عن كلام البشر ويجب احترامها لاحتمال صدورها من المعصومين(ع ) لكنّها لاتتمتّع بالنصاب اللازم للحجيّة.


[1] . يختلف التاريخ عن الحديث في أمرين اساسيّين: أحدهما انّ نصّ الحديث هو كلام المعصوم7 والنصّ التاريخي كلام غير المعصوم، والآخر انّ سند المعلومات التاريخيّة لم يخضع للتدقيق والبحث العلميّ من قِبَل علماء الرجال كما هو حاصل في علم الحديث.

تسنيم، جلد 1

285

ج. روايات شأن النزول ذات السند الصحيح والمعتبر. ومثل هذه الروايات في شأن وسبب النزول تتّصف بالحجيّة، ولكن كما انّ روايات التطبيق لاتقيّد ولا تحدّد شمول وسعة معنىٰ الآية فكذلك روايات شأن النزول فهي تُبيّن مورداً ومصداقاً للمفهوم الكلّي للآية، والمورد الواحد من أيّ عام أو مطلق فإنّه لايخصّصه ولا يقيّده أبداً. ومثل هذه الروايات علىٰ الرغم من عدم كونها عاملاً لتخصيص العموم أو الإطلاق، الاّ انّها منطلق جيّد للمفسّر كي يفسِّر الآية بنحو ينسجم ويتلاءم مع ذلك المورد.

تنويه: روايات شأن النزول الخاصّ كما ورد في آية التطهير والمباهلة والولاية و...، خارجة عن البحث.

انّ آيات القرآن الكريم لاتحدّد ولا تحصر في سبب أو شأن نزولها، والاّ لم يصبح الكتاب الإلٰهيّ عالميّاً وخالداً. وكما قال الإمام المعصوم(ع): «ولو انّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شي ولكن القرآن يجري أوّله علىٰ آخره مادامت السماوات والأرض»[1] بل هو بتعبير الإمام الباقر(ع) كالشمس المضيئة والقمر المنير يُنيران الليل والنهار ولا اختصاص لهما بعصر معيّن، والقرآن أيضاً كذلك لاتختصّ هدايته بالقرون والعصور الماضية بحيث لايكون للأجيال اللاحقة نصيب منه سوىٰ التلاوة، بل هو: «يجري كما يجري الشمس والقمر... يكون علىٰ الأموات كما يكون علىٰ الأحياء».[2] في هذا الكلام


[1] . تفسير العياشي، ج1، ص10.

[2] . بصائر الدرجات، ص216.

تسنيم، جلد 1

286

القيّم وصف القرآن من باب تشبيه المعقول بالمحسوس بالبزوغ والسطوع الدائم لكوكبي الشمس والقمر.

ويقول الإمام الصادق(ع) حول حفظ القرآن الكريم من آفة الشيخوخة ونقيصة الإندثار: «لانّ الله تبارك وتعالىٰ لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كلّ زمان جديد وعند كلّ قوم غضّ الىٰ يوم القيامة».[1]

تنويه: 1. كما انّ بعض الروايات التطبيقيّة تفيد مورداً خاصّاً ومصداقاً منحصراً للآية، فكذلك بعض روايات شأن النزول فهي تبيّن الانحصار أيضاً، كما في شأن نزول آية الولاية (سورة المائدة، الآية 55) وآية المباهلة (سورة آل عمران، الآية 61) وآية التطهير (سورة الاحزاب، الآية 33).

2. بما انّ روايات التطبيق الانحصاريّة وكذلك أحاديث شأن النزول المنحصرة تتعلّق بالشخصيّة الحقوقيّة لأهل الولاية والمباهلة والتطهير لذا فانّ الآيات المذكورة لا تموت ولا تفنىٰ برحيل ووفاة الأشخاص الحقيقيين لتلك الذوات الطاهرة والمقدّسة.

الفصل الثامن: شأن النزول وفضاء النزول وجوّ نزول القرآن

لقد أولىٰ مفسّرو القرآن الكريم اهتماماً خاصّاً ببيان شأن وسبب نزول آيات القرآن[2]، لكنّهم لم يهتمّوا ولم يلتفتوا الىٰ (فضاء النزول) الّذي


[1] . البحار، ج89، ص15.

[2] . انّ الأحاديث المتعلّقة بشأن وسبب النزول عند السنّة تبلغ عدّة آلاف وفي كتب الشيعة تبلغ عدّة مئات. راجع كتاب الشيعة في الإسلام، ص103.

تسنيم، جلد 1

287

يتعلّق بمجموع السورة و(جوّ النزول) الّذي يتعلّق بمجموع القرآن الكريم ولم يذكر هذان الأمران في التفاسير الموجودة.

وفرق شأن النزول مع فضاء وجوّ النزول هو انّ شأن النزول أو سبب النزول يتعلّق بالحوادث الّتي وقعت في عصر النبيّ الأكرم(ص) في نطاق الحجاز أو خارجه، وكذلك المناسبات أو الأسباب الّتي هيّأت الأرضيّة لنزول آية أو عدّة آيات من القرآن الكريم.[1]

أمّا (فضاء النزول) فيتعلّق بمجموع السورة من حيث دراسة الأوضاع العامّة ومواصفات الناس والحوادث والظروف الخاصّة المحيطة بفترة نزول السورة في الحجاز وخارجه. فكلّ سورة من سور القرآن كانت فصلاً جديداً يُفتتح بنزول آية ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ ويختتم بنزول بسملة السورة التالية.

وبعض سور القرآن الكريم نزلت بنحو دفعيّ مثل سُور الحمد والأنعام والنصر، وبعضها علىٰ نحو تدريجيّ خلال عدّة أشهر أو عدّة سنوات، وخلال مدّة نزول السورة وقعت حوادث وحكمت ظروف معيّنة في الدائرة الّتي كان يعيش فيها المسلمون والعالم الخارجيّ. وكشف الستار عن هذه الحوادث والظروف وتبيينها في بداية كلّ سورة هو تصوير لفضاء نزول تلك السورة.

أمّا (جوّ النزول) فيتعلّق بجميع القرآن الكريم، والمقصود منه الأرضيّة المناسبة والتمهيد من حيث الزمان والمكان لنزول جميع


[1] . بناءً علىٰ هذا فانّ مجرّد التقارن التاريخيّ لظاهرة مع نزول آية معيّنة لايؤدّي إلىٰ اعتبار تلك الظاهرة هي شأن نزول هذه الآية المذكورة.

تسنيم، جلد 1

288

القرآن. فالقرآن نزل خلال 23 سنة علىٰ القلب المطهّر والمكرّم للنبيّ الأكرم(ص). والحوادث الّتي وقعت خلال مدّة نزول القرآن في البلاد الإسلاميّة أو خارج نطاق البلاد والحكومة الإسلاميّة والظروف والأفكار الّتي كانت سائدة فيها أو الحوادث الّتي ظهرت علىٰ أثر نزول آيات القرآن الكريم في العالم في ذلك اليوم كلّ ذلك يشكّل مايسمّىٰ بـ(جوّ نزول القرآن).

والعناوين الثلاثة المذكورة (شأن وفضاء وجوّ النزول) يوجد فيما بينها اضافة الىٰ هذا الإختلاف وهو انّ العنوان الأوّل يتعلّق بآية واحدة أو عدّة آيات والثاني يتعلّق بالسورة والثالث يتعلّق بكلّ القرآن، هناك اختلاف آخر أيضاً وهو انّ شأن النزول ناظر الىٰ تأثير الحوادث الخاصّة من جانب واحد علىٰ نزول آية أو عدد من الآيات، ولكن في فضاء نزول السورة وكذلك في جوّ نزول القرآن فالكلام يجري عن التفاعل والتعامل (التأثير المتبادل من جانبين) بين الفضاء الخارجيّ ونزول السورة أو الجو العالميّ ونزول مجموع القرآن، بمعنىٰ انّ الفضاء الموجود والجوّ الموجود يقتضي نزول السورة وكلّ القرآن، وكذلك نزول السورة وتنزّل مجموع القرآن يغيّر الفضاء والجوّ.

انّ ادراك معارف القرآن الكريم يتمّ الىٰ حدٍّ ما في ظلّ التعرّف علىٰ شأن وفضاء وجوّ النزول. ويمكن الاستفادة من المصادر المختلفة في التاريخ والحديث والقرآن الكريم نفسه في بحث ودراسة فضاء نزول السوَر وجوّ نزول مجموع القرآن. وهذه مهمّة المفسّرين في سدّ النقص وملأ الفجوات الموجودة في مجال فضاء نزول السوَر وجوّ نزول القرآن.

تسنيم، جلد 1

289

ومن المناسب في ختام هذا البحث ان نبيّن علىٰ سبيل المثال جزء من فضاء نزول سورة النساء المباركة ونشرح تركيبة ذلك النظام الإجتماعيّ والشعبيّ لمجتمع الحجاز في عصر نزول هذه السورة:

لقد نزلت سورة النساء في السنة الثالثة أو الرابعة للهجرة في فضاء كان فيه المجتمع الحجازيّ ينقسم الىٰ الفئات الإجتماعيّة التالية:

1. مشركو مكّة الّذين تعبّأوا وبذلوا قصارىٰ جهدهم وسعيهم لأجل القضاء علىٰ النظام الإسلاميّ.

2. منافقوا الداخل: الّذين كانوا يشكّلون أكثر من ثلث المسلمين وكانوا يعملون كعيون وجواسيس للأجانب ويطعنون النظام الإسلاميّ في المقاطع الحسّاسة كما حصل في غزوة اُحد حيث عاد أكثر من ثلاثمائة مقاتل من النَفير المتّجهين الىٰ الجبهة من بين ألف مقاتل من المسلمين. وكان النفاق في تلك الفترة الحسّاسة عاملاً مؤثّراً وقاصماً، ولذلك فانّ الكثير من الآيات الّتي نزلت في المدينة قد فضحت المنافقين وكشفت مؤامراتهم.

3. اليهود في أطراف المدينة الّذين كانوا بسبب قدرتهم الماليّة وامتلاكهم الثروات الطائلة مشتغلين بالربا والتصريف وكان الفقراء في المدينة يقترضون منهم فكانوا مدينين لهم ويعتبرونهم متمدّنين. وهؤلاء كان لهم ارتباط مع منافقي الداخل ومع مشركي الخارج أيضاً وكانوا يُعَدّون مصدر خطر دائم للنظام الإسلاميّ.

4. فئة ضعفاء الإيمان الّذين لم يكونوا من المنافقين ولا من اليهود ولا من المشركين والقرآن الكريم يعبّر عنهم احياناً بعبارة: ﴿الَّذِينَ فِي

تسنيم، جلد 1

290

قُلُوبِهِم مَّرَض﴾.[1] فهذه المجموعات الأربع الرسميّة والمعروفة هي الّتي كانت في مقابل النظام الإسلامي، والّتي تضمّ المحارب والمخالف والمختلف والحياديّ. ويذكر القرآن الكريم فئة اُخرىٰ باسم (المرجفين) الّذين كانوا يبثّون الأراجيف في الفرص المناسبة، اي يثيرون الاشاعات والكلمات الّتي تؤدّي الىٰ الرجفة والتزلزل. وليس هؤلاء فئة مستقلّة بالقياس الىٰ الفئات الأربع السابقة، بل هم المنافقون الداخليّون أو اليهود المحيطون بالمدينة الّذين كانوا يقومون بدورهم الخاصّ في بعض الفترات، ولم تكن لهم قاعدة فكريّة ثابتة، بل كانوا تابعين للآخرين. وفي مثل هذا الفضاء نزلت سورة النساء، والإلتفات الىٰ مثل هذا الفضاء مؤثّر في تفسير هذه السورة لاسيّما الآيات من 17 الىٰ 91.

الفصل التاسع: فهم القرآن والشبهات الجديدة

انّ معارف القرآن الكريم هي الرزق المعنويّ للناس، والرزق المعنويّ كالرزق المادّي تدريجي. وقد شبَّه القرآن الكريم في مقام التمثيل تدريجيّة الرزق بنطق الإنسان، فقال تعالىٰ: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ٭ فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُون﴾.[2] والمقصود من التمثيل بالنطق في هذه الآية الكريمة ليس هو التمثيل بالأمر البديهي، وإلاّ لذكر أمراً أشدّ بديهيّة من النطق، بل انّ المقصود هو تدريجيّة النطق، ففي النطق تظهر الكلمات والجمل من خزانة العقل


[1] . سورة الأحزاب، الآية 60.

[2] . سورة الذاريات، الآيتان 22 و23.

تسنيم، جلد 1

291

ومكمن غيب الإنسان بنحو تدريجيّ. ومعارف الدين أيضاً بهذا النحو سواء كانت في عصر واحد أو عصور متعدّدة؛ فالرزق المشترك لجميع الناس هو الإسلام الّذي هو روح جميع الأديان التوحيديّة والإلٰهيّة: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَم﴾[1]، وأمّا الرزق الخاصّ في كلّ عصر فهو الشريعة والمنهاج: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا﴾.[2] والمعرفة الدينيّة في كلّ عصر أيضاً تُفاض علىٰ الناس بالتدريج بتوفير مقدّماتها والأسباب الممهّدة لنزولها، ومن المقدّمات الممهّدة لتلقّي المعرفة الدينيّة هي الأسئلة والشبهات الجديدة.

وانّ مهمّة علماء الدين في الوقت الحاضر هو ان يطّلعوا تماماً علىٰ مايجري في الأوساط العلميّة في عالم اليوم حتّىٰ لايقعوا في الإلتباس أو المغالطة عند استظهارهم من آيات القرآن وكذلك أثناء استنباطهم من روايات العترة الطاهرين(ع ): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس».[3]

وأسئلة الناس في العصور السابقة مهّدت لنزول رزق المعرفة في تلك العصور، ونحن ايضاً يجب علينا أن نقدّر الجهد العلميّ للماضين وان ننظر إليهم بعين الإحترام، وعلىٰ الرغم من انّ ما ذكروه من بحوث يمكن أن لايكون من قضايانا المعاصرة أو لا يكون مقبولاً عندنا؛ ولكنّ هذا لايعني انّ جميع تلك المعارف كانت باطلةً في وقتها، فكما انّ الإنسان الكبير لايميل الىٰ لبن الاُمّ ويعافه، في حين انّه كان في دور


[1] . سورة آل عمران، الآية 19.

[2] . سورة المائدة، الآية 48.

[3] . البحار، ج75، ص269.

تسنيم، جلد 1

292

الرضاعة والطفولة يتغذّىٰ علىٰ هذا اللبن بعينه ولولاه لما نما وترعرع وبلغ هذا المبلغ من العمر. وعلىٰ هذا الأساس فانّه يمكن ان تكون المعارف العميقة في عصرنا الحاضر بالنسبة الىٰ الأجيال القادمة مثل لبن الاُمّ بالنسبة الىٰ الكبار غير مستساغة لديهم، ولكن هذا اللبن نفسه كان ذات يوم ضروريّاً ولذيذاً.

والأسئلة والشبهات الجديدة في عصرنا الحاضر تستدعي عودة ثانية الىٰ القرآن من أجل تفسيره بنحو يتضمّن الجواب علىٰ الأسئلة والإشكالات المعاصرة، لانّ التفاسير السابقة قد كتبت في فضاء خال من هذه الأسئلة، مثلاً إحدىٰ الشبهات الّتي يثيرها في هذا العصر أصحاب مذهب (السكولاريسم أو العلمانيّين الّذين يقولون بفصل الدين عن السياسة) في ميدان المعرفة الدينيّة هي انّ فعل الأنبياء(ع ) في مجال السياسة والاُمور المعيشيّة والإجتماعيّة للبشر ليس بحجّة، لانّ الدين مسؤول فقط عن تبيين المعارف العقائديّة والاخلاق الإلٰهيّة والفقه وتنظيم أمر آخرة الناس، وأمّا شؤون دنيا الناس كالحكومة والاُمور المعيشيّة فهي خارجة عن دائرة التشريع الدينيّ. وانّما تدخّل الأنبياء في مثل هذه الاُمور لانّهم أفراد يخالفون الظلم ويحبّون الحريّة والعدالة، لا من حيث انّهم رسل الله وحاملون للوحي الإلٰهيّ. وعليه فانّ سيرة وسُنَّة الأنبياء في غير الاُمور العباديّة والأخلاقيّة والاُخرويّة ليست حجّةً للاُمم، ولا يجب اتّباعهم علىٰ الأفراد العقلاء القادرين بأنفسهم علىٰ التفكير والتخطيط.

وهنا اذا بحثنا في القرآن الكريم بهذه النظرة وهي هل انّ القرآن الكريم قد تحدّث عن سنّة وسيرة الأنبياء(ع ) في الشؤون الإقتصاديّة

تسنيم، جلد 1

293

والسياسيّة والإجتماعيّة علىٰ نحو السرد التاريخيّ المحض أم انّه قد ذكرها لبيان السنن الإلٰهيّة لأجل الإتّباع والعمل، فسوف نرىٰ انّ آيات كثيرة في القرآن تدحض زعم العلمانيّين الباطل وتنفيه، كما في الأمر بشدّ وثاق أسرىٰ الحرب: ﴿... فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾[1] أو في جواب من اقترح أخذ الفدية لأجل تقوية بيت المال حيث نهىٰ عن ذلك وقال بانّ الأرض يجب أن ترتوي من دماء الأرجاس، وقبل ذلك لايحقّ لكم أخذ الفدية: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾.[2]

كما انّ نزول الكتاب السماويّ مقدّمة لاخراج الناس من الظلمات الىٰ النور، والنبيّ الأكرم(ص) يوصف بانّه العامل والواسطة في هذا التغيير الإلٰهيّ: ﴿... كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾[3]، ومن الواضح انّ إخراج الناس من الظلمات وتنويرهم لايتمّ الاّ بازالة شرّ الظالمين وانقاذ المظلومين؛ كما يذكر جهاد النبيّ موسى(ع) مع البلاط الفرعونيّ كمثال لتنوير المجتمع وإخراجه من جميع ألوان الظلمة.

وعلىٰ هذا فانّ مخالفة الظلم واجتثاث الحكومات الطاغوتيّة واقامة الحكومة الإلٰهيّة جزء من رسالة أنبياء الله، وليست جزءً من النشاطات


[1] . سورة محمّد(ص)، الآية 4.

[2] . سورة الأنفال، الآية 67.

[3] . سورة ابراهيم، الآية 1.

تسنيم، جلد 1

294

التحرريّة الّتي يقوم بها القادة الإصلاحيّون الّذين كانوا يقومون بها بصفة انّهم بشر وليس بصفة أنّهم أنبياء.

الفصل العاشر: صفات القرآن في نظر المعصومين

كما انّ البحوث التفسيريّة في كلّ آية من آيات القرآن في هذا الكتاب تُختتم ببحث روائي، فكذلك تُختتم بحوث معرفة القرآن في هذه المقدّمة بكلام شريف منقول عن العترة الطاهرين(ع ) حول عظمة ومواصفات القرآن. فقد جاء في روايات المعصومين(ع ) صفات كثيرة عن القرآن نُشير فيما يلي الىٰ بعضها:

1. الوافد الأوّل علىٰ الله سبحانه

يقول النبيّ الأكرم(ص): «أنا أوّل وافد علىٰ العزيز الجبّار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي»[1]، ففي القيامة حيث انّ جميع المخلوقات تعود الىٰ خالقها: ﴿أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُور﴾[2] فانّ أوّل ضيف يرد علىٰ الله هو النبيّ الأكرم(ص) والقرآن وأهل بيت النبيّ وحيث انّ هذه الكثرة النورانيّة منسجمة مع الوحدة الحقيقيّة، اذن يمكن أن يعبّر عن مجموع هذه الأنوار الثلاثة بالنور الواحد والوافد الفرد وان يقال: الوافد الأوّل.

2. أرفع مخلوق الٰهيّ

كذلك يقول النبيّ(ص): «القرآن أفضل كلّ شيء دون الله فمن وقَّر القرآن فقد


[1] . جامع احاديث الشيعة، ج15، ص6.

[2] . سورة الشورىٰ، الآية 53.

تسنيم، جلد 1

295

وقَّر الله ومن لم يوقّر القرآن فقد استخفّ بحرمة الله».[1] والقرآن الكريم له مراتب مختلفة، فمرتبته النازلة هي «عربي مبين» ومرتبته العالية هي: «عليّ حكيم» ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ٭ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم﴾[2] وبين هاتين المرتبتين توجد مراتب متوسّطة. والقرآن الكريم حبل متّصل ومستحكم طرف منه بيد الله سبحانه وطرفه الآخر بيد الناس، والتمسّك والإعتصام بحبل الله عامل للسعادة والسيادة في الدنيا والآخرة.

والله سبحانه يأمر حملة القرآن باحترام القرآن ويعدهم بانّ ثمرة ذلك هي المحبَّة عند الله وخلقه. يقول النبيّ الأكرم(ص): «يقول الله عزّ وجلّ: يا حملة القرآن تحبّبوا الىٰ الله تعالىٰ بتوقير كتابه يَزدْكم حبّاً ويحبّبكم الىٰ خلقه».[3]

والجدير بالذكر انّ للقرآن مراتب، كما انّ لولاية الرسول الأكرم وأهل البيت(ع ) مراتب. والمرتبة العليا للقرآن والولاية هي نور واحد، ولهذا فليس هناك كلام عن فاضل ومفضول. واذا لوحظت كثرة المراتب فانّ المرتبة العليا للقرآن هي أفضل من المرتبة النازلة للولاية، وتفصيل ذلك يمكن الحصول عليه في كتاب آخر للمؤلّف: (عليّ بن موسىٰ الرضا والقرآن الحكيم).

3. الكتاب المؤدّي للنجاة

يقول معاذ بن جبل: كنّا مع رسول الله(ص) في سفر فقلت يا رسول الله


[1] . جامع أحاديث الشيعه، ج15، ص7.

[2] . سورة الزخرف، الآيتان 3 و4.

[3] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص7.

تسنيم، جلد 1

296

حدّثنا بما لنا فيه نفع. فقال: «ان أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحشر والظلّ يوم الحرور والهُدىٰ يوم الضلالة فادرسوا القرآن فانّه كلام الرحمٰن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان».[1]

4. دليل الجنّة

يقول النبيّ(ص): «تعلّموا القرآن واقرؤوه واعلموا انّه كائن لكم ذكراً وذخراً وكائن عليكم وزراً فاتّبعوا القرآن ولا يتبعنّكم فانّه من تبع القرآن تهجّم به علىٰ رياض الجنّة ومن تبعه القرآن زجَّ في قفاه حتّىٰ يقذفه في جهنّم»[2] أي اقرأوا القرآن واعلموا أنّ القرآن يرفع شأنكم واسمكم واعلموا انّه سيكون لكم ذخراً ووزراً، فهو ذخر حسن للإنسان إذا جعله اماماً له، واما إذا جعل الإنسان نفسه اماماً للقرآن فانّ القرآن سيكون وزراً ثقيلاً علىٰ ظهره وسيقذفه من قفاه في جهنّم. وكما يقول أمير المؤمنين(ع) حول القرآن أيضاً بانّ من جعل القرآن له قائداً فانّ مصيره الىٰ الجنّة ومن تركه خلفه فسوف يسوقه الىٰ النار: «من جعله أمامه قادهُ الىٰ الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه الىٰ النار».[3]

5. طريق الانسان لكي يصبح ربّانيّاً

يقول النبيّ الأكرم(ص): «ما من مؤمن، ذكر أو اُنثىٰ، حرّ أو مملوك الاّ ولله


[1] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص9.

[2] . نفس المصدر، ص10.

[3] . البحار، ج89، ص17.

تسنيم، جلد 1

297

عليه حق واجب: أن يتعلّم من القرآن ويتفقّه فيه ثمّ قرأ هذه الآية: ﴿وَلٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَاب﴾».[1]

أي انّ حقّ الله سبحانه علىٰ الجميع ان يتعلّموا القرآن بتفقّه لانّ القرآن يدعوا الناس ليكونوا ربّانيّين وطريق ذلك هو تعلّم القرآن.

والعالم الربانيّ هو الّذي له ارتباط وثيقٌ مع ربّ العالمين وكذلك يُتقن تربية الناس، وماقاله الأئمّة المعصومون(ع ): «فنحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون»[2] فهو لبيان المصداق الكامل للعالم الربّاني وليس لحصر ذلك في أهل البيت(ع ). أجل انّ اكمل مصاديق العالم الربانيّ هم الأئمّة(ع )، ولكنّ الباب مفتوح امام اتباعهم كي يصبحوا ربّانيّين.

6. مِرقَاة أهل الجنّة

جاء رجل الىٰ الإمام السجّاد(ع) وسأله عدداً من الأسئلة فأجاب عليها الإمام، فأحبّ أن يسأل الإمام من جديد فقال له الإمام(ع): «مكتوب في الإنجيل: لاتطلبوا علم ما لا تعلمون ولمّا عملتم بما علمتم فانّ العالم إذا لم يعمل به لم يزده من الله الاّ بُعداً» ثمّ قال: «عليك بالقرآن فانّ الله خلق الجنّة بيده لِبنة من ذهب ولِبنة من فضّة وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ وجعل درجاتها علىٰ قدر آيات القرآن فمن قرأ القرآن قال له اقرأ وارق ومن دخل منهم الجنّة لم يكن أحد في الجنّة أعلىٰ درجة منه ما خلا النبيّين والصدّيقين».[3]


[1] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص9 (سورة آل عمران، الآية 79).

[2] . اُصول الكافي، ج1، ص34.

[3] . جامع احاديث الشيعة، ج15، ص15.

تسنيم، جلد 1

298

ويقول حفص انّ الإمام موسىٰ بن جعفر(ع) قال لرجل: «أتحبّ البقاء في الدنيا؟» فقال ذلك الشخص وكان من المتربّين في أحضان عقيدة الإمامة: نعم، فسأله الإمام(ع) «ولماذا؟» فقال: لكي اُكثِر من تلاوة السورة المحبوبة لديّ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾.[1] فصمت الإمام الكاظم(ع) قليلاً ثمّ قال: «يا حفص من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن عُلِّم في قبره ليرفع الله به من درجته فانّ درجات الجنّة علىٰ قدر آيات القرآن يقال له: اقرأ وارقَ، فيقرأ ثمّ يرقىٰ».

فإذا كان هناك أحد من الشيعة لم يتعلّم القرآن جيّداً في حياته فانّه يُعلّم القرآن في عالم البرزخ (لانّه مؤمن بحقيقة القرآن) كي يرفع الله درجاته لانّ درجات الجنّة علىٰ قدر آيات القرآن. فيقال للقارئ اقرأ وارق في درجات الجنّة فيقرأ ويرتقي.

وفي عالم البرزخ ليس هناك مجال للتكامل العمليّ كي يصل الإنسان إلىٰ كمال أعلىٰ بواسطة أداء واجب أو مستحبّ، ولكن طريق التكامل العلميّ مفتوح، كالّذي يحصل للروح في الرؤيا من كشف وشهود لكثير من المعلومات والمعارف الّتي لا سبيل الىٰ نيلها وتعلّمها عن طريق حركة البدن وسعيه في زمان اليقظة وحيث انّ


[1] . في إحدىٰ الغزوات في صدر الإسلام حيث كان فيها أمير المؤمنين7 قائداً للجيش من قِبَل رسول الله(ص)، وبعد عودة الجيش سأل رسول الله(ص) بعض أفراد الجيش لتقديم تقرير عن حال سفرهم وقال كيف وجدتم قائد الجيش؟ فاشتكوا الىٰ رسول الله من استمرار أمير المؤمنين علي7 علىٰ قراءة سورة التوحيد في الصلوات. فسأل رسول الله(ص) عليّاً7 ماذا تقول في ذلك ياعلي؟ فأجاب أمير المؤمنين7: انّني أحبُّ تلاوة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَد﴾. (البحار، ج89، ص348).

تسنيم، جلد 1

299

عدد درجات الجنّة بعدد آيات القرآن الكريم فلأجل رفع درجات الشيعة فانّهم يُؤتَونَ تعليم القرآن اوّلاً ومن ثمَّ يقال لهم: «اقرأ وارقَ» فيقرأون ويرتقون في درجات الجنّة.

والصعود في درجات الجنّة ليس جزاءً للقراءة في عالم الآخرة، لانّ عالم البرزخ ليس فيه تكليف أو عمل يترتّب عليه الجزاء، بل انّ صعود أهل الجنّة في درجات الجنّة انّما هو ظهور لاُنسهم مع القرآن في الدنيا.

يقول حفص: «فما رأيت أحداً أشدَّ خوفاً علىٰ نفسه من موسىٰ بن جعفر(ع) ولا أرجا في الناس منه وكانت قرائته حزناً فإذا قرأ فكأنّه يخاطب انساناً».[1]

وهذه هي صفة التلاوة مع التدبّر، إذ انّ القارئ المتدبّر يجد نفسه تارة مخاطِباً لله سبحانه واُخرىٰ مُخاطَباً من قبل الله سبحانه.

وامّا كيفيّة تعلّم القرآن بين أصحاب النبيّ الأكرم(ص) فقد رويت بهذا النحو: «كانوا يأخذون من رسول الله(ص) عشر آيات. فلا يأخذون في العشر الاُخرىٰ حتّىٰ يعلموا مافي هذه من العلم والعمل».[2]

7. درجة من النبوّة

يقول أمير المؤمنين(ع): «من قرأ القرآن فكأنّما اُدرجت النبوّة بين جنبيه إلاّ انّه لايوحىٰ إليه».[3] وقراءة القرآن لها شروط خاصّة فإذا ما توفّرت هذه الشروط فانّ مثل هذه الآثار والنتائج سوف تترتّب عليها، كما انّ


[1] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص15.

[2] . نفس المصدر، ص27.

[3] . نفس المصدر، ص17.

تسنيم، جلد 1

300

القراءة في آيات مثل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق﴾ و﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم﴾[1] ليست هي مجرّد قراءة عاديّة.

ويقول النبيّ الأكرم(ص) أيضاً: «من قرأ ثلث القرآن فكأنّما اوتي ثلث النبوّة ومن قرأ ثلثي القرآن فكأنّما اوتي ثلثي النبوّة ومن قرأ القرآن كلّهُ فكأنّما اوتي تمام النبوّة ثمّ يقال له: اقرأ وارق بكلّ آية درجة. فيرقىٰ في الجنّة بكلّ آية درجة حتّىٰ يبلغ ما معه من القرآن. ثمّ يقال له: اقبض فيقبض... فإذا في يده اليمنىٰ الخلد وفي الاُخرىٰ النعيم».[2]

وبعد صعود المؤمن في درجات الجنّة يجد حكم وشهادة خلوده في الجنّة بيده اليمنىٰ والنعم الإلٰهيّة في يده اليسرىٰ، ولذلك نقول في دعاء الوضوء: «اللهمّ اعطني كتابي بيميني والخلد في الجنان بيساري...».[3]

8. مصدر للنور

روي انّ أباذر (رضي‌الله‌عنه) طلب نصيحةً من رسول الله(ص) فقال له رسول الله: «اُوصيك بتقوىٰ الله فانّه رأس الأمر كلّه». قلت زدني فقال رسول الله: «عليك بتلاوة القرآن وذكر الله كثيراً فانّه ذكر لك في السماء ونور لك في الارض»[4]، اي انّ تلاوة القرآن عامل لذكرك في الملكوت ومصدر لنورانيّتك في الأرض. والقرآن هو بنفسه ذكر الله ومن ألقابه (الذكر)، فأتباعه في الملكوت رفيعوا الشأن والصيت وفي الأرض نورانيّون.


[1] . سورة العلق، الآيتان 1 و3.

[2] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص17.

[3] . البحار، ج77، ص319.

[4] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص19.

تسنيم، جلد 1

301

واستحباب تلاوة القرآن ليس محدوداً بقراءة خمسين آية في اليوم وما ورد في بعض الروايات من الأمر بقراءة خمسين آية في اليوم ليس ناظراً إلىٰ بيان الحدّ الأكثر، إذ انّه يستحبّ علىٰ الأقل قراءة خمسين آيةً بعد صلاة الصبح كما جاء عن الإمام الرضا(ع) انّه قال: «ينبغي للرجل إذا أصبح أن يقرأ بعد التعقيب خمسين آية».[1]

9. الطريق الىٰ نيل ثواب الشاكرين

يقول النبيّ الأكرم(ص): «قال الله تبارك وتعالىٰ: من شغله القرآن عن دعائي ومسئلتي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين».[2]

اي انّ من شغلته قراءة القرآن عن ذكر حوائجه الىٰ الله فانّ الله سبحانه يعطيه أفضل ثواب الشاكرين من غير طلب ودعاء منه. كما انّ خليل الله ابراهيم(ع) عندما سمع نداء: ﴿حِرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُم﴾[3]، أو ﴿فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيم﴾[4] لم يطلب شيئاً من الله لانّه يعلم انّ قضاء حاجته هو في عدم السؤال ولذلك قال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي».[5]

10. سبب للحشر مع الأنبياء

قال النبيّ الأكرم(ص): «انّ أكرم العباد الىٰ الله بعد الأنبياء العلماء ثمّ حملة القرآن يخرجون من الدنيا كما يخرج الأنبياء ويحشرون من قبورهم مع


[1] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص20.

[2] . نفس المصدر، ص21.

[3] . سورة الأنبياء، الآية 68.

[4] . سورة الصافات، الآية 97.

[5] . البحار، ج68، ص156.

تسنيم، جلد 1

302

الأنبياء ويمرّون علىٰ الصراط مع الأنبياء ويأخذون ثواب الأنبياء. فطوبىٰ لطالب العلم وحامل القرآن ممّا لهم عند الله من الكرامة والشرف».[1]

والّذي يتعلّم القرآن ليستفيد منه في الخطابة أو التأليف فحسب، فهذا دليل علىٰ انّه لم يطلب القرآن لأجل التدبّر فيه والعمل به، وانّه ليس أكثر من حرفة وعمل تجاري، ومثل هذا العلم ينتهي الىٰ النسيان في آخر عمر الإنسان. وصحيح انّ هذا التعلّم فيه ثواب التعرّف علىٰ ظاهر القرآن، لكنّ تعلّم القرآن لأجل التدبّر والعمل به له منزلة اُخرىٰ ومقام آخر.

11. عامل لسرور وبهجة القلوب

يقول أمير المؤمنين(ع): «وتعلّموا القرآن فانّه أحسن الحديث وتفقّهوا فيه فانّه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فانّه شفاء الصدور وأحسنوا تلاوته فانّه أنفع القصص وانّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الّذي لايستفيق من جهله بل الحجّة عليه أعظم والحسرة عليه ألزم وهو عندَ الله ألوم».[2]

والمقصود من التفقّه في قوله «تفقّهوا» في القرآن الكريم وفي روايات أهل البيت(ع ) ليس هو التعرّف علىٰ الفقه المصطلح الّذي هو في مقابل الكلام والفلسفة، كما انّ كلمة (الحكمة) في القرآن والروايات ليست هي بمعناها المصطلح وهو الفلسفة، بل يطلق الفقه أيضاً علىٰ معرفة اُصول الدين والعلوم العقليّة، وكذلك فهم أحكام الدين ومعرفة حلال الله وحرامه تسمّىٰ بالحكمة أيضاً. إذاً فمعنىٰ الفقه هو التعمّق في


[1] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص24.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 110، المقطع 6.

تسنيم، جلد 1

303

العلم ومطلق التعرّف والوعي بمعارف الدين، وليس هو بمعناه الإصطلاحيّ، والاّ لزم أن يكون المقصود من التفقّه هو معرفة خصوص آيات الأحكام المتعلّقة بفروع الفقه والّتي تشكّل نسبة جزء من بين ثلاثة عشر جزءً من القرآن، فالتفقّه عندئذٍ يكون معرفة هذا المقدار القليل فحسب، في حين انّ كلّ القرآن فقه. طبعاً إذا اعتبرنا المسائل الحقوقيّة والسياسيّة والإجتماعيّة والمدنيّة جزءً من الفقه فانّ عدد الآيات الفقهيّة سيكون أكثر.

ويظهر من جعل الشفاء في نور القرآن في قوله: «واستشفوا بنوره» انّ الجهل بالقرآن مثل عدم العمل به هو مرض، والجهل مثل سائر الرذائل الأخلاقيّة من جملة الأمراض القلبيّة، والقرآن الكريم شفاء لهذه الآلام: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء﴾[1]، ﴿شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور﴾.[2]

والمقصود من القلب في القرآن هو تلك اللطيفة الإلٰهيّة، اي الروح، وليس العضو الّذي يضخّ الدم في البدن. وسلامة ومرض القلب الجسمانيّ من اختصاص علم الطبّ ولا علاقة لهما بسلامة ومرض القلب الروحاني، فمن الممكن أن يكون قلب الإنسان الجسمانيّ متمتّعاً بالصحّة والسلامة التامّة، لكنّه لايستطيع أن يكبح جماح بصره عندما يواجه المرأة الأجنبيّة عنه فهو مريض القلب كما وصفه القرآن الكريم: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَض﴾[3] والمقصود هو القلب


[1] . سورة الاسراء، الآية 82.

[2] . سورة يونس، الآية 57.

[3] . سورة الأحزاب، الآية 32.

تسنيم، جلد 1

304

الروحاني. كذلك الّذي يرتبط بعلاقات سياسيّة غير صحيحة فهو مريض القلب وإن كان قلبه الجسميّ سالماً من الناحية الطبّية المادّية: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم﴾.[1]

وقد وُصِف القرآن الكريم في كلام أمير المؤمنين(ع) بأنّه (أحسن الحديث) و(أنفع القصص) وورد التأكيد علىٰ تلاوته بصورة حسنة، والمقصود من التلاوة الحسنة ليس هو الصوت واللحن الحسن فحسب بل الفهم الصحيح للقرآن والعمل به أيضاً من درجات التلاوة الحسنة، لأنّ أمير المؤمنين(ع) يقول في بقيّة حديثه وانّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الّذي لايستفيق من جهله بل الحجّة عليه أعظم والحسرة عليه ألزم وهو مُلام عند الله سبحانه. ومن الطبيعيّ انّ الترتيل والقراءة مع التأنّي والعناية ومع مراعاة قوانين التجويد لها فضل خاصّ ودرجة مرموقة في التلاوة الحسنة.

12. بحر المعرفة الّذي لا ضفاف له

كذلك يقول أمير المؤمنين(ع): «ثمّ أنزل عليه ـ اي النبي الأكرم(ص) ـ الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقّده وبحراً لا يُدرَك قعره ـ بواسطة البشر العادي ـ ومنهاجاً لايضلّ نهجه وشعاعاً لا يُظلِم ضوؤه... جعله الله ريّاً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء ومحاجّ لطرق الصلحاء ودواءً ليس بعده داء ونوراً ليس معه ظلمة وحبلاً وثيقاً عروته ومعقِلاً منيعاً ذِروته».[2]


[1] . سورة المائدة، الآية 52.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 198، المقطع 25.

تسنيم، جلد 1

305

13. العامل الوحيد للغنىٰ والثروة الحقيقيّة

يقول النبيّ الأكرم(ص): «القرآن غنىً لا غنىٰ دونه ولا فقرَ بعده»[1] اي انّه سبب يجلب للإنسان غنىٰ لايتحقّق الاّ عن طريقه، كما انّه لا فقر كفقر الحرمان من القرآن. كذلك يقول(ص): «من قرأ القرآن فرأىٰ انّ أحداً اعطي أفضل ممّا اُعطي فقد حقّر ما عظّمه الله وعظّم ما حقّره الله»[2]، اي من قرأ القرآن وحسِبَ أنّ الآخرين قد حازوا أفضل ممّا حظي به فقد حقّر ما عظّم الله وهو القرآن وعظّم ما حقّر الله وهي الدنيا.

كذلك يقول: «لاينبغي لحامل القرآن أن يظنّ أحداً اُعطي أفضل ممّا اُعطي لانّه لو ملك الدنيا بأسرها لكان القرآن أفضل ممّا ملكه».[3]

والحمد لله ربّ العالمين.

في الليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان المبارك

1417 هـ .ق.

جوادي آملي


[1] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص7.

[2] . نفس المصدر، ص16.

[3] . نفس المصدر، ص26.

تسنيم، جلد 1

306

تسنيم، جلد 1

307

سورة الحمد

مقدّمة السورة

سورة الحمد من وجهة نظر القرآن والعترة(ع )

انّ سورة الحمد المباركة الّتي هي فاتحة الكتاب ومستهلّ كلام الله سبحانه قد كرّمها الله في كلامه المجيد حتّىٰ جعلها في مصافّ «القرآن العظيم» فقال تعالىٰ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيم﴾[1] وفي الأحاديث النبويّة وكلمات العترة الطاهرين(ع ) ذُكِرت بأسماء وصفات مثل (أعظم جامعة للحكمة) و(كنز من كنوز العرش) و(أشرف ما اُدّخر من كنوز العرش) و(سورة الشفاء) و(النعمة العظمىٰ والثقيلة) و(أفضل سورة في القرآن)، فقد جاء في الأحاديث: «ليس شيء من القرآن والكلام جُمع فيه من جوامع الخير والحكمة ماجمع في سورة الحمد»[2]، «انّ فاتحة


[1] . سورة الحجر، الآية 87.

[2] . البحار، ج82، ص54.

تسنيم، جلد 1

308

الكتاب أشرف مافي كنوز العرش»[1]، «فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء»[2]، «فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب».[3]

والنبيّ الأكرم(ص) عندما اقترح تعليم السورة علىٰ جابر بن عبد الله الأنصاري وصفها له بأنّها أفضل سُوَر كتاب الله حيث قال له: «ألا اعلّمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟» قال: فقال له جابر: بلىٰ بأبي أنت واُمّي يا رسول الله علّمنيها. فعلّمه الحمد اُمَّ الكتاب.[4] وفي حديث آخر أوضح ملاك هذا التفضيل أيضاً فقال: «لو انّ فاتحة الكتاب وضعت في كفّة الميزان ووضع القرآن في كفّة لرجحت فاتحة الكتاب سبع مرات»[5] وأيضاً قارنها النبيّ(ص) مع الكتب السماويّة فقال: «والّذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها هي اُمّ الكتاب».[6]

هذه السورة الّتي تبتدئ بتعظيم اسم الله الرحمٰن الرحيم وتستمرّ بحمد الله وعدِّ صفات جماله وجلاله وحصر العبادة والاستعانة به، وتُختتم بطلب الهداية من حضرة كبريائه وعظمتهِ، مع كلّ ما فيها من تلخيص واختصار قد تضمّنت لباب المعارف القرآنيّة الواسعة؛ لانّ الخطوطَ العامّة والاُصول الثلاثيّة للمعارف الدينيّة وهي معرفة المبدأ ومعرفة الرسالة ومعرفة المعاد، الّتي هي أساس هداية السالكين نحو


[1] . نور الثقلين، ج1، ص6.

[2] . مجمع البيان، ج1، ص87.

[3] . تفسير البرهان، ج1، ص41؛ نور الثقلين، ج1، ص6.

[4] . تفسير البرهان، ج1، ص42.

[5] . جامع أحاديث الشيعة، ج15، ص89.

[6] . جامع الأخبار، الفصل 22، ص43؛ مجمع البيان، ج1، ص88.

تسنيم، جلد 1

309

صلاح الدنيا والآخرة، وسورة الحمد قد بيّنت هذه الاُصول بأقلّ الألفاظ وأوضح المعاني، ودلّت علىٰ طريق سلوك الإنسان نحو ربّه.

وسورة فاتحة الكتاب المباركة كلام الله سبحانه، ولكنّه يتحدّث نيابة عن العبد السالك الّذي وجَّه وجه روحه نحو ذات الله المقدّسة وراح يناجيه مناجاة المحبّ الواله.

وفي هذه السورة يعلّم الله سبحانه السالكين نحوه أدب التحميد واُسلوب اظهار العبوديّة وطريقة التحدّث بين العبد السالك والربّ المالك، وجعل ذلك عموداً للدين حيث: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»[1]، فهي تُتلىٰ بصورة الفرض عشر مرّات في اليوم والليلة للمتقرّبين بالفرائض، وتتلىٰ أضعاف ذلك العدد للراغبين في قرب النوافل.

ولو لم تكن سورة الحمد متضمّنة لخلاصة المعارف القرآنيّة وهي أسرار المبدأ والمعاد وعلم سلوك الإنسان نحو الله لم تقرن في الكتاب الإلٰهيّ مع القرآن العظيم[2] ولم تذكر بتلك العظمة في أحاديث أئمّة وقدوات السلوك الىٰ الله (أهل البيت(ع )).

أسماء السورة

انّ للقرآن الكريم اسماءً وصفاتٍ كثيرةً وسورة الحمد أيضاً بما انّها «اُمّ القرآن» وتتضمّن خلاصة ولبّ المعارف القرآنيّة فلهذا كان لها أسماء وألقاب كثيرة. وأسماؤها المعروفة هي: اُمّ الكتاب وفاتحة الكتاب، والسبع المثاني والحمد، وأسماؤها غير المشهورة هي: فاتحة القرآن


[1] . غوالي اللئالي، ج1، ص196.

[2] . سورة الحجر، الآية 87.

تسنيم، جلد 1

310

والقرآن العظيم والوافية والكافية والشافية والشفاء والصلاة والدعاء والأساس والشكر والكنز والنور والسؤال وتعليم المسألة والمناجاة والتفويض و(سورة) الحمد الاُولىٰ والحمد القُصرىٰ.

والبحث في مقام ومضمون هذه السورة يدلّ علىٰ انّ تسميتها بكلّ اسم من هذه الأسماء ناشئة من التناسب الموجود بين الأسماء وبين المعارف الموجودة في السورة أو لأجل المنزلة الخاصّة لهذه السورة. وفيما يلي نذكر بعض أسرار تسمية هذه السورة بهذه الأسماء:

1. «اُمّ الكتاب» «اُمّ القرآن»: انّ السرَّ في تسمية سورة الحمد بهذين الإسمين الذين جاءا في روايات كثيرة عن الفريقين هو انّ السورة قد تضمّنت خلاصة ولبّ معارف القرآن الكريم.

فمعارف القرآن ثلاثة أقسام: معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ومعرفة الرسالة، والكلام المنسوب إلىٰ الإمام أمير المؤمنين(ع) وهو: «رحم الله امرأ علم من أين وفي أين والىٰ أين» ناظر الىٰ معرفة هذه الاُصول الثلاثة. وسورة الفاتحة أيضاً تتضمّن المعارف المذكورة، لانّ القسم الأوّل منها يتعلّق بالمبدأ وربوبيّته المطلقة علىٰ عالم الوجود وكذلك صفاته الجماليّة كالرحمة المطلقة والرحمة الخاصّة، والقسم الأوسط ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ ناظر إلىٰ المعاد وظهور المالكيّة المطلقة لله سبحانه في القيامة، وقسمها الأخير يتحدّث عن حصر العبادة والإستعانة بالله سبحانه وطلب الهداية إلىٰ الصراط المستقيم في قوله: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ٭ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ٭ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّين﴾ متعلّق بالهداية والضلالة خلال السير من المبدأ الىٰ المعاد

تسنيم، جلد 1

311

ومحوره وأساسه يعتمد علىٰ مسألتي الوحي والرسالة. إذاً فانَّ اُصول المعارف القرآنيّة قد تمّ تصويرها وبلورتها في هذه السورة.

يقول الفيلسوف المتألّه والمفسّر المتعمّق صدر المتألّهين الشيرازي حول هذه السورة المباركة:

انّ نسبة الفاتحة الىٰ القرآن كنسبة الإنسان (العالم الأصغر) إلىٰ العالم (الإنسان الأكبر) وليس هناك سورة في القرآن في مستوىٰ سورة الحمد في جامعيّتها. ومن لايستطيع أن يستنبط القسم الأعظم من أسرار العلوم الإلٰهيّة والمعالم الربانيّة (معرفة المبدأ ومعرفة المعاد وعلم النفس و...) من سورة الفاتحة فهو ليس بعالم ربّاني ولم يرتق الىٰ مستوىٰ تفسير السورة كما ينبغي.[1]

2. «فاتحة الكتاب»، «فاتحة القرآن»: يعتقد الكثير من المفسّرين والباحثين في العلوم القرآنيّة انّ هذه السورة المباركة هي اوّل سورة كاملة نزلت علىٰ القلب المطهّر للنبيّ الأكرم(ص).[2] وفي تنظيم السور


[1] . تفسير القرآن الكريم، ج1، ص163 ـ 164.

[2] . يقول الزمخشري: انّ أكثر المفسّرين يرون انّ سورة فاتحة الكتاب أوّل سورة نزلت علىٰ النبيّ الأكرم(ص) (الكشّاف، ج4، ص775)، والطبرسي أيضاً ينقل حديثاً عن أمير المؤمنين7 يصرّح بهذا المعنىٰ فيقول: «فأوّل ما نزل عليه بمكّة فاتحة الكتاب، ثمّ اقرأ باسم ربّك الّذي خلق، ثمّ ن والقلم» (مجمع البيان، ج9 ـ 10، ص613، تفسير سورة الإنسان). والمحقّقون في العلوم القرآنيّة أيضاً في بحث (اوّل وآخر سورة نازلة) اعتبروا هذا القول أحد الأقوال في المسألة (برهان الزركشي، ج1، ص207؛ اتقان السيوطي، ج1، ص32) ويظهر أيضاً من الآية الكريمة: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ ٭ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ﴾ (سورة العلق، الآيتان 9 و10) انّ النبيّ كان يصلّي قبل الرسالة ونزول القرآن، وما اُلقي اليه من تفصيل في ليلة المعراج فهو الصلوات الخمس بجزئيّاتها وهيئتها الخاصّة لا أصل الصلاة (الميزان، ج20، ص325) ومن جهة فقد جاء في روايات الفريقين انّ قوام الصلاة بفاتحة الكتاب ولا صلاة في الإسلام بدونها. وعليه فانّ القول بانّ سورة الحمد المباركة أوّل سورة نزلت بنحو كامل علىٰ النبيّ الأكرم(ص) هو قول ليس ببعيد.

تسنيم، جلد 1

312

القرآنيّة أيضاً هي ديباجة الكتاب الإلهيّ والقرآن يبتدئ بها ولذلك سُمّيت بـ«فاتحة الكتاب» أو «فاتحة القرآن».

وقد عبّرت روايات كثيرة عن سورة الحمد باسم (فاتحة الكتاب) مثل: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»[1]، «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».[2] ويظهر من هذه الروايات انّ سورة الحمد المباركة كانت معروفة في زمن الرسول الأكرم(ص) باسم «فاتحة الكتاب»، والمسلمون كانوا يعبّرون عنها بهذا الإسم.

3. «السبع المثاني»: هذا الإسم جعله الله سبحانه لهذه السورة في مقام الإمتنان علىٰ النبيّ الأكرم(ص) بقوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيم﴾.[3] والمقصود من قوله ﴿سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي﴾ في هذه الآية وطبقاً للروايات الواردة عن النبيّ الأكرم(ص) والأئمّة(ع ) هو سورة الحمد المباركة. والنبيّ(ص) يقول: «فأفرد الإمتنان عليّ بفاتحة الكتاب وجعلها بازاء القرآن العظيم».[4]

وكلمة السبع في هذا التركيب يقصد بها عدد آيات هذه السورة، وكلمة المثاني تدلّ علىٰ صفة يوصف بها كلّ القرآن ومنه سورة الحمد المباركة:


[1] . غوالي اللئالي، ج1، ص196.

[2] . وسائل الشيعة، ج6، ص37؛ صحيح البخاري، ج1، ص192.

[3] . سورة الحجر، الآية 87.

[4] . تفسير البرهان، ج2، ص353؛ كذلك راجع كتاب البحار، ج89، ص235 ـ 236؛ ونور الثقلين، ج3، ص27.

تسنيم، جلد 1

313

﴿كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي﴾[1] ومعناها الانثناء والانعطاف والتمايل الخاصّ الموجود بين آيات القرآن بعضها ببعض وكلّ آية من آياتِه تفسَّر بواسطة الآيات الاُخرىٰ: «... ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه علىٰ بعض».[2]

انّ سورة الحمد هي من المواهب المعنويّة العظيمة الّتي وصِف منحها الىٰ النبي الأكرم(ص) بتعبير المنّة (النعمة الكبيرة والثقيلة) والامتنان، كما انّ أصل رسالة النبيّ الأكرم(ص) في القرآن الكريم قد وردت بنفس هذا التعبير وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِم﴾.[3]

وفي الآية 87 من سورة الحجر المباركة ذُكِر القرآن الكريم بصفة انّه الكتاب العظيم النازل من معدن ومبدأ العظمة: ﴿وَالْقُرْآنَ الْعَظِيم﴾، ولأجل بيان علوّ شأن سورة الحمد وسموّ منزلتها فقد قرنها مع جميع القرآن وساواها معه وعبّرَ بقوله «سبعاً» بتعبير النكرة غير الموصوفة الّذي يفيد التعظيم.

4. «الشفاء»، «الشافية»: نزل القرآن الكريم لشفاء جميع الآلام الباطنيّة والأمراض القلبيّة، يعني الجهل والرذائل الأخلاقيّة، وقد أنزله الشافي المطلق وهو الله سبحانه في قوله: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَة﴾[4]، ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور﴾.[5] وسورة الحمد أيضاً من حيث


[1] . سورة الزمر، الآية 23؛ راجع كتاب الميزان، ج12، ص191 ـ 192.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 133، المقطع 8.

[3] . سورة آل عمران، الآية 164.

[4] . سورة الاسراء، الآية 82.

[5] . سورة يونس، الآية 57.

تسنيم، جلد 1

314

انّها أفضل سورة قرآنيّة وفيها لباب المعارف القرآنيّة فقد سمّيت في الروايات بانّها «السورة الشافية» كما في الرواية: «فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء»[1]، «من لم يبرأه الحمد لم يُبرأه شيء».[2]

وصحيح انّ سورة الحمد شافية من أمراض البدن أيضاً، ولا شكّ في هذا الأمر المجرّب، ولكنّ المهم هو أمراض الروح الّتي تكفّل القرآن بعلاجها، ولمّا كانت سورة الحمد خلاصة القرآن فستكون أيضاً عصارة العلاج والشفاء القرآنيّ. وعليه فاّن كلام الإمام الباقر(ع) في قوله: «من لم يبرأه الحمد...» يعني انّ الجهل والرذائل الأخلاقيّة الّتي لا تعالج بمعارف سورة الحمد، فانّ سُوَر القرآن الاُخرىٰ لن تجدي نفعاً معها.

5. «الاساس»: روي عن ابن عبّاس: «انّ لكلّ شيء أساساً... وأساس القرآن الفاتحة، وأساس الفاتحة بسم الله الرحمٰن الرحيم».[3]

6. «الصلاة»: وهذا الإسم أيضاً مستفاد من الحديث القدسيّ: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي...»[4]، لأنّ القرائن الموجودة في الحديث تشهد بوضوح علىٰ انّ المقصود من (الصلاة) هنا هو سورة الحمد. وبعض المفسّرين أيضاً ذكروا انّ سرَّ تسمية سورة الحمد بهذا الاسم هو اعتماد قِوام الصلاة علىٰ سورة الحمد: «لا صلاة الاّ بفاتحة الكتاب».[5]


[1] . مجمع البيان، ج1، ص87.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص4.

[3] . مجمع البيان، ج1، ص87.

[4] . تفسير أبي الفتوح، ج1، ص13.

[5] . مجمع البيان، ج1، ص87.

تسنيم، جلد 1

315

7. «الكافية»، «الوافية»: يروي عبادة بن الصامت عن النبيّ الأكرم(ص) انّه قال: «اُمّ القرآن عوض من غيرها وليس غيرها منها عوضاً».[1] وبعض المفسّرين من أهل السنّة اعتبروا السرّ في تسميتها بهذين الإسمين هو كفايتها في صحّة الصلاة، لانّه لا سورة مقوّمة للصلاة سوىٰ سورة الحمد.[2]

8. «المناجاة»، «التفويض»: وتسمية سورة الحمد بهذين الإسمين لاشتمالها علىٰ الآية الكريمة: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ والّتي قسمها الأوّل مناجاة للعبد مع الله وبقسمها الثاني يتحقّق التفويض الصحيح الممدوح.[3]

9. «الكنز»: سميت سورة الفاتحة في الروايات الواردة عن الفريقين بـ«الكنز العرشيّ» كما في الرواية: «... وأعطيت امّتك كنزاً من كنوز عرشي، فاتحة الكتاب»[4] «وانّ فاتحة الكتاب اشرف ما في كنوز العرش»[5]، «نزلت فاتحة الكتاب بمكّة من كنز تحت العرش».[6]

10. النور: يعبّر القرآن الكريم عن الكتب السماويّة بالنور: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُور﴾[7]، ﴿وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُور﴾[8]، ﴿فَآمِنُوا


[1] . تفسير ابي الفتوح، ج1، ص13.

[2] . روح المعاني، ج1، ص67.

[3] . روح المعاني، ج1، ص67.

[4] . نور الثقلين، ج1، ص4.

[5] . نفس المصدر، ص6.

[6] . الدر المنثور، ج1، ص10.

[7] . سورة المائدة، الآية 44.

[8] . سورة المائدة، الآية 46.

تسنيم، جلد 1

316

بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾[1] وهدفها تنوير البشر: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور﴾[2]، وعليه فانّ السورة الّتي هي خلاصة كتاب النور فهي أيضاً نور ساطع ومنوّرة للإنسانيّة.

11. «تعليم المسألة»، «السؤال»: وإن كان الطلب والسؤال للعبد السالك من الله سبحانه لم يرد بنحو صريح الاّ في الآية الكريمة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾، لكن وكما سيأتي بيانه في تفسير هذه السورة انّ حمد وتمجيد العبد في بداية السورة ليس حمداً خالياً من الطلب ولا تمجيداً بلا طمع، بل هو «حمد سابق» ومقدّمة «لطلب لاحق» وكأنّ آيات هذه السورة المباركة في صدد تعليم أدب المسألة من الله سبحانه والطلب من ساحة ذلك الغنيّ المطلق.

12. «الحمد الاُولىٰ» «الحمد القصرىٰ»: والسبب في تسمية السورة بهذا الإسم هو انّ سورة الحمد هي أوّل (السُوَر الحامدات)[3] وأقصرها.

13. «الحمد»، «الدعاء»، «الشكر»: وسبب التسمية بهذه الأسماء هو اشتمال سورة الحمد علىٰ الحمد والدعاء والشكر.

مكان النزول

هناك اختلاف في انّ هذه السورة هل هي مكيّة أم مدنيّة؛ ويرىٰ أكثر المفسّرين انّها نزلت في مكّة[4]، وبعضهم أيضاً يعتبرها مدنيّة[5]، والبعض


[1] . سورة التغابن، الآية 8.

[2] . سورة ابراهيم، الآية 1.

[3] . وهي السورة الّتي تبدأ بمادّة الحمد وهي: فاتحة الكتاب والانعام والكهف وسبأ وفاطر.

[4] . الدرّ المنثور، ج1، ص10.

[5] . مجمع البيان، ج1، ص17.

تسنيم، جلد 1

317

منهم أيضاً يقول بانّ الله سبحانه قد أنزلها مرّتين (مرّة في مكّة ومرّة في المدينة) إكراماً لهذه السورة وتأكيداً علىٰ أهمّيتها.[1]

ولا توجد ثمرة تفسيريّة تترتّب علىٰ الاختلاف في كونها مكيّة أم مدنيّة لانّها لاتحتوي علىٰ آية يختلف معناها باختلاف النزول، ولكن ذكروا أدلّة عديدة علىٰ انّها مكّية وهي:

1. انّ الله سبحانه يقول في سورة الحجر المباركة لنبيّه الأكرم: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيم﴾.[2] وحيث انّ سورة الحجر مكّية والمقصود من السبع المثاني بشهادة روايات المعصومين(ع ) هي سورة الحمد[3]، ومن جهة فانّ التعبير بإيتاء (السبع المثاني) جاء بصيغة الماضي (آتيناك) اذاً سورة الحمد مكّية أيضاً وقد نزلت قبل سورة الحجر.

2. في الروايات المنقولة بواسطة الفريقين فانّ أساس الصلاة هو فاتحة الكتاب: «لا صلاة الاّ بفاتحة الكتاب»[4]، والصلاة شُرِّعت قبل الهجرة الىٰ مكّة. وفي هذا يقول العلاّمة الطباطبائيّ:

وإن كانت الصلاة بمواصفاتها الحاليّة قد شرِّعت ليلة المعراج، ولكن يظهر من آيات كثيرة في السور المكيّة ومن جملتها الآية الكريمة: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ ٭ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ﴾[5] انّ


[1] . الكشّاف، ج1، ص1؛ الكاشف، ج1، ص31.

[2] . سورة الحجر، الآية 87.

[3] . البحار، ج89، ص235؛ تفسير البرهان، ج1، ص41؛ صحيح مسلم، ج2، ص9؛ مستدرك الحاكم، ج1، ص238.

[4] . غوالي اللئالي، ج1، ص196.

[5] . سورة العلق، الآيتان 9 و10.

تسنيم، جلد 1

318

أصل الصلاة كان أيضاً موجوداً في اوائل البعثة وانّها كانت مشرّعة علىٰ الأقلّ بشكل سجدة وتلاوة شيء من القرآن.[1]

3. واستند بعض المفسّرين من أهل السنّة لاثبات كونها مكّية الىٰ روايات منقولة عن الإمام أمير المؤمنين(ع) مثل: «نزلت فاتحة الكتاب بمكّة من كنز تحت العرش».[2] وفي الجوامع الروائيّة الشيعيّة أيضاً روي حديث عنه(ع) بهذا الشكل: «فأوّل مانزل عليه بمكّة فاتحة الكتاب».[3] كذلك يقول الإمام الصادق(ع): «فأوّل مانزل علىٰ رسول الله بمكّة بعد أن نُبّئ الحمد».[4]

ترتيب النزول

مرّ في البحث السابق ذكر بعض الأقوال والقرائن علىٰ انّ سورة الحمد المباركة هي أوّل سورة نزلت علىٰ النبيّ الأكرم(ص)، وبعض الباحثين في العلوم القرآنيّة واستناداً إلىٰ رواية جابر بن زيد وأمثالها وبعض النصوص التاريخيّة يرون انّها خامس سورة نزلت وذلك بعد سُور العلق والقلم والمزمِّل والمدّثر وقبل سورة المسد.[5]

عدد الآيات

انّ عدد آيات سورة الحمد المباركة وباتفاق المسلمين هي سبع آيات.[6]


[1] . الميزان، ج20، ص325.

[2] . الدر المنثور، ج1، ص10؛ الاتقان، ج1، ص12.

[3] . مجمع البيان، ج10، ص405.

[4] . البحار، ج82، ص52.

[5] . الاتقان، ج1، ص25؛ تاريخ اليعقوبي، ج2، ص26.

[6] . مفاتيح الأسرار للشهرستاني، ج1، ص223.

تسنيم، جلد 1

319

وبناءً علىٰ روايات أهل بيت العصمة الطاهرين(ع ) فانّ الآية الكريمة: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ هي أوّل آية فيها: «قيل لأمير المؤمنين(ع) يا أمير المؤمنين أخبرنا عن «بسم الله الرحمٰن الرحيم» أهي من فاتحة الكتاب؟ فقال: «نعم كان رسول الله(ص) يقرأها ويعدّها آية منها...».[1]

بناء علىٰ هذا فانّ قراءة (بسم الله...) في بداية سورة الحمد ليس لأجل التبرّك فحسب بل انّها جزء من السورة، ولذلك فإذا وجبت تلاوة سورة الحمد في الصلاة أو غيرها وتليت السورة دون بسم الله فانّ أمر الله سبحانه لم يُمتثل.

وانّ أصدق شاهد علىٰ عدد آيات سورة الحمد هو الآية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيم﴾[2] والّذي شهدت روايات المعصومين(ع ) علىٰ انّ المقصود منها فاتحة الكتاب[3]، كما انّ روايات الفريقين تؤيّد هذا العدد دون أيّ اختلاف.[4] والاختلاف الوحيد الموجود في آيات هذه السورة هو الخلاف حول تقطيع وتقسيم آياتها، لا في أصل عدد السبعة فالّذين قالوا انّ البسملة آية قالوا انّ قوله تعالىٰ من (صراط الّذين) الىٰ آخر السورة يعتبر آية واحدة، والّذين لم يعتبروا البسملة آية اعتبروا (غير المغضوب) الىٰ آخر السورة آيةً مستقلّة.


[1] . نور الثقلين، ج1، ص9.

[2] . سورة الحجر، الآية 87.

[3] . تفسير البرهان، ج1، ص41.

[4] . البحار، ج18، ص335؛ تفسير العياشي، ج1، ص19؛ تفسير البرهان، ج1، ص42.

تسنيم، جلد 1

320

غرر الآيات

ذُكر في بعض الروايات انّ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾. أفضل آيات القرآن ففي الرواية: «وأيّ آية أعظم في كتاب الله؟ فقال: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾.[1] وكذلك روي محمد بن مسلم عن الامام الصادق(ع) انّ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ أفضل آية في سورة الحمد: سألت أبا عبد الله(ع) عن السبع المثاني... هي الفاتحة؟ قال: «نعم». قلت ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ من السبع المثاني؟ قال: «نعم هي أفضلهنّ».[2]

وصحيح انّ البسملة تعدّ من غرر الآيات، لكن حيث انّها لاتختصّ بسورة الحمد فلايمكن حسابها من غرر الآيات في هذه السورة فقط. والّذي يبدو من ناحية الحكمة النظريّة انَّ المضمون الخبري للآية المباركة: ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾ ومن ناحية الحكمة العمليّة انّ المضمون الخبريّ للآية الكريمة: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ يعدّان من غُرر آيات سورة الحمد.

الخطوط العامّة لمعارف السورة

كما ذُكر في بداية المقدّمة فانّ سورة الحمد المباركة تحتوي علىٰ خلاصة معارف القرآن الكريم ولذلك تسمّىٰ (اُمّ الكتاب) و(اُمّ القرآن). وطبقاً لآراء متنوّعة فانّ معارف هذه السورة قابلة للتقسيم الىٰ عدد من الأقسام نُشير فيما يلي الىٰ بعضها:

1. انّ لمعارف القرآن الكريم ثلاثة أقسام أساسيّة ومحوريّة، فقسم


[1] . البحار، ج89، ص238؛ تفسير العياشي، ج1، ص21.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص8.

تسنيم، جلد 1

321

يرتبط بالمبدأ وتوحيده الذاتيّ والصفاتيّ والأفعاليّ والعباديّ، والقسم الآخر يتعلّق بالمعاد، والقسم الثالث هو الّذي يتكفّل بحاجة البشريّة بين المبدأ والمعاد فهو يتعلّق بالهداية والضلالة أي انّه يبيّن الوحي والرسالة والدين. وسورة الحمد أيضاً وكما ذُكر تحتوي علىٰ خلاصة هذه الأقسام المذكورة.

2. المحاور الأساسيّة لمعارف هذه السورة وكما وصفت في بعض الروايات هي: «التحميد» و«الاخلاص» و«الدعاء»، حيث تذكرها الرواية بالترتيب: «السورة الّتي أوّلها تحميد وأوسطها اخلاص وآخرها دعاء: سورة الحمد».[1]

3. ذكر الشيخ البهائيّ (ره) (المراتب الاربع للحمد) والّتي استفادها من السورة بهذا التفصيل:

أ. حمد المحبّة والعشق وهو حمد الذات وهو ناظر الىٰ أهليّة ذات الحقّ سبحانه للتحميد، ولأجل التعبير عن هذا الحمد فانّ عبارة (الحمد لله) كافية.

ب. حمد الشكر: وفي هذه المرتبة فانّ الحامد يحمد الله ويشكره علىٰ ربوبيّته المطلقة واحسانه، وعبارة (ربّ العالمين) ناظرة الىٰ ذلك.

ج. حمد التجارة وهو الحمد الّذي يصدر بدافع الرجاء والطمع والشوق الىٰ الثواب وعبارة (الرحمٰن الرحيم) تُشير إليه.

د. حمد العبوديّة: وهو الحمد لله الصادر بسبب الخوف من العذاب الإلٰهيّ ويعبّر عنه بالآية الكريمة: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾.[2]


[1] . تفسير العياشي، ج1، ص19.

[2] . مفتاح الفلاح، ص762، بتصرّف.

تسنيم، جلد 1

322

وهذه اللطيفة مستوحاة من بعض الأحاديث الّتي تبيّن مراتب الحمد مثل: «العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله تبارك وتعالىٰ طلباً للثواب، فتلك عبادة الأُجراء وقوم عبدوا الله حبّاً له، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة».[1]

«انّ قوماً عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجّار وانّ قوماً عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وانّ قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار».[2]

4. وطبقاً للحديث القدسي فانّ سورة الحمد المباركة الّتي هي في مقام تعليم أدب التحميد واُسلوب اظهار العبوديّة قد قُسِّمت بين الله سبحانه والعبد السالك، فالقسم الأوّل الّذي هو خمس آيات يتضمّن الحمد والثناء لله والخشوع والخضوع أمامه فهو لله، والقسم الأخير للسورة الّذي فيه آيتان ويتضمّن الدعاء والطلب فهو نصيب العبد السالك: «قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي...».[3]

5. انّ خلاصة سورة الحمد هي الشكر علىٰ النعم النازلة في الماضي والاستعانة والاستمداد لنزول الرحمات في الحاضر والمستقبل، كما ذكر أمير المؤمنين(ع) في بعض خطبه حيث قرن (الحمد) و(الاستعانة) فقال: «(نحمده) علىٰ ما كان (ونستعينه) من أمرنا علىٰ ما يكون ونسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان»[4] وكذلك يقول: «(أحمده)


[1] . البحار، ج67، ص236.

[2] . نهج البلاغة، الحكمة 237.

[3] . نور الثقلين، ج1، ص4.

[4] . نهج البلاغة، الخطبة 99، المقطع 1.

تسنيم، جلد 1

323

استتماماً لنعمته... (واستعينه) فاقة الىٰ كفايته»[1]، «(نحمده) علىٰ آلائه كما نحمده علىٰ بلائه و(نستعينه) علىٰ هذه النفوس البِطاء عمّا اُمرت به السِراع الىٰ ما نهيت عنه».[2]

6. يقول المرحوم الفيلسوف صدر المتألّهين:

انّ سورة الحمد المباركة مع المقدّمة الّتي تضاف اليها في الصلاة تشكّل سويّة ثمانية أقسام تتناسب مع الأبواب الثمانية للجنّة، فالمصلّي الّذي يتلوا سورة الحمد في الصلاة مراعياً كامل آدابها الخاصّة فانّه يدخل الىٰ الجنّة من جميع أبوابها الثمانية، والأبواب المذكورة هي:

الأوّل: في «المعرفة» ويدخله المصلّي عندما يقول ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾.[3]

الثاني: في «الذكر» وبتلاوة الآية ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾.

الثالث: في «الشكر» وبواسطة الآية ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾.

الرابع: في «الرجاء» وبواسطة قراءة الآية ﴿الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾.

الخامس: في «الخوف» بواسطة ذكر الآية ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾.

السادس: في «الاخلاص» وبواسطة قول ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾.

السابع: في «الدعاء والتضرّع» وبواسطة تلاوة الآية ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾.


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 2، المقطع 1.

[2] . نفس المصدر، الخطبة 114، المقطع 1.

[3] . سورة الأنعام، الآية 79.

تسنيم، جلد 1

324

الثامن: في «الاقتداء بالارواح الطاهرة» بقراءة الآية ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم...﴾.[1]

تنويه: اتّضح بواسطة تحليل الخطوط العامّة لمعارف سورة الحمد وبحوثها الأساسيّة انّ هدف هذه السورة هو تعليم أدب التحميد واُسلوب اظهار العبوديّة أمام الله سبحانه، كما انّ تعليم اُسلوب الاستعانة وطلب الهداية من الله والتعرّف علىٰ كيفيّة سلوك الطريق الىٰ الله هو هدف آخر لهذه السورة.

انسجام السورة

يقول المرحوم أمين الاسلام الطبرسيّ حول نظم وانسجام سورة الحمد:

إنّ الإنسان عند مشاهدته للنعم الإلٰهيّة، حيث يعتبر نقص الانسان وضعفه وحاجته شاهداً ناطقاً عليها، فهو يفتتح الكلام بإسم المنعم، فيقول: «بسم الله الرحمٰن الرحيم» وبعد الاعتراف بوجود المنعم الواحد ينطلق نحو حمده وشكره فيقول: «الحمد لله» وحين يدرك سعة الانعام الإلٰهيّ وشموله يقول: «ربّ العالمين»، وحين يدرك انّ الله سبحانه اضافة الىٰ تربيته وتدبيره لجميع الموجودات فانّه قد تكفّل برزقها أيضاً فهو عند ذاك يعترف بالرحمة المطلقة للحقّ سبحانه فيقول: «الرحمٰن»، وعندما يرىٰ معصية المفسدين وإمهال الله لهم ويرىٰ غفران الله، ينطق لسانه بالرحمة الخاصّة لله فيقول: «الرحيم» وحين ينظر ظلم الناس بعضهم لبعض يعترف بيوم


[1] . تفسير القرآن الكريم، ج1، ص178، بتصرّف.

تسنيم، جلد 1

325

الحساب الّذي زمامه بيد الله وحده فيقول «مالك يوم الدين» وبعد اجتياز هذه المراتب والمنازل في المعرفة ومشاهدة الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ يرىٰ الله وحده أهلاً للعبادة ويرىٰ نفسه حاضراً أمام الله وهناك يتغيّر الكلام من الخبر الىٰ الخطاب فيقول: «ايّاك نعبد» وحيث يجد انّ سلوك طريق العبادة لايتسنّىٰ دون الاستعانة بالله يقول: «وايّاك نستعين» وحيث يرىٰ انّ الطرق كثيرة وانّ السالكين متعدّدون يسأل الله سبحانه أن يدلّه علىٰ أفضل الطرق للوصول فيقول «اهدنا الصراط المستقيم»، وأخيراً حين يجد انَّ سلوك الصراط المستقيم بمفرده شاقّ ويشعر انّه بحاجة الىٰ رفاق أدلاّء يقول «صراط الّذين أنعمت عليهم» ولأجل أن لايصحبه في سفره هذا الغرباء والأغيار يقول: «غيرِ المغضوب عليهم ولا الضالين» وبهذا النحو يجمع بين تولّي أولياء الله والتبرّي من أعدائه.[1]

ثواب التلاوة

لقد ورد الحثّ علىٰ تلاوة سورة الحمد في بعض روايات أهل البيت(ع ) وبتأكيد خاصّ. وقد اتّضح السرّ في التأكيد الشديد في هذه الروايات علىٰ قراءة السورة من البحوث السابقة حول أهميّة وأسرار تسمية السورة بالأسماء المذكورة. وفيما يلي بعض هذه الروايات:

1. يقول النبيّ الأكرم(ص) بعد تبيين فضائل هذه السورة وذكر الأجر


[1] . مجمع البيان، ج1، ص110، بتصرّف.

تسنيم، جلد 1

326

الكثير علىٰ تلاوتها واستماعها: «فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض لكم فانّه غنيمة. لايذهبنّ أوانه فيبقىٰ في قلوبكم الحسرة».[1]

2. كذلك يقول(ص): «من قرأ فاتحة الكتاب أعطاه الله بعدد كلّ آية نزل من السماء ثواب تلاوتها».[2]

3. وجاء في بعض الأحاديث انّ ثواب تلاوة سورة الحمد يعادل ثواب تلاوة ثُلثي القرآن والانفاق علىٰ جميع المؤمنين، كما في الرواية: «ايّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب اُعطي من الأجر كانّما قرأ ثُلثي القرآن واُعطي من الأجر كأنّما تصدّق علىٰ كلّ مؤمن ومؤمنة».[3]

٭ ٭ ٭


[1] . نور الثقلين، ج1، ص6.

[2] . نفس المصدر، ص4.

[3] . مجمع البيان، ج1، ص88.

تسنيم، جلد 1

327

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

خلاصة التفسير

«الله» هو أعلىٰ وأفضل اسم إلٰهيّ يتضمّن جميع صفات الكمال الوجوديّ، و(الرحمٰن) و(الرحيم) من صفاته الّتي تدلّ علىٰ رحمته المطلقة الّتي لا نهاية لها، مع فرق بينهما وهو انّ الرحمٰن تدلّ علىٰ (كثرة) الرحمة، والرحيم تدلّ علىٰ (ثبات ودوام) الرحمة. إذاً فالرحمٰن هو الله الّذي وسعت رحمته كلّ شيء وشملت كلَّ فرد: (المؤمن والكافر والدنيا والآخرة)، ومثل هذه الرحمة لاتقابل الغضب، بل انّ الغضب من مصاديقها وامّا الرحيم فهو الله الّذي له رحمة خاصّة بالمؤمنين، وهذه الرحمة تقابل الغضب الإلٰهيّ. والله سبحانه يفتتح القرآن وهذه السورة بإسمه، وبهذه الطريقة يعلّم الناس أدب ابتداء أعمالهم باسم الله.

التفسير

الباء: لفظ (الباء) حرف جرّ ومجموع الجار والمجرور (بسم) كلمة وليس كلاماً ولا جملة مفيدة، ولذلك لايفيد معنىً تامّاً، الاّ إذا لوحظ

تسنيم، جلد 1

328

المتعلّق، وسيأتي الكلام حول تعيين المتعلّق في ختام البحث عن مفردات الآية الكريمة: (بسم الله...).

اسم: وهو اللفظ الّذي يحكي عن مسمّاه، وهذه الكلمة مشتقّة امّا من (السِمة) بمعنىٰ العلامة، كما عليه الكوفيّون، أو من (السموّ) بمعنىٰ العلوّ والرفعة كما عليه البصريّون، كذلك يحتمل أن لايكون مشتقّاً من شيء وانّ له وضعاً خاصّاً به. ومن الواضح انّ اثبات هذا المحتمل كإثبات قول الكوفيّين صعب؛ لانّه كما قال الراغب وبعض المفسّرين الآخرين[1]، فإنّه لأجل تشخيص مبدأ الاشتقاق يمكن مراجعة التغييرات الطارئة علىٰ تصريف الكلمة للحصول علىٰ جذرها الإشتقاقيّ، وحيث انّ كلّ كلمة تعود الىٰ جذرها الأصليّ في الجمع، والتصغير والنسبة، لذا يمكن الحصول علىٰ شواهد تدلّ علىٰ انّ كلمة اسم مشتقّة من السموّ، لا من الوَسْم؛ لانّ جمع اسم هو «أسماء» وليس (أوسام) وتصغيرها «سُمّي»، لا (وُسَيْم).

ومؤلّف كتاب (أقرب الموارد) وبعد أن يبيّن معنىٰ الإسم يناقش القولين المذكورين ولا يرجّح أحداً منهما، لكنّه يضع كلمة اسم في باب «سموّ»، وهذا الوضع يتضمّن احتمال تأييده لقول البصريّين. وعلىٰ كلّ حال فانّ الإسم في العرف واللغة هو بمعنىٰ اللفظ الدال علىٰ الشخص أو الشيء، والإسم هنا ليس بمعنىٰ الإسم الّذي يقابل الفعل والحرف.

و«الاسم» في اصطلاح أهل العرفان بمعنىٰ (الذات مع التعيّن الخاصّ) أي الذات الّتي يُنظر الىٰ صفة من صفاتها أو الىٰ جميع صفاتها.


[1] . المفردات للراغب، التفسير الكبير، الجامع لأحكام القرآن، منهج الصادقين.

تسنيم، جلد 1

329

والاسم في هذا الإصطلاح هو من سنخ الوجود الخارجيّ والعينيّ لا من مقولة اللفظ. ومثل هذا الاسم يكون له اسم وله مفهوم دالّ عليه وهو (اسم الاسم)، واللفظ الدالّ عليه يسمّىٰ «اسم اسم الاسم».

الله: وهو أعلىٰ اسم من أسماء الذات المقدّسة ومعناه الوجود المحض والجامع ومبدأ جميع الكمالات الوجوديّة والمنزّه من كلّ نقص، وحيث انّ تلك الذات المقدّسة جامعة لكلّ الأسماء الحسنىٰ والصفات الحسنة، لذا يقال: (الله هو اسم الذات الجامعة لجميع الكمالات) والاّ فانّ الاشتمال علىٰ جميع الكمالات ليس مأخوذاً في معنىٰ الكلمة.

وهذا الإسم المبارك الّذي يعبّر عنه «بلفظ الجلالة» قد استعمل في القرآن 2697 مرّة، وهو في الأصل (إلٰه) وقد حُذِفت الهمزة بسبب كثرة الاستعمال وبالحاق (الألف واللام) به اصبح يشكّل (الله).

و(إلٰه) بمعنىٰ «مألوه» والمألوه هو بمعنىٰ المعبود أو المتحيَّر فيه (أي الذات الّتي حارت وتاهت فيها جميع العقول والقلوب) أو المفهوم الجامع بين هذين الاثنين.

وفي اللغة العربيّة ولسان الوحي يطلق (إلٰه) علىٰ كلّ معبود يخضع أمامه الأتباع والعابدون سواء كان حقّاً أم باطلاً، كما في الآيات الكريمة: ﴿لاَ تَتَّخِذُوا إِلٰهَيْنِ اثْنَيْن﴾[1]، ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوَاه﴾[2]، ﴿أَأَنتَ فَعَلْتَ هٰذَا بِآلِهَتِنَا﴾[3]،


[1] . سورة النحل، الآية 51.

[2] . سورة الفرقان، الآية 43.

[3] . سورة الأنبياء، الآية 62.

تسنيم، جلد 1

330

ولكنّ (الله) وبسبب كثرة الاستعمال فهي عَلَم (اسم خاص) للذات المقدّسة الإلٰهيّة الجامعة لجميع الصفات الجلاليّة والجماليّة ولا تطلق الاّ عليه: ﴿هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنَىٰ﴾[1]، ولهذا فانّ لفظ الجلالة (الله) يقع موصوفاً لجميع الأسماء الحسنىٰ الإلٰهيّة، مثل «الرحمن» و«الرحيم»، ولكن هو لايقع صفة لأيّ اسم، ولذلك يقال: «انّ الله هو اسم لذاته وبقيّة أسماء الله هي أسماء لصفاته».

الرحمٰن والرحيم: صفتان من الصفات العليا لله سبحانه وهما مشتقّتان من مادّة (الرحمة). ورحمان صيغة مبالغة تدلّ علىٰ الكثرة، ورحيم صفة مشبّهة تدلّ علىٰ (الثبات والبقاء).

وقد ذكرت معاجم اللغة معاني كثيرة لكلمة «الرحمة» مثل: الرِقّة، الرأفة، اللطف، الرفق، العطف، الحبّ، الشفقة، حرقة القلب، ويرد عليه أوّلاً: انّ هذه كلّها مقدّمات ومراحل سابقة للرحمة وليست هي الرحمة نفسها، لانّ الانسان عندما يرىٰ المشاهد المثيرة للمشاعر تنبعث ابتداءً في قلبه الرقّة واللطف والعطف وحرقة القلب والمحبّة والشفقة والرأفة ومن ثمّ تحصل الرحمة. ثانياً: انّ الّذي ذكر هو صفة مصداق من مصاديق الرحمة الّتي تحصل لدىٰ الإنسان، امّا الرحمة الّتي تنسب الىٰ الذات المقدّسة الإلٰهيّة فهي منزّهة من أيّ لون من ألوان الانفعال والتأثّر، وكما قال أمير المؤمنين(ع): انّ الله سبحانه «رحيم لايوصف بالرقّة».[2] وعليه فإنّ المعنىٰ الجامع للرحمة هو العطاء والإفاضة لسدّ حاجة


[1] . سورة الحشر، الآية 24.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 179، المقطع 4.

تسنيم، جلد 1

331

المحتاجين وبهذا المعنىٰ تنسب الىٰ الله سبحانه وكما جاء في مفردات الراغب: (الرحمة من الله انعام وافضال).[1]

ومفردتا الرحمٰن والرحيم اللتان هما من مادّة مشتركة لهما معنيان مختلفان بسبب الاختلاف في الهيئة والتركيبة اللفظيّة، فالرحمٰن علىٰ وزن فعلان وتفيد المبالغة، فوزن فعلان يدلّ علىٰ الكثرة والوفرة مثل: غضبان ومعناهُ الممتلئ بالغضب. إذاً فالرحمٰن يعني المبدأ الممتلئ والفيّاض بالرحمة، والرحمة الرحمانيّة للذات المقدّسة الإلٰهيّة هي تلك الرحمة الواسعة المطلقة الّتي وسعت جميع الممكنات وتفاض علىٰ المؤمن والكافر.

هذه الرحمة الواسعة هي الفيض المنبسط ونور الوجود الشامل الّذي أضاء كلَّ شيء: ﴿قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمٰنُ مَدّا﴾.[2] وامّا الرحيم فعلىٰ وزن فعيل وهي صفة مُشبِهَة تدلّ علىٰ الثبات والبقاء ومقتضىٰ هيئتها الخاصّة انّها تعني المبدأ الّذي له رحمة ثابتة وراسخة الّتي هي أقلّ سعة من الرحمة الرحمانيّة، وهي تلك الرحمة الخاصّة الّتي تُفاض فقط علىٰ المؤمنين والمحسنين ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيما﴾.[3]

وكلمة (رحمٰن) مثل كلمة (إلٰه) يمكن اطلاقها علىٰ غير الله إذا كانت بغير الألف واللام، ولكن إذا دخلت عليها الألف واللام فلا تطلق الاّ علىٰ الذات المقدّسة الإلٰهيّة.[4]


[1] . مفردات الراغب، «ر ح م».

[2] . سورة مريم، الآية 75.

[3] . سورة الأحزاب، الآية 43.

[4] . التحقيق، ج4، ص91؛ مفردات الراغب، «ر ح م»؛ الميزان، ج1، ص18.

تسنيم، جلد 1

332

متعلّق الباء في بسم الله: انّ البحث حول متعلّق الباء مبنيّ علىٰ ماهو معروف بين المفسّرين من انَّ لفظ الباء حرف جرّ وانّ مجموع الجار والمجرور كلمة وليس كلاماً، وأمّا إذا لم تكن الباء حرف جرّ وكان مجموع جملة (بسم الله الرحمٰن الرحيم)، أو (بسم الله) خاصّة... عنواناً ومقدّمة لابتداء الأعمال كالمقالة أو الكتابة أو الاُمور الاُخرىٰ، ولم تكن من سنخ الكلمات القابلة للتجزئة والتركيب والمرتبطة بما قبلها وما بعدها (المحذوف، أو المذكور) ففي هذه الحالة فإنّ البحث عن متعلّق الجار والمجرور غير صحيح، كما انّ البعض احتملوا هذا المعنىٰ بالنسبة إلىٰ عناوين بعض السور مثل (الحاقّة) و(القارعة). ومن الواضح انّ هذا الاحتمال ليس له سند عقليّ ولا نقليّ بل هو احتمال محض.

كذلك إذا كان لفظ «الباء» في بسم الله وباقي حروف الكلمة أيضاً كلّ منها رمزاً خاصّاً ومختصراً لإسم إلٰهي معيّن، كما ورد في الحروف المقطّعة، فهٰهنا أيضاً يكون البحث عن متعلّق حرف الجرّ بلا ثمرة، لانّ لفظ «الباء» في هذه الحالة يكون جزءً من أجزاء اسم إلٰهيّ خاصّ ولا حاجة له ان يتعلّق بالغير، لانّه ليس حرف جرّ حتّىٰ يجري الكلام في موضوع متعلّقه[1]، لكن هذا الاحتمال غير مُبَرْهَن كذلك.


[1] . قال القشيري: انّ جماعة يتذكّرون من خلال حرف (الباء) برّ الله واحسانه الىٰ أوليائه، ومن حرف (السين) سرّه مع أصفيائه ومن (الميم) منّته علىٰ أهل ولايته، وجماعة اُخرىٰ يتذكّرون من حرف (الباء) براءة الله من كلّ قبيح ومن حرف (السين) سلامة الله من كلّ عيب ومن حرف (الميم) مجد الله سبحانه... وجماعة اُخرىٰ يتذكّرون من حرف (الباء) بهاء الله ومن حرف (السين) سناء الله ومن (الميم) ملكه. (لطائف الاشارات، ج1، ص56).

تسنيم، جلد 1

333

والذي يبدو لنا هو نفس مبنىٰ المشهور بين المفسّرين من اِنّ لفظ (الباء) حرف جرّ ويحتاج الىٰ متعلّق. وإن كان البحث حول تعيين متعلّق الباء لايحظىٰ بأهميّة خاصّة بالنسبة الىٰ المعارف القرآنيّة. ولهذا فانّ صدر المتألّهين ارجع من يريد التحقيق في مواضيع من قبيل: تعيين متعلق الباء وتقدّم أو تأخّر المتعلّق المحذوف ومعنىٰ تعلّق الإسم بالقراءة في الآية الكريمة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك﴾ والسرّ في كسر حرف الباء مع انّ الحروف البسيطة مثل كاف التشبيه ولام الابتداء وواو العطف وفاء العطف مبنيّة علىٰ الفتح وسائر البحوث الّتي هي في هذا المستوىٰ الىٰ التفاسير المشهورة لاسيّما تفسير الكشّاف للزمخشريّ ولم يحقّق هو فيها بنفسه[1]، لكنّ الالتفات الإجماليّ إليها لأجل التفسير المتعارف مفيد ونافع. ولهذا فانّ الاُستاذ العلاّمة الطباطبائي ذكرها بعبارة قصيرة اُسوة بالمفسّرين من ذوي الدقّة والتركيز في الكلام ولم يهمل موضوع تعيين المتعلّق والاشارة إليه.[2]

وينبغي الإلتفات إلىٰ انّ الله سبحانه بمقتضىٰ (هو الأوّل) فهو بداية لكلّ عمل وكلّ شأن، والعمل الّذي يبدأ من دون الإلتفات إليه فهو منقطع الأوّل، كما انّ العمل والشأن الّذي يتمّ من دون قصد التقرّب إليه بما انّه (هو الآخر) فسيكون منقطع الآخر وأبتراً. ولذلك فانّ كلّ عمل لابدّ أن يبتدئ باسم الله. ومن الضروريّ أن لايكون مثل هذا العمل خالياً من الرجحان، لانّ العمل المرجوح الّذي لا يرضىٰ الله عنه لايمكن أن ينسب أبداً إلىٰ الله.


[1] . تفسير القرآن الكريم، ج1، ص29 ـ 30.

[2] . الميزان، ج1، ص15.

تسنيم، جلد 1

334

ومعنىٰ ابتداء العمل باسم الله لايختصّ بذكر لفظ (بسم الله) في بدايته ولايعني انّ هذا اللفظ وحده يحظىٰ بالعناية، بل كلّ ما هو عامل للذكر الإلٰهي فهو كاف وإن لم يكن خصوص كلمة (بسم الله). ولهذا فانّ بعض الأدعية لاتبتدئ بكلمة (بسم الله) وانّما تبدأ بالتحميد أو التسبيح أو التكبير، وفي جميع هذه الحالات قد حصل الإلتفات الىٰ اسم من الأسماء الحسنىٰ والصفات الإلٰهيّة العليا، كما انّ امتثال الأمر الإلٰهيّ في موضوع حلّية وطهارة المذبوح أو المنحور واشتراطه بالتسمية في الآية الكريمة: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِين﴾[1] والآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق﴾[2] لايختصّ بذكر البسملة، فقد روي انّ شخصاً سأل الإمام(ع) هل انّ ذكر التسبيح أو التكبير أو التهليل أو التحميد لله كافٍ عند الذبح أم لا؟ فقال الإمام(ع): «هذا كلّه من أسماء الله، لا بأس به»[3] اي انّ اسم الله قد ورد في جميع هذه الكلمات ومثل هذا الذبح صحيح وهذا المذبوح أو المنحور حلال.

وتارة يقترن ذكر اسم المعنىٰ بفعل معيّن مع لفظ الباء الّذي هو حرف الجرّ مثل: «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد» و﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق﴾، وفي مثل هذه الموارد ليس هناك ابهام في تعيين متعلّق الباء، وتارة يبدأ عمل ما بسم الله بحيث يكون هذا العمل بمثابة قرينة معيَّنة


[1] . سورة الأنعام، الآية 118.

[2] . سورة الأنعام، الآية 121.

[3] . وسائل الشيعة، ج16، ص327.

تسنيم، جلد 1

335

يمكن أن تُعيِّن متعلّق حرف الجرّ، مثل من يريد أن يتلوا سورة من القرآن أو يريد أن يقوم من مكان أو يجلس فيه[1] ومثله الذابح أو الناحر عندما يريد أن يذبح شاةً أو ينحر بعيراً فيقول: بسم الله...، فهو يقصد بذلك بسم الله اضحّي وبسم الله أذبح، ومثله أيضاً ابتداء المؤلّف بتأليفه والمدرّس بدرسه وصاحب المهنة بعمله، فانّ احتمال تعيّن متعلّق حرف الجرّ في مثل هذه الموارد في محلّه تماماً وإن كان احتمال تعلّقه بمتعلّق عامّ يناسب الموارد العامّة مثل «الابتداء» و«الاستعانة» معقول أيضاً.

طبعاً من الممكن أن يكون المتعلّق اسماً فتكون الجملة اسميّة، ويمكن أن يكون فعلاً فتكون الجملة فعليّة مثل: ابتدائي (أي الابتداء الثابت في الظرف المستقرّ لا اللغو) بسم الله... وابتدأت بسم الله...، لانّ حرف الجرّ محتاج الىٰ المتعلّق كي يتخلّص من النقص ويصير تامّاً، وهذه النتيجة تحصل بواسطة الاسم مرّة مثل «ابتدائي» ومرّة بواسطة الفعل مثل «ابتدأت». والبحث حول تعيين المتعلّق سببه انّ حرف الجرّ محتاج إليه، ومن هذه الجهة ليس هناك فرق بين أقسام المجرور، فلو قيل «بالله» ولم تذكر كلمة اسم فانّ البحث حول تعيين المتعلّق يبقىٰ قائماً.

وأمّا السبب في اختيار عبارة «بسم الله» بدلاً من قول (بالله) فقد ذكروا فيه وجوهاً عديدة منها: 1. لأجل التبرّك بالإسم. 2. لأجل التمييز بين الابتداء بالعمل وبين القَسَم لأنّ القسم يحصل بعبارة (بالله) وليس «بسم الله». 3. حيث انّ الإسم هو عين المسمّىٰ فلا فرق بين (بالله) وبين (بسم الله). 4. في أوّل الأمر وبواسطة الإنس باسم الله تصفوا


[1] . تفسير الطبري، ج1، ص78.

تسنيم، جلد 1

336

القلوب من العلائق والسرّ من العوائق حتّىٰ ترد كلمة (الله) علىٰ القلب النقيّ والسرّ الصفيّ.[1]

ويروي محمّد بن جرير الطبريّ حديثاً عن الرسول الأكرم(ص) مضمونه انّ اُمّ المسيح(ع) أرسلت ابنها عيسى إلىٰ المكتب ليتعلّم من المعلّم فنّ الكتابة، فقال المعلّم: اُكتب (بسم)، فقال عيسى(ع): بسم ماذا؟ فقال المعلّم: لا أعلم، فقال عيسى: «الباء» بهاء الله، «السين» سناؤه و«الميم» مملكته. ثمّ يقول الطبريّ أخشىٰ أن يكون الناقل قد أخطأ في النقل وإنّ مقصود المعلّم هو (ب)، (س)، (م) علىٰ النحو الّذي يتعلّم فيه الأطفال الحروف الأبجديّة. ولعلّ راوي الحديث قد أخطأ وربط بين الحروف الثلاثة المذكورة ونقلها بشكل (بسم)؛ لانّ تأويل المنقول المذكور لايتناسب أبداً مع كلمة (بسم الله الرحمٰن الرحيم) طبقاً لموازين لغة العرب.[2]

ويرىٰ محيي الدين بن العربي انّ متعلّق حرف الجر في كلّ سورة تبدأ بالحمد هو فعل من مادّة الحمد مثل: «حَمَدتُه» أو «أحمدُهُ».[3] ويرىٰ عبد الرزاق الكاشاني انّ متعلّقه «ابدأُ» و«أقرأ». طبعاً هو يرىٰ انّ «الإسم» هو الصورة النوعيّة للإنسان الكامل الجامع للرحمة الرحمانيّة والرحيميّة الّذي هو مظهر الذات الإلٰهيّة والإسم الأعظم.[4]


[1] . لطائف الاشارات، ج1، ص56.

[2] . تفسير الطبري، ج1، ص81 ـ 82 بتصرّف.

[3] . ايجاز البيان في الترجمة عن القرآن، المطبوع في حاشية تفسير واشارات ابن العربي، ج1، ص21.

[4] . تأويلات الكاشاني، ج1، ص7.

تسنيم، جلد 1

337

وقد جاء في بعض النصوص، وكما سيأتي في البحث الروائيّ انّ: «معنىٰ قول القائل بسم الله، ايّ أَسِمُ نفسي بسمة من سمات الله عزّ وجلّ وهي العبادة».[1] وعليه فانّ المتعلّق المحذوف لحرف الجرّ مشتقّ من مادّة «اسم»، والمتكلّم أو الكاتب يريد أن يَسِمَ نفسه بِسِمَةِ وعلامةِ العبوديّة. وقال بعض المفسّرين انّ في هذه الرواية تنبيهاً علىٰ انّه يجدر بمن يقول «بسم الله» أن يكون جادّاً عند كلامه في أن يوجد في نفسه نموذجاً للصفات الإلٰهيّة.[2]

وعلىٰ كلّ حال فإنّ متعلّق «الباء» إذا كان من مادّة القراءة أو أيّةَ مادّة اُخرىٰ مناسبة، فحيث انّ الإسم له مراتب فالقراءة أو العمل المناسب الآخر أيضاً سيكون له درجات والقائل «بسم الله» في ايّ درجة ابتدأ بها فهو سيواصل عمله طبقاً لتلك الدرجة؛ وكما جاء في الحديث: «اقرأ وارق».[3]

والملاحظة الجديرة بالاهتمام هي انّ القرآن من حيث انّه كلام الله، ومتكلّمه بواسطة ايجاد هذه الحروف والكلمات اعدّ كتاباً تدوينيّاً فهو ذو صفة «تعليميّة»، ومن حيث انّ العباد يتلونه ويتعلّمون معانيه ويزكّون أنفسهم بواسطة العمل بما فيه فهو ذو صفة «تعلُّميّة». وعلىٰ هذا فعندما يقول الله سبحانه «بسم الله» فلايصحّ أن يقال انّ متعلّقها هو الاستعانة أو يُتوهّم انّ معنىٰ حرف الجرّ هو الاستعانة، لكن عندما يتلفّظ بها العباد


[1] . نور الثقلين، ج1، ص11.

[2] . بيان السعادة، ج1، ص25.

[3] . البحار، ج8، ص133.

تسنيم، جلد 1

338

فيمكن أن يكون متعلّقها من مادّة الإستعانة ونظائرها كما انّ معنىٰ حرف الجرّ أيضاً يمكن أن يكون الاستعانة. طبعاً هذا لايعني الجمع بين الاستعانتين، لأنّه يجب حتماً تجنّب الجمع بين الإثنتين.

وعلىٰ كلّ حال، فحيث انّ كلمة (بسم الله) جزء من السورة وجزء من القرآن أيضاً، فإذا قرئت للاستعانة أو لمعنىٰ آخر فهي وإن كانت بلحاظ اللفظ غير شاملة لنفسها، لكنّها من جهة الملاك تتضمّن نفسها أيضاً، أي انّ الاستعانة من الله كما تتحقّق بالنسبة الىٰ أجزاء السورة الباقية وكذلك سائر كلمات القرآن، فهي متحقّقة أيضاً بالنسبة إلىٰ (بسم الله) ذاتها. وحتّى في الابتداء باسم الله، يجب اعتبار الإسم الإلٰهيّ مقدّمة للافتتاح والتسمية والبسملة. نعم لو لم تكن (بسم الله) جزءً من السورة وكانت خارجة عن القرآن لأمكن أن تقع عنواناً للإبتداء باسم الله ولكانت السورة تبدأ بواسطة الافتتاح بها. ومهما يكن فإنّ التسمية الإلٰهيّة مفتاح لكلّ باب مغلق ومنفذ الىٰ كلّ كنز.[1]


[1] . كما قال النظامي الكنجوي في بداية مخزن الأسرار: بسـم الله الرحمٰــن الرحـيـم هي المفتاح لباب كنز الحكيم وفي مقدّمة ليلىٰ والمجنون أنشد قائلاً: يا من اسمه افضل ديباجة كيف استطيع أن استهل رسالتي بغير اسمك وفي بداية الأجسام السبعة ينشد قائلاً: يامن رأىٰ عالم الوجود نفسه منك ويامن لم يكن قبلك من وجود اتت في البداية بداية لكلّ شيء وفي النهاية نهاية لكلّ شيء وفي مقدّمة الرسالة الاسكندريّة (الاسكندرنامه): الٰهي انّ العالم مملكتك ولك الخدمة منّاً ولك الربوبيّة يا الٰهي انّك أنت الملجأ للرفيع والداني فالكلّ معدوم والموجود هو أنت وفي بداية رسالة الإقبال (اقبالنامه) وبما يشابه مقدّمة مخزن الأسرار انشد كالتالي: اينما يكتشف العقل كنزاً فإنّه يصنع له مفتاحاً من اسم الله الله الواهب للعقل ومكرم العقلاء هو المنقذ لغير العقلاء طبعاً انّ النظرة التوحيديّة للشعراء والاُدباء ليست متساوية فما قاله الحكيم ابو القاسم الفردوسي: باسم إلٰه الروح والعقل حيث انّ الفكر لايرقىٰ الىٰ أعلىٰ من هذا ليس مساوياً لما قاله الشيخ محمود الشبستري: باسم الّذي علّم الفكر للروح واسرج مصباح القلب بنور الروح لأنّه وإن كان الفردوسي قال بأنّ الله خالق الروح وخالق العقل لكنّ هناك أمراً ثالثاً وهو بيان العلاقة بين الروح المفكّرة والفكر لم يأت في أبياته الجميلة أمّا عارف شبستر فهو اضافة إلىٰ الأمر الأوّل والثاني وهو الإشارة الضمنيّة إلىٰ خالقيّة الله للروح وللفكر قد التفّت إلىٰ أمر ثالث وهو ربوبيّة الله في تعليم الإنسان وإيجاد نور الفكر في روح المفكّر، حتّى لايتوهّم أحد بأنّ الله وإن كان قد خلق أصل الروح وأصل العلم، لكن اكتساب العلم يتمّ من قبل الروح الإنسانيّة نفسها والعالِم لايحتاج في اكتسابه للعلم إلىٰ افاضته عليه من قبل الله. وخلاصة القول هي أنّ الفردوسي (ره) قد أشار الىٰ جعلين بسيطين، والشبستري (ره) أشار إلىٰ جعلين بسيطين وإلىٰ جعل تأليفيّ. وعلىٰ كلّ حال فإنّ كتاب «عرفان روض الأسرار» «گلشن راز» مشهود لأصحاب القلوب، كما انّ كتاب (ملحمة رسالة الملوك) [حماسه شاهنامه] معلوم لأصحاب النظر والفكر، وكلاهما نظم منضود وبديع في ساحة التوحيد الإلٰهيّ. وإن كان لاينبغي استبعاد علوّ منزلة البصر علىٰ النظر بل ينبغي إعتبار انّ رجحان البصر علىٰ النظر أمرٌ تقتضيه البصيرة. والمناسب أن لانطلق عنان الكلام فنعدل عن المسير المشهور ونرد في معبر المستور الّذي لا يبلغه إلاّ نزر من سالكي طريق المعرفة وقليل من سالكي صراط العبادة الّتي منطلقها الشكر والمسافة الّتي يملؤها الحبّ. نعم فالتحرر من غير الصمد لن يكون نصيب الأجوف من الناس وشهود الشهيد المطلق لايحظىٰ به كلّ أكمه وأعور وأحول وأعمىٰ.

تسنيم، جلد 1

339

تسنيم، جلد 1

340

الإشتراك اللفظيّ والتغايرالمعنوي

انّ الآية الكريمة ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ هي بداية (113) سورة من سُوَر القرآن الكريم وفي سورة النمل اضافة إلىٰ بداية السورة فقد جاءت في مقدّمة كتاب سليمان(ع) إلىٰ ملكة سبأ[1]، فتكون الآية قد نزلت 114 مرّة، لا أنّها قد نزلت مرّة واحدة وانّ النبيّ الأكرم(ص) قد أمر بأن تكون بدايةً لكلّ سورة.

وفي عصر نزول الوحي كان نزول الآية الكريمة: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ بعنوان انّها الآية الاُولىٰ للسورة الجديدة، وذلك علامة علىٰ اختتام السورة السابقة وبداية نزول السورة اللاحقة وكما جاء في الرواية: «وإنّما كان يعرف انقضاء السورة بنزول: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ ابتداءً للاُخرىٰ».[2]

والنزول المتكرّر لآية «بسم الله...» دليل علىٰ اختلاف معناها


[1] . سورة النمل، الآية 30.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص6.

تسنيم، جلد 1

341

وتفسيرها في كلّ سورة. فآيات البسملة في جميع القرآن صحيح انّها من جهة اللفظ واحدة لكنّها من جهة المعنىٰ والتفسير متعدّدة وبالنتيجة فهي مشترك لفظي.[1]


[1] . المقصود من الاشتراك اللفظيّ هنا هو الاشتراك اللفظي باصطلاح الحكماء لا الاُدباء وتوضيحه: انّ عنوان «المشترك اللفظيّ» بين الحكيم والأديب، هو بنفسه مشترك لفظي، لانّ الاشتراك اللفظي عند أهل الأدب تابع للوضع، فاللفظ الّذي يستعمل في موارد متعدّدة، إذا كان وضعه واحداً فهو مشترك معنويّ والاّ فهو مشترك لفظي. ولهذا فإذا وضعت الكلمة لجامع انتزاعي ذهني (لا خارجي ولا له حقيقة عينيّة)، فالأديب يعتبرها بلحاظ وحدة وضعها مشتركاً معنويّاً. امّا الإشتراك اللفظي عند الحكماء فهو تابع للبرهان ودائر مدار الواقع الخارجي، لا وضع الواضعين، فإذا كان الشيء فاقداً للجامع الخارجيّ المشترك وكان في الخارج أنواع متعدّدة ولا تشترك إلاّ في الإسم فقط، فالحكيم يسمّيه مشتركاً لفظيّاً، كما في كلمة «النفس» الّتي تطلق علىٰ النفس النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة فالأديب يعتبرها مشتركاً معنويّاً والحكيم يعتبرها مشتركا لفظيّاً، لانّ الأديب ينظر إلىٰ وحدة وضع هذه الكلمة، ولكن الحكيم عندما لايجد لها جامعاً خارجيّاً مشتركاً فهو يعتبرها مشتركاً لفظيّاً، علىٰ الرغم من انّ لها جامعاً انتزاعيّاً مفهوميّاً وذهنيّاً، ولذلك فانّ الأنفس النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة تبحث في فصول مستقلّة. والآية الكريمة ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ تشتمل علىٰ الأسماء الحسنىٰ (الله)، (الرحمٰن)، (الرحيم)، وحيث انّ له تعالىٰ بأسماء (الله) و(الرحمٰن) تجلّيات وظهورات متعدّدة في عالم الوجود: «الحمد لله المتجلّي لخلقه بخلقه» (نهج البلاغة، الخطبة 108) فتارة ينتقم من المجرمين بمظهر القهّار المنتقم ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون﴾ (سورة السجدة، الآية 22)، وتارة يدخل المتّقين إلىٰ الجنّة بمظهر اللطيف والرحيم: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّا﴾ (سورة مريم، الآية 63) والأسماء «التدوينيّة» لله سبحانه مبيّنة لتجلّياته (التكوينيّة) المتعدّدة. إذن هذه الألفاظ ليس لها معنىٰ واحد في كلّ مجال، مثلاً بسم الله في سورة الحمد المباركة تختلف عن بسم الله في سورة المسد في المعنىٰ والتفسير وهي فيهما مشترك لفظيّ.

تسنيم، جلد 1

342

والإختلاف المعنويّ والإشتراك اللفظيّ لآيات ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ هو من جهة انّ بسم الله في كلّ سورة جزء من تلك السورة وينسجم مع مضمونها وبمثابة العنوان والدليل والمعرّف لتلك السورة، وحيث انّ مضامين ومعارف السور القرآنيّة مختلفة فيما بينها، فإنّ معنىٰ بسم الله أيضاً سيكون مختلفاً بين السُوَر، وفي كلّ سورة يبيّن درجة من الدرجات وشأناً من شؤون إلٰهيّةَ الله سبحانه ورحمانيّته ورحيميّته، ولهذا فهو مثل أسماء الله في نهايات الآيات حيث تكون منسجمة مع محتوىٰ ومضامين الآيات وهي بمثابة البرهان علىٰ مضمون الآية. وعلىٰ هذا الأساس فإذا تمّ بيان مضمون السورة جيّداً، فإنّ تفسير بسم الله سيتّضح أيضاً.

وتوضيح ذلك هو: انّ في الآية الكريمة ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ حديثاً عن «الله» وهو الإسم الجامع والأعظم[1] لله سبحانه وتدخل في ضمنه جميع الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ وله في كلّ سورة ظهور خاص، ويجري فيها أيضاً حديث عن (الرحمة الرحمانيّة) الّتي تضمّ تحتها جميع صفات الله سبحانه وتظهر في كلّ مظهر باسم خاص، ففي السور الّتي تتضمّن معاني المحبّة واللطف والصفات الجماليّة لله تظهر بمظهر الجمال، وفي السور الّتي تتضمّن معاني القهر والغضب الإلٰهيّ تتجلّىٰ بمظهر (الجلال)[2]، ولذلك قال البعض: انّ


[1] . سوف يأتي بيان هذا المعنىٰ في قسم لطائف وإشارات لهذه الآية في ص346.

[2] . وعليه فانّ عدم ذكر بسم الله في بداية سورة التوبة لا لأجل انّ مضمون السورة لاينسجم ولايتناسب مع بسم الله، لانّه طبقاً لهذا التبرير فانّ الآية الكريمة (بسم الله) لا تنسجم مع سورة المسد أيضاً، بل يحتمل انّ الوجه في ذلك هو انّ سورة التوبة استمرار لسورة الأنفال، ولو كانت سورة مستقلّة لم تكن غير منسجمة مع الآية الكريمة ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾. وفي القرآن الكريم آيات تبدأ بالقهر وتختتم بالمحبّة واللطف كما في قوله تعالىٰ: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾ (سورة الأنعام، الآية 45) وهذا القهر منسجم مع المحبّة والرأفة، لانّ القهر علىٰ الظالم هو رأفة بالمظلوم، وهذا القهر مصداق من مصاديق ومظاهر الرحمة المطلقة لله سبحانه.

تسنيم، جلد 1

343

كلمة الرحمٰن اسم اعظم مثل كلمة الله. وعلىٰ هذا فانّ تفسير (بسم الله...) يختلف باختلاف السور.

والأحكام الفقهيّة للآية الكريمة: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ أيضاً شاهد علىٰ الاشتراك اللفظيّ لهذه الآية كما في المسائل التالية:

1. حرمة قراءة سور العزائم بالنسبة إلىٰ ذوي الأعذار شاملة أيضاً لقراءة البسملة بقصد قراءة السورة المذكورة.

2. انّ (البسملة) في كلّ سورة في الصلاة يجب أن تكون بقصد تلك السورة الّتي يريد المصلّي قراءتها، أي يجب تعيين السورة قبل قراءة البسملة.

3. في حالة العدول من سورة إلىٰ سورة اُخرىٰ في الصلاة يجب علىٰ المصلّي أن يكرّر قراءة البسملة بقصد السورة الجديدة.

فوجوب تلاوة البسملة في كلّ سورة بقصد تلك السورة يدلّ علىٰ تعدّد المقصود، لانّ تعدّد القصد تابع لتعدّد وتكثّر المقصود، وإلاّ فانّ المقصود الّذي ليس فيه أيّةُ كثرة بحيث يكون كلّ فرد فيه له علامته الخاصّة الّتي يتميّز بها عن الأفراد الاُخرىٰ لايستطيع القصد أن يكون

تسنيم، جلد 1

344

منشأً لتكثّره وافتراقه، إلاّ أن يكون القصد بنفسه يصنع مقصوداً. وعليه فانّ (البسملة) في كلّ سورة لها معناها وتفسيرها الخاصّ بها وتختلف عن معاني البسملة في السُور الاُخرىٰ.

الرحمة الشاملة المطلقة والرحمة الخاصّة

انّ لله سبحانه نحوين من الرحمة: الرحمة المطلقة والشاملة والّتي لايقابلها شيء، والرحمة الخاصّة الّتي تقابل الغضب، وكما سبق فانّ (الرحمٰن) تدلّ علىٰ الرحمة المطلقة والشاملة، و(الرحيم) تدلّ علىٰ الرحمة الإلٰهيّة المحدودة والخاصّة.

والرحمة الرحمانيّة لله وسعت كلّ شيء: (الدنيا والآخرة والمؤمن والكافر) وهي رحمة غير محدودة، كالشمس الّتي تشرق وتشعّ علىٰ الجميع وكالمطر الّذي يهطل علىٰ كلّ أرض: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ء﴾[1]، ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَة﴾[2]، «وبرحمتك الّتي وسعت كلّ شيء»[3]، «يامن سبقت رحمته غضبه».[4]

وعلىٰ هذا فانّ رحمة واسعة كهذه يقابلها «العدم»، لا «الغضب»، لانّ تقابلها مع الغضب الإلٰهيّ يوجب خروج الغضب من تحت الرحمة الرحمانيّة وتقييد الرحمة المطلقة.

أمّا الرحمة الرحيميّة فتكون في مقابل العذاب والسخط الإلٰهيّ وهي


[1] . سورة الأعراف، الآية 156.

[2] . سورة غافر، الآية 7.

[3] . مفاتيح الجنان، دعاء كميل.

[4] . نفس المصدر، دعاء الجوشن الكبير.

تسنيم، جلد 1

345

محدودة ومتناهية[1]، كما انّ السخط الإلٰهيّ محدود. وتوفيق نصرة الدين وتعلّم المعارف الإلٰهيّة والقيام بالأعمال الصالحة في الدنيا ونيل الجنّة والرضوان الإلٰهيّ في الآخرة كلّ هذه هي من المظاهر البارزة للرحمة الرحيميّة.[2]

الرحمة الرحمانيّة والرحيميّة في القرآن

في بعض آيات القرآن الكريم ذُكِرت الرحمة الإلٰهيّة الخاصّة فقط كما في قوله تعالىٰ:

1. ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُون﴾[3] ففي هذه الآية الكريمة ذكرت الرحمة الإلٰهيّة في مقابل العذاب، ومثل هذه الرحمة هي رحمة إلٰهيّة خاصّة.

2. ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين﴾[4] والرحمة القريبة من المحسنين هي الرحمة الخاصّة، والاّ فانّ المحسن والمفسد كلّ منهما مشمول بالرحمة الإلٰهيّة المطلقة.


[1] . المقصود من التناهي هو المحدوديّة بالنسبة إلىٰ الرحمة المطلقة، وإلاّ فانّ الرحمة الخاصّة أيضاً بلحاظ الثبات والاستمرار هي غير متناهية.

[2] . حيث انّ التوفيق لنصرة الدين هي من أفضل مظاهر الرحمة الإلٰهيّة الخاصّة ـ وقد حُرِم منها البعض بسبب عدم أهلّيتهم وكفائتهم، لذلك فانّ الله يخاطبهم بكلام مفعم بالعتاب ويقول اقعدوا فانّي أنصر ديني علىٰ يد غيركم: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلٰكِن كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِين﴾ (سورة التوبة، الآية 46).

[3] . سورة العنكبوت، الآية 21.

[4] . سورة الأعراف، الآية 56.

تسنيم، جلد 1

346

وفي بعض الآيات أيضاً اُشير إلىٰ الرحمة المطلقة فقط كما في قوله تعالىٰ:

1. ﴿ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمٰنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُون﴾[1] فمع انّ الكلام في هذه الآية حول العذاب نجد ذكر الله الرحمٰن لا القهّار ولا المنتقم، لانّ الرحمة الرحمانيّة شاملة للعذاب أيضاً.

2. ﴿الرَّحْمٰنُ ٭ عَلَّمَ الْقُرْآن﴾.[2] في سورة (الرحمٰن) المباركة وبعد ذكر اسم (الرحمٰن) الشريف يذكر جهنّم من جملة النعم وألوان الرحمة الإلٰهيّة كتعليم القرآن ونعيم الجنّة فيقول ﴿هٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ٭ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ٭ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان﴾[3] فجهنّم كمال وجوديّ وإلىٰ جنب الجنّة وسائر الآلاء والنعم الإلٰهيّة تدخل تحت ظلّ الرحمة المطلقة لله سبحانه.

3. ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَيُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين﴾[4] فالرحمة الّتي تُذكر في جنب تكذيب الكافرين وتعذيب المجرمين هي الرحمة المطلقة.[5]

وفي بعض الآيات أيضاً ذكرت الرحمة بقسميها كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَاكْتُبْ لَنَا فِي هٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي


[1] . سورة يس، الآية 23.

[2] . سورة الرحمٰن، الآيتان 1 و2.

[3] . سورة الرحمٰن، الآيات 43 ـ 45.

[4] . سورة الأنعام، الآية 147.

[5] . ويحتمل أيضاً أن يراد بها الرحمة الخاصّة ومعناها انّ الرحمة الإلٰهيّة كثيرة وفي قبال تكذيب أعداء الدين يجب الإعتماد علىٰ الرحمة الخاصّة.

تسنيم، جلد 1

347

أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون﴾.[1]

في هذه الآية الكريمة يُجيب الله سبحانه كليمه موسى(ع) الّذي سأله أن يكتب له حسنة (رحمة خاصّة) في الدنيا والآخرة فيبيّن له القواعد الثلاث التالية:

1. انّ العذاب الإلٰهيّ ينزل علىٰ أفراد معيّنين وفقاً للمشيئة الإلٰهيّة الحكيمة (العذاب الخاصّ).

2. سَعَة الرحمة الإلٰهيّة العامّة شاملة ومحيطة بكلّ شيء (حتّىٰ العذاب)، (الرحمة المطلقة).

3. انّ الرحمة مع سعتها وشمولها فانّها تُعطىٰ للمؤمنين المتّقين (الرحمة الخاصّة).

والرحمة الّتي هي نصيب المتّقين وحدهم، هي الرحمة الخاصّة (الرحيميّة) لا الرحمة العامّة والمطلقة (الرحمانيّة) الّتي يمتدّ ظلّها ليشمل المتّقين والمفسدين.

تنويه: انّ البحث في اختلاف الرحمٰن عن الرحيم وامكانيّة الفصل بينهما مبنيّ علىٰ انّ لكلّ منهما تعيّناً خاصّاً وصفةً خاصّة وامّا بناء علىٰ الرأي القائل بانّ المجموع منهما يكوِّن اسماً خاصّاً مثل بعلبك ورامهرمز كما يرىٰ بعض اساطين أهل المعرفة[2] فالنتيجة هي انّ تدبير نظام الوجود


[1] . سورة الأعراف، الآية 156. وضمير (ها) في قوله (سأكتبها) الحاكي عن الرحمة الخاصّة يعود علىٰ نحو الإستخدام إلىٰ الرحمة المطلقة المذكورة في كلمة (رحمتي)، فالمقصود من ضمير المؤنّث (ها) في قوله (سأكتبها) هو قسم خاص من الرحمة.

[2] . تفسير ابن العربي، ج1، ص26 ـ 27.

تسنيم، جلد 1

348

الإمكانيّ قائم علىٰ أساس التلفيق والجمع بين الرحمة العامّة والخاصّة ولا مجال للفصل بينهما.

لطائف وإشارات

1. الأدب الإلٰهيّ عند الإبتداء بالعمل

انّ سورة الحمد المباركة الّتي هي أوّل سورة في كتاب الله تبدأ بالآية الكريمة: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ المتضمّنة لاسم الذات وبعض الأسماء والصفات الإلٰهيّة. وعليه فانَّ (بسم الله) قد جاءت في بداية السورة وفي بداية الكتاب الإلٰهيّ أيضاً، وبهذا النحو يعلّمنا الله سبحانه الأدب الدينيّ لدىٰ الدخول في العمل والابتداء به.

والنبيّ الأكرم(ص) أيضاً يقول في مقام بيان هذا الأدب الدينيّ: «كلّ أمر ذي بال لم يُبدأ فيه باسم الله فهو أبتر».[1] والأبتر معناه (منقطع الآخر) والّذي لا نتيجة له، وحيث انّ الفاعل يرجو ان يحقّق هدفه في نهاية عمله، فالعمل الّذي لايحقّق هدفه عمل أبتر. ولهذا فانّ الفطنة والذكاء الّذي لايستعمل في طريق الحق، حيث انّه لايصل إلىٰ هدفه الحقيقيّ الأصيل، يقال له «فِطانة بتراء».

وابتداء العمل «باسم الله» اشارة لطيفة ورمزيّة الىٰ وجوب أن يكون الفعل حقّاً والفاعل مخلصاً، أي الجمع بين «الحُسن الفعلي» و«الحُسن الفاعلي». وعلىٰ هذا فانّ العمل الّذي يمكن الابتداء فيه باسم الله هو العمل الّذي يتمتّع بالحُسن الفعلي والحسن الفاعليّ أيضاً، يعني أن يكون


[1] . بحار الانوار، ج73، ص305؛ أيضاً راجع كتاب الدرّ المنثور، ص26، مع قليل من الاختلاف.

تسنيم، جلد 1

349

حقّاً ويكون أيضاً منبعثاً من قلب طاهر ونيّة خالصة. والعمل الفاقد لهاتين الصفتين أو احداهما هو غير قابل للإبتداء باسم الله ولا يحقّق هدفه أيضاً، لانّ العمل الباطل ينتهي الىٰ الباطل. إذاً فلأجل أن يبلغ العمل غايته الحقيقيّة والأصيلة وهي الحقّ ولاجل أن يكون محفوظاً من الفشل والخيبة الّتي هي آفة العمل يجب أن يبتدئ العمل باسم الله وبالحقّ، ولذلك يعلّم الله سبحانه نبيّه الأكرم أن يسأله التوفيق للدخول في العمل صادقاً والخروج منه منتصراً ناجحاً... ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْق...﴾[1] فالانسان إذا دخل في العمل بسم الله وحافظ علىٰ ذلك حدوثاً وبقاءً فإنّه لايتوقّف وسط الطريق: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً ٭ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب﴾.[2] والله سبحانه يعلّمنا في هذه السورة انّه حتّىٰ الحمد والعبادة إذا لم تبدأ باسم الله، فهي علىٰ الرغم ممّا فيها من حسن فعليّ تكون بتراءَ لانّها فاقدة للحسن الفاعليّ.

وفي الثقافة الدينيّة، كما يسند العمل الأبتر والفاشل الىٰ الفعل كما في حديث النبيّ الأكرم(ص) المذكور فإنّه يسند الىٰ الفاعل أيضاً كما في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر﴾.[3] يعني الإنسان المفسد الّذي يعمل الباطل وهو الّذي فيه (قبح فعلي) و(قبح فاعلي) فهو أبتر ولن يصل إلىٰ مقصده أبداً.


[1] . سورة الاسراء، الآية 80.

[2] . سورة الطلاق، الآيتان 2 و3.

[3] . سورة الكوثر، الآية 3.

تسنيم، جلد 1

350

وليس المقصود من كون الفاعل أبتراً هو انقطاع النسل فحسب، فإنّ المصيبة الأليمة هي انّ الإنسان لايحقّق غرضه الأصلي من هذه الحياة ولايبلغ هدفه الحقيقي الّذي خُلق من أجله، وإلاّ فإنّ العقم وانقطاع النسل لايعدّ فجيعة لاسيّما في عالم الآخرة الّذي لا دور فيه للعلاقات النسبيّة: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ﴾[1] وكلّ انسان هناك يحلّ ضيفاً علىٰ عقائده وأخلاقهِ وأعماله.

وخلاصة القول هي انّ الله سبحانه بواسطة ابتداء كتاب الوحي باسمه يعلّمنا أدب الدين عند ابتداء الأعمال.

تنويه: أ. انّ أدب الدين في ابتداء العمل بسم الله ليس أمراً مختصّاً بالنبيّ الخاتم(ص) وحده، بل يظهر من مستهلّ كتاب النبيّ سليمان(ع) إلىٰ ملكة سبأ انّ سائر الأنبياء أيضاً كانوا يبدأون كتبهم ورسائلهم وأعمالهم بالكلمة الطيّبة: «بسم الله الرحمٰن الرحيم»: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ٭ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾[2] ويستفاد من الروايات عن أهل البيت(ع ) انّ جميع الكتب الإلٰهيّة بدأت بمضمون الآية الكريمة: «ما أنزل الله من السماء كتاباً إلاّ وفاتحته بسم الله الرحمٰن الرحيم»[3] وهذه كانت سيرة مشتركةً لجميع أنبياء الله، لانّ أهمّ أمر حاكم علىٰ رسالة جميع رسل الله هو الدعوة الىٰ «الله»، وفي الكتاب الكريم للنبيّ سليمان وبعد ذكر اسم الله يعرض علىٰ ملكة سبأ قبول التوحيد: ﴿أَلاَّ تَعْلُوا


[1] . سورة المؤمنون، الآية 101.

[2] . سورة النمل، الآيتان 29 ـ 30.

[3] . نور الثقلين، ج1، ص6.

تسنيم، جلد 1

351

عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِين﴾[1]، ولا ينبغي التوهّم بانّ النبيّ سليمان في كتابه التوحيديّ هذا قد قدّم اسمه علىٰ اسم الله في الآية الكريمة ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ...﴾، لانّ جملة «انّه من سليمان» هي جزء من حديث المتكلّم (وهي ملكة سبأ) وليس مقدّمة لكتاب سليمان.[2]

ب. انّ السرّ في الفشل وسوء عاقبة العمل الّذي لايبدأ بإسم الله سبحانه ولايكون جامعاً للحسن الفعليّ والفاعليّ هو انّ البقاء فقط لوجه الله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ٭ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام﴾[3]، ﴿كُلُّ شَىْ‏ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه﴾[4] وإذا لم يكن العمل لوجه الله فلانصيب له من البقاء.

ووجه الله هو فيضه الظاهر في جميع عوالم الوجود وبدونه لابقاء، لا للفاعل ولا لفعله.

والقرآن الكريم ببيانه انحصار البقاء في وجه الله، بيَّن السرَّ في بقاء وخلود العمل الصالح وكذلك سرّ هلاك وفناء العمل الباطل. وهذا الهلاك والفناء لغير وجه الله لايتعلّق بالمستقبل فقط بل الآن كلّ شيء هالك وفانٍ الاّ وجه الله.[5] وعلىٰ هذا فإنّه ليس في عالم الوجود سوىٰ (وجه الله) وما هو باسم الله ولأجل الله. وكلّ ما لم يكن باسم الله ولا


[1] . سورة النمل، الآية 31.

[2] . من المناسب أن يذكر المبدأ والمقصد (من... والىٰ...) في المخاطبات الإداريّة والحكوميّة بعد بسم الله.

[3] . سورة الرحمٰن، الآيتان 26 و27.

[4] . سورة القصص، الآية 88.

[5] . كلمة (هالك)، (وفاني) مشتقّ واستعمال المشتقّ بالنسبة الىٰ المستقبل مجاز باتّفاق الجميع ويحتاج الىٰ قرينة، والاختلاف هو في انّ المشتقّ حقيقة أم مجاز بالنسبة الىٰ الماضي اي ما انقضىٰ عنه التلبّس بالمبدأ.

تسنيم، جلد 1

352

لأجل الله فهو الآن هالك وفانٍ، وليس هناك حقيقة مستقلّة اُخرىٰ في الوجود غير وجه الله اسمها السماء أو الأرض أو غير ذلك، لانّ كلّ ما له حظّ من الوجود فهو وجه الله وآياته: ﴿أَيْنَمَا تُوَلُّوْا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾[1] وعليه فانّ الشيء إذا فقد كونه وجهاً أو آيةً لله فلا بقاء له.

وقد أوضح القرآن الكريم هلاك وفناء ماسوىٰ وجه الله في عدد من الأمثال المعبِّرة في الآيات التالية:

1. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَاب﴾[2] فقاطع الصحراء العطشان إذا نظر إلىٰ السراب يتوهّمه ماءً فيسرع نحوه ليطفئ به حرّ ظمئه، ولكن مهما تحرّك وتقدّم نحوه فإنّه لايصل إليه. والكفّار الّذين يسيرون دائماً خلف السراب الباطل يدركون عند الموت انّ عملهم وسعيهم كان هدراً وهباءً منذ البداية، لا انّ عملهم كان له حظّ من البقاء... ثمّ قضي عليه بعد ذلك.

2. ﴿وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورا﴾.[3] عبَّرت الآية الكريمة عن أعمال المفسدين بأنّها (هباء منثور) وهو ذرّات الغبار المبعثرة في الهواء، لانّ الشيء عندما يبعثر ويُفرّق في الهواء فانّ ذلك يؤدّي إلىٰ زوال صورته، بينما خصوصيّة كلّ شيء هي بصورته الطبيعيّة.

3. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَىٰ كَالَّذِى


[1] . سورة البقرة، الآية 115.

[2] . سورة النور، الآية 39. والتعبير اللطيف في الآية انّما قالت: (لم يجده شيئاً). ولم تقل (وجده لاشيء)، لانّ اللاشيء غير قابل للوجدان.

[3] . سورة الفرقان، الآية 23.

تسنيم، جلد 1

353

يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْ‏ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين﴾[1] أي انّ أعمال المرائين والمنكرين للمبدأ والمعاد مثل قطعة الصخر الملساء الّتي غطّتها طبقة خفيفة من التراب فهطلت عليها مُزنة من المطر الغزير فإذا بها صخرة ملساء ناصعة.

والّذي لايرىٰ في الدنيا انّ عمله مقطوع وأبتر فمثله مثل رامٍ صوّبَ سهامه نحو هدفه ليلاً وحَسِبَ أنّه أصاب الهدف ففرح، لكن ما إن بَزغت شمس النهار حتّىٰ تَبيَّنَ له انّ سهامه قد ذهبت هدراً ولم يصب هدفه ولم يبلغ مقصده. وفي يوم القيامة الّذي هو محلّ ظهور الحقائق سيظهر بطلان وسوء عاقبة أعمال الباطل.

وخلاصة القول انّ كلّ شيء لايرتبط بوجه الله فهو من الآن أبتر وفان وهالك وما كان لله فهو إلىٰ الأبد محفوظ من الموت والفناء.

2. قدسيّة وبركة اسم الله

انّ القرآن الكريم يبيّن للأسماء الإلٰهيّة أحكاماً ومواصفات من قبيل انّها منزّهة ومقدّسة كذاته المقدّسة وكذلك هي منشأ ومصدر لبركات كثيرة، وعليه فانّها تعرِّف الإنسان بتكليفين يجب عليه القيام بهما في مقابل الأسماء الإلٰهيّة وهما:

1. تسبيح اسم الله: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم﴾[2]، ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَىٰ﴾[3]


[1] . سورة البقرة، الآية 264.

[2] . سورة الواقعة، الآيتان 74 و96.

[3] . سورة الأعلىٰ، الآية 1.

تسنيم، جلد 1

354

وتسبيح وتقديس وتنزيه اسم الله يتمّ بأن لايستعمل في شؤون الباطل ولا يُغفل عنه في عمل الحقّ ولا يذكر في جنبه اسم آخر. كما انّ مقتضىٰ تسبيح وتقديس الذات الإلٰهيّة المقدّسة هو أن يُنفىٰ عنها كلّ نقص وأن تُعدّ تلك الذات مبدأً مستقلاًّ لكلّ أثر وانّها المُنتهىٰ بالذات لكلّ صيرورة وأن لايُجعل في جنب ذاتها أيّ ذات مستقلّة.

فكما انّه يجب تنزيه الله سبحانه في مقام الذات من كلّ نقص وعيب فكذلك في مقام (الإسم) الّذي هو علامة ذاته المقدّسة يجب التقديس والتنزيه أيضاً، وإحدىٰ مراتب تنزيه الإسم الإلٰهيّ هي أن لايذكر في عرض إسمه إسم آخر ولا في طوله. وعليه فإنّ مايقوله بعض المنحرفين: (باسم الله وباسم الشعب) غير جائز وكذا ما يقوله بعض الجهلة (باسم الله أولاً ثمّ باسم...) فهو غير صحيح، لانّ مثل هذا الذكر لإسم الله هو إهانة وليس تنزيهاً.

وبعد نزول الآية الكريمة ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ قال النبيّ(ص): «اجعلوها في ركوعكم»، وبعد نزول الآية الكريمة ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَىٰ﴾ قال: «اجعلوها في سجودكم»[1] ولذلك شُرِّع في ركوع الصلاة ذكر «سبحان ربّي العظيم وبحمده» وفي سجود الصلاة «سبحان ربّي الأعلىٰ وبحمده» وهذا دليل علىٰ أهميّة تقديس اسم الله سبحانه.

2. التكليف الثاني أن يعتقد الناس بانّ اسم الله مبارك وأن يتبرّكوا به ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام﴾.[2] فالقرآن الكريم يعتبر اسم الله


[1] . وسائل الشيعة، ج6، ص328.

[2] . سورة الرحمٰن، الآية 78. والفيض الكاشاني ينقل قراءة (ذو الجلال والإكرام) أيضاً، وفي هذه الحالة فانّ (ذو الجلال) سوف يكون نعتاً مقطوعاً للإسم أي انّ اسم الله يتّصف بالجلال والإكرام (تفسير الصافي، ج5، ص117).

تسنيم، جلد 1

355

مصدراً للبركات وهو علامة الوجود المحض الّذي تفيض منه جميع البركات الوجوديّة. والّذي يصل الىٰ حقيقة اسم الله وينطق به فانّه يستطيع أن يفعل (باسم الله) مايفعله الله سبحانه نفسه بـ(كُن) ولذلك قال أهل المعرفة انّ: (بسم الله الرحمٰن الرحيم) من العبد هي بمنزلة (كن) من مولاه.

الله سبحانه يحقّق كلّ مايريد بأمر (كن): ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون﴾[1]، كما انّ النبيّ نوحاً(ع) سيطر علىٰ ذلك الطوفان المرعب وسكَّن تلك الأمواج الشبيهة بالجبال بواسطة اسم الله وكان يحرِّك سفينته المشهورة ويوقفها باسم الله: ﴿بِسْمِ اللهِ مَجْريٰها[2] وَمُرْسَاهَا﴾.[3]

والسرُّ في انّ العبد الكامل يخلق من ألسنةِ النار روضةً أو يسيّرُ سفينته ويسكّنها في الطوفان الهائل المرعب وعلىٰ أمواج كالجبال، هو انّ رغباته واراداته فانية في المشيئة الإلٰهيّة الحكيمة، وعلامة هذا الفناء هي انّه لايريد شيئاً سوىٰ ارادة الله. طبعاً مثل هذا الأمر يصدر من خواصّ عباد الله وأوليائه لا من كلّ ناطق (بسم الله).

وهذا النحو من الآثار قد جاء في الروايات انّها (الإسم الأعظم) أيضاً، ولاينبغي التوهّم انّ الإسم الأعظم هو من سنخ اللفظ أو المفهوم


[1] . سورة يس، الآية 82.

[2] . تقديم (بسم الله) علىٰ (مجريٰها) و(مرسيٰها) هو من قبيل تقديم (ايّاك) علىٰ (نعبد) و(نستعين) يفيد الحصر فلم يقل نوح7 مجريٰها ومرسيٰها باسم الله بل جعل بسم الله مقدّماً لإفادة الحصر.

[3] . سورة هود، الآية 41.

تسنيم، جلد 1

356

حتّىٰ يمكن التأثير في التكوين بواسطة اللفظ أو المفهوم حيث يتمّ احياء الميّت به أو يبدِّل النار المضطرمة إلىٰ حديقة غنّاء، لانّ الخلق التكويني يتحقّق بواسطة المقام الإنساني لا باللفظ والمفهوم. وعليه فانّ البحث بين الالفاظ والمفاهيم عن الإسم الأعظم لأجل التأثير به علىٰ العالم العينيّ عمل اُسطوري تافه ومصيره الفشل، لانّ عالم الوجود يُدار بالحقائق لا بالأساطير. وبسم الله إذا كانت صادرة من قلب الموحّد الكامل فانّها تؤثّر علىٰ العالم العينيّ باذن خالق الوجود، ولذلك يقول الإمام الرضا(ع): «انّ بسم الله الرحمٰن الرحيم أقرب الىٰ اسم الله الأعظم من سواد العين الىٰ بياضها».[1]

فإذا استطاع أحد أن يصل كالأنبياء والأئمّة(ع ) إلىٰ مقام الولاية الشامخ ونطق باسم الله في أعمال الخير مع مراعاة نظام العلّة والمعلول، ولم يركن أبداً إلىٰ قدرته وقوّته ولا علىٰ سائر الأسباب المعتادة بل رأىٰ انّ الله وحده هو المؤثّر المطلق في العالم فعندها ستظهر آثار الإسم الأعظم في جنب قوله بسم الله، كما فعلت عصا موسىٰ وخاتم سليمان باليد الموسويّة والإصبع السليمانيّ:

أنـت أمـسـكـت العـصـا بـيد اليمين

هذه يدك فمن أين لك بيدي موسىٰ؟[2]

إذا لم يـكـن الاصـبـع اصبع سليمان

فـأيّ تـأثـير لنقـوش فـصّ الخـاتم


[1] . نور الثقلين، ج1، ص8.

[2] . المثنوي، الدفتر الثاني، البيت 147، باللغة الفارسيّة.

تسنيم، جلد 1

357

وعندما اُبعد ابو ذر (رضي‌الله‌عنه) إلىٰ الربذة، ومع انّ الحكومة آنذاك قد منعت من توديعه، فانّ أمير المؤمنين والحسنين(ع ) وبعض خواصّ الصحابة كعقيل وعمّار قد حضروا لتوديعه. وفي ذلك الجمع تكلّم أمير المؤمنين مع أبي ذر بكلام جاء فيه: «والله لو كانت السماوات والأرض علىٰ عبد رتقاً ثمّ اتّقىٰ الله عزّ وجلّ جعل منها مخرجاً فلا يؤنسنّك الاّ الحقّ ولايوحشنّك إلاّ الباطل»[1] إذن لاينبغي أن يركن الإنسان إلىٰ الوسائط والأسباب العاديّة الّتي هي مجاري الفيض الإلٰهيّ. وهذا النحو من الإعتماد علىٰ رزاقية الله سبحانه علامة التوجّه والتوكّل الكامل علىٰ الله والّذي يبلغ هذه المرتبة من المقام الإنساني فسوف يتذوّق طعم حلاوة الإسم الأعظم في حدود ما لديه من قدرة.

والملاحظة الأساسيّة هي انّه علىٰ الرغم من انّ نظام الوجود يسير وفقاً لنظام العلّة والمعلول لا علىٰ مسألة (عادة الله) فحسب، مع هذا فانّ العلل المعروفة للمعاليل المعيّنة ليست عللاً منحصرة ابداً حتّىٰ يكون فقدان بعض شروطها مؤدّياً إلىٰ امتناع تحقّق المعلول، إذ يمكن أن يكون تحقّقها مستنداً إلىٰ شروط وظروف غير عاديّة أي يستند إلىٰ الكرامة (خرق العادة)، لا (خرق العليّة) والفرق بين هذا المعنىٰ وبين ماينقل عن الاشاعرة يتمّ بيانه في الموضع المناسب.

3. عينيّة الإسم مع المسمّىٰ أو مغايرته معه

انّ اختلاف المتكلّمين السابقين حول عينيّة الإسم مع المسمّىٰ أو مغايرته معه ناظر إلىٰ الأسماء الحقيقيّة والتكوينيّة للذات المقدّسة الإلٰهيّة


[1] . روضة الكافي، ص170، ح251.

تسنيم، جلد 1

358

وليس الىٰ أسمائه اللفظيّة، إذ ليس هناك موحِّد يرىٰ أن ألفاظ أو مفاهيم الأسماء الإلٰهيّة هي عين ذات المسمّىٰ بها.

وتوضيح ذلك: انّ الإسم وكما مرَّ في البحث التفسيريّ السابق له معان مختلفة، ففي العرف واللغة يطلق علىٰ (اللفظ الدالّ علىٰ المسمّىٰ)، وفي اصطلاح أهل المعرفة يعني (الذات المقترنة مع التعيُّن)، وبناء علىٰ هذا الإصطلاح الخاصّ فانّ الأسماء اللفظيّة للذات والصفات الإلٰهيّة تعتبر (اسم اسم الإسم) كالأسماء الموجودة في القرآن الكريم والروايات والأدعية كدعاء الجوشن الكبير ومفاهيم الأسماء اللفظيّة هي (اسم الإسم).

والآثار والبركات المترتّبة علىٰ الأسماء الإلٰهيّة والّتي ذكرت في بعض الروايات والأدعية مثل دعاء (السمات)، كانبساط الأرض وارتفاع الجبال وخلق العرش والكرسي والأرواح ليست هي نتيجة للأسماء اللفظيّة، لانّه كما سبق ذكره فانّ اللفظ أو المفهوم لايمكن أن يؤثّر في العالم العيني، بل المقصود من الأسماء هي (الذات مع التعيُّن الخاصّ) فبذلك التعيّن خلقت هذه الأشياء: «وبكلّ اسم رفعت به سماءك وفرشت به أرضك وأَرسيت به الجبال وأَجريت به الماء وسخّرت به السحاب والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار وخلقت الخلائق كلّها»[1]، «باسمك الّذي خلقت به عرشك».[2]

ملاحظة: جاء في بعض الروايات انّ احصاء أسماء الله سبحانه عامل للدخول الىٰ الجنّة: «انّ لله تسعة وتسعين اسماً من احصاها فقد دخل


[1] . البحار، ج88، ص187.

[2] . نفس المصدر، ج55، ص36.

تسنيم، جلد 1

359

الجنّة»[1] والمقصود من احصاء الأسماء ليس هو العدّ وقراءة الأرقام وعدد الأسماء بل انّ المقصود هو العمل والتخلّق بحقائق الأسماء وإلاّ فانّ العدّ والتلفّظ بالأسماء المقدّسة هو عبادة لفظيّة، وأمّا عامل الوصول الىٰ الجنّة فهو التخلّق بحقائق هذه الأسماء والصفات.

4. (الله) هو الإسم الأعظم الإلٰهيّ

بين الأسماء اللفظيّة لله سبحانه يكون اسم (الله) المبارك هو الإسم الجامع والأعظم وسائر الأسماء إمّا بالواسطة أو بلا واسطة تندرج تحت ظلّ هذا الإسم المقدّس فمثلاً اسم الشافي الّذي هو من الأسماء الجزئيّة يكون تحت ظلّ (الرازق) والرازق تحت ظلّ (الخالق) والخالق تحت ظلّ (القادر)، والقادر تحت ظلّ الإسم الجامع والأعظم وهو (الله).

وبناء علىٰ هذا فانّ اسم (الله) بالنسبة الىٰ الأسماء الاُخرىٰ (المندرجة تحت ظلّه) هو «الإسم الأعظم»، والآية الّتي تحتوي علىٰ الإسم الأعظم للحقّ سبحانه تُعدُّ سيّدةً للآيات، ولذلك جاء في بعض الروايات انّ الآية الكريمة: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ هي أكرم وأعظم آية في القرآن: «سرقوا أكرم آية في كتاب الله ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾»[2]؛ «عمدوا إلىٰ أعظم آيَة في كتاب الله... وهي ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾».[3]

تنويه: انّ اسم «الله» الشريف قد جاء ذكره في كثير من آيات القرآن


[1] . توحيد الصدوق، ص219.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص6.

[3] . تفسير العياشي، ج1، ص22.

تسنيم، جلد 1

360

الكريم، والسرّ في انّ آية ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ تعتبر سيّدة الآيات هو الاختلاف المعنويّ والتفسيريّ لكلمة الله في بسم الله وسائر الآيات.[1]

5. رسالة أسماء الله في سورة الحمد

هناك ثلاثة أسماء من الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ، في الآية الكريمة ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾. وهذه الأسماء نفسها ذكرت في الآيتين التاليتين (الله في الآية الثانية والرحمن والرحيم في الآية الثالثة)، ولاينبغي التوهّم انّ هذا تكرار؛ لانّ الأسماء الإلٰهيّة تارة تذكر في نطاق محدود وفضاء مغلق ومهمّتها تبيين ذلك الاطار المحدّد، كما إذا جاءت بعنوان دليل لتبرهن علىٰ مدلولها الخاصّ، ولكن تارة تأتي حرّة ومطلقة من الحدود والقيود.

والأسماء الحسنىٰ (الله) و(الرحمٰن) و(الرحيم) في الآية الكريمة بسم الله هي من قبيل القسم الثاني، وما جاء منها في الآيات التالية هو من قبيل القسم الأوّل، لانّ اسم (الله) في الآية الثانية بما فيه من اشارة الىٰ الذات الجامعة للصفات الكمالية، و(الرحمن) و(الرحيم) في الآية الثالثة بما فيهما من اشعار بالرحمة المطلقة والخاصّة الإلٰهيّة فكلّ منها حدّ وسط للبرهان علىٰ انحصار الحمد في الله سبحانه وهي بصدد تبيين وتثبيت كون الله محموداً وليس كونه مهروباً عنه. مثلاً مع انّ تلك الذات المقدّسة يرهبها أيضاً الخائفون من الله: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُون﴾[2]، لكنّ هذه الأسماء في آية بسم الله ليس فيها هذا الإطار بل هي مفتوحة ودون حدود.


[1] . هذا المعنىٰ سوف يتّضح في اللطيفة التالية.

[2] . سورة البقرة، الآية 40.

تسنيم، جلد 1

361

6. التحيّر الجميل والممدوح

كما سبق فانّ الإسم المقدّس (الله) جاء من كلمة (إلٰه) والإلٰه بمعنىٰ (المألوه) أي (المعبود) أو (المتحيَّر فيه). وكون الله سبحانه مألوهاً هو من هذه الجهة وهي انّ جميع العقول والقلوب متحيّرة في ذاته القدسيّة وتائهة فيها.

يقول الإمام السجّاد(ع) في (زيارة أمين الله): «اللهمّ انّ قلوب المخبتين إليك والهة».[1] فالتحيّر في ذات الحقّ تعالىٰ هو تحيّر ممدوح وجميل. فالحيرة والتيه للّذي لم يسلك الطريق أمر متعب ومؤلم ولكنّه للسالك الواصل لذيذ وممتع.

حيرة الإنسان الّذي لم يبلغ المقصد كالمسافر الظمآن المتحيّر في أطراف الجبال البعيد عن مصدر الماء، أمّا تحيّر السالك الواصل فهو كتحيّر السائر الّذي معه دليل عارف فأوصله الىٰ حيث ينابيع وعيون الماء فلمّا رآها صار متحيّراً لايدري من أيّةَ عين ماء ينهل فيروي ظمأه ويطفئ غليله اللاهب.

هذا التحيّر الجذّاب هو شأن السالكين الواصلين، ولذلك يقول الرسول الأكرم(ص) في مناجاته مع ربّه: (ربّ زدني فيك تحيّراً)، وهو تحيّر السالكين والواصلين الّذين هم في حيرة بأيّ اسم من أسماء الله يتبرّكون، ومن أيّ معين وزلال فيض الهي ينهلون.

7. نزاهة الصفات الإلٰهيّة من الحدود

انّ الصفات الّتي تنسب الىٰ الله سبحانه منزّهة من الحدود المشوبة


[1] . مفاتيح الجنان، زيارة أمين الله.

تسنيم، جلد 1

362

بالنقص. وعليه فانّ اللوازم الإمكانيّة الّتي تقترن بالصفات الإنسانيّة لامجال لها في الساحة المقدّسة الإلٰهيّة، ويثبت منها لله فقط أصل الكمال الموجود فيها مجرّداً من اللوازم والحدود المشوبة بالنقص، فمثلاً الرحمة في الإنسان تقترن بالتأثّر القلبيّ والإنفعال الداخليّ أمام المشاهد المثيرة للعاطفة. والإنسان بعد الشعور بهذا الانفعال والتأثّر يندفع لمساعدة البائس والمحروم، ولكن عامل كمال الإنسان هو الإهتمام بالمساكين ورعايتهم، وأمّا التأثّر والانفعال الداخليّ فهو ناشئ عن نقص وجوديّ في نفس الإنسان ولاينبغي أن يُعدَّ كمالاً.

انّ اغاثة المحرومين في العلاقات الإنسانيّة فيها نقص آخر أيضاً وهو انّ أكثر القائمين بهذا العمل يهدفون الىٰ علاج تأثّرهم العاطفيّ وليسوا بصدد امتثال التكليف الدينيّ، وبعبارة اُخرىٰ انّ عونهم للضعيف بعنوان «الترحّم» علىٰ المساكين ليس قائماً علىٰ أساس (الاحترام) للنوع الانساني. وعلاج التأثّر القلبي بمساعدة المحروم ليس جزءً من حقيقة وجوهر الرحمة، بل هو ناشئ من نقص الإنسان، ومعنىٰ تنزيه الرحمة الإلٰهيّة من اللوازم المشوبة بالنقص هو انّ الله سبحانه يسدّ حاجة المحتاجين من دون انفعال وتأثّر وتغيّر.

وعلم الله سبحانه أيضاً من حيث النزاهة هو بهذا النحو، لانّ العلم البشري مسبوق بالجهل من جهة: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَتَعْلَمُونَ شَيْئا﴾[1] وملحوق بالنسيان من جهة اُخرىٰ: ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئا﴾[2] والجهل


[1] . سورة النحل، الآية 78.

[2] . سورة الحج، الآية 5.

تسنيم، جلد 1

363

والنسيان من نقائص العلم البشريّ، والعلم الإلٰهيّ منزّه منها، ولكنّ الجوهر الكماليّ للعلم وهو الظهور والحضور والكشف والشهود للمعلوم فينتسب الىٰ الله سبحانه.

وفي الرحمة الرحمانيّة والرحيمية أيضاً فانّ أصل الجوهر الكماليّ للرحمة ثابت لله سبحانه، دون اللوازم المشوبة بالنقص مثل احتراق القلب والتأثّر العاطفيّ فهذه الصفات المشوبة بالنقص ليست مأخوذة في جوهر الرحمة ومعناها، حتّىٰ يقال انّ إطلاق (الرحيم) علىٰ الله سبحانه والملائكة وافراد الإنسانيّة الكُمّل المنزّهة رحمتُهم من هذه النقائص هو من باب المجاز أو الاشتراك اللفظيّ.

الإنسان الكامل الّذي قلبه متيّم بالحبّ ومفعم بالعشق الإلٰهيّ عندما يطعم المسكين يقول: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورا﴾[1] فمساعدته ليست نابعة من الترحّم والتأثّر ولا بداعي الجزاء وتقديم الشكر. ومثل هذا القلب لايسمح لغير الله بدخوله. فيفعل الإحسان الىٰ المسكين واليتيم والأسير لأجل امتثال أمر الله فحسب، لا لأجل التأثّر العاطفيّ واحتراق القلب عليهم. فهو يبقىٰ جائعاً ويهب طعامه للمسكين، وعمله لوجه الله فقط لا لاشباع غريزة العطف والترحّم.

8. ملاك التمييز بين صفات الذات والفعل

صفات الله سبحانه بعضها ذاتية وبعضها فعليّة. والصفات الذاتيّة عين الذات وهي مثلها غير محدودة، ولاتكون في مقابلها أيّةَ صفة كماليّة،


[1] . سورة الانسان، الآية 9.

تسنيم، جلد 1

364

كالعلم والحياة والقدرة، ولمّا كان المقابل لهذه الصفات وهو (الجهل والموت والعجز) ممتنعاً علىٰ الله فانّ الله سبحانه لايتّصف به.

امّا الصفات الفعليّة فهي صفات منتزعة من مقام الفعل الإلٰهيّ، وفي بعض الموارد يكون لها مقابل، وعندما يكون لها مقابل فانّ الله يتّصف به أيضاً كالإرادة والرضا والإحياء والبسط الّتي تقابلها الكراهة والسخط والإماتة والقبض وهذه أيضاً من صفات الله سبحانه.

وعلىٰ أساس هذا الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل صحَّحَ الإمام الرضا(ع) قول شخص تكلّم في حضور الإمام وقال (الحمد لله منتهىٰ علمه) فقال له الإمام لاتقل هكذا فانّ علم الله سبحانه عين ذاته ولا حدّ له فقال الشخص: فكيف أحمد الله؟ فقال الإمام(ع): قل «الحمد لله منتهىٰ رضاه»[1] لانّ رضا الله محدود فهو يرضىٰ عن الإيمان والمؤمن، ولايرضىٰ عن الكفر والكافر: ﴿وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْر﴾.[2] وفي عالم الآخرة أيضاً فإنّ الجنّة والنعيم متّسع رضا الله وجهنّم وعذابها مجال غضبه.[3]

تنويه: أفعال الله تتّصف فقط بالصفات الكماليّة للفعل ولا تتّصف بصفات نقص الفعل أبداً، مثلاً إذا صدر من الله فعل فهو بالتأكيد عدل


[1] . البحار، ج4، ص83.

[2] . سورة الزمر، الآية 7.

[3] . هذه الضابطة الدقيقة في تشخيص وتمييز صفات الذات عن صفات الفعل بيّنها الشيخ الكليني تحت عنوان (جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل) كالآتي: (انّ كلّ شيئين وصفت الله بهما وكانا جميعاً في الوجود فذلك صفة الفعل) (اُصول الكافي، ج1، باب حدوث الأسماء). وسيأتي بحث مفصّل في ميزان تشخيص صفات الذات وصفات الفعل في سورة الحشر المباركة.

تسنيم، جلد 1

365

وانصاف وليس فيه أيّ ظلم وحيف. فالاتّصاف بالجهتين المتقابلتين ليس بمعنىٰ اتّصاف الذات المقدّسة الإلٰهيّة بصفات النقص الموجودة في إحدىٰ الجهتين.

9. الأحكام الفقهيّة لاسم الله

انّ قداسة وبركة اسم الله سبب لجعل الأحكام الفقهيّة للأسماء اللفظيّة لله سبحانه. وفيما يلي بعض هذه الأحكام:

أ. حرمة تنجيسها وتدنيسها.

ب. وجوب تطهيرها عندما تتنجّس.

ج. حرمة هتكها واهانتها بأيّ نحو كان.

د. حرمة مسّها بغير طهارة.

هـ . النهي عن الجدال بها (القسم بصيغة (لا والله) و(بلى والله) في إِحرام العمرة والحجّ).

و. وجوب ذكرها وتسبيحها في ركوع وسجود الصلاة.

ز. اشتراط ذبح وتذكية الحيوان بها.

ح. اشتراط حلّية الصيد بذكرها.

ط. احكام اليمين.

ي. استحباب ابتداء العمل بذكرها.

وبعض هذه الأحكام تستفاد من سنّة المعصومين(ع ) وبعضها من القرآن الكريم، فالقرآن الكريم مثلاً أمر بذكر اسم الله عند ذبح الحيوان: ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا﴾[1]، ونهىٰ أيضاً عن أكل لحم


[1] . سورة الحج، الآية 36.

تسنيم، جلد 1

366

الحيوان الّذي تمّ صيده أو ذبحه أو نحره من دون ذكر اسم الله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْه﴾.[1] فتأثير الأسماء اللفظيّة لله سبحانه الىٰ درجة انّ الحيوان الطاهر والحلال إذا ذُبح دون ذكرها صار ميتة وحراماً ونجساً. إذاً فإنّ اسم الله ليس كسائر الأسماء حتّىٰ يكون ذكره وعدم ذكره سواءً أو أن يكون مجرّد قصدها وخطورها في الذهن كافياً ومؤثّراً.

تنويه: ذكر البعض ملاحظة في الفرق بين اليمين الّذي يحصل بـ(الله) فقط وبين التيمّن الّذي يتحقّق بـ(اسم الله)، يعني انّ اليمين علىٰ أساس حكم الفقه يحصل بكلمة (الله) لا بـ(اسم الله)، لكنّ التبرّك يكفي في حصوله (اسم الله)، فضلاً عن ذات (الله).[2]

البحث الروائي

1. معنىٰ (بسم الله)

ـ عن الرضا(ع): «معنىٰ قول القائل بسم الله أي أَسِمُ نفسي بسمة من سمات الله عزّ وجلّ وهي العبادة» قال: فقلت له: ما السِمة؟ قال: «العلامة».[3]

اشارة: كما انّ الإنسان في نظام التكوين ـ كبقيّة الموجودات ـ علامة علىٰ خالقه كذلك يجب في نظام التشريع أن يضع الإنسان السالك في


[1] . سورة الأنعام، الآية 121.

[2] . منهج الصادقين، ج1، ص95.

[3] . نور الثقلين، ج1، ص11.

تسنيم، جلد 1

367

روحه سِمة وعلامة عبادة الله حتّىٰ تكون روحه حاملة لوسام عبادة الخالق. ومثل هذا الإنسان السالك سيكون حقّاً (آية الله)، لانّ علامة المعبود وهي العبادة قد ظهرت في روحه.

2. مصدر اشتقاق «الله» ومعنىٰ (مألوه)

ـ عن الصادق(ع): «والله إِلٰه كلّ شيء».[1]

ـ عن هشام بن الحكم انّه سأل أبا عبد الله(ع) عن أسماء الله عزّ وجلّ واشتقاقها، فقال: «الله هو مشتق من إِله وإِله يقتضي مألوهاً...».[2]

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «الله... هو الّذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع مَن دونه...».[3]

اشارة: انّ الربط التكوينيّ للموجود الّذي هو عين الفقر يتحقّق فقط بالإلٰه الّذي هو عين الغنىٰ، وهذا الإرتباط وإن كان محجوباً وكامناً في الأحوال المعتادة، لكنّه سوف ينكشف ويكون مشهوداً في حال الإضطرار والشعور بالخطر. وفي جميع الأحوال فإنّ الله سبحانه وحده هو الملجأ الوحيد لكلّ مخلوق، وفي الظروف المعتادة فانّ الفيض يصل الىٰ المخلوق المحتاج بواسطة العلل والأسباب الظاهريّة، وكلّ هذه الوسائط هي مجارٍ للفيض وليست فيّاضة.

وخلاصة القول انّ معنىٰ توحيد الرجاء وتوحيد الإلتجاء هو انّ المرجوّ والملجأ هو الله وحده، وإذا كان هناك اختلاف فهو في مقام


[1] . تفسير العياشي، ج1، ص22.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص11.

[3] . نفس المصدر، ص13.

تسنيم، جلد 1

368

الإثبات لا الثبوت. فكما انّ مقتضىٰ بطلان التسلسل يقود المتفكّر الىٰ بداية سلسلة العلل وهو الله وهنالك يتبيّن انّ السبب الحقيقيّ لكلِّ مسبّب هو الله والعلل الاُخرىٰ آيات له، فكذلك في مورد الرجاء والإلتجاء أيضاً، فصحيح انّ الإنسان يلجأ الىٰ الله عندما ينقطع أمله عمّا سوىٰ الله، ولكن المعتمد الأصلي والدائميّ في الحقيقة في جميع مجالات الرجاء والإلتجاء هو الله جلّ جلاله.

3. ﴿بسم الله﴾ اوّل آية في كلّ سورة

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «كان رسول الله(ص) يقرؤها [بسم الله الرحمٰن الرحيم] ويعدّها آيَة منها...».[1]

ـ «والتسمية في أوّل كلّ سورة آية منها وانّما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأُخرىٰ وما انزل الله كتاباً من السماء الاّ وهي فاتحته».[2]

ـ عن أبي داود عن ابن عبّاس قال: كان النبيّ(ص) لايعرف فصل السورة حتّىٰ ينزل عليه «بسم الله الرحمٰن الرحيم».

اشارة: مقصوده انّه لمّا كان بنزول بداية السورة الجديدة تنتهي السورة السابقة لذا فانّ نزول (بسم الله...) الّتي هي أوّل آية للسورة اللاحقة يصبح علامة علىٰ نهاية السورة السابقة، لا انّ (بسم الله) هي الآية الأخيرة من السورة السابقة، وإلاّ لزم أن تنزل (بسم الله) في نهاية آخر سورة من سور القرآن الكريم.


[1] . نور الثقلين، ج1، ص9.

[2] . تفسير الصافي، ج1، ص70.

تسنيم، جلد 1

369

4. تبيين الرحمة الرحمانيّة والرحيميّة

ـ عن الصادق(ع): «الرحمٰن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصّة».[1]

ـ «الرحمٰن اسم خاصّ بصفة عامّة والرحيم اسم عامّ بصفة خاصّة».[2]

ـ عن النبيّ(ص): «انّ عيسىٰ بن مريم قال: الرحمٰن رحمٰن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة».[3]

ـ عن الرضا(ع) انّه قال في دعائه: «... رحمٰن الدنيا والآخرة ورحيمهما...».[4]

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «الرحمٰن الّذي يرحم ببسط الرزق علينا».[5]

ـ «الرحمٰن... العاطف علىٰ خلقه بالرزق لايقطع عنهم مواد رزقه وإن انقطعوا عن طاعته».[6]

ـ «... وأمّا الرحمٰن فهو عون لكلّ من آمن وهو اسم لم يُسمَّ به غير الرحمٰن تبارك وتعالىٰ وأمّا الرحيم فرحم مَن عصىٰ وتاب وآمن وعمل صالحاً».[7]

اشارة: حيث انّ الرحمٰن بمعنىٰ مصدر الرحمة اللامتناهية ﴿رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ء﴾[8] فجميع الأشياء والأشخاص من ملك وملكوت


[1] . نور الثقلين، ج1، ص12.

[2] . نفس المصدر، ص14.

[3] . مجمع البيان، ج1 ـ 2، ص93.

[4] . نور الثقلين، ج1، ص14.

[5] . تفسير الصافي، ج1، ص69.

[6] . البحار، ج89، ص248.

[7] . نفس المصدر، ج10، ص61.

[8] . سورة الأعراف، الآية 156.

تسنيم، جلد 1

370

ستكون مرحومة، ولا ينطبق عليها الرحمٰن، ولهذا فانّ اسم الرحمٰن لايناسب أي أحد غير الله. وأمّا الرحيم فحيث لم يؤخذ فيه اطلاق الرحمة وعدم انتهائها، فيمكن للموجود المحدود الّذي هو بنفسه مرحوم للرحمٰن أيضاً أن يكون من ناحية مصداقاً للرحيم فيعفو عن بعض حقوقه الضائعة، لكنّ الرحيم الحقيقي هو الله، لانّ جميع الحقوق والأحكام مختصّة به تعالىٰ، وإذا كان هناك حق ضائع فهو حقّ الله سبحانه.

5. ابتداء العمل باسم الله

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «فقولوا عند افتتاح كلّ أمر صغير أو عظيم: بسم الله الرحمٰن الرحيم».[1]

ـ «انّ رسول الله(ص) حدّثني عن الله عزّ وجل انّه قال: كلّ أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله الرحمٰن الرحيم فهو أبتر».[2]

ـ عن الصادق(ع): «لا تدع بسم الله الرحمٰن الرحيم وإن كان بعده شعر».[3]

ـ «ولربّما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره بسم الله الرحمٰن الرحيم فيمتحنه الله عزّ وجلّ بمكروه لينبّهه علىٰ شكر الله تبارك وتعالىٰ عليه ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه بسم الله...».[4]

اشارة: كما انّ بداية كلّ شيء إلهيّة، حيث «هو الأوّل»، فإنّ ثمرة كلّ


[1] . نور الثقلين، ج1، ص13.

[2] . البحار، ج89، ص242.

[3] . نور الثقلين، ج1، ص6.

[4] . نفس المصدر، ص8.

تسنيم، جلد 1

371

عمل تابعة لابتداء العمل باسم الله، وإلاّ فسوف يكون ذلك العمل غير منسجم مع حقيقته الخاصّة وبالنتيجة لايحقّق ثماره ويكون أبتراً.

وفي مثل هذه الحالة فإنّ الله سبحانه ينبّه بعض الأفراد بأنواع من البلاء كي يلتفتوا إلىٰ فقرهم ونقصهم وتقصيرهم ويصلحوا عيوبهم ونقائصهم، الاّ أن يكون الله قد أوكلهم إلىٰ أنفسهم.

6. بركات الآية الكريمة ﴿بِسْمِ اللهِ...﴾

ـ عن الباقر(ع): «... وينبغي الإتيان بها (بسم الله...) عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه».[1]

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «انّ العبد إذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملاً فيقول بسم الله الرحمٰن الرحيم فانّه تبارك له فيه».[2]

اشارة: انّ العمل الّذي يبتدئ باسم الله لايكون مثمراً فقط ولا يعدّ غير أبتر فحسب بل هو محل للبركة أيضاً ويؤتي أُكُلَه أعظم ممّا يتوقّع الإنسان، ومعنىٰ البركة في الشيء هو ظهور الله سبحانه بصفة (المبارك) في ذلك الشيء، وكلّما تجلّت صفة المبارك الفعليّة فانّ ذلك الشيء يثمر وينتج بشكل أعظم من القدر المتوقّع.

ويظهر من بعض الأحاديث المرسلة انّ الاشتغال بقراءة (بسم الله...) وسيلة للنجاة ولو لم تكن بعنوان الإبتداء في العمل، كما روي عن الرسول الأكرم(ص) أنّه قال: «من أراد أن ينجيه الله من زبانية جهنّم وهم تسعة عشر فليواظب علىٰ قراءة (بسم الله الرحمٰن الرحيم)، لانَّ بسم الله


[1] . تفسير الصافي، ج1، ص70.

[2] . البحار، ج89، ص242.

تسنيم، جلد 1

372

تتكوّن من تسعة عشر حرفاً، فيجعل الله كلّ حرف منها درعاً ووقاءً لدرء كلّ واحد من اُولئك الزبانية التسعة عشر الّذين هم علامة الغضب الإلٰهي».[1] وعدد تسعة عشر يستفاد من الآية: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر﴾.[2]

7. تغاير الأسماء اللفظيّة مع مسمّياتها

ـ عن الصادق(ع): «... والإسم غير المسمّىٰ... لله عزّ وجلّ تسعة وتسعون إسماً فلو كان الاسم هو المسمّىٰ لكان كلّ اسم منها هو إلٰه ولكن لله عزّ وجلّ معنىٰ يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره».[3]

اشارة: كما انّ الألفاظ، الّتي هي أسماء المفاهيم الذهنيّة غير الهويّة الإلٰهيّة المطلقة، كذلك المعاني الذهنيّة فهي أيضاً خارجة عن ذات الله، ولو كان المعنىٰ الذهنيّ للأسماء الإلٰهيّة هو عين المسمّىٰ للزم ـ اضافة الىٰ تعدّد المسمّىٰ من تعدّد الإسم والخروج من التوحيد ـ محذور اكتناه الواجب أيضاً، لأنّ الذهن يدرك المفهوم الذهنيّ للأسماء بنحو تامّ ويحيط به احاطة كاملة، في حين انّ الله تعالىٰ غير متناه ولا يمكن أبداً للممكن المحدود أن يدرك كُنهه ويحيط به.

8. التأثير التكوينيّ لـ (بسم الله)

ـ عن رسول الله(ص): «بسم الله الرحمٰن الرحيم اسم من اسماء الله الأكبر وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلاّ كما بين سواد العين وبياضها».[4]


[1] . منهج الصادقين، ج1، ص100 ـ 101.

[2] . سورة المدّثر، الآية 30.

[3] . نور الثقلين، ج1، ص11.

[4] . نفس المصدر، ص8.

تسنيم، جلد 1

373

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «... اسم الله فانّه اسم فيه شفاء من كلّ داء وعون على كلّ دواء».[1]

اشارة: اتّضح في البحوث السابقة انّ مضمون كلّ اسم هو مقام من المقامات التكوينيّة، ولا يمكن بمجرّد اللفظ أو تصوّر المفهوم الذهنيّ التأثير علىٰ عالم الوجود وتسخير الواقع الخارجيّ، وإن كان من الممكن بواسطة الإدراك الصحيح لمعنىٰ الأسماء الإلٰهيّة والإنطلاق الروحيّ باتّجاه مصاديقها أن يوفّر الأرضيّة المستعدّة لتلقّي الفيض من المبادئ العالية.

9. الاسم الأعظم في الأسماء اللفظية

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «... انّ قولك الله، أعظم اسم من أسماء الله عزّ وجلّ».[2]

اشارة: التعبير بالأعظم تارة يكون بالمعنىٰ النسبيّ والإضافي وعلىٰ نحو العناية والتسامح من قبيل: «أكبر من كلّ كبير»[3] وتارة بالمعنىٰ النفسيّ والواقعيّ وبدون تسامح، من قبيل «الله أكبر من أن يوصف»[4]، حيث انّه في مثل هذه الموارد يرجع معنىٰ التكبير الىٰ التسبيح والتنزيه.

10. نزاهة صفات الله من النقص

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «رحيم لا يوصف بالرقّة».[5]

ـ عن الصادق(ع): «انّ الرحمة وما يحدث لنا منها شفقة ومنها جود


[1] . البحار، ج10، ص60.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص12.

[3] . مفاتيح الجنان، دعاء الجوشن الكبير.

[4] . اُصول الكافي، ج1، ص118.

[5] . نهج البلاغة، الخطبة 179، المقطع 3.

تسنيم، جلد 1

374

وانّ رحمة الله ثوابه لخلقه وللرحمة من العباد شيئان أحدهما يحدث في القلب الرأفة والرقّة لما يرىٰ بالمرحوم من الضرّ والحاجة وضروب البلاء والآخر ما يحدث منّا بعد الرأفة واللطف علىٰ المرحوم والمعرفة منّا بما نزل به... وقد يقول القائل: «انظر الىٰ رحمة فلان» وانّما يريد الفعل الّذي حدث عن الرقّة الّتي في قلب فلان... وانّما يضاف الىٰ الله عزّ وجلّ من فعل ما حدث عنّا من هذه الأشياء وامّا المعنىٰ الّذي في القلب فهو منفي عن الله كما وصف عن نفسه فهو رحيم لا رحمة رقة».[1]

ـ «وأمّا الغضب فهو منّاً إذا غضبنا تغيّرت طباعنا وترتعد أحياناً مفاصلنا وحالت ألواننا ثمّ نجيء من بعد ذلك بالعقوبات فسمّي غضباً، فهذا كلام الناس المعروف والغضب شيئان أحدهما في القلب وأمّا المعنىٰ الّذي هو في القلب فهو منفيّ عن الله جلّ جلاله وكذلك رضاه وسخطه ورحمته علىٰ هذه الصفة».[2]

اشارة: انّ الصفات الفعليّة لله وهي الّتي تنتزع من مقام فعله الخارجيّ خارجة عن الذات الإلٰهيّة، والتغيّر في ماهو خارج عن الذات الإلٰهيّة لامحذور فيه، لكنّ الصفات الذاتية الّتي هي مبدأ ايجاد الصفات الفعليّة فمنزّهة من أيّ نحو من التبدّل والتغيّر، فالرضا والغضب الّذي يحصل لدىٰ الإنسان له منشأ نفسانيّ، ويقترن بتغيّر في الحالات النفسيّة، لكن في ذات الله ليس هناك أيّ مجال للتغيير، وحيث انّ هذا النحو من التغيير هو من شأن بعض المصاديق وليس مأخوذاً في المعنىٰ الجامع


[1] . نور الثقلين، ج1، ص14.

[2] . نفس المصدر، ص24.

تسنيم، جلد 1

375

للرضا والغضب، فإطلاق هذه الأسماء علىٰ الله ليس من المجاز ولا من قبيل المشترك اللفظيّ.

11. المعارف القرآنيّة في بسم الله...

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «أنا نقطة تحت الباء».[1]

ـ «انّ كلّ ما في القرآن في الفاتحة وكلّ ما في الفاتحة في بسم الله الرحمٰن الرحيم، وكلّ ما فيه في الباء وكلّ ما في الباء في النقطة وأنا نقطة تحت الباء».[2]

اشارة: قال بعض المفسّرين:

سورة الحمد المباركة جامعة لجميع معارف القرآن الكريم، ومعارف هذه السورة جمعت في الآية الكريمة (بسم الله الرحمٰن الرحيم) ومعارف البسملة جمعت في حرف الباء، وأمير المؤمنين علي(ع) هو نقطة باء البسملة.[3]

واعتبر بعض المفسّرين هذا الكلام غير معقول ونوعاً من الغلوّ[4]، والبعض قال انّ احتواء باء البسملة علىٰ معارف القرآن هو مثل ادخال الكون بأسره مع أرضه وسمائه داخل بيضة دون أن يصغر الكون أو تكبر البيضة.[5]


[1] . مشارق أنوار اليقين، ص21؛ منهج الصادقين، ج1، ص90؛ روح البيان، ج1، ص7؛ الأسفار، ج7، ص34.

[2] . ينابيع المودّة، ج1، ص68.

[3] . بيان السعادة، ج1، ص29؛ كذلك راجع كتاب تفسير سورة الحمد للإمام الخميني 1، ص203.

[4] . المنار، ج1، ص35.

[5] . الكاشف، ج1، ص26.

تسنيم، جلد 1

376

وفي جواب هؤلاء المفسّرين ينبغي أن يقال: انّ القرآن الكريم جامع لكلّ حقائق وأسرار العالم، لكن هذه المعارف الواسعة لا تستفاد من الظواهر فحسب، بل تستفاد من خواصّ الحروف وبطون القرآن الكريم الكثيرة الّتي هي في متناول أيدي النبيّ وعترته الطاهرين(ع ) فقط. وكلام أمير المؤمنين(ع) الّذي قال فيه انّ القرآن يحتوي علىٰ علم الماضي والحاضر وأنا المتحدّث بإسم القرآن هو اشارة إلىٰ هذه الحقيقة: «ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه. ألا انّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم مابينكم».[1]

والله سبحانه يذكر بانّ هذا القرآن الّذي لاتنال أيدينا الاّ تنزيله وظاهره له كتاب آخر ومقام مكنون: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ٭ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ٭ لاَيَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون﴾[2] فهذا الكتاب هو في كتاب آخر والقرآن لاينحصر في ظواهره.

والطريق الىٰ إدراك هذه المعارف الروائيّة مفتوح وشواهدها أيضاً واضحة، واُولئك الّذين لم ينالوا توفيق فهم تلك الأسرار والحقائق لاينبغي لهم الدخول فيها، بل يجب عليهم أن يتركوها لأهلها كي لايقعوا في هوَّة الانكار.

أمّا قضيّة ادخال الأرض في بيضة، فحيث انّ السائلين حول قدرة الله علىٰ هذا الأمر ليسوا في مستوىٰ واحد، لذلك فانّ أجوبتهم


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 157، المقطع 2.

[2] . سورة الواقعة، الآيات 77 ـ 79.

تسنيم، جلد 1

377

مختلفة، ففي أحد الأجوبة يقول الإمام الرضا(ع) انّ الله يجعل السماء والأرض في مكان أصغر من البيضة وذلك عندما تفتح عينك وتنظر الىٰ السماء والأرض، فقد جاء في الرواية: جاء رجل الىٰ الرضا(ع) فقال: هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال: «نعم وفي أصغر من البيضة وقد جعلها في عينك وهي أقلّ من البيضة لانّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما ولو شاء الله لأعماك عنها».[1] ومثل هذه الأجوبة نافعة لمتوسّطي الفهم من الناس. وفي جواب آخر يقول أمير المؤمنين(ع): انّ الله ليس بعاجز لكن الّذي سألت عنه غير ممكن كما في الرواية: قيل لأمير المؤمنين(ع): هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ قال(ع): «انّ الله تبارك وتعالىٰ لاينسب الىٰ العجز والّذي سألتني لايكون»[2] فقدرة الله اللامتناهية تتعلّق بكلّ شيء ﴿إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِير﴾[3]، لكن المحالات والممتنعات ليست (شيئاً) حتّىٰ تتعلّق بها القدرة الإلٰهيّة.

تنويه: انتقد البعض الكلام المرويّ عن أمير المؤمنين(ع) بانّ الخط الرائج في عصر النزول هو الخطّ الكوفيّ وهو خالٍ من النقاط، وجواب ذلك علىٰ فرض تسليم المقدّمتين المذكورتين والقبول بانّ الاعجام والإعراب للقرآن الكريم لم يتمّ علىٰ يد أمير المؤمنين عليّ(ع)، مع هذا


[1] . البحار، ج4، ص143.

[2] . نفس المصدر؛ نور الثقلين، ج1، ص38.

[3] . سورة البقرة، الآية 20.

تسنيم، جلد 1

378

فانّ الحروف يجب أن تتميّز فيما بينها بعلامات خاصّة كان لابدّ من وجودها حتّىٰ تتميّز مثلاً كلمة (خرَّ) عن (جرَّ) و(حَرَّ) ولابدَّ أن يكون لحرف الباء أيضاً علامة خاصّة تميّزه عن غيره وتلك العلامة المخصوصة هي المقصودة في الحديث المذكور علىٰ فرض صحّته.

٭ ٭ ٭

تسنيم، جلد 1

379

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)

خلاصة التفسير

انّ حمد كلّ حامد ازاء كلّ جمال وكمال، هو في الحقيقة حمد لله، فليس هنالك أهل للحمد سواه. والله سبحانه ربّ كلّ (عالَم) ويسوقه نحو كماله المناسب له و(العالَم) هو الشيء الّذي بواسطته يحصل العلم (ما يُعلم به)، وحيث انّ كلّ شيء في عالم الوجود هو علامة لله، إذن فكلّ شيء في نفسه يُعَدُّ عالماً وهو يسير نحو كماله بربوبيّة الله سبحانه. وهذه الآية الكريمة هي أفضل تعبير جامع عن حمد الله، وببيانها للاُلوهيّة والربوبيّة المنحصرة بالله، دلّت علىٰ اختصاص الحمد به؛ فالله الّذي يتميَّز بجميع أنحاء الكمال (الله) وهو ربّ كلّ شيء (ربّ العالمين) هو أهل للحمد، وحيث انّ الحمد يكون في مقابل اعطاء الكمال والجمال، وهذا أيضاً منحصر بالله، فالحمد إذن مختصّ به والله هو المحمود الأوحد.

وليس الله هو المحمود الأوحد فحسب، بل هو الحامد الوحيد أيضاً، لأنّ الحمد الحقيقيّ لايتحقّق ولايتيسّر من دون معرفة وليّ النعمة وكلّ ما لديه من نعم وكمال، ومثل هذه المعرفة لاتوجد عند غير الله سبحانه.

تسنيم، جلد 1

380

التفسير

الحمد: الحمد هو في مقابل القدح والذمّ، وهو يعني انّ الحمد جميل في مقابل الكمال والفعل الإختياري[1] سواء كان أثر ذلك الكمال يصل إلىٰ الغير أم لا، وفي حال وصوله إلىٰ الغير، سواءً كان المتلقّي له هو الشخص الحامد أم غيره، وسواء كان من ذوي العقول أو من غيرهم. حمد الله سبحانه أيضاً في مقابل أسمائه الحسنىٰ، الجماليّة أو الجلاليّة؛ سواء كانت أسماء الكمال هذه يصل أثرها إلىٰ الغير كالخالقيّة والرازقيّة أو لايصل إلىٰ الغير كالتجرّد من المادّة والماهيّة، وسواءً كانت بلحاظ الكلمات التكوينيّة ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾[2] أو بلحاظ الكلمات التدوينيّة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَاب﴾.[3]

وألفاظ (الحمد) و(المدح) و(الثناء) و(الشكر) علىٰ الرغم من تقاربها من جهة المعنىٰ، لكنّها ليست مترادفة ويوجد بينها اختلاف دقيق.

فرق الحمد عن المدح

المشهور انّ الحمد والمدح مثلان ومتساويان في المعنىٰ كما انّ مفردتي القدح والهجاء المقابلتين لهما مثلان ومتساويتان.[4] لكنّ هاتين الكلمتين


[1] . المقصود من الكمال الاختياري هو الكمال الّذي يحصل عليه الفاعل باختياره، مثل العلم، لا الّذي يحصل بالاضطرار مثل الكمال الّذي ينتقل إليه بالوراثة.

[2] . سورة الأنعام، الآية 1.

[3] . سورة الكهف، الآية 1.

[4] . الكشّاف، ج1، ص8.

تسنيم، جلد 1

381

اللّتين لهما جذران مختلفان، لهما معنيان مختلفان، ولهذا فإنّهما بلحاظ الإستعمال يختلف مورد احداهما عن الاُخرىٰ، فالحمد يكون فقط في مقابل صاحب الكمال الّذي له عقل وفكر، لكنّ المدح (الكلام المعبّر عن عظمة حال الممدوح) الّذي هو في مقابل الذم يستعمل في غير العاقل أيضاً؛ مثلاً يمكن القول في الجوهرة الجميلة والثمينة أنّها ممدوحة، ولايمكن القول انّها محمودة: «يقال مدحت اللؤلؤ علىٰ صفائه ولايقال حمدته علىٰ صفائه».[1]

والإختلاف الآخر بين الحمد والمدح هو انّ الحمد يقع في مقابل الأعمال الإختياريّة فقط، لكنّ المدح يستعمل أيضاً في الاُمور الخارجة عن الإختيار؛ مثلاً، طول القوام وجمال الوجه في الإنسان قابل للمدح؛ ولكنّه غير قابل للحمد، خلافاً للإنفاق والتعلّم الّذين يكونان ممدوحين ومحمودين أيضاً. إذاً فكلّ حمد هو مدح، ولكن ليس كلّ مدح حمداً.[2]

والبعض قال: انّ مفهوم الحمد يستبطن (وصول أثر الكمال المحمود إلىٰ الغير). وبعبارة اُخرىٰ فانّ الحمد مالايكون بالفضائل فحسب وإنّما يكون بالفواضل أيضاً، خلافاً للمدح الّذي يكون من هذه الناحية أعمّ أيضاً.[3] وهذا الكلام غير تامّ، لانّه قد ذكر في القرآن الكريم والأدعية حمد الله سبحانه علىٰ أنواع من الكمال الّتي لايصل أثرها إلىٰ الغير كالتجرّد والأوّلية والآخريّة و... ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ


[1] . الميزان، ج1، ص19.

[2] . التفسير الكبير، ج1، ص223.

[3] . المنار، ج1، ص50.

تسنيم، جلد 1

382

يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ﴾[1]؛ «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله والآخر بلا آخر يكون بعده، الّذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين».[2] ومن المعلوم انّ الأوّل بلا أوليّة قبله والآخر بلا آخريّة بعده، والتجرّد، وعدم امتلاك الولد والولي والشريك وأمثال ذلك ليست من انحاء الكمال الّتي تصل آثارها إلىٰ الآخرين.

وقال البعض أيضاً: انّ الحمد فقط يستعمل في الثناء بالحقّ، أمّا المدح فيستعمل في الثناء بالباطل أيضاً[3] مثل «اُحثُوا في وجوه المداحين التراب».[4] وهذا الفرق غير تامّ أيضاً لانّ الحمد قد استعمل أيضاً في مورد الثناء بالباطل كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾[5]، «وابتلىٰ بحمد من أعطاني»[6] «وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربّه...».[7]


[1] . سورة الاسراء، الآية 111.

[2] . الصحيفة السجاديّة، الدعاء الأوّل.

[3] . الفروق اللغويّة، ص202. انّ اختلاف معاني المفردات (الفروق اللغويّة) علىٰ الرغم من تبيينه في كتب مثل (الفروق اللغويّة) لأبي هلال العسكري، و(المغني لابن هشام) لكن قسماً عظيماً منه لايمكن بيانه وشرحه الاّ بواسطة القرآن وروايات وأدعية المعصومين(ع )، والاّ فإنّ الكثير من موارد استعمال الكلمات في القرآن والروايات يجب حملها علىٰ الاستعمال المجازي.

[4] . البحار، ج70، ص294.

[5] . سورة آل عمران، الآية 188.

[6] . نهج البلاغة، الخطبة 225، المقطع 2.

[7] . نفس المصدر، الخطبة 79، المقطع 2.

تسنيم، جلد 1

383

الفرق بين الحمد والشكر

الشكر الّذي في مقابل الكفر هو بمعنىٰ الإعتراف بالمنّة في مقابل العمل الّذي يصل أثره إلىٰ الغير علىٰ أن يكون المتلقّي لذلك الأثر أيضاً هو ذلك الفرد الشاكر، وبعبارة اُخرىٰ: الشكر هو الثناء علىٰ النعمة الّتي تصل من المنعم إلىٰ الشاكر، لا علىٰ الكمال الّذي لايصل أثره إلىٰ الآخرين أو يصل إلىٰ غير الشاكر. إذن ففي صدق الشكر يشترط أمران أحدهما وصول أثر النعمة إلىٰ الغير والآخر اتّحاد المتنعّم والشاكر، في حين انّه لم يكن أيّ من هذين القيدين مطروحاً في صدق الحمد، ولهذا فإنّ الشكر أخص من الحمد من جهتين، وكلّ شكر فهو حمد ولكن ليس كلّ حمد شكراً.

وما ذكر من فرق بين الحمد والشكر هو من مختصّات أهل اللغة الّتي وضعوها للتفريق بين هاتين الكلمتين، ولكن بالنظر والتدبّر في الاستعمالات القرآنيّة لكلمة الشكر ينبغي أن يقال انّ وصول أثر النعمة والكمال إلىٰ الغير ليس مقوّماً للشكر وإلاّ لكان اطلاق الشاكر علىٰ الله سبحانه مجازاً.

توضيح ذلك: انّ اسم الشاكر ينسب إلىٰ بعض أسماء الله والمقصود منه تأثير الأسماء الإلٰهيّة فيما بينها. وفي هذه الحالة يمكن أن يكون (وصول الأثر إلىٰ الغير) له دور في صدق الشكر، أمّا إذا نسب اسم الشاكر إلىٰ الذات القدسيّة لله سبحانه وهو الكامل المحض والغنيّ الصرف، فإنّ وصول الأثر لا دور له حينئذٍ في صدق حقيقة الشكر، لأنّ ذات الله سبحانه ليست في غنىٰ عن الغير فحسب ولا تتأثّر بالغير بل هي

تسنيم، جلد 1

384

غنيّة حتّىٰ عن نفسها ولا تتأثّر بنفسها أيضاً فهو سبحانه الغنيّ المحض وليس مستغنياً ومكتفياً بذاته حتّىٰ يسدّ حاجته بفيض من نفسه: «إلٰهي تقدّس رضاك أن تكون له علّة منك فكيف تكون له علّة منّي. إلٰهي أنت الغنيّ بذاتك أن يصل إليك النفع منك فكيف لاتكون غنيّاً عنّي»[1] وعليه فإنّ (وصول الأثر إلىٰ الغير) مختصّ ببعض مصاديق الشكر وليس مقوّماً لحقيقة الشكر، حينئذٍ فما ذكر في تعريف الشكر فهو من باب (زيادة الحدّ علىٰ المحدود).

وخلاصة القول هي انّه علىٰ أساس هذا التحليل في الفرق بين الحمد والشكر ينبغي أن يقال: إذا كان المقصود هو امتياز الحمد عن الشكر في الموجودات الإمكانيّة فالفرق هو انّه في الحمد لايشترط وصول أثر كمال المحمود إلىٰ الحامد، ولكن يعتبر في الشكر وصول أثر المشكور إلىٰ الشاكر، وإذا كان المقصود هو الأعمّ من موارد الوجوب والإمكان بحيث ينظر إلىٰ انّ الله شاكر أيضاً، ففي هذه الحالة لعلّ الشكر بلحاظ المصداق هو الحمد نفسه دون فرق.

اللام في (الحمد): هي للإستغراق أو للجنس ومفادها انّ كلّ حمد يصدر من كلّ حامد لأيّ محمود فهو في الحقيقة حمد لله سبحانه وليس هناك من أحدٍ مالك للحمد سواه. وعليه فهو الحميد المحض والمحمود الصرف.

وهناك احتمال آخر في الألف واللام وهو انّها (للعهد) والمقصود من الحمد المعهود هو الحمد التامّ الكامل الّذي يخصّ الله به نفسه.[2]


[1] . مفاتيح الجنان، دعاء عرفة.

[2] . روح البيان، ج1، ص10.

تسنيم، جلد 1

385

(اللام) في (لله): امّا أن تكون للملكيّة أو للإقتصاص، أي انّ الله مالك كلّ حمد أو انّ كلّ حمد فهو مختصّ به.

ربّ: الربوبيّة تعني سوق الشيء نحو كماله، والربّ هو الّذي شأنه تدبير الأشياء بسوقها إلىٰ كمالها وتربيتها بحيث تكون هذه الصفة ثابتة فيه.

والمفاهيم مثل: الملكيّة والمصاحبة والسيادة والقيمومة والملازمة والإستمرار والمثابرة وقضاء الحوائج والتعليم أو الاطعام، كلّها من لوازم وآثار الربوبيّة، ولكلّ منها مورده وهي متعدّدة باقتضاء الموارد، وكلّ منها مصداق من المصاديق المختلفة للربوبيّة وليس معنىٰ لها، واخذ كلّ منها في معنىٰ الربّ هو من باب زيادة الحدّ (بالمعنىٰ العام) علىٰ المحدود، والشاهد علىٰ هذه الزيادة انّه في سورة الناس ذكرت كلمة (مِلك) وكلمة (إلٰه) بعد كلمة (ربّ)، فلوكان التعبير بـ(ربّ الناس) يتضمّن مفهومي المَلِك والإلٰه لم يكن هناك لزوم لذكر (ملك الناس وإله الناس) بنحو منفصل، وحيث انّ معنىٰ المَلِك علىٰ الرغم من اختلافهِ مع معنىٰ المالك ليس مبايناً له، لذلك ذكرت هذه الملاحظة بعنوان كونها شاهداً علىٰ الموضوع.

وكلمة الربّ بنحو مطلق ودون قيد، لا تطلق إلاّ علىٰ الذات المقدّسة لله، ولكن إذا اُضيفت أو قيّدت فتطلق علىٰ غير الله أيضاً كقولهم: (ربّ الدار) و(ربّ الإبل)، وإذا استعملت كلمة أرباب علىٰ نحو الجمع كما في قوله تعالىٰ: ﴿ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُون﴾[1] فذلك بلحاظ العقائد الباطلة للوثنيّين وإلاّ فليس لعالم الوجود سوىٰ ربّ واحد.


[1] . سورة يوسف، الآية 39.

تسنيم، جلد 1

386

تنويه: في مصدر باب تفعيل من ربّ لاينبغي استعمال «تربية» بدلاً من «تربيب»، ذلك لانّ (ربّ) من ناحية التصريف مضاعف ومربّي ناقص واوي ومربّي أصلها (ربو) بمعنىٰ النموّ والزيادة.

عالمين: هذه الكلمة جمع «عالم» والألفاظ الّتي علىٰ وزن (فاعَل) غالباً ماتدلّ علىٰ الأدوات واسم الآلة مثل: خاتَم، طابَع وقالَب أي مايُختم به ومايطبع به وما يقلّبُ به. وعالَم أيضاً هو بمعنىٰ مايُعلم به، أي الشيء الّذي بواسطته يحصل العلم، وسرّ تسمية العالَم بهذا الإسم هو انّ كلّ عالَم آية وعلامة علىٰ الله سبحانه، وبواسطته يحصل العلم بالله، وحيث انّ كلّ شيء في نظام الوجود آية وعلامة لله وكلّ ذرّة من ذرات الوجود تدلّ علىٰ تلك الذات المقدّسة، فكلّ موجود هو عالَم، وعلىٰ هذا الأساس فإنّه في مسألة اطلاق العالَم على مجموع الموجودات أو علىٰ مجموعة خاصّة من الموجودات ينبغي أن يقال: إذا كان المجموع (الزائد علىٰ جميع آحاده) له وجود مستقلّ فإطلاق العالَم عليه سيكون حقيقة وسوف يكون مثل كلّ واحد من آحاده عالَماً أيضاً وتحت تدبير ربّ العالمين، وأمّا إذا لم يكن له وجود مستقلّ، فإطلاق العالَم علىٰ مجموع الأشياء أو علىٰ مجموعة خاصّة من الأشياء سيكون مجازاً، وسوف يكون الإطلاق حقيقيّاً علىٰ الآحاد بمفردها فقط.

عالَم وعلامة هي نفسها كلمة عَلَم (الإسم الخاصّ) وفي الكلمة الاُولىٰ اُضيفت ألف بعد حرف العين وفي المفردة الثانية اُضيفت ألف بعد حرف اللام وختمت بالتاء.

ويطلق العالَم علىٰ جميع الموجودات أيضاً مثل «عالم الوجود»،

تسنيم، جلد 1

387

وكذلك علىٰ ماسوىٰ الله مثل (حدوث العالم) و(فناء العالم)، وكذلك علىٰ كلّ نوع من أنواع الموجودات مثل (عالَم الجماد) و(عالم الإنسان)، وكذلك علىٰ كلّ صنف من الأصناف مثل (عالم العرب) و(عالم غير العرب).

كلمة «العالمين» شاملة لجميع العوالم قبل الدنيا وعالم الدنيا وعوالم مابعد الدنيا (البرزخ والقيامة) وكذلك عالم الإنسان وعالم الملائكة، وبقيّة عوالم الوجود.

وكلمة (العالَمين) في القرآن الكريم تارة بمعنىٰ جميع الاُمم الإنسانيّة مثل قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِين﴾[1]، ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرا﴾[2]، ﴿مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِين﴾[3] وتارة بمعنىٰ جميع عوالم الإمكان مثل قوله تعالىٰ: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ٭ قَالَ رَبُّ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا... ٭ ... رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ٭ ... رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُون﴾[4] والمقصود من كلمة (العالمين) في سورة الحمد هو جميع نظام الوجود الإمكانيّ لا خصوص المجتمعات الإنسانيّة الّتي اُريد معناها في آيتي آل عمران والفرقان المذكورتين سابقاً بقرينة الهداية والإنذار.

اختصاص الحمد بالله سبحانه

انّ القرآن الكريم يعدّ جميع عوالم الوجود الإمكانيّ مخلوقة من قبل الله


[1] . سورة آل عمران، الآية 96.

[2] . سورة الفرقان، الآية 1.

[3] . سورة العنكبوت، الآية 28.

[4] . سورة الشعراء، الآيات 23 ـ 28.

تسنيم، جلد 1

388

سبحانه وانّ جميعها قد خلقت علىٰ أحسن وأجمل نحو: ﴿قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ء﴾[1]، ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَه﴾.[2] وعليه فإنّ كلّ ماهو مصداق «شيء» أي جميع عوالم الوجود الإمكانيّ فهو حسن وجميل، وحيث انّ الحمد في مقابل الكمال والجمال والانعام، فالحمد المطلق الأزليّ والأبديّ هو لله: «الحمد لله» ولا احدَ مالك للحمد. والعلل الوسطيّة أيضاً هي وسائط للفيض الإلٰهيّ ومبدأ سلسلة الفيض الذات الإلٰهيّة المقدّسة وحدها.

والآية الكريمة ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾ تتضمّن برهانين علىٰ إثبات واختصاص الحمد بالله سبحانه:

1. البرهان الأوّل: ويستفاد من اسم «الله» المقدّس[3]، حيث انّ «الله» يعني الجامع لكلّ أنحاء الكمال الوجوديّ (الذات المستجمعة لجميع أنحاء الكمال)، وحيث انّ الحمد في مقابل الكمال وكلّ كامل فهو محمود، إذن فإنّ الله سبحانه محمود. والآية الكريمة (الحمد لله...) بواسطة تعليق الحكم علىٰ الوصف المشعر بالعليّة تفيد مثل هذا البرهان.


[1] . سورة الرعد، الآية 16.

[2] . سورة السجدة، الآية 7.

[3] . لأنّ (الله) ليس إسماً للهويّة الغيبيّة المحضة. انّ تلك الهويّة المحضة الّتي يقول عنها بعض العارفين: (حارت فيها الأنبياء والأولياء) وثمرتها الصادر الأوّل، أي الإنسان الكامل: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا﴾ (سورة الجمعة، الآية 2) ـ انّ تلك الهويّة لا إسم لها أصلاً. وعليه فإنّ الله إشارة إلىٰ الذات المقدّسة الجامعة والمستجمعة لجميع أنحاء الكمال الوجوديّ.

تسنيم، جلد 1

389

وتوضيح ذلك: هو انّه لو قيل: (الحمد له) لكانت دعوىٰ بلا برهان ولكانت بحاجة إلىٰ برهان، وبرهانها هو انّ الله الجامع لكلّ أنحاء الكمال أهل للحمد. ولكن في قوله (الحمد لله) تمّ تعليق حكم (ثبوت الحمد) علىٰ وصف (الله) حيث انّ الموضوع بنفسه يحمل معه دليله، وفي الموارد الّتي يكون فيها متعلّق الحكم بنفسه متضمّناً لسبب وعلّة ثبوت المحمول للموضوع، فإنّه لاحاجة إلىٰ الإستدلال، كما في عبارة: «الجنّة للمطيعين» و«النار للملحدين» حيث انّ وصف المحمول نفسه (الطاعة والإلحاد) مبيّن لعلّة ثبوت الجنّة لأهل الطاعة والنار للملحدين. كذلك في (الحمد لله) أيضاً فإنّ استجماع الكمال الّذي هو سبب ثبوت واختصاص الحمد موجود في موضوع (الله).

البرهان الثاني: والحد الوسط فيه هو ربوبيّة الله سبحانه، ويستفاد من تعبير: ﴿رَبِّ الْعالَمِين﴾ بهذا الشكل: الله ربّ جميع عوالم الوجود الإمكانيّ، وليس له أيّ شريك في الربوبيّة (ولهذا جاءت كلمة عالمين علىٰ نحو الجمع) وحيث انّ الحمد في مقابل نعمة الربوبيّة (إيصال كلّ موجود إلىٰ كماله اللائق به) إذن فالحمد مختصّ بذاته المقدّسة وليس له أيّ شريك في الحمد. ولهذا فقد مرّ في البحث الأدبيّ انّ (الألف واللام) في كلمة (الحمد) للإستغراق أو الجنس ومعناه انّ الحمد من كلّ حامد لايّ محمود هو في الواقع حمد لله.

وهناك براهين عديدة اُقيمت علىٰ حصر واختصاص الحمد بالله سبحانه، يأتي بيان بعضها في قسم (لطائف وإشارات) المتعلّق بهذه الآية.

تسنيم، جلد 1

390

لطائف وإشارات

1. التعبير الجامع عن الحمد

انّ حمد الله سبحانه قد جاء في بداية خمس سور من القرآن وهي:

أ. سورة الحمد: ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾.

ب. سورة الأنعام: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ...﴾.

ج. سورة الكهف: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ...﴾.

د. سورة سبأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ...﴾.

هـ . سورة فاطر: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ...﴾.

والذي جاء في بداية سورة الحمد المباركة هو أكثرهنّ من ناحية شمول وسعة المعنىٰ، لانّ كلمة (العالمين) شاملة لعالم التكوين (الأعمّ من السماوات والأرض والمجرّدات والمادّيات) وعالم التشريع والتدوين.[1]


[1] . نعم في سورة الجاثية علىٰ الرغم من انّ ذكر الحمد لم يرد في بداية السورة، ولكن في الآية 36 ذكر الحمد لله بنحو أقوىٰ وأكثر سعة وشمولاً من سورة الحمد: ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾. والسرُّ في كون هذا التعبير أقوىٰ ممّا هو في سورة الحمد أمران: أ. تقديم (لله) علىٰ (الحمد): ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْد﴾ حيث يدلّ صراحة علىٰ الحصر في حين انّ دلالة (الحمد لله) علىٰ الحصر (اختصاص الحمد بالله) بحاجة الىٰ تقريب خاصّ اُشير إليه في البحث التفسيري. ب. تكرار العلّة. وتوضيح ذلك: انّ كلمة ربّ العالمين في ذيل الآية الثانية من سورة الحمد توضّح علّة اختصاص الحمد بالله سبحانه، كذلك قوله تعالىٰ: ﴿رَبِّ السَّماوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾ في آية سورة الجاثية، مع هذا الفرق وهو انّ التعليل قد تكرّر ذكره في ذيل آية سورة الجاثية، مرّة بنحو مفصّل، واُخرىٰ بنحو موجز فقال ﴿رَبِّ السَّماوَاتِ وَرَبِّ الأَرْض﴾ ثمّ قال ﴿رَبِّ الْعَالَمِين﴾، لانّ قوله ﴿رَبِّ الأَرْض﴾ معطوف بالواو علىٰ ﴿رَبِّ السَّماوَات﴾ ولم تعطف ﴿رَبِّ الْعَالَمِين﴾ بالواو فيستفاد من ذلك انّ المقصود من (السماوات والأرض) هو (العالمين) أي مجموع ماسوى الله.

تسنيم، جلد 1

391

2. عجز المتنعّمين عن أداء حقّ الشكر

انّ توفيق الحمد والشكر للذات المقدّسة الإلٰهيّة هو من أعظم نعم الله، وقد وصفه الإمام السجّاد(ع) بالفوز والفلاح: «يامن ذكره شرف للذاكرين ويا من شكره فوز للشاكرين».[1]

والمتنعّمون عاجزون عن شكر وثناء هذا الفوز وهذه النعمة لانّ كلّ حمد يحتاج الىٰ حمد آخر وكلّ شكر يلزم له شكر آخر: «... فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري ايّاك يفتقر إلىٰ شكر فكلّما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد»[2] وعليه فإنّ شكر الشاكر هو بنفسه تمتّع بالنعمة وليس أداءً للحقّ.

ولهذا فانّ القرآن الكريم يقول في بيان حكمة لقمان الحكيم: انّ شكر الله نعمة يحظىٰ بها الشاكر كما انّ كفر الكافرين نقمة وخسارة تصيب الإنسان نفسه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيد﴾.[3]

فقوله: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيد﴾ في ذيل الآية هو بمنزلة التعليل لكلا الادّعاءين؛ فلاشكر الشاكرين مفيد لله ولا كفر الكافرين مضرّ به، لانّ الله


[1] . الصحيفة السجاديّة، دعاء 11.

[2] . البحار، ج94، ص146؛ مفاتيح الجنان، مناجاة الشاكرين.

[3] . سورة لقمان، الآية 12.

تسنيم، جلد 1

392

غنيّ عن كلّ شيء ومحمود بالذات، والمحمود بالذات ليس بحاجة إلىٰ شكر الحامد ولا يضرّه كفر الكافر. وينبغي الإلتفات جيّداً إلىٰ هذه المسألة وهي انّ الله تعالىٰ من حيث انّه وجود محض وغنيّ صرف فهو غنيّ عن كلّ شيء حتّىٰ عن نفسه، لانّه إذا كان محتاجاً لنفسه وإذا كان بسعيه يسدّ حاجات نفسه فلن يكون غنيّاً بالذات. ولذلك يقول سيّد الشهداء(ع) في دعاء عرفة: «الهي... أنت الغنيّ بذاتك أن يصل إليك النفع منك فكيف لا تكون غنيّاً عنّي».[1]

تنويه: عجز المتنعّم عن أداء شكر النعمة يمكن إثباته ببرهان آخر أيضاً، وسيأتي في بحث اختصاص الحمد بالله وفي البحث الروائيّ.

3. تغاير ووحدة الحمد والتسبيح

مرَّ في البحوث السابقة انّ الحمد ليس في مقابل انعام الله فحسب، بل انّه شامل لجميع أسمائه وصفاته وكلماته التكوينيّة والتدوينيّة، سواء وصل اثر ومقتضىٰ تلك الصفات إلىٰ الغير أم لم يصل، وسرّ ذلك هو انّ الحمد ليس في مقابل جمال الله فقط بل هو شامل لصفات الجلال أيضاً. ولهذا يقول في القرآن الكريم: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرَا﴾.[2] وبعبارة اُخرىٰ: اضافة الىٰ انّ كمال وجمال الله سبحانه يستحقّ الحمد، كذلك هو أهل للحمد بما انّه مقدّس ومنزّه أيضاً.

ولايقتصر الحمد علىٰ هذا الحدّ بل يتّسع أيضاً إلىٰ جميع مصاديق


[1] . مفاتيح الجنان، دعاء عرفة.

[2] . سورة الاسراء، الآية 111.

تسنيم، جلد 1

393

التسبيح والتهليل والتكبير فالتهليل والتسبيح والتكبير لله سبحانه كلّها من مصاديق الحمد والثناء لله سبحانه كما انّ التحميد والتهليل والتكبير في المقابل كلّها من مصاديق تسبيح الذات المقدّسة.

وتوضيح ذلك: انّ التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير علىٰ الرغم ممّا فيها من (اختلاف مفهوميّ) ولكنّها تتّصف بـ(الوحدة المصداقيّة). وأحد الشواهد علىٰ هذه الوحدة المصداقيّة هو انّ هذه الأذكار الأربعة بمجموعها يطلق عليها في أذكار الصلاة (التسبيحات الأربع). والشاهد الآخر هو اقتران الحمد والتسبيح في القرآن الكريم: ﴿وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾.[1] والشاهد الثالث هو ماروي عن الامام أبي عبد الله الصادق(ع) في تبيين معنىٰ (الله أكبر) حيث ارجع معناها إلىٰ التسبيح، عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رجل عنده: الله أكبر. فقال: «الله أكبر من أيّ شيء؟». فقال: من كلّ شيء. فقال أبو عبد الله(ع): «حدَّدته». فقال الرجل: وكيف أقول؟ فقال: «الله أكبر من أن يوصف».[2]

والملاحظة الاُخرىٰ هي، حيث انّ المحمود الحقيقيّ هو مبدأ للكمال والفيض وكذلك منزّه عن النقص والعيب، ولهذا فإذا ما اتّصف مورد ما بعنوان المحمود بنحو مطلق دون قيد خاصّ، فإنّه يمكن حمله علىٰ معنىٰ شامل جامع. ولذا يمكن الاستفادة من قوله تعالىٰ: ﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحمُودا﴾[3] انّ الانسان


[1] . سورة الاسراء، الآية 44.

[2] . البحار، ج90، ص219.

[3] . سورة الاسراء، الآية 79.

تسنيم، جلد 1

394

بواسطة قيام الليل والتهجّد لايصير (بالعرض) مبدأ للفيض ويجري علىٰ يديه الخير إلىٰ الآخرين فحسب بل يتنزّه (بالعرض) أيضاً من النقص والعيوب ويصير في النزاهة مظهراً لـ(هو الحميد)، طبعاً انّ اتّصاف الإنسان بالكمال ونقاءه وخلاصَه من النقائص والعيوب هو بالعرض لا بالذات بنحو محدود وليس مطلقاً، وبعنوان كونه آية للكمال والنزاهة الإلٰهيّة لا أكثر من ذلك.

4. سرّ اختصاص الحمد بالله

انّ الله سبحانه يصف نفسه في آيات عديدة من القرآن الكريم بانّه (حميد). والحميد تستعمل بمعنىٰ المحمود وكذلك بمعنىٰ الحامد. وعلىٰ هذا الأساس فكما انّ كلّ الحمد وجميع أنواع الحمد الصادرة من الموجودات كلّها لله كذلك فانّ الحامد الحقيقيّ هو الذات المقدّسة الإلٰهيّة فقط ولا أحد يؤدّي حقّ حمده سواه، ويحتمل كلا المعنيين (حصر صفة المحمود وصفة الحامد بالله في قوله «الحمد لله»، ويجب بيان ذلك في قسمين:

أ. حصر صفة المحمود

انّ اختصاص صفة المحمود بالله سبحانه يمكن إثباته بعدّة براهين منها:

البرهان الأوّل: انّ الحمد هو في مقابل النعمة، وحيث انّ المنعم الحقيقيّ وبالذات هو الذات الإلٰهيّة المقدّسة وجميع النعم (بنحو مباشر وغير مباشر) هي منه ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾[1] إذن فالمحمود


[1] . سورة النحل، الآية 53.

تسنيم، جلد 1

395

الحقيقيّ هو الله وحده.[1] وعلىٰ هذا الأساس فإنّ القرآن الكريم في كلّ


[1] . انّ الحمد والشكر من المخلوق يرجع في الحقيقة إلىٰ الله سبحانه، والأحاديث الّتي هي من قبيل «من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزّ وجلّ» (البحار، ج68، ص44)، أو «أشكركم لله أشكركم للناس» (اُصول الكافي، ج2، ص99) لاتعني انّ من لم يعترف للناس بالحقّ فقد أنكر حقّ الله، لأنّه لوكان الأمر هكذا لم يكن هناك تلازم بين المقدّم (من لم يشكر المنعم...) والتالي (لم يشكر الله)، وإنّما يحصل التلازم فيما إذا قلنا انّ المنعم من حيث انّه مخلوق الله، فهو يحمل رسالة الله، كما جاء في كلام أمير المؤمنين7 حيث يقول: «انّ المسكين رسول الله» (نهج البلاغة، الحكمة 304). وعندما يطعم شخص شخصاً آخر فيجب أن نقول (المطعم رسول الله) سواء علم المطعم بذلك أم لا، مسلماً كان أم كافراً، ولاشكّ أنّ المقصود من الرسالة هنا هي الرسالة التكوينيّة لا التشريعيّة، وفي الرسالة التكوينيّة ليس هناك موجودٌ مستقل، ولا أحد يعمل دون أن يكون مرسلاً ومبعوثاً من الله. ولذلك يصف الله سبحانه حركة الرياح الملقّحة بأنّها رسالته تعالىٰ: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِح﴾ (سورة الحجر، الآية 22) والسماء في نزول الأمطار بأنّها رسوله: ﴿يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُم مِدْرَارا﴾ (سورة نوح، الآية 11)، كما انّه يعتبر الشياطين أيضاً رسله فيقول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ...﴾ (سورة مريم، الآية 83)، وبالنتيجة فليس هناك في نظام التكوين من ذرّة تنبعث من موضع إلىٰ آخر إلاّ وهي رسول الله سواء كانت موافقة لنظام التشريع الإلٰهي أم لم تكن. وببيان آخر فإنّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية والثواب والعقاب لها مجال في نظام التشريع، وإلاّ فإنّ النظام التكويني ّ ليس فيه معصية. كما يجب أيضاً اضافة هذه الملاحظة وهي كما انّ المسكين رسول الله، والله يرسله لاختبار ذوي النعمة كذلك المنفق أيضاً رسول الله، لانّ الله هداه وحرّكه نحو مساعدة الفقراء والقيام بسدّ حوائجهم. وبهذا التوضيح فالّذي يتسلّم نعمة من مخلوق يجب أن يعلم أنّ المنعم رسول الله ويجب أن يعترف له بالفضل بما انّه (مخلوق) (ورسول) إلٰهيّ، لا من حيث انّه شخص معيّن. وبالنتيجة فانّ معنىٰ الحديث يكون: «من لم يشكر المخلوق بما انّه مخلوق لم يشكر الخالق» أي انّ الّذي لايشكر المخلوق بما انّه مخلوق ومنعم بالعرض لا بالذات ففي الحقيقة لم يشكر الخالق لانّ حقيقة التشكّر من المخلوق هي في الواقع تشكّر من الخالق. والنتيجة هي انّ الرواية المذكورة ليست فقط غير مخالفة لاختصاص جميع الحمد بالله سبحانه بل هي مؤيّدة له أيضاً، ومن جهة اُخرىٰ يمكن الإحتمال في التلازم المذكور بانّ من لم يشكر صاحب الأيادي والنِعَمِ الظاهرة فهو فاقد لروح الحمد والشكر في مقابل الإحسان، إلاّ أن يكون من خواصّ الموحّدين الّذين يرون النعم كلّها من الله ولا يرون أحداً سواه أصلاً... وفي هذه الصورة سيكون هذا خارجاً عن موضوع البحث.

تسنيم، جلد 1

396

موضع يذكر فيه (الحمد لله) يذكر معه نعمة من نعمه وفيضاً من فيوضاته بعنوان انّ ذلك دليل وحدّ وسط للبرهان، كما في سورة الحمد المباركة حيث يذكر بعد الحمد الربوبيّة المطلقة: (ربّ العالمين)، والرحمة المطلقة: (الرحمٰن)، والرحمة الخاصّة: (الرحيم) والمالكيّة المطلقة لله: (مالك يوم الدين)، وكلّ واحد منها يعتبر حدّاً وسطاً في البرهان علىٰ اختصاص الحمد بالله، والّذي هو ناظر إلىٰ نظامي التكوين والتشريع معاً. كما في سورة فاطر المباركة حيث ذكر ابداع السماوات والأرض: ﴿فَاطِرِ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾، وفي سورة الأنعام ذكر خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وفي سورة سبأ: ﴿مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾، وكلّ هذه الأمثلة جعلت حدّاً وسطاً في البرهان وهي ناظرة إلىٰ النظام التكويني، وفي سورة الكهف المباركة ذكر انزال الكتاب علىٰ النبي حدّاً وسطاً في البرهان وهو ناظر إلىٰ النظام التشريعيّ والكلمات التدوينيّة لله.

وباستقصاء موارد الحمد في القرآن الكريم يظهر انّه اضافة إلىٰ انّ مجموع الآيات التكوينيّة أو التدوينيّة يقع حدّاً وسطاً في البرهان علىٰ

تسنيم، جلد 1

397

اختصاص الحمد بالله كما في: ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾ و﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَاب﴾[1] كذلك كلّ مجموعة من آيات التكوين أو التدوين[2] بنحو مستقلّ تقع أيضاً حدّاً وسطاً للبرهان كما في قوله تعالىٰ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض﴾[3] بالنسبة إلىٰ نظام التكوين و﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا الله﴾[4] بالنسبة إلىٰ نظام التكوين والتدوين[5]، وذلك لكي يثبت انّ كلّ واحد من هذه الموجودات فقير وممكن ومحتاج إلىٰ الفاعل والخالق وليس هناك غنيّ محض سوىٰ الذات المقدّسة الإلٰهيّة، إذن كلّ الحمد له هو؛ وما من محمود حقيقيّ سواه.


[1] . سورة الكهف، الآية 1.

[2] . كما في زيارة (آل يس)، فمع انّه يخاطب الإمام الحجّة(عج) بنحو شامل: «السلام عليك في آناء ليلك وأطراف نهارك» مع ذلك يخاطبه أيضاً بذكر كلّ حالة من حالاته وكلّ شأن من شؤونه بتفاصيلها فيقول: «السلام عليك حين تقوم، السلام عليك حين تقعد، السلام عليك حين تقرأ وتبيّن، السلام عليك حين تصلّي وتقنت، السلام عليك حين تركع وتسجد، السلام عليك حين تهلّل وتكبّر، السلام عليك حين تحمد وتستغفر، السلام عليك حين تصبح وتُمسي...» (مفاتيح الجنان، زيارة صاحب الأمر(عج)) فيتبيّن انّ كلّ حالة من هذه الحالات مصدر هدىٰ ونور، وهذه الرؤية الدقيقة كثيرا ما تلاحظ في رواياتنا، ويظهر من روايات كتاب معاني الأخبار كيف انّ الأئمّة(ع ) قد دلّونا علىٰ الطريق وكيف قسّموا الآية الىٰ عدّة جُمل والجملة إلىٰ عدّة كلمات وجعلوا من كلّ كلمة محوراً للإستدلال.

[3] . سورة سبأ، الآية 1.

[4] . سورة الأعراف، الآية 43.

[5] . أهل الجنّة يحصلون علىٰ نِعَم الجنّة ببركة الآيات التشريعيّة ولذلك يحمدون الله في الجنّة بحسب هذه الآية.

تسنيم، جلد 1

398

البرهان الثاني: كما مضىٰ في البحث التفسيريّ، فانّ جميع ما في عالم الوجود الإمكانيّ من حيث انّه مخلوق لله فهو جميل وحسن، إذن فكلّ جمال فهو لله سبحانه، وحيث انّ الحمد والشكر هو في مقابل العمل الجميل، لذا فإنّ جميع أنواع الحمد هي لله الجميل الخالق للجمال.

وينبغي الإلتفات إلىٰ هذه الملاحظة وهي انّ جمال أفعال الله مطلق وليس نسبيّاً حتّىٰ تكون أفعاله بالنسبة إلىٰ ذاته المقدّسة فقط أو بالنسبة إلىٰ بعض الأشياء جميلة، بل انّ فعل الله كلّه جمال، وجماله مطلق وكماله كمال محض: «وكلّ جمالك جميل»، «وكلّ كمالك كامل»[1]، خلافاً للأعمال الحسنة للآخرين الّتي تكون بالنسبة لهم حسنة ولكنّها قد تكون غير حسنة بالنسبة إلىٰ الآخرين.

البرهان الثالث: والحدّ الوسط فيه «الربوبيّة المطلقة لله علىٰ جميع عوالم الوجود» وسبق أن ذكر في البحث التفسيريّ علىٰ نحو الإجمال انّه طبقاً للتحليل الدقيق وعلىٰ أساس الربوبيّة المطلقة لله سبحانه والتوحيد الأفعالي، لايبقىٰ في اسناد الفعل إلىٰ الفاعل أيّ نصيب لغير الله، لانّ الفيض الإلٰهيّ وحده هو الّذي يدبّر جميع عوالم الوجود، والأفعال الّتي تنسب إلىٰ الآخرين ليست إلاّ ظهوراً وتجلّياً للفيض والفعل الإلٰهيّ.[2]

ومن هنا فإنّ القرآن الكريم ينفي نسبة الانتصار في ميادين القتال في جبهة الحقّ مقابل الباطل إلىٰ المقاتلين وينسبه إلىٰ الله سبحانه، سواء


[1] . مفاتيح الجنان، دعاء السحر في شهر رمضان.

[2] . حيث انّ الكلام عن صفات فعل الله، وليس عن الصفات الذاتيّة فإسناد فعل أيّ فاعل الىٰ الله لا يتعارض مع التوحيد الذاتيّ لله سبحانه.

تسنيم، جلد 1

399

كان المقاتلون من سنخ البشر حيث يقول: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلٰكِنَّ اللهَ قَتَلَهُم﴾[1] أو كانوا من جنود الغيب النازلين من السماء فيذكرهم القرآن بعبارة لطيفة ويقول: ﴿ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا﴾[2] ويقول للنبيّ الأكرم(ص) أيضاً: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ﴾[3]، لانّ فيض الله وحده هو الّذي يدبّر كلّ أنحاء الوجود بما في ذلك ميادين قتال الحقّ ضدّ الباطل.[4] ولهذا لايحمد القرآن الكريم المقاتلين بعد ايقاع الهزيمة بالكافرين، بل انّه يعلن قطع واستئصال جذور الظلم والطغيان ويحمد الله سبحانه علىٰ ذلك فيقول: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾.[5]

ملاحظة: وعلىٰ هذا الأساس فإنّ القرآن الكريم عندما يعتبر الجنّة مكافأة وجزاء لعمل المؤمنين الصالحين: ﴿وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ


[1] . سورة الانفال، الآية 17.

[2] . سورة التوبة، الآية 26.

[3] . سورة الأنفال، الآية 17. وتعبير هذه الآية الكريمة حول النبيّ يختلف عمّا هو حول المقاتلين، ففي شأن المقاتلين ينفي عنهم الفعل فقط فيقول: (فلم تقتلوهم) أمّا في شأن النبيّ الأكرم(ص) فيذكر النفي ويقرنه بالإثبات فيقول (وما رميت إذ رميت) وهذا يدلّ علىٰ لون من العظمة والإمتياز للشخصيّة المنفردة لنبيّ الاسلام العظيم.

[4] . وطبقاً لهذه الرؤية التوحيديّة والعرفانيّة نرىٰ الإمام الخميني 1 بمناسبة تحرير خرمشهر يقول «انّ الله حرَّرَ خرمشهر» ويقول مخاطباً المجاهدين الّذين صنعوا ملحمة الفتح المبين «انّني ومن بعيد اُقبّل اكفّكم وأعضادكم الّتي فوقها يدُ الله» (صحيفة النور، ج16، ص96) وقوله (يد الله فوقها) يشعر بانّ هذا العارف الكبير يقبّل هذه الأيدي لانّ قدرة الله ظهرت وتجلّت فيها، والاّ فانّ العارف لايقبّل يداً لغير الله.

[5] . سورة الأنعام، الآية 45.

تسنيم، جلد 1

400

أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾[1] أو عندما يتحدّث عن انّ الله اشترىٰ انفس وأموال المؤمنين في مقابل الجنّة: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة﴾[2] أو القرض الحسن من العباد لله الغنيّ: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَنا﴾[3]، فكلّ ذلك هو من أجل الحثّ والتشجيع والترغيب لا بمعنىٰ الاستحقاق؛ لانّ مِلك ومُلك السماوات والأرض هو لله: ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾[4]، ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْض﴾[5]، ﴿أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَار﴾[6]، وجميع مافي عالم الوجود فهو جنده وجيشه: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾[7]، فغيره لايملك شيئاً حتّىٰ يبيعه الىٰ الله، ولا الله الغنيّ فاقد لشيء حتّىٰ يتعامل مع عبده للحصول عليه أو يستقرضه منه: «فلم يستنصركم من ذُلّ ولم يستقرضكم من قُلّ، استنصركم وله جنود السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم واستقرضكم وله خزائن السماوات والأرض وهو الغنيّ الحميد وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملاً».[8]

وعليه فإنّ عبارات من قبيل الأجر والبيع والشراء والنصرة لله، ودفع القرض الحسن إليه، كلّ ذلك لأجل ترغيب المؤمنين إلى العمل الصالح،


[1] . سورة الأعراف، الآية 43.

[2] . سورة التوبة، الآية 111.

[3] . سورة الحديد، الآية 11.

[4] . سورة آل عمران، الآية 189.

[5] . سورة البقرة، الآية 116.

[6] . سورة يونس، الآية 31.

[7] . سورة الفتح، الآية 7.

[8] . نهج البلاغة، الخطبة 183، المقطع 22.

تسنيم، جلد 1

401

كما يعد الوالد الحنون ولده بالمكافأة في مقابل التفوّق في اكتساب العلم، مع انّ الوالد غير محتاج الىٰ تعلّم ولده. فالفاعل والمالك الحقيقيّ للعمل هو الله سبحانه، لكن فعله يتحقّق علىٰ يد المقاتلين: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُم﴾.[1]

وبناءً علىٰ هذا فإنّ من يوفّق لنصرة وحفظ دين الله ينبغي أن يكون شاكراً لله أكثر من الآخرين لانّ يده أضحت مظهراً لفيض الله الوهّاب.

البرهان الرابع: وحده الوسط هو (كون الله جامعاً لكلّ أنحاء الكمال) وقد مضىٰ تقريره في البحث التفسيريّ.

وهناك برهان آخر أيضاً يستفاد من الآيات الاُولىٰ لسورة الحمد الّتي فيها الحدّ الوسط هو الرحمة المطلقة والرحمة الخاصّة والملكيّة المطلقة لله وسيأتي بيانه في تفسير الآيتين الثانية والثالثة من هذه السورة.

ملاحظة: انّ براهين حصر الحمد وإن بدت لأوّل وهلة متعدّدة وظهر الحدّ الوسط في كلّ برهان مختلفاً عن الآخر لكن عند التدقيق فيها يتبيّن انّ بعضها يدخل تحت ظلّ الآخر ولو تمّ الجمع فيما بينها لأمكن اختصارها وصياغتها في برهان واحد هو:

انّ جميع أنحاء الكمال والجمال والنعم تعود أوّلاً وبالأصالة لله سبحانه ونسبتها إلىٰ الآخرين ثانياً وبالعرض، وحيث انّ الحمد في مقابل الكمال والجمال والانعام، فجميع ألوان الحمد إذن هي ملك لله سبحانه ولا أحد مالك للحمد غيره، والإختلاف في الإجمال والتفصيل أو في المتن والشرح مشهود في الآيات القرآنيّة، لأنّه يستدلّ أحياناً علىٰ


[1] . سورة التوبة، الآية 14.

تسنيم، جلد 1

402

التوحيد الربوبي بواسطة النظم الكلّي وانسجام وترابط جميع أبعاد عالم الإمكان[1]، وتارة يستدلّ بالنظم الخاصّ لنموّ النباتات وطلوع واُفول الكواكب وتكوّن الليل والنهار و... .[2]

ب. الحصر في صفة الحامد

انّ اختصاص صفة الحامد بالله تثبت ببرهانين:

البرهان الأوّل: انّ الحمد الحقيقيّ متوقّف علىٰ المعرفة الحقيقيّة للنعمة، والإحاطة الحقيقيّة بكنه جميع النعم، وكلا الأمرين لايحصل لغير الله: «فإنّ الله قد امتنّ علىٰ جماعة هذه الاُمّة... بنعمة لايعرف أحد من المخلوقين لها قيمة»[3] إذن فهو الحامد الحقيقيّ لجميع النعم.

البرهان الثاني: طبقاً للتوحيد الأفعالي فإنّ كلّ احد يحمد الله فهو يعدّ آيةً من آياته ومظهراً من مظاهره. ولهذا فانّ حمد الحامدين مظهر لحمد الله، أيّ انّ الحامد أوّلاً وبالذات هو الله، وثانياً وبالعرض هو المظاهر والتجلّيات الإلٰهيّة. ولذلك نرىٰ انّ الله قد حمد نفسه بلسان الكثير من الآيات التدوينيّة، والتعابير القرآنيّة اضافة لما فيها من جانب تعليميّ للناس بأن يحمدوا الله، فانّها تتضمّن أيضاً حمد الله لنفسه؛ وما روي عن رسول الله(ص) انّه قال: «لا اُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت علىٰ نفسك»[4] ناظر إلىٰ هذا المعنىٰ.


[1] . سورة الأنبياء، الآية 22.

[2] . سورة الأنعام، الآيات 95 ـ 99.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 192، المقطع 104.

[4] . البحار، ج94، ص228؛ سنن ابن ماجة، ج2، ص1263.

تسنيم، جلد 1

403

5. المشكور والمحمود الحقيقي

جاء في الخطاب الدينيّ تعبير (شكر) الله في مقابل سعي عباده كما في قوله تعالىٰ: ﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيم﴾[1]، ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورا﴾[2] وكذلك ورد (الحمد) من الله لمقام ومنزلة عباده الصالحين: «فرضي سعيهم وحمد مقامهم».[3] وشكر الله وحمده ليس باللسان وهو من صفات الفعل لا من صفات الذات، لانّهما ينتزعان من مقام فعله.

والملاحظة المهمّة الّتي ينبغي الإلتفات إليها في مسألة كون الله سبحانه شاكراً وحامداً هي انّ كون الله شاكراً وشكوراً لسعي عباده وكونه حميداً وحامداً لمقام عباده الصالحين انّما يصحّ بالنظرة الابتدائيّة، ولكن


[1] . سورة البقرة، الآية 158.

[2] . سورة الاسراء، الآية 19.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 222، المقطع 14. انّ الحمد والشكر علىٰ الرغم من عدم وجود الإختلاف الأساسي بينهما وهما في الحقيقة متقاربان، لكن جاء في الخطابات الدينيّة الأمر بشكر غير الله: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك﴾ (سورة لقمان، الآية 14)، في حين انّ حمد غير الله ليس انّه لم يرد فيه أمر فحسب بل ورد الأمر بالنهي عنه كما في قول أمير المؤمنين7: «ولا يحمد حامد الاّ ربّه» (نهج البلاغة، الخطبة 1، المقطع 10). والسرّ في هذا الإختلاف (علىٰ فرض انّ نتيجة البحث والإستقصاء الكامل للأدلّة النقليّة قد دلّت علىٰ النهي عن حمد غير الله) هو انّه يمكن أن يكون لبعض التعبيرات لوازم جانبيّه لايصحّ الإلتزام بها، من قبيل قوله تعالىٰ للمؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا﴾ (سورة البقرة، الآية 104) في مقابل قول بعض اليهود الّذين كانوا يقولون: ﴿... رَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِم﴾ (سورة النساء، الآية 46).

تسنيم، جلد 1

404

عند التحليل والإستنتاج الأخير يتبيّن انّ ماسوىٰ الله ليس له نصيب من الشكر ولا حظّ له من الحمد، بل انّ الله سبحانه شاكر لفعله وحامد لكماله سبحانه، فهو بفعل من أفعاله يشكر ويحمد فعلاً آخر، وعليه فانّ الشاكر والمشكور والحامد والمحمود الحقيقيّ هو الله ولا أحد سواه.

وبيان ذلك: هو انّه علىٰ أساس التوحيد الافعاليّ والربوبيّة المطلقة لله سبحانه فانّ الأعمال الصالحة والسعي المشكور لعباد الله الصالحين ليست إلاّ تجلّياً وظهوراً لفعل الله، والشكر والحمد لها في الحقيقة هو شكر وحمد في مقابل فعل الله. ومن جهة اُخرىٰ فانّ شكر الله لسعي الناس وحمده لمقامهم ودرجاتهم هو بنفسه نعمة من نعم الله سبحانه وينبغي علىٰ الإنسان شكرها وحمدها، فالّذي يكون في النظرة الإبتدائيّة مشكوراً ومحموداً من قبل الله، فهو بالنظرة الدقيقة والنهائيّة يجب أن يشكر ويحمد الله لأجل هذه النعمة. ولهذا يحمد أهل الجنّة الله سبحانه في مقابل نعم الجنّة (الّتي هي الشكر الإلٰهيّ العمليّ في مقابل سعيهم) فيقولون: ﴿... وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾[1] والتوفيق لنصرة الدين في (الدنيا)، وثوابه الاُخرويّ (في


[1] . سورة الأعراف، الآية 43. انّ مفاد جملة (وما كنّا لنهتدي...) غير (ما اهتدينا) وأمثالها، لأنّ كان المنفيّة تدلّ علىٰ استمرار النفي كما انّ مفاد (ما كنت تعلم) يختلف مع (ما علمت). فأهل الجنّة يقولون: «لو لم يكن الوحي والهداية الإلٰهيّة لم نكن قادرين أبداً علىٰ ان نصل إلىٰ هذا المقام» لأنّ العقل مصباح وليس طريقاً، والإنسان بالمصباح وحده وبغير صراط لايمكن أن يبلغ الهدف. فالعقل مصباح كاشف يتعرّف بواسطته الإنسان علىٰ صراط الوحي المستقيم، وهو يرشد الإنسان إلىٰ السير فيه. فإذا لم يكن هناك وحي أي صراط مستقيم، فالعقل بلا وحي كالمصباح الكاشف الّذي يوضع في قمّة الجبل ليكشف العوائق والعقبات المانعة عن تسلّق الجبل وصعوده، فإذا لم يكن هناك طريق ومسلك نحو قمّة الجبل فإنّ المصباح وحده لا ينفع شيئاً.

تسنيم، جلد 1

405

الآخرة) كلاهما رحمة ونعمة من الله سبحانه، وعلىٰ العبد الشاكر أن يشكر الله علىٰ النعمتين: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَىٰ وَالآخِرَة﴾.[1]

6. حمد أهل الجنّة

انّ أصحاب الجنّة الّذين لايتكلّمون الاّ بإذن من الذات المقدّسة الإلٰهيّة: ﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمٰنُ وَقَالَ صَوَابا﴾[2] في ذكر دائم للنعم الإلٰهيّة وألسنتهم تلهج بحمد الله وشكره. والقرآن الكريم في وصفه لأهل الجنّة يذكر في آيات عديدة حمدهم المستمرّ المتواصل في مقابل النعم الإلٰهيّة.

أ. هم يحمدون الله في مقابل تطهير قلوبهم من الغلّ، والّذي هو من أفضل النعم المعنويّة، وجريان انهار الجنّة الّتي هي من النعم الظاهريّة، والّتي لم يمكنهم أن ينالوها لولا الوحي والهداية ولو اعتمدوا علىٰ العقل وحده لما أمكنهم بلوغ هذه النعم أبداً. فالله سبحانه أنعم علىٰ الإنسان بنعم الوحي والرسالة والتشريع العظيمة (الهداية التشريعيّة).

وكذلك وَهبهُ نعمة التوفيق للمعرفة والعمل (الهداية التكوينيّة): ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا الله﴾.[3]

ب. يحمدون الله علىٰ صدق وعده ونِعم الجنّة الّتي هي شكر الله


[1] . سورة القصص، الآية 70.

[2] . سورة النبأ، الآية 38.

[3] . سورة الأعراف، الآية 43.

تسنيم، جلد 1

406

العمليّ في مقابل عملهم، ويحمدون الله علىٰ جعله أرض الجنّة تحت تصرّفهم واختيارهم بحيث يتحرّكون فيها حيثما شاءوا: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين﴾.[1]

ج. يحمدون الله علىٰ إزالة جميع الهموم والأحزان من قلوبهم: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور﴾.[2]

د. الكلمة الأخيرة لأهل الجنّة أيضاً هي الحمد والثناء لربّ العالمين: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾.[3]

والسرّ في الحمد المستمرّ لأهل الجنّة هو انّ عوامل وموجبات الحمد (الّتي وقعت حدّاً وسطاً في براهين اثبات الحمد لله سبحانه) مثل (كونه جامعاً للكمال) و(الربوبيّة المطلقة) و(انعام ورحمة الله علىٰ العباد) كلّ ذلك له ظهور وتجلٍّ في الجنّة بنحو أوضح وأوسع.

7. الحامدون والمسبّحون لله

طبقاً للآية الكريمة: ﴿وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾[4] فإنّ الحمد والتسبيح لايختصّ بالمتنعّمين، بل انّ النعم بنفسها تسبّح الله وتحمده، كما انّ حمد الحامدين وتسبيح المسبّحين، وذكر الذاكرين، يسبّح ويذكر


[1] . سورة الزمر، الآية 74.

[2] . سورة فاطر، الآية 34.

[3] . سورة يونس، الآية 10.

[4] . سورة الاسراء، الآية 44.

تسنيم، جلد 1

407

الله، لانّ كلّ هذه مصداق (شيء) وتنضوي تحت عنوانه، وكلّ شيء حامد ومسبّح لله. ويقول بعض أهل المعرفة:

انّ الحمد له مراتب، وأظهر مراتبه هي مرتبة الأفعال الإلٰهيّة والأسماء الفعليّة لله أيضاً، ومتعلّق تلك الأسماء هي مرتبة الفعل، والحمد في مرتبة الصفات الإلٰهيّة والأسماء الّتي متعلّقها الصفات سيكون مدحاً وليس حمداً اصطلاحيّاً... والحمد المتعلّق بذات الواجب هو حمد نفس الحمد، أي انّ الصفة بتمام وجودها تُثني علىٰ موصوفها وتحمد ذاتها الّتي هي عين ذات الموصوف.[1]

8. منزلة التوحيد الربوبيّ وبراهينه

انّ المحور الّذي دار حوله تبليغ الأنبياء ولأجله دخلوا في صراع مع الأعداء هو (التوحيد الربوبيّ). وبعض المعارف الدينيّة الّتي هي من مقولة النظر والرؤية إلىٰ العالم ليس لها الاّ ثمرة علميّة، ولكن بعضها ذو ثمرة عمليّة. والإعتقاد (بواجب الوجود والتوحيد في الخالقيّة) من القسم الأوّل. ولهذا فإنّ عبدة الأوثان في الحجاز لا يعارضون التوحيد في الخالقيّة، وكانوا يقولون بانّ (الله) خلق العالم، ولكن بعد الخلق تركه وأهمله ولا شأن له به، كما انّ الإنسان ليس مسؤولاً عن شيء.

فهم علىٰ الرغم من اعتقادهم بالربوبيّة المطلقة لله بالنسبة إلىٰ مجموع العالم[2]، لكنّهم لم يؤمنوا بالربوبيّة الجزئيّة مثل (ربّ الإنسان)


[1] . النفحات الإلٰهيّة، القونوي، ص101، بتصرّف قليل.

[2] . راجع سورة لقمان، الآية 25؛ سورة الزمر، الآية 38؛ وسورة يونس، الآية 31.

تسنيم، جلد 1

408

و(ربّ الأرض) ويعتقدون انّها من شأن الأصنام والكواكب والنجوم، أو من يرونهم قدّيسين من البشر وكانوا ينحتون لها رموزاً وتماثيل ويعبدونها طمعاً بنيل شفاعتها.

وبناءً علىٰ هذا فانّ الإعتقاد بخالقيّة وربوبيّة الله سبحانه المطلقة بالنسبة الىٰ عالم الوجود أمر هيّن، لكنّ قبول الربوبيّة الجزئيّة هو الّذي يجعل الإنسان مسؤولاً أمام ربّه، وكلام الأنبياء هو انّ الإنسان مسؤول أمام الله الخالق وعليه أن يطيعه، وانّ الخالق هو الّذي يربّي الإنسان ويدبّر أمره.

والقرآن الكريم أيضاً يثبت التوحيد الربوبيّ عن طريق برهانين:

البرهان الأوّل: انّ الربوبيّة علىٰ أساس التحليل العقليّ هي نوع من (الخلق)، والإعتقاد بانّ الله هو الخالق في الحقيقة هو بنفسه اعتقاد بربوبيّته.

بيان ذلك: انّ الربوبيّة في الحقيقة هي (ايجاد الروابط بين المستكمل والكمال) والتربية ليست سوىٰ إعطاء الكمال والصفة للموصوف، مثلاً تربية الشجرة ماهي الاّ تنميتها وإيصالها إلىٰ حالة الإثمار، كما انّ تربية الإنسان من الناحية الجسميّة هي توفير عوامل بلوغه الكمال البدني، والربّ هو الّذي يوجد العلاقات والروابط بين الكمال والمستكمل ويعطي الكمال للمستكمل والمستعدّ، وحيث انّ الخالق هو (الله) وحده إذن فالربّ أيضاً هو وحده.

ولذلك فإنّ القرآن الكريم بواسطة اُسلوب الجدال بالأحسن وللإحتجاج علىٰ الربوبيّة فإنّه ينتزع الإقرار من المشركين حول انّ الله

تسنيم، جلد 1

409

سبحانه هو الخالق. فالمشركون الّذين ينكرون الربوبيّة الجزئيّة كانوا يقولون انّ الله لم يعطنا شيئاً حتّىٰ نعبده ونكون مسؤولين أمامه، ولا نرىٰ أنفسنا مسؤولين إلاّ أمام الأصنام، حيث كانوا يزعمون بأنّها هي الأرباب الجزئيّة وانّهم مدينون لها ولذلك كانوا يعبدونها.[1]

البرهان الثاني: التلازم بين الخالقيّة والربوبيّة، انّ من يكون خالقاً فهو حتماً الّذي يستطيع أن يكون ربّاً. والّذي ليس خالقاً لشيء فهو لايعرف شيئاً عن نظام وجوده وليس له القدرة علىٰ تدبيره وتربيته أيضاً، فإذن الخالق لعالم الوجود هو ربُّه وحده. والّذي يربّي أيّ شيء يجب أن يكون محيطاً بجميع أسراره الباطنيّة، ويجب أن يكون عالماً بالأشياء الّتي يرتبط بها، وله القدرة علىٰ إيجاد مايلزمه من علاقات مع الأشياء، ومثل هذه المعرفة ملازمة للخالقيّة، لانّ الخالق وحده الّذي يعلم بحاجة الشيء وما يلزمه وعلاقاته وانسجامه أو عدم انسجامه مع سائر الموجودات. ولهذا فإنّ القرآن الكريم يقول بأنّ التدبير والتربية للعالم هي مهمّة الخالق وحده: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾.[2]

فالقرآن الكريم وباُسلوب الجدال بالأحسن وبالاعتماد علىٰ صفة انّ الله خالق، وهي الّتي كان يعتقد بها المشركون يثبت ربوبيّة الله سبحانه.

وعلىٰ هذا فإنّ الربوبيّة ترجع بتحليلين إلىٰ الخالقيّة وآيات الخلق بهذين التقريرين تدلّ علىٰ إثبات الربوبيّة وهي سند إثباتها.


[1] . سورة العنكبوت، الآية 61؛ سورة لقمان، الآية 25؛ سورة الزمر، الآية 38؛ سورة الزخرف، الآيتان 9 و87 .

[2] . سورة طه، الآية 50.

تسنيم، جلد 1

410

وبإثبات التوحيد الربوبيّ، يثبت التوحيد العباديّ ايضاً، فإذا لم يكن للعالم ربّ سوىٰ الله، فليس سواه من معبود أيضاً، لأنّ الدافع إلىٰ العبادة إذا كان هو الخوف من الضرر وترك التدبير والانعام، أو الطمع والشوق إلىٰ نيل العطاء، فإنّه لاتصحّ العبادة إلاّ للمربّي ومن هو مصدر التدبير، وإذا كان الدافع إلىٰ العباد هو شوق لقاء المعبود فهذا أيضاً صادق علىٰ المُنعِم ومبدأ الكمال.

البحث الروائي

1. مقام تحميد الله سبحانه

ـ عن النبيّ(ص): «أوّل من يدعىٰ الىٰ الجنّة الحمّادون الّذين يحمدون الله في السرّاء والضرّاء».[1]

ـ «لو انّ الدنيا كلّها لقمة واحدة فأكلها العبد المسلم، ثمّ قال: «الحمد لله» لكان قوله ذلك، خيراً من الدنيا وما فيها».[2]

اشارة: انّ السرّ في أفضليّة الحمد علىٰ الدنيا ومتاعها، هو انّ الحمد الصادق يُعدُّ من الكَلِم الطيّب، وكلّ كَلِم طيّب فهو يصعد إلىٰ الله منزّهاً عن الجهة والحيّز وكلّما يصعد إلىٰ الله فهو يستقرّ عند الله وكلّ ماهو عند الله فهو مصون من آفة الزوال: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاق﴾[3] وبالنتيجة فإنّ الشيء الباقي والأبديّ أفضل بالتأكيد من الشيء المحدود


[1] . البحار، ج90، ص215.

[2] . البحار، ج90، ص216.

[3] . سورة النحل، الآية 96.

تسنيم، جلد 1

411

العابر الزائل. ولذلك فإنّ حمد المؤمن خير من الدنيا الزائلة الّتي يعدّ حبّها رأس كلّ خطيئة.

2. سيرة النبيّ(ص) وأدبه بابتداء الكلام بالتحميد

ـ عن النبيّ(ص): «كلّ كلام لايُبدأ فيه بالحمد فهو أقطع».[1]

ـ عن الصادق(ع): «كان رسول الله(ص) إذا أصبح قال: «الحمد لله ربّ العالمين كثيراً علىٰ كلّ حال». ثلاثمائة وستّين مرّة وإذا أمسىٰ قال مثل ذلك».[2]

ـ ... وكان النبيّ(ص) إذا أصبح وطلعت الشمس يقول: «الحمد لله ربّ العالمين حمداً كثيراً طيّباً علىٰ كلّ حال» يقولها ثلاثمائة وستّين مرّة شكراً.[3]

اشارة: صحيح انّ إثبات العدد المذكور ليس هيّناً ولكن لعلّ السرّ فيه علىٰ فرض ثبوت العدد هو انّه كان يحمد الله صباحاً ومساءً بعدد أيّام السنة تقريباً، ولعلّ عدد العناصر الأساسيّة لبدن الإنسان أو النظام الكونيّ هو الرقم المذكور، وحيث انّ كلّ واحد منها هو نعمة من نعم الله الواسعة فهو كان يشكر الله مرّة في مقابل كلّ واحد منها، والعلم عند الله.

3. التعبير الجامع والشامل في الحمد والشكر

ـ عن الصادق(ع): «ما أنعم الله علىٰ عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال: (الحمد لله) إلاّ أدّىٰ شكرها».[4]


[1] . البحار، ج90، ص216.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص15.

[3] . البحار، ج90، ص216.

[4] . تفسير الصافي، ج1، ص71.

تسنيم، جلد 1

412

ـ عن حمّاد بن عثمان قال: خرج أبو عبد الله(ع) من المسجد وقد ضاعت دابّته فقال: «لئن ردّها الله عليّ لاشكرنّ الله حقّ شكره». قال: فما لبث ان اُتي بها فقال: «الحمد لله». فقال قائل له: جعلت فداك أليس قلت: لأشكرنّ الله حقّ شكره؟ فقال أبو عبدالله(ع): «ألم تسمعني قلت: الحمد لله».[1]

ـ عن الصادق(ع): «الشكر للنعم اجتناب المحارم وتمام الشكر قول (الحمد لله ربّ العالمين)».[2]

ـ ... انّ رجلاً جاء إلىٰ أمير المؤمنين(ع) فقال: أخبرني عن قول الله تعالىٰ: ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾ ما تفسيره؟ فقال: «الحمد لله هو ان عرَّف عباده بعض نعمه عليهم جُملاً إذ لا يقدرون علىٰ معرفة جميعها بالتفصيل لأنّها أكثر من أن تحصىٰ وتعرف. فقال لهم: قولوا الحمد لله علىٰ ما أنعم به علينا ربّ العالمين».[3]

اشارة: بعض الكلمات بلحاظ شمولها تُعدّ من جوامع الكلم والحمد المذكور هو من هذا القبيل. وحصر جنس الحمد أو حصر جميع أفراد الحمد بالله يعدّ أداءً لحقّ الحمد وهو واسع وشامل.

4. عجز المتنعّم عن شكر النعمة

ـ عن السجّاد(ع): «اللّهمّ انّ أحداً لايبلغ من شكرك غاية الاّ حصل عليه من احسانك مايلزمه شكراً ولا يبلغ مبلغاً من طاعتك وان اجتهد الاّ


[1] . نور الثقلين، ج1، ص15.

[2] . البحار، ج90، ص214.

[3] . نور الثقلين، ج1، ص17.

تسنيم، جلد 1

413

كان مقصّراً دون استحقاقك بفضلك... وتثيب علىٰ قليل ما تطاع فيه حتّىٰ كأنّ شكر عبادك الّذي أوجبت عليه ثوابهم وأعظمت عنه جزاءهم، أمر ملكوا استطاعة الامتناع عنه دونك فكافيتهم. أولم يكن سببه بيدك فجازيتهم بل ملكت يا إلٰهي أمرهم قبل أن يملكوا عبادتك وأعددت ثوابهم قبل أن يفيضوا في طاعتك وذلك انّ سنّتك الافضال وعادتك الإحسان وسبيلك العفو، فكلّ البريّة معترفة بأنّك غير ظالم لمن عاقبت و...».[1]

ـ وعن أمير المؤمنين(ع): «الحمد لله الّذي لايبلغ مدحته القائلون ولايحصي نعماءه العادّون ولا يؤدّي حقّه المجتهدون، الّذي لايدركه بُعد الهمم ولايناله غوص الفطن».[2]

اشارة: الحمد لله الّذي لايستطيع أحد ان يؤدّي حقّ مدحه وحمده فلا نِعمهُ تُحصىٰ ولا المجتهدون بسعيهم الحثيث وببذلهم الجهد المتواصل يستطيعون أداء حقّه. فلا نسور الفكر الشواهق ولا همم الحكماء قادرة علىٰ التحليق الىٰ ذرىٰ قمم معرفته، ولا الغوّاصون في بحر المعرفة العميق قادرون علىٰ استخراج لؤلؤة معرفة كنه تلك الذات المتعالية.

حيث انّ الحمد الحقيقي لتلك الذات المقدّسة يبتني علىٰ المعرفة العميقة والدقيقة لوليّ النعمة وجميع نعمهِ، ومثل هذه المعرفة لاتوجد الاّ عند الله، وبناءً عليه فأيّ متنعّم غير قادر علىٰ اداء شكره وحمده، والحامد الحقيقيّ الوحيد لله سبحانه، هو نفس ذاته المقدّسة.


[1] . الصحيفة السجادية، الدعاء 37.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 1.

تسنيم، جلد 1

414

5. الحمد في مقابل جمال وجلال الله

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «نحمده علىٰ آلائه كما نحمده علىٰ بلائه»[1] «نحمده علىٰ ما أخذ وأعطىٰ وعلىٰ ما أبلىٰ وابتلىٰ».[2]

اشارة: الابتلاء والإختبار الإلٰهيّ أيضاً من نعمه وألوان رحمته الّتي يجب حمده لأجلها أيضاً، ولهذا جاء في بعض أدعية أيّام الاُسبوع: «اللّهمّ لك الحمد ان خلقت فسوّيت وقدّرت وقضيت وأمَتّ وأحييت وأمرضت وشفيت وعافيت وأبليت و...».[3] فكلّ أفعال الله خير، وحيث انّ الحمد في مقابل عمل الخير فكلّ أفعال الله اذنْ محمودة.

6. اختصاص الحمد بالله

ـ عن السجّاد(ع): «ولو دلّ مخلوق مخلوقاً من نفسه علىٰ مثل الّذي دللت عليه عبادك منك كان محموداً فلك الحمد».[4]

ـ عن الباقر(ع): «... وأنت جمال السماوات والأرض فلك الحمد وأنت زين السماوات والأرض فلك الحمد».[5]

ـ عن ابي الحسن الأوّل(ع): «إذا فرغت من صلاة الليل فقل: اللهمّ ما عملت من خير فهو منك لا حمد لي فيه وما عملت من سوء فقد حذّرتنيه، لا عذر لي فيه. اللّهمّ انّي أعوذ بك أن اتّكل علىٰ ما لا حمد لي فيه».[6]


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 114، المقطع 1.

[2] . نفس المصدر، الخطبة 32، المقطع 1.

[3] . مفاتيح الجنان، دعاء يوم الأربعاء.

[4] . الصحيفة السجّادية، الدعاء 45.

[5] . البحار، ج84، ص258، دعاء الانتهاء من صلاة الليل.

[6] . نفس المصدر، ص221.

تسنيم، جلد 1

415

ـ ... «... ولك الحمد... واستخلصت الحمد لنفسك وجعلت الحمد من خاصّتك ورضيت بالحمد من عبادك وفتحت بالحمد كتابك وختمت بالحمد قضاءك، ولم يعدل الىٰ غيرك ولم يقصر الحمد دونك، فلامدفع للحمد عنك ولا مستقرّ للحمد الاّ عندك ولاينبغي الحمد إلاّ لك».[1]

اشارة: كلّ كلمة من هذه الكلمات النورانيّة تتضمّن برهاناً علىٰ اختصاص الحمد بالله سبحانه. وفي الحديث الأوّل للإمام السجّاد(ع) بعد ذكر نعمة الهداية الإلٰهيّة والعلوم القيّمة الّتي لاقدرة للبشر علىٰ بلوغها بغير التعليم الإلٰهيّ يقول في دعائه إلىٰ الله إلٰهي لو تمكّن مخلوق بنفسه أن يهب للآخرين ما وهبتهم من الهداية والمعارف كما فعلت أنت مع خلقك حيث هديتهم وعلّمتهم لكان أهلاً للحمد، ولكن حيث انّ جميع النعم والعلوم هي منك فالحمد والثناء كلّه لك. وفي جملة (فلك الحمد) وبتقديم (لك) علىٰ (الحمد) تمّ حصر الحمد في الله سبحانه. وهذا الحديث ناظر الىٰ البرهان الّذي حدُّه الوسط هو الإنعام الإلٰهيّ.

والحديث الثاني يتضمّن برهاناً حدُّه الوسط هو الجمال وقد بُيِّن في براهين اختصاص الحمد كالآتي: جميع عوالم الوجود الإمكاني من حيث انّها مخلوقة لله فهي حسنة وجميلة وحيث انّ الحمد في مقابل الحسن والجمال والفعل الجميل، فالحمد مختصّ بالله الجميل خالق الجمال.

وفي الحديث الثالث علىٰ أساس التوحيد الأفعاليّ فانّ جميع الأفعال الحسنة للإنسان تعود إلىٰ الله سبحانه، وكلّ حمد ازاء كلّ عمل حسن فهو يعدّ لله. وعلىٰ أساس التوحيد الأفعاليّ والربوبيّة المطلقة لله


[1] . البحار، ج87، ص129، دعاء يوم الجمعة.

تسنيم، جلد 1

416

سبحانه فانّ جميع الأعمال الحسنة للصالحين ما هي إلاّ ظهور وتجلٍّ للفيض والفعل الإلٰهيّ، ولهذا فانّ المحمود الحقيقيّ هو الذات القدسيّة الإلٰهيّة وحدها.

والحديث الرابع أيضاً بتصريحه بأنّ الحمدَ لامعدِن ولا مقرّ له سوىٰ ساحة القدس الإلٰهيّ ولايستحقّ الحمد أحد سواه فقد دلَّ دلالة واضحة علىٰ حصر الحمد بالله سبحانه.

تنويه: إذا ظهر من بعض النصوص الدينيّة انّ حمد غير الله جائز ولكنّ حمد الله أفضل، فمثل هذه الظواهر ينبغي تفسيرها بتعيين حمد الله لاتفضيله، كما في بداية دعاء السحر للإمام السجّاد(ع) الّذي رواه ثابت بن دينار (ابو حمزة الثمالي): «... فربّي أحمد شيء عندي وأحقّ بحمدي».[1]

7. الحامد الحقيقي

ـ عن الصادق(ع): «اللّهمّ انّي أفتتح القول بحمدك وأنطق بالثناء عليك واُمجّدك ولاغاية لمدحك واُثني عليك ومن يبلغ غاية ثنائك وأمَد مجدك وأنّىٰ لخليقتك كنه معرفة مجدك».[2]

اشارة: مرّ في البحث التفسيريّ انَّ المحمودَ الحقيقيّ الوحيد هو الذات المقدّسة الإلٰهيّة، بل انّ الحامد الحقيقيّ ليس الاّ هو أيضاً، لأنّ الحمد الحقيقيّ لايتسنّىٰ دون المعرفة الحقيقيّة للنعم الإلٰهيّة وإدراك حقيقة جميع النعم الإلٰهيّة أمر غير ميسور، وليس سوىٰ الله بقادر علىٰ معرفة كنهِ نعمه.


[1] . اقبال الأعمال، ج1، ص157.

[2] . مفاتيح الجنان، أعمال يوم الجمعة، دعاء الإمام الصادق7 بعد صلاة جعفر.

تسنيم، جلد 1

417

8. العلاقة بين الحمد وكون الكعبة مربّعة

ـ روي عن الصادق(ع) انّه سُئل لِمَ سمّيت الكعبة؟ قال: «لأنّها مربّعة» فقيل له: ولِمَ صارت مربّعة؟ قال: «لأنّها بحذاء البيت المعمور وهو مربّع». فقيل له ولِمَ صار البيت المعمور مربّعاً؟ قال: «لأنّه بحذاء العرش وهو مربّع». فقيل له ولِمَ صار العرش مربّعاً؟ قال: «لأنّ الكلمات الّتي بُني عليها الإسلام أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إلٰه إلاّ الله والله أكبر».[1]

اشارة: في هذا الكلام القيّم الّذي يربط الإمام الصادق(ع) فيه مسألة الشكل المربّع للكعبة مع القواعد الأساسيّة للدين تمّ بيان عظمة حمد الله سبحانه، حيث انّ منزلة التحميد بدرجة من العلوّ والرفعة بحيث جعلت الىٰ جانب التسبيح والتهليل والتكبير، وهي الأركان الأساسيّة للدين والقواعد الاُولىٰ لخلق العالم، لأنّ عرش الله الّذي هو مقام الأمر والحكم قائم علىٰ هذه الأركان.

كما ويستفاد من هذا الحديث اختصاص الحمد بالله سبحانه، ويستظهر منه اختصاص التسبيح والتهليل والتكبير بالله أيضاً، لأنّه إذا كان أساس الدين هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، إذن فلاشيء في الكون مرتبط بغير الله حتّىٰ يكون غير الله لأجله محموداً للحامدين.

فغير الله إنّما يكون ملجأ للآخرين ومحموداً من قبلهم إذا كان له كمال بنفسه أوّلاً وإذا استطاع بكماله أن يسدّ حاجات الآخرين ويوفّرها لهم ثانياً، بينما عندما يقترن التسبيح والتحميد لله سبحانه مع التهليل، فإنّ


[1] . البحار، ج96، ص57.

تسنيم، جلد 1

418

مفاد ذلك انّ الله سبحانه هو الموجود الوحيد الغنيّ الّذي لايعتريه النقص وهو الّذي يرفع النقائص، وفي النتيجة لا مؤثّر في هذا الكون سواه. فلوكان التسبيح والتحميد قد ذُكِرا بغير التهليل لم يفيدا أكثر من انّ الله غنيّ وانّه قادر علىٰ رفع نقائص الآخرين، وهذا فقط إثبات للشيء لا نفي لما عداه.

وعليه فإنّ التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير كلّها مُلك لله سبحانه، ولو اتّصف مقام أو شخص بانّه محمود، فهو في الحقيقة شأن من شؤون فاعليّة الله سبحانه، كما في المقام المحمود للرسول الأكرم(ص).

9. الكلام الأخير لأهل الجنّة

ـ عن النّبي(ص): «الحمد لله، الكلمة الّتي يقولها أهل الجنّة إذا دخلوها وينقطع الكلام الّذي يقولونه في الدنيا ماخلا الحمد لله وذلك قوله: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾».[1]

اشارة: انّ أهل الجنّة عند دخولها ورؤية تحقّق الوعد الإلٰهيّ فيها يحمدون الله ولا يحتاجون فيها إلىٰ الوسائط والأسباب في تحقيق رغباتهم، إذ يحصلون علىٰ كلّ مايريدون بمجرّد تسبيح الله، وبعد أن يتنعّموا بمواهب الجنّة يحمدون الله، وحيث انّ نعم الجنّة عطاء غير مجذوذ ولا انقطاع له لذلك فانّ حمد أهل الجنّة لاينقطع أيضاً، ومعنىٰ (آخر) في الآية المذكورة نسبيّ، لا نفسيّ.


[1] . البحار، ج90، ص166 (سورة يونس، الآية 10).

تسنيم، جلد 1

419

10. عودة الربوبيّة إلىٰ الخالقيّة

ـ عن الرضا(ع): «... ربّ العالمين توحيد له وتحميد وإقرار بأنّه هو الخالق المالك لاغير».[1]

ـ عن الصادق(ع): «... ربّ العالمين، قال: خلق المخلوقين».[2]

اشارة: كما مرّ في بحث لطائف وإشارات في الآية محلّ البحث فانّ الربوبيّة ترجع بالتحليل إلىٰ الخالقيّة، وفي هذين الحديثين قد اُشير إلىٰ هذا المعنىٰ أيضاً.

11. خصائص وآثار الحمد

ـ عن السجّاد(ع): «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله والآخر بلا آخر يكون بعده الّذي قصرت عن رؤيته أبصارالناظرين وعجزت عن‌نعته أوهام الواصفين... والحمد لله الّذي لو حبس عن عباده معرفة حمده علىٰ ما أبلاهم من مننه المتتابعة وأسبغ عليهم من نعمهِ المتظافرة لتصرّفوا في مننه، فلم يحمدوه وتوسّعوا في رزقه فلم يشكروه ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود[3] الإنسانيّة الىٰ حدّ البهيميّة[4] فكانوا كما وصف في محكم كتابه: ﴿إِنْ


[1] . نور الثقلين، ج1، ص15.

[2] . تفسير القمي، ج1، ص28.

[3] . يقول الشارح المعروف للصحيفة السجّاديّة، المرحوم السيد علي خان الحسيني (رضوان الله عليه) انّ السرّ في ذكر كلمة حدّ في الإنسان بصيغة الجمع (حدود) وفي البهيمة بصيغة المفرد هو انّ للإنسان انحاء متعدّدة ومختلفة من الكمال ولكنّ الحيوان له حدّ واحد وهو فقدان العقل (رياض السالكين، ج1، ص308).

[4] . انّ السرّ في تسمية البهيمة بهذا الإسم هو انّ كلامها مبهم للآخرين كما انّ عملها مبهم أيضاً وليس فيه ميزان واضح ونظام معيّن، فمثلاً انّها لاتراعي الحلال والحرام وتأكل من الطعام كلّ ما تشتهيه ويناسب مزاجها.

تسنيم، جلد 1

420

هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا﴾[1] والحمد لله... حمداً نُعمَّر به فيمن حمده من خلقه ونسبق به من سبق الىٰ رضاه وعفوه، حمداً يضيء لنا به ظلمات البرزخ[2] ويسهّل علينا به سبيل المبعث ويشرّف به منازلنا عند مواقف الأشهاد يوم تجزىٰ كلّ نفس بما كسبت وهم لايظلمون... .

حمداً يرتفع منّا إلىٰ أعلىٰ علّيين في كتاب مرقوم يشهده المقرّبون، حمداً تَقَرُّ به عيوننا[3] إذا برقت الأبصار وتبيضّ به وجوهنا[4] إذا اسودّت الأبشار، حمداً نُعتق به من أليم نار الله إلىٰ كريم جوار الله، حمداً نزاحم به ملائكته المقرّبين[5] ونضامُّ به انبياءه المرسلين في دار المقامة الّتي


[1] . سورة الفرقان، الآية 44.

[2] . عالم البرزخ في اصطلاح الروايات هو عالم القبر وليس القبر عالماً في مقابل البرزخ، ولهذا فإنّ العوالم ثلاثة: الدنيا والبرزخ أو القبر والقيامة. وأجاب الإمام الصادق7 من سألهُ عن البرزخ ماهو؟ فقال: «القبر منذ حين موته الىٰ يوم القيامة» (نور الثقلين، ج3، ص554).

[3] . انّ العين البرزخيّة عند بعض الناس عند الاحتضار وفي البرزخ والقيامة فاقدة للنور وعمياء فلا ترىٰ الأسماء الجماليّة لله، لكنّ حمد الحامدين يمنحهم البصيرة وقرّة الأعين. و(القرّة) هي الدمع البارد، فدمع الغمّ والحزن دمع حارّ ولكن دمع البهجة والسرور دمع بارد ولهذا فانّ مايجلب السرور والبهجة يقال له «قُرَّة أعيُن».

[4] . انّ الله سبحانه وبما له من صفة الستّار فهو لايظهر المكنونات الباطنيّة للناس في وجوههم إلاّ في حالات نادرة. لكن في يوم القيامة حيث يوم ظهور الحقّ فإنّ أثر الذنب والطاعة الّذي هو سواد وبياض للوجه يظهر في ذلك اليوم. وكما انّ الخجل في الدنيا صفة نفسانيّة تجعل وجه الإنسان محمرّاً، والخوف يخطف لون الوجه ويجعله مُصفرّاً، كذلك في القيامة أيضاً فإنّ خواطر الإنسان وحالاته النفسيّة تترك أثرها علىٰ وجه الإنسان.

[5] . المقصود من المزاحمة في هذا الكلام هو التنافس والإستباق إلىٰ الخيرات الّذي جاء الأمر به في القرآن الكريم: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات﴾ (سورة البقرة، الآية 148) لأنّه لايوجد أيّ مزاحمة في طريق الخير. فالإنسان الّذي يتسامىٰ عن مرتبة الوهم والخيال لايزاحم أحداً ولايزاحمه أحد.

تسنيم، جلد 1

421

لاتزول ومحلّ كرامته الّتي لاتحول[1]... والحمد لله... فكيف نطيق حمده أم متىٰ نؤدّي شكره؟ لامتىٰ؟... والحمد لله بكلّ ما حمده به أدنىٰ ملائكته إليه وأكرم خليقته عليه وأرضىٰ حامديه لديه حمداً يفضُل سائر الحمد كفضل ربّنا علىٰ جميع خلقه[2] (أي انّ اختلاف الحمد من اختلاف المحمودين)، ثمّ له الحمد مكان كلّ نعمة له علينا وعلىٰ جميع عباده الماضين والباقين عدد ما أحاط به علمه من جميع الأشياء ومكان كلّ واحدة منها عددها أضعافاً مضاعفة أبداً سرمداً إلىٰ يوم القيامة.[3] حمداً لامنتهىٰ لحدّه ولا


[1] . ورد في لغة الخطاب القرآنيّ تسمية الجنّة بـ(دار المقامة)، وانّ أصحاب الجنّة يشكرون الله الّذي أحلَّهم في مقرّهم الأبديّ: (دار القرار). والبرزخ كالدنيا ليس دار قرار بل هو مجاز وجسر يجتازه المسافر كي يبلغ مقرّه الأبديّ وهو القيامة الكبرىٰ. والإمام السجّاد يقول في قسم من هذا الدعاء لم يرد ذكره في المتن (والحمد لله الّذي اختار لنا محاسن الخلق وأجرىٰ علينا طيّبات الرزق وجعل لنا الفضيلة بالملكة علىٰ جميع الخلق (أي الولاية التكوينيّة) فكلّ خليقته منقادة لنا بقدرته وصائرة الىٰ طاعتنا بعزّته والحمد لله الّذي اغلق عنّا باب الحاجة إلاّ إليه، (لأنّه عالم بحاجاتنا وقادر علىٰ توفيرها وأجاز لنا أن نرفع حاجاتنا إليه وبهذا النحو أغلق أبواب اللجوء إلىٰ سواه بنحو تامّ، حيث انّ غيره لايعلم ماذا نحتاج ولا يستطيع أن يوفّر لنا مانريد وليس هو دائماً مستعدّاً لقبولنا).

[2] . حمد الله أفضل من كلّ حمد، كما انّ الله أعلىٰ من جميع مخلوقاته. وكما انّ الله له وجود مستقلّ وبالذات ووجود الآخرين هو بالتبع وبالعرض وبالغير، كذلك الحمد فهو بالذات يعود الىٰ الله سبحانه وبالعرض وبالتبع لغير الله، وحمد غير الله يرجع بالتالي إلىٰ حمد الله.

[3] . حقيقة الإنسان باقية وأبديّة، ولهذا ينبغي عليه أن يسعىٰ نحو الكمال الأبديّ، ولايصحّ أن ينفذ إلىٰ كيان الإنسان (إلىٰ) و(حتّىٰ) و(متىٰ)، بل يجب أن يفكّر بالخلود ويكون دأبه وديدنه التزوّد بالأبديّة. ولايستطيع الإنسان الأبديّ بأعماله الفانية والعابرة أن يحقّق الحياة الخالدة.

تسنيم، جلد 1

422

حساب لعدده ولا مبلغ لغايته ولا انقطاع لأمده حمداً يكون وصلة الىٰ طاعته وعفوه وسبباً إلىٰ رضوانه وذريعة الىٰ مغفرته وطريقاً إلىٰ جنّته وخفيراً من نقمته وأمناً من غضبه وظهيراً علىٰ طاعته وحاجزاً عن معصيته وعوناً علىٰ تأدية حقّه ووظائفه، حمداً نسعد به في السعداء من أوليائه ونصير به في نظم الشهداء[1] بسيوف أعدائه انّه وليّ حميد»[2].[3]

يبدأ الإمام السجّاد(ع) هذا الدعاء بتوحيد الله سبحانه وبعد بيان انّ الله رازق، وانّه يحاسب علىٰ الأعمال فيعاقب العاصي المفسد ويثيب المطيع المحسن فهو يذكر خصائص وآثار الحمد في الدنيا والبرزخ والقيامة، والمقام والمنزلة الرفيعة الّتي يمكن بلوغها بواسطة الحمد، كما يذكر أيضاً بعض عواقب ترك الحمد الّتي نُشير إلىٰ بعضها فيما يلي:


[1] . انّ شوق الإمام السجّاد إلىٰ الشهادة (والمقصود من الشهادة هنا هي الشهادة في ميدان القتال) ناشئ من انّ الله سبحانه أودع دينه عند الناس وأراد منهم أن ينصروه، والسنّة الإلٰهيّة قد قامت وجرت علىٰ حفظ الدين وإحيائه. وعلىٰ هذا الأساس فكلّ إنسان يجب أن يسعىٰ لإحياء دين الله بيده ويحظىٰ بهذا الفوز العظيم والمجد الكبير ويستحضر قول الله سبحانه حيث يقول: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِم﴾ (سورة آل عمران، الآية 154)، فإذا ما تقاعس جماعة عن نصرة دين الله، فإنّ الله لايترك دينه؛ وسينطلق جماعة آخرون إلىٰ جبهات القتال متلهّفين، فمن جهة يمنح هؤلاء الشوق للجهاد والشهادة ومن جهة اُخرىٰ يهب الله سبحانه لأهليهم الصبر والثبات بنحو يثير اعجاب الآخرين، وهذا ماكان مشهوداً في ميادين الدفاع المقدّس لإيران الإسلاميّة خلال أعوام الحرب الثمانية.

[2] . جملة: (انّه وليّ حميد) استدلال علىٰ مضامين الدعاء، حيث انّ الإنسان تحت ولاية الله سبحانه ويريد منه بما انّه الحميد المطلق والمحمود الصرف وجميع الاُمور بيده أن يبلغه مقام الحمد.

[3] . الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 1.

تسنيم، جلد 1

423

أ. انّ الحمد فصل مقوّم للإنسان: فالفلاسفة يعتبرون النطق هو الفصل المقوّم وهو حدّ انسانيّة الإنسان. والنطق سواء كان بمعنىٰ الكلام أو بمعنىٰ (إدراك الكلّي...) ليس مبيّناً لحدّ الإنسانيّة. وفي ثقافة القرآن والعترة لايكون الإنسان بمعنىٰ (الحيوان الناطق) بل هو (الحيوان الناطق الحامد).

وعليه فإنّ الإنسان إذا لم يكن حامداً أو كان من أهل الحمد باللسان فقط ولم يكن حمده نابعاً من الإيمان والإعتقاد القلبيّ، فهو علىٰ الرغم من أنّه يختلف عن الحيوانات والبهائم العجم والصامتة حيث انّه حيوان ناطق ومتكلّم الاّ انّه خارج عن حدود الإنسانيّة وملحق بحدّ البهيميّة لانّ البهائم تستفيد من النعم ولكنّها فاقدة لمعرفة الحمد.

وجدير بالذكر انّ الفارق بين الإنسان وسائر الحيوانات هو المرتبة الكاملة للحمد الّتي يُبيّنها الإمام السجّاد في هذا الدعاء الحادي والخمسين من الصحيفة السجاديّة، وإلاّ فإنّ جميع الموجودات تسبّح وتحمد الذات الإلٰهيّة المقدّسة: ﴿وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم﴾.[1]

والسرُّ في انّ الله سبحانه يصف بعض الناس بالأنعام بل وأحقر من ذلك: ﴿أُولٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ﴾[2] هو انّ الحيوانات أيضاً لها مرتبة ضعيفة من الشكر، ولكن حيث انّها لاتمتلك العقل لذلك فهي لاتبلغ كمال الحمد المعقول، أمّا الإنسان فمع امتلاكه للكمال العقلي فإنّه إذا


[1] . سورة الإسراء، الآية 44.

[2] . سورة الأعراف، الآية 179.

تسنيم، جلد 1

424

سخَّر عقله في خدمة الشهوة والغضب فسيصبح أسفل من الحيوان. إذ انّ الحيوان يسعىٰ لإشباع شهوته وغضبه في حدود الشعور الحيوانيّ فقط، لكنّ الإنسان إذا انحرف فإنّه يُسخِّر العقل والفكر أيضاً في خدمة الشهوة والغضب وينحرف عن الطريق مع انّ مصباح الهداية بيده. فيصير مثل هذا العقل أسيراً بيد الأهواء والنزوات: «كم من عقل أسير تحت هوىٰ أمير».[1]

ب. الحمد سبب لوصول الإنسان الىٰ درجة مرافقة الأنبياء والملائكة ويصبح زاداً يمهّد للإنسان أن يسرع ويستبق لكي ينال رضا الله وعفوه.

ج. الحمد ينوِّر ظلمات عالم البرزخ ويسهِّل للإنسان طريق القيامة، وظلمات البرزخ سببها الذنوب، ونوره يأتي من الطاعات. فإذا أضاء البرزخ مَهَّدَ طريق الإنسان نحو القيامة الكبرىٰ، ويصبح هذا الطريق ـ الّذي يصعب علىٰ البعض إجتيازه كما في الدخول الىٰ البرزخ من الدنيا ـ سهلاً.

وتوضيح ذلك: انّ حقيقة الموت من وجهة نظر الدين هي انتقال من عالم إلىٰ عالم آخر: «لكنّكم تنتقلون من دار إلىٰ دار».[2] أمّا الموت الّذي هو بمعنىٰ (انقطاع النفس) و(برودة البدن) فهو الموت الّذي يبحث في علم الأحياء. والانتقال من الدنيا إلىٰ البرزخ سهل جدّاً علىٰ بعض الناس وصعب للغاية علىٰ بعض آخر منهم.

فالمقاتل الّذي يُصاب بنيران العدوّ صباحاً ويُضرّج بدمه من الصباح إلىٰ المساء فهو وإن كان الآخرون يظنّون انّه يعالج سكرات الموت


[1] . نهج البلاغة، الحكمة 211.

[2] . البحار، ج37، ص146.

تسنيم، جلد 1

425

ولكنّه في الحقيقة قد أعرض عن الدنيا وأقبل علىٰ الآخرة كالظمآن المتلهّف في حرّ الهجير الّذي يرد عين الماء الزلال البارد فيرمي نفسه فيه. ولهذا يقول الإمام الباقر(ع) في جواب من سأله عن شهداء كربلاء وهل كانوا يشعرون بألم السهام قال: «كما يشعر أحدكم إذا عصر اصبعه باصبعيه الآخرين».[1]

فالموت الأحمر والانتقال من الدنيا إلىٰ البرزخ للشهيد لذيذ وممتع وليس مؤلماً. لكن المفسد الّذي يلفظ أنفاسه بسرعة وإن كان في الظاهر لم يتعرّض للنزع الشديد، لكنّ انفصال الروح عن تعلّقات الدنيا وانتقالها إلىٰ البرزخ صَعب عليه جدّاً. ولهذا يصف القرآن حال هؤلاء عند الموت وما يواجهونه من هول عند انتقالهم من الدنيا إلىٰ البرزخ فيقول: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق﴾[2]، ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُم﴾.[3]

ولعلّ السرّ في ضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم هو انّ الملائكة الموكّلين بالدنيا الّذين يرون الإنسان المفسد ذاهباً من الدنيا صفر اليدين فيضربونه علىٰ ظهره ويدفعونه لطرده وإخراجه من الدنيا، أمّا الملائكة الموكّلون بالبرزخ فهم أيضاً عندما يرونه قادماً نحوهم صفر اليدين فانّهم يضربونه علىٰ وجهه ويتمّ استقباله بهذا الشكل، وهذا هو بنفسه نحو من عذاب وضغطة القبر، وعلىٰ هذا الأساس فانّ عالم القبر هو عالم البرزخ،


[1] . معاني الأخبار، باب معنىٰ الموت، ح4 و5.

[2] . سورة الانفال، الآية 50.

[3] . سورة محمّد(ص)، الآية 27.

تسنيم، جلد 1

426

والإنسان المفسد يتعرّض لضغطة القبر حتّىٰ لو مات في جوّ السماء المفتوح أو البحر العميق. والّذي يستطيع أن يجتاز الدنيا الىٰ البرزخ بسهولة فإنّ طريق البرزخ إلىٰ القيامة سيكون سهلاً عليه أيضاً.

والسرّ في انّ الحمد يسهّل إجتياز طريق البرزخ إلىٰ القيامة، هو انّ الإنسان الحامد والشاكر يعتقد بأنّ الله وليّ نعمته ومن يعرف وليَّ نعمته جيّداً فإنّه يستطيع أن يحمده ويشكره ولايعتريه التفكّر القارونيّ الّذي يحمله علىٰ أن يقول: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾.[1]

انّ الّذي يرىٰ النعمة من غير الله ويقول مانّاً علىٰ الله انّني حصلت علىٰ هذا بكدّ يدي وسعيي الشخصيّ فهو حتّىٰ وإن تلفّظ بلسانه جملة ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾ لكنّه حامد باللسان فقط وليس حامداً بالروح. وعليه فإنّ مثل هذا المانّ علىٰ الله والّذي يرىٰ النعمة من كدّ يده لم يبلغ حقيقة الحمد ولم يعرف وليّ نعمته.

وعبيد الدنيا بعد الموت يشعرون كما يشعر النائم بانّ لديهم سلسلة من الخواطر. والكثير منهم لايلتفت إلىٰ انتقاله إلىٰ العالم الآخر وبعد استماع التلقين ورؤية بعض الاُمور، يدرك انّه قد انتقل الىٰ عالم البرزخ، ولمّا كانت حقيقة الموت هي الانتقال وللإنسان كثير من التعلّقات بالدنيا، فإنّه مالم يقطع جميع تعلّقاته بالدنيا فهو لايرد إلىٰ عالم البرزخ، ولأجل تقطيع هذه التعلّقات لابدّ من مرور زمن طويل.

الإنسان الغارق في حبّ الدنيا كالمُدمن علىٰ المخدّرات الّذي اُدخل إلىٰ المشفىٰ وابعدت المواد الّتي أدمن عليها عن متناول يده فهو سيشعر بألم


[1] . سورة القصص، الآية 78.

تسنيم، جلد 1

427

شديد. الإنسان المحبّ للدنيا يودّع الدنيا بقلب مفعم بالتعلّق بالدنيا وهذه المحبّة تستمرّ معه فترة وتحرقه بلهيبها حتّىٰ انّه شيئاً فشيئاً تنقطع علائقه بالدّنيا تدريجيّاً بسبب انشغاله بعقبات البرزخ، لأنّه لايوجد هناك طريق للعلاج.

د. انّ الحمد يهب للإنسان مقاماً رفيعاً أمام الأشهاد في يوم القيامة.

هـ . الحمد يرفع الإنسان إلىٰ أعلىٰ علّيين ويجعل الإنسان أبيض الوجه وقرير العين في يوم القيامة.

ويظهر من هذا الكلام انّ الحمد ليس هو قول (الحمد لله) وأمثالها فحسب، بل انّ الحمد هو عقيدة وأخلاق وعمل فمن تحلّىٰ بها بلغ ذلك المقام الشامخ. والحامد يجب أن يحمد الله بالقلب وباللسان وأن يعرف نِعَم الله ويعتقد بأنّها جميعاً لله ثمّ يستعملها في محلّها.

و. الحمد عامل للنجاة من العذاب الأليم ويبلغ بالانسان مقاماً كريماً في جوار الله.

ز. الحمد وسيلة للتنافس مع الملائكة واللحوق بالأنبياء في الجنّة.

ح. الحمد عامل لظفر الإنسان بالطاعة والعفو والرضوان ومغفرة الله سبحانه.

ط. الحمد طريق الىٰ جنّة لقاء الحقّ سبحانه والحفظ من الانتقام والعقوبة الإلٰهيّة والأمن من غضب الله.

ي. الحمد حائل ومانع أمام معصية الله وعون علىٰ أداء حقّ الله.

ك. الحمد واسطة للعروج الىٰ ذروة سعادة الأولياء والإلتحاق بنظم الشهداء في سبيل الله.

ملاحظة: من لطائف دعاء الحمد لسيّد الساجدين(ع) انّه يبتدئ بالحمد وينتهي بالحمد.

تسنيم، جلد 1

428

12. المرتبة الكاملة للحمد

ـ عن السجّاد(ع): «فأنت عندي محمود وصنيعك لديّ مبرور. تحمدك نفسي ولساني وعقلي حمداً يبلغ الوفاء وحقيقة الشكر حمداً يكون مبلغ رضاك عنّي فنجّني من سخطك».[1]

اشارة: للإنسان إدراك وعمل وكلام، والحامد الحقيقيّ هو الّذي يعتقد في مقام الإدراك انّ النعم كلّها من الله سبحانه، وفي مقام العمل يضع كلّ نعمة في موضعها المناسب ويعترف باللسان انّ جميع النعم منه سبحانه، ومثل هذا الحمد مقوّم للإنسانيّة، وإلاّ فإنّ أصل الحمد يصدر من كلّ موجود، إذن درجة كمال الحمد هي الفصل المقوّم للإنسان، وفاقد تلك المرتبة من الكمال فهو دون درجة وحدّ الإنسان المعقول والمقبول.

13. تفسير العالمين وكثرة العوالم

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «ربّ العالمين وهم الجماعات من كلّ مخلوق من الجمادات والحيوانات...».[2]

ـ عن أبي جعفر(ع): «... لعلّك ترىٰ انّ الله انّما خلق هذا العالم الواحد أو ترىٰ انّ الله لم يخلق غيركم، بلىٰ والله لقد خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم، أنت في آخر تلك العوالم واُولئك الآدميّين».[3]

اشارة: انّ الموجود المادّي فضلاً عن حدوثه الذاتيّ فهو محكوم


[1] . الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 51.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص17.

[3] . نفس المصدر، ص16.

تسنيم، جلد 1

429

بالحدوث الزمانيّ. والحدوث الزمانيّ ذاتي للموجود الطبيعيّ (بمعنىٰ حقيقة الهويّة لابمعنىٰ الماهيّة)، لأنّه علىٰ أساس الحركة الجوهريّة ليس هناك ثبات وبقاء لموجود مادّي فضلاً عن الدوام والقِدَم، لكن ليس هناك حدّ للفضل والفيض الإلٰهيّ، وتكرّر العوالم وتعدّد عوالم الإمكان الّتي هي من لوازم دوام الفيض الإلٰهي لايتعارض أبداً مع حدوث المستفيض، وكما مضىٰ بيانه سابقاً فإنّ المقصود من كلمة (العالمين) هو جميع مراتب وانحاء الوجود والموجود الإمكانيّ، لاخصوص العوالم الإنسانيّة، لأنّ القرآن الكريم فسَّر (ربّ العالمين) بربّ جميع النظام الكونيّ والإنسانيّ الواسع، وبعبارة اُخرىٰ أينما تمتدّ دائرة الرحمة الإلٰهيّة فهو مشمول (للعالمين)، وحيث انّ رحمة الله وسعت كلّ شيء: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ء﴾[1] فالمقصود إذن من العالمين هو جميع النظام الإمكانيّ.

٭ ٭ ٭


[1] . سورة الأعراف، الآية 156.

تسنيم، جلد 1

430

تسنيم، جلد 1

431

الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)

خلاصة التفسير

الرحمة الواسعة والشاملة الإلٰهيّة هي(الرحمة الرحمانيّة)، والرحمة الخاصّة له هي (الرحمة الرحيميّة). في هذه الآية الكريمة دليلان علىٰ حصر الحمد بالله، لأنّ الرحمة الواسعة تشمل المؤمن والكافر وكذلك الرحمة الخاصّة المختصّة بالمؤمن وكلّها منحصرة في الله، وتلك الرحمة هي سبب استحقاق الحمد، فالمربّي للموجودات هو الله ذو الرحمة الواسعة للجميع والرحمة الخاصّة للمؤمنين، ومثل هذه التربية وهذا المربّي أهل للحمد.

التفسير

لقد استفيد من الآية الكريمة: ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾ برهانان علىٰ اختصاص الحمد بالله، والآية الكريمة ﴿الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم﴾ أيضاً تتضمّن برهانين آخرين علىٰ كون الله سبحانه محموداً وانّ له الربوبيّة المطلقة والحمد مختصّ به، لأنّ الصفتين الجماليّتين (الرحمن) و(الرحيم) كلتيهما صالحة أن تكون حدّاً وسطاً في البرهان علىٰ اختصاص الحمد بالذات المقدّسة لله.

تسنيم، جلد 1

432

هاتان الصفتان تبيّنان انّ ربوبيّة الله ربوبيّة جديرة بالتحميد وانّ التحميد حقّه المختصّ به، وتلك الرحمة سبب لكون الله الرحمٰن محموداً، وكذا الرحمة الرحيميّة المختصّة بالمؤمنين فهي منحصرة بالله سبحانه وهذه الرحمة الخاصّة أيضاً سبب لاستحقاق الله سبحانه للحمد.

الربوبيّة الممدوحة والمذمومة

الربّ تارة يدبّر شؤون مربوبه بالعلم والعدل والرحمة، وتارة بالجهل والظلم، والقسم الأوّل هو الربوبيّة المحمودة، والقسم الثاني هو الربوبيّة المذمومة والمستقبحة. ولأجل إثبات انّ ربوبيّة الله هي من القسم الأوّل، فقد ذكرت الآية محلّ البحث بعض الصفات الجماليّة للحقّ سبحانه، فقالت: انّ الربّ والمربّي لعوالم الوجود الإمكانيّ هو الله الّذي له رحمة واسعة ومطلقة (الرحمة الرحمانيّة) ورحمة خاصّة (الرحمة الرحيميّة).

والقرآن الكريم ينفي النقص والظلم عن ساحة الذات المقدّسة الإلٰهيّة تارة بالصفات السلبيّة وبلسان النفي كما في قوله تعالىٰ ﴿وَلاَ يِظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا﴾[1]، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيد﴾[2]،[3] وتارة بلسان الإثبات فيقول: انّ مربّي


[1] . سورة الكهف، الآية 49.

[2] . جملة ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيد﴾ لاتعني انّ الله ليس بكثير الظلم، لأنّ نفي الظلم الكثير لاينافي إثبات الظلم القليل في حين انّ صدور الظلم القليل كالظلم الكثير محال علىٰ الله سبحانه. والسرّ في المبالغة في «ظلاّم» هو انّ صدور الظلم القليل من مدبّر ومربّي جميع الكون يُعَدُّ ظلماً كثيراً، لأنّه لو ظلم ذرّة من ذرّات هذا الكون (بنقلها من موضعها المناسب) فإنّ جميع الكون المنظّم سيختلّ، لانّ جميع أجزاء عالم الخلق كحلقات سلسلة ومراتب الأعداد قد تمّ ترتيبها وتنظيمها بحيث لو استبدلت حلقة باُخرىٰ فانّ الخلل سيمتدّ الىٰ العالم بأسره.

[3] . سورة فصّلت، الآية 46.

تسنيم، جلد 1

433

عالم الوجود هو «الرحمان» و«الرحيم»، وهو يدبّر الكون برحمته الواسعة، وحيث انّ ربوبيّته وتدبيره علىٰ أساس الرحمة وليس في ربوبيّته ظلم (وإلاّ لم تكن علىٰ أساس الرحمة) إذن فربوبيّته محمودة وممدوحة.

والقرآن الكريم يبيّن نحوين من الربوبيّة: الربوبيّة الممدوحة والربوبيّة المذمومة، فيتحدّث في بعض المواضع عن الربوبيّة المذمومة كما في قول فرعون لبني اسرائيل: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَىٰ﴾[1]، أو قول يوسف(ع) لصاحبه في السجن: ﴿اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّك﴾ وكلام الله سبحانه حول ذلك ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّه﴾[2] وهذه هي الآية الّتي حول الربوبيّة المذمومة لعزيز مصر، أو الكلام الآخر ليوسف(ع) الّذي ينفي فيه الأرباب المتفرّقين: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار﴾.[3] وأمّا ربوبيّة الله سبحانه القائمة علىٰ أساس الرحمة فهي ربوبيّة محمودة ومستحسنة.

لطائف واشارات

1. رسالة أسماء الله في الآية الثالثة لسورة الحمد

كما مرّ في قسم لطائف وإشارات في الآية الكريمة (بسم الله...)[4] فإنّ الأسماء الحسنىٰ (الرحمن) و(الرحيم) الّتي تتضمّنها الآية الثالثة من سورة الحمد ليست تكراراً لتلك الأسماء المذكورة في آية البسملة


[1] . سورة النازعات، الآية 24.

[2] . سورة يوسف، الآية 42.

[3] . سورة يوسف، الآية 39.

[4] . في الصفحة 338 من هذا الكتاب تحت عنوان اللطيفة (5): رسالة أسماء الله في سورة الحمد.

تسنيم، جلد 1

434

الاُولىٰ، لأنّ هذه الأسماء الشريفة في هذه الآية مقيّدة في انّها تتولّىٰ اثبات حصر الحمد بالله سبحانه وتبيّن انّ ربوبيّتهُ محمودة، ولكنّ الآية الاُولىٰ تقع في فضاء وجوّ مفتوح ولايحدّدها مثل هذا الإطار.

2. اختلاف النطاق في براهين حصر الحمد

صحيح انّ جميع البراهين المستفادة من الأسماء الحسنىٰ (الله) و(ربّ) و(الرحمٰن)، و(الرحيم) والدالّة علىٰ حصر الحمد بالله سبحانه هي بصدد إثبات صفة المحمود بشكل حصريّ بالله سبحانه، لكنّ نطاق وحدّ كلّ برهان يتناسب مع الموضوع والحدّ الوسط الخاصّ بذلك البرهان. فمثلاً البرهان الّذي حدّه الوسط هو الربوبيّة المطلقة لله سبحانه علىٰ عوالم الوجود يُثبت حصر الحمد والمدح بلحاظ ربوبيّة الله، والبرهان الّذي حدّه الوسط هو الرحمة الرحيميّة والفيض الإلٰهيّ الخاصّ يثبت حصر الحمد المتعلّق بتلك الرحمة. إذن محدوديّة نطاق الحدّ الوسط في كلّ برهان تحدّد نطاق وإطار البرهان المذكور.

3. استتار صفة الغضب في «الله» و«الرحمٰن»

حيث انّ رحمة الله تسبق غضبه وكذلك هي أكثر من غضبه: «سبقت رحمته غضبه»[1]، «تسعىٰ رحمته أمام غضبه»[2]، لهذا فانّ صفة الغضب الإلٰهي مستترة ومختفية في الإسم الشريف (الله) وكذلك في الصفة الجامعة (الرحمٰن)، وليست مشهورة، وهذا الاستتار للغضب هو الّذي


[1] . مفاتيح الجنان، دعاء الجوشن الكبير.

[2] . اقبال الأعمال، ص399؛ الصحيفة السجّادية، الدعاء 16.

تسنيم، جلد 1

435

أدّىٰ إلىٰ ذكر المغضوب عليهم بالفعل المجهول لا بصيغة المعلوم حيث قال سبحانه: ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم﴾[1] ولم يقل «غضبت عليهم» ولو لم يكن هناك أيّ نحو من الغضب والقهر في اسم الله أو في صفة «الرحمٰن» فانّه لم يكن هناك مجال أبداً لذكر (المغضوب عليهم).

البحث الروائي

ـ عن الرضا(ع) انّه قال بعد أن شرح ربّ العالمين: «الرحمن الرحيم استعطاف وذكر لآلائة ونعمائه علىٰ جميع خلقه».[2]

اشارة: انّ مفردتي الرحمٰن والرحيم تُرجمت الىٰ اللغة الفارسية بما يعني الواهب والجواد والسخي، ولكن هذه الألفاظ لاتؤدّي معنىٰ ومفهوم الرحمٰن والرحيم لانّ كلمة الرحمٰن قد اُشرِب فيها شيء آخر من مبادئ الرحمة غير الهبة والإعطاء، وقد اُشير إليه في الحديث المذكور وهو العطف والمحبّة. فالله سبحانه عندما يصف نفسه بالرحمٰن والرحيم فمعناه انّه يقول انّ عطائي وموهبتي مقترنة بالعاطفة والمحبّة، وإذا دعا العبد ربّه بهذه الأسماء الحسنىٰ فهو يرجوا اضافة الىٰ الجود والعطاء أن يستجلب عطف ومحبّة ورأفة ربّه. فالرحمان في الحقيقة يهب شيئين: احدهما اصل طلب الإنسان كالشفاء من المرض أو المال والآخر هو المحبّة والعاطفة، وهي أمر معنويّ يعالج الكثير من الأمراض الروحيّة وآفات النفس.

٭ ٭ ٭


[1] . سورة الحمد، الآية 7.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص19.

تسنيم، جلد 1

436

تسنيم، جلد 1

437

مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)

خلاصة التفسير

الله سبحانه هو المالك المطلق لكلّ العوالم ومن فيها. وهذه الملكيّة المطلقة غير المحدودة تظهر يوم القيامة، لا انّها تحدث في المعاد. الله المدبّر والمربّي لأفراد الإنسانيّة ومن خلال اقامته ليوم الجزاء يفتح سبيل التكامل النهائيّ للناس ويربّيهم علىٰ الاعتقاد بالقيامة الّذي هو أفضل وسيلة لتطهير الإنسان وتحريره من الفساد، وفي يوم القيامة حيث محلّ ظهور المِلكيّة المطلقة لله وفيه يعترف الجميع بمالكيّة الحق تعالىٰ، هنالك يهب الله للناس جوائزهم فهو الله المحمود.

واليوم في الآية هو بمعنىٰ الظهور، لا بمعنىٰ الفترة من الزمان، وفي القيامة تظهر جميع أبعاد وأركان الدين كالتوحيد، والأسماء الحسنىٰ لله والأسرار والحقائق الاُخرىٰ.

وهذه الآية ومن خلال بيانها للنظام الغائيّ للخلق، تشكّل دليلاً آخر علىٰ حصر الحمد بالله، كما انّها سند لكون الله معبوداً ومستعاناً به، ولهذا فانّها مرتبطة بالآيات السابقة واللاحقة.

تسنيم، جلد 1

438

التفسير

مالك: مالك ومَلِك ومَليك هي ثلاثة أسماء من الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ، ولها أصل واحد هو (مِلْك أو مَلْك) وتعني السلطة الخاصّة الّتي تُمهّد لأنواع التصرّف في الشيء المملوك، كسلطة الإنسان علىٰ ماله أو مثل استيلاء وتسلّط الحكّام علىٰ النّاس (ويقال له مُلك). المِلْك أعمّ من المُلْك ولهذا يقول الراغب:

المَلِك هو المتصرّف بالأمر والنهي في الجمهور؛ ... والمِلْك كالجنس للمُلْك. فكلّ مُلْك مِلْك وليس كلّ مِلْكٍ مُلْكاً.[1]

وتذكر معاجم اللغة معاني اُخرىٰ لكلمة مِلْك، كالقوّة والشدّة والعزّة و... وجميعها من لوازم وآثار سلطة المالك، وليست معنىً أصليّاً للمِلْك.

وقد جاءت الأسماء الثلاثة المالك والمَلِك والمليك كلُّها في القرآن الكريم: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْك﴾[2]، ﴿فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقّ﴾[3]، ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر﴾.[4]

يوم: اليوم في العُرف بمعنىٰ الجزء المحدود من امتداد الزمان، قليلاً كان أم كثيراً ولهذا كما يطلق علىٰ المسافة الزمنيّة بين طلوع الشمس وغروبها فانّه يطلق أيضاً علىٰ الأجزاء الأوسع من الزمان، وجاء اليوم في القرآن بمعنىٰ «الظهور» أيضاً، كما في قوله تعالىٰ: ﴿كُلَّ


[1] . مفردات الراغب، ص472، «مِلك».

[2] . سورة آل عمران، الآية 26.

[3] . سورة المؤمنون، الآية 116.

[4] . سورة القمر، الآية 55.

تسنيم، جلد 1

439

يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾[1] ففي هذه الآية الكريمة ليس اليوم بمعناه المتعارف، لأنّ اليوم نفسه بالمعنىٰ المعروف هو أيضاً شأن جديد من فيض الله سبحانه، وبما انّ الألفاظ موضوعة لأرواح المعاني، فهذا النحو من الاستعمال حقيقيّ وليس مجازيّاً.

الدّين: الدين يعني الخضوع والانقياد أمام منهج أو تعليمات معيّنة. وعليه فإنّ هناك قيدين قد اُخِذا في معنىٰ كلمة (دين): أحدهما الانقياد والخضوع والآخر هو الانقياد في مقابل منهج خاصّ، وأمّا المفاهيم مثل الطاعة والتعبّد والاستسلام للحكم أو القهر، والتسليم والقانون والجزاء فهي ليست من المعاني الأصليّة لكلمة الدين وإن كانت قريبة منها وهي من لوازمها.

برهان آخر علىٰ اختصاص الحمد

الآيتان الثانية والثالثة في سورة الحمد تضمّنتا أربعة براهين علىٰ اختصاص الحمد بالله سبحانه. والآية الكريمة: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ أيضاً بذكرها إسماً آخر من الأسماء الحسنىٰ لله سبحانه تضيف برهاناً آخر علىٰ ضرورة الحمد واختصاصه بالذات المقدّسة الإلٰهيّة. وتقرير البرهان كالآتي:

الله سبحانه هو المالك المطلق لجميع عوالم الوجود، وملكيّته المطلقة تظهر في ذلك اليوم، وحيث انّ من له تلك السلطة والملكيّة محمود ومشكور، إذن فالله سبحانه محمود ومشكور.

توضيح ذلك: هو أنّ الله سبحانه المدبّر والمربّي لبني الإنسان، وحيث انّ طريق الكمال الإنسانيّ يمسي مغلقاً من دون وجود الحياة


[1] . سورة الرحمٰن، الآية 29.

تسنيم، جلد 1

440

الأبديّة الخالدة، فهو يفتح طريق التكامل النهائي للإنسان بإقامة يوم القيامة. وبما انّ اهمال الناس وتركهم لحالهم يؤدّي إلىٰ فسادهم لذلك فهو لم يتركهم لأنفسهم بل راح يربّيهم بالإعتقاد بالقيامة وذكر المعاد الّذي هو أفضل وسيلة لتحرير الإنسان من الفساد[1]، وفي النهاية يعطيهم في القيامة جزاء عملهم الصالح.

وعليه فإنّ الله سبحانه بإقامته يوم المعاد يفتح ويُسهّل طريق التكامل للإنسان أوّلاً، ويطهّرهم بالإعتقاد بالقيامة وذكر المعاد ثانياً، ويهب لهم في القيامة جزاء المحسنين ثالثاً. ولذلك فإنّ الله سبحانه محمود ومشكور.

فالآية الكريمة ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ اضافة إلىٰ انّها برهان علىٰ ضرورة الحمد لله سبحانه وبهذا اللحاظ فهي مرتبطة بالسابق، كذلك هي أيضاً دليل علىٰ انّ الله «معبود» و«مستعان». وبهذا اللحاظ فهي مرتبطة بالآية اللاحقة.

اختلاف المفسّرين في لفظ ومعنىٰ الآية

في الآية الكريمة ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ هناك مسألتان وقع الإختلاف عليهما:


[1]. انّ طهارة الإنسان من الذنوب وتحلّيه بالطاعة والعبادة، امّا أن يكون بسبب الخوف من النار أو الشوق الىٰ الجنّة، أو أن يحرّكه عامل أسمىٰ وأعلىٰ وهو الخوف من البعد عن الله والشوق الىٰ لقائه. والجنّة أيضاً درجات، فدرجة منها: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار﴾ (سورة البقرة، الآية 25) والدرجة الاُخرىٰ: «جنّة لقاء الربّ». والمتوسّطون من أهل الإيمان ينالون حدائق الجنّة وأنهارها الجارية تحت أشجارها، أمّا خواصّ أهل الإيمان فلهم فضلاً عن هذا المقام، مقام (عند الله) كما في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ٭ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر﴾ (سورة القمر، الآيتان 54 ـ 55).

تسنيم، جلد 1

441

1. اختلف المفسّرون في انّ كلمة (مالك) هل يمكن أن تكون مثل «ربّ العالمين» و«الرحمٰن» و«الرحيم» صفة للإسم المعرفة مثل «الله» أم لا.[1] فالبعض قال انّ كلمة «مالك» لم يلاحظ فيها زمن الحال أو الإستقبال، بل هي تفيد الاستمرار وإسم الفاعل الإستمراريّ عندما يكون مضافاً يمكن أن يكون صفة للإسم المعرفة مثل الله.[2] والبعض الآخر اعتبر هذا الرأي غير تام وقال: حيث انّ القيامة غير موجودة الآن، ولذا فانّ مالك في هذه الآية الكريمة تفيد معنىٰ الإستقبال ومعناها (يَملك)، ومثل هذا الإسم الفاعل لايكتسب التعريف بالإضافة ولذلك لايقع صفة لكلمة (الله) الّتي هي معرفة.[3]

والحقّ في هذا الإختلاف مع الفئة الاُولىٰ؛ لأنّ مالك هنا صفة مشبّهة وتدلّ علىٰ الاستمرار، لأنَّ القيامة موجودة الآن، والإنسان يرد القيامة عند انتهاء الدّنيا. وتفصيل هذا الموضوع وإثباته سيأتي في قسم لطائف وإشارات.

2. أكثر القرّاء قرأ كلمة مالك بصورة «مَلِك» وأكثر المفسّرين رجّح هذه القراءة ايضاً، وإن كانت قراءة مالك هي الأشهر في الوقت الحاضر؛ ومالك مشتقّة من المِلْك، وأمّا مَلِك فهي مشتقّة من المُلْك، وكون الله


[1] . منشأ هذا الإختلاف هو انّ اضافة اسم الفاعل ليست اضافة حقيقيّة ولاتفيد التعريف وحيث انّ «مالك» جاءت صفة لكلمة «الله» والصفة يجب أن تكون مطابقة للموصوف في التعريف والتنكير. فيجب أن تكون معرفة.

[2] . الكشّاف، ج1، ص12؛ تفسير النسفي، ج1، ص9.

[3] . راجع كتاب التفسير الكبير، ج1، ص245؛ الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص139؛ روح المعاني، ج1، ص141.

تسنيم، جلد 1

442

مالكاً معناه قيوميّته علىٰ الموجودات وتقوّمها به. وكون الله مَلِكاً يعني أيضاً سلطانه ونفوذ أمره وحكومته علىٰ الأشياء.

وأنصار كلتا القرائتين (المالك، المَلِك) أقاموا أدلّةً علىٰ ترجيح القراءة المختصّة بهم:

فدليل القائلين بترجيح قراءة مَلِك هو اضافتها الىٰ ظرف الزمان (يوم)؛ ومالك لاتضاف إلىٰ الزمان، خلافاً لكلمة مَلِك حيث يقال (مَلِك العصر) (مَلِك الدهر) و... فيضاف الىٰ الزمان في حين انّه لايقال (مالك العصر).

واُجيب عن هذا الإستدلال بأنّ الفرق بين مالك ومَلِك في الإضافة إلىٰ الزمان انّما هو في الملكيّة الإعتباريّة، لا الحقيقيّة، أمّا الله سبحانه الّذي هو المبدأ والمنشأ الحقيقيّ للأشياء فكما يصحّ أن يقال عنه مَلِك، كذلك يصحّ أيضاً أن يقال عنه مالك والله سبحانه مصدر وجود كلّ موجود سواء كان زماناً أو غير زمان، والكلّ معلول له. إذن فمِلْك ومُلك جميع الأشياء له والزمان وغير الزمان عائد إليه، وهو المالك للزمان وغير الزمان.

ويقول أنصار قراءة (مالك) انّ أحد وجوه ترجيح القراءة المذكورة هو السعة المفهوميّة لهذه الكلمة بنحو يتضمّن مفهوم ملِك أيضاً، لانّ الله سبحانه كما هو مالك لذوات الموجودات الإمكانيّة كذلك مالك للسيطرة والحكومة عليها وهو يملك أيضاً سيطرة الآخرين ونفوذهم: ﴿لِلّهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾[1]، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْك﴾.[2] وسلطة أصحاب


[1] . سورة المائدة، الآية 120.

[2] . سورة آل عمران، الآية 26.

تسنيم، جلد 1

443

السلطة، حقّاً كانت أم باطلاً هي عطاء إلٰهيّ مع فرق بينهما وهو انّ حكومة الحقّ مكافأة وحكومة الباطل امهال واستدراج من قبل الله المنتقم والقهّار: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين﴾.[1] إذن فكلّ حكم ونفوذ فهو عطاء من الله والله تعالىٰ له السلطان الأعلىٰ علىٰ هذه الحكومات وهو المالك لها.

والقرآن الكريم يعتبر مُلكَ السماوات والأرض بيد الله فيقول انّ سلطانها بيده: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْك﴾[2] وهذا المُلك يعني السيطرة والحكم علىٰ ظاهر الأشياء وكذلك يعتبر السيطرة والحكومة بيد الله علىٰ أرواح وبواطن الأشياء: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ء﴾.[3] مع هذا الإختلاف في التعبير، حيث انّه لما ذكر المُلك تحدّث عن الأسماء الجماليّة فقال: «تبارك»، ولمّا ذكر الملكوت تحدّث عن الأسماء الجلاليّة فعبّر بكلمة (سبحان).

ترجيح قراءة مالك

انّ كلمة (يوم) و(يومئذٍ) في أكثر موارد استعمالاتها القرآنيّة تتعلّق بعالم الآخرة (البرزخ والقيامة) وفي جميع تلك الموارد تذكر علىٰ نحو الظرفيّة لابمعنىٰ المملوك، وهذا الأمر يوفّر استئناساً قرآنيّاً يمكن علىٰ أساسه اعتبار يوم في الآية الكريمة ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ ظرفاً لا أن يكون


[1] . سورة آل عمران، الآية 178.

[2] . سورة الملك، الآية 1.

[3] . سورة يس، الآية 83.

تسنيم، جلد 1

444

بمعنىٰ (المملوك)، كما يقال مثلاً: (قاضي يوم الدين)، (شفيع يوم الدين)، إذن فالحديث ليس عن انّ الله مالك ليوم الدين ويوم الدين مملوك لله، وانّما الحديث عن انّ الملكيّة المطلقة هي لله سبحانه والمتعلّقة بكلّ الأشياء تظهر في ذلك الظرف الخاصّ وهذا المعنىٰ أنسب الىٰ قراءة «مالك».

وعليه فانّ معنىٰ الآية الكريمة ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ هو انّ الله مالك الأشياء في ذلك اليوم وملكيته تظهر للجميع في ذلك اليوم، وليس معناها انّه مالك لذلك اليوم.[1]

فمعنىٰ مالك يوم الدين بناءً علىٰ ترجيح قراءة (مالك) يبيّن الوجه الإيجابيّ لتلك الحقيقة الّتي بيَّنت وجهها السلبيّ الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه﴾.[2]

وصحيح انّ الملكيّة المطلقة لله علىٰ الأشياء لاتختصّ بعالم الآخرة، ولكن بما انّ هذه الحقيقة تظهر جليّاً للجميع في ذلك اليوم والكل يعترف بها لذلك ذكر يوم الدين في القرآن الكريم بصورة انّه ظرف للملكيّة الإلٰهيّة.

اليوم في القرآن

كما سبق ذكره، فانّ المقصود من اليوم في أكثر الإستعمالات القرآنيّة له هو عالم الآخرة كما في: ﴿يَوْمِ الدِّين﴾، ﴿الْيَوْمِ الآخِر﴾[3]، ﴿يَوْمَ يَقُومُ


[1] . طبعاً الظرفية تستفاد من اضافة مالك الىٰ يوم الدين، لا من كلمة يوم.

[2] . سورة الانفطار، الآية 19.

[3] . سورة البقرة، الآية 8 و... .

تسنيم، جلد 1

445

الرُّوح﴾[1]، ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه﴾[2] وليس المقصود من اليوم هو النهار في مقابل الليل أو ما يقابل الشهر والسنة. ولا بمعنىٰ مجموع الليل والنهار[3] بل هو بمعنىٰ «الظهور»، كما انّ اليوم في الآية الكريمة: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾[4] ليس المقصود منه انّ الله في كلّ يوم وليلة أو في كلّ نهار له شأن، لانّ اليوم نفسه شأن من الشؤون الإلٰهيّة وفعل من أفعاله سبحانه. اذن معنىٰ «كلّ يوم» هو «كلّ ظهور» ويوم القيامة يعني ظهور ذلك.

وفي القيامة تعود الكثرة الىٰ الوحدة ويتّضح للجميع انّ الّذي يدير العالم واحد، وبظهور التوحيد تنتهي أوهام التثنية والتثليث، خلافاً لبداية الخلق حيث ظهور الكثرة من الوحدة فهناك يكون الحديث عن «يومين»، و«أيّام» و«ستّة أيّام».[5] إذن فاليوم ليس في مقابل الليل، ولا اليوم


[1] . سورة النبأ، الآية 38.

[2] . سورة الانفطار، الآية 19.

[3] . ولهذا فانّ كلمة يوم في يوم القيامة ليس لها تثنية ولا جمع بل انّ يوم القيامة بالنسبة للكثير من الناس يمتدّ الىٰ خمسين ألف سنة: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة﴾ (سورة المعارج، الآية 4)، لكنّه بالنسبة للمؤمنين بمقدار الصلاة الواجبة لا اكثر. والنبيّ الأكرم(ص) قال في جواب من سأله: «يا رسول الله ما أطول هذا اليوم! قال: والّذي نفس محمّد بيده انّه ليخفّف علىٰ المؤمن، حتّىٰ يكون أخفَّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا» (بحار الانوار، ج7، ص123).

[4] . سورة الرحمٰن، الآية 29.

[5]. يقول الله سبحانه بالنسبة الىٰ خلق العالم انّه خلق مجموع النظام الموجود في ستّة أيّام: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْش﴾ (سورة الحديد، الآية 4)، لأنّه خلق الأرض في يومين: ﴿خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْن﴾ (سورة فصّلت، الآية 9)، وخلق السماوات السبع في يومين أيضاً: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ... ٭ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْن﴾ (سورة فصّلت، الآيتان 11 و12)، ومابين السماوات والأرض خلقه في يومين أيضاً. امّا تغيير نظام الدنيا في النفخة الاُولىٰ والمجيء بنظام جديد في النفخة الثانية فسيكون خلال يوم واحد: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب﴾ (سورة الأنبياء، الآية 104)، ويقول في موضع آخر: ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه﴾ (سورة الزمر، الآية 67)، وفي موضع آخر يقول: ﴿يَوْمَ تُبَدُّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّماوَات﴾ (سورة ابراهيم، الآية 48) كلّ هذه الأحداث تقع في يوم واحد والمقصود من اليوم هو الظهور.

تسنيم، جلد 1

446

والليلة ولا السنة ولا الشهر، لأنّه عندما تطوىٰ السماوات والأرض كما يُطوىٰ ويُلفّ الكتاب، هنالك لاتبقىٰ حركة وضعيّة ولاانتقاليّة للأرض ولا لكوكب آخر حتّىٰ يتكوّن من حركتها نهار وليل ويوم وشهر وعام، بل يُطوىٰ بساط المتحرّك والحركة.

وعلىٰ هذا فإنّ اليوم في (يوم الدين) والآيات المتعلّقة بالقيامة عندما يُفسَّر بالظهور يجب أن يبيّن ظهور أيّ شيء هو المراد.

الّذي يظهر من الآيات الكثيرة الّتي تتحدّث عن «يوم الدين» هو انّ القيامة يوم ظهور الدين، مثل قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ٭ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ٭ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِين﴾[1]، وبما انّ للدين معاني ومصاديق كثيرة ومختلفة من جملتها «الجزاء» لذلك يقال ليوم القيامة انّه يوم «الجزاء» ايضاً، لكنّ الجزاء جزء من أجزاء الدين فقط (بالمعنىٰ


[1] . سورة الانفطار، الآيات 14 ـ 16 عبَّر القرآن الكريم عن احراق الفجّار في نار جهنّم بعبارة (يَصلون) تارة، واُخرىٰ بعبارة (تصلية)، وهناك فرق بين هذين التعبيرين فالتعبير الأوّل بمعنىٰ الاحتراق السطحيّ والخارجيّ والثاني بمعنىٰ الانصهار والاحتراق الداخليّ والباطنيّ.

تسنيم، جلد 1

447

الشامل للدين) الّذي استعمل في الآية: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَم﴾[1] ونظائرها. وفي القيامة يظهر الدين بجميع أبعاده وجوانبه.

لطائف وإشارات

1. دور ذكر المعاد في الهداية والتربية

القرآن الكريم كتاب يهدف الىٰ هداية وتربية الإنسان: ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِين﴾[2]، وبما انّ أهم عامل في هداية الإنسان هو الاعتقاد بالقيامة وذكر المعاد، وانّ نسيان «يوم الحساب» سبب أساسيّ للفساد ونزول العذاب: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب﴾[3] لذلك فقد جاء ذكر المعاد والقيامة في الكثير من آيات القرآن الكريم.

وبنسيان يوم الحساب، فإنّ تهذيب الروح لن يتحقق حتّىٰ إذا اعتقد الإنسان بالربوبيّة المطلقة لله سبحانه وانّه يربّي ويدبّر العالم بأسره، لكن إذا رأىٰ الإنسان نفسه مسؤولاً أمام ربّ العالمين واعتقد بانّ امامه يوماً يُسأل فيه عن جميع اعماله، فهذا الإعتقاد مؤثّر في تهذيب وتزكية روحه.

في سورة الحمد المباركة جاء ذكر ملكيّة (يوم الدين) الىٰ جانب ذكر الرحمة الإلٰهيّة وذلك لكي يربّي الناس بين الخوف والرجاء. فلو انّ الله سبحانه وُصِف بالرحمٰن والرحيم فقط، وكان الحديث مقتصراً علىٰ جانب رحمة الله فحسب، لكان ذلك مشجّعاً علىٰ تجرّي الناس


[1] . سورة آل عمران، الآية 19.

[2] . سورة البقرة، الآية 2.

[3] . سورة ص، الآية 26.

تسنيم، جلد 1

448

وغرورهم، لكن إذا عرف الله الرحمن الرحيم بصفة (مالك يوم الدين) أيضاً، فإنّ الإنسان سيتحرّك بين الخوف والرجاء، لأنّه يعلم انّ يوم الجزاء فيه جنّة كلّها رحمة وفيه جهنّم محرقة أيضاً ليس فيها شيء من الرحمة: «دار ليس فيها رحمة».[1]

والله سبحانه يربّي الناس بين الخوف والرجاء، ولهذا ترىٰ القرآن في مقام الحثّ علىٰ طلب العلم أيضاً لايتحدّث في البداية عن مدح العلم وعدم استواء العالم والجاهل، بل يتحدّث عن التهجّد والدعاء والمناجاة والبكاء في أعماق الليل والسجود والقيام فيه ويذكر خوف الآخرة وتعلّق القلب برحمة الله وبعد هذا يقول هل يستوي العلماء مع الجهال؟: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون﴾.[2] فالعلم أداة ووسيلة للعمل وليس هدفاً، وقيمته تحصل بعد التهذيب والتقوىٰ والتزكية، والتزكية تتحقّق بواسطة السير بين الخوف والرجاء.

والإنسان لايمكنه أن يعلّق الأمل بنتيجة عمله أبداً، وان يعتمد علىٰ هذا الأمل، لأنّ الإنسان إذا لم يراقب نفسه ولم يسلّم أمره إلىٰ الله، فيحتمل في أيّ لحظة أن يفقد ايمانه ويصبح كافراً.[3] كما انّه من الممكن أن يستيقظ القلب في اللحظات الأخيرة فيلتفت إلىٰ الله


[1] . نهج البلاغة، الكتاب 27، المقطع 10.

[2] . سورة الزمر، الآية 9. في هذه الآية الكريمة تعلّق الرجاء برحمة الله، ولكن الخوف تعلّق بالعاقبة لانّ الله مصدر الرحمة واسناد الغضب إليه بالعرض لا بالذات.

[3] . عَبّرت الروايات عن هذا الزمن القصير بـ(فَواق ناقة) وهي الفترة القصيرة الّتي تفصل بين قبض أصابع الكفّ وبسطها عند حلب الناقة.

تسنيم، جلد 1

449

ويصبح الكافر مؤمناً. إذن ينبغي أن يخاف الإنسان من عاقبة أمره ويعلّق أمله برحمة الله.

والآية الاُخرىٰ الّتي تبيّن التربية الإلٰهيّة للإنسان بواسطة الحركة بين الخوف والرجاء هي: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٭ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم﴾.[1]

هاتان الآيتان الكريمتان تبيّنان ذلك التقسيم الثلاثيّ للعبّاد الّذي ذكرته الروايات: وهو انّ قوماً عبدوا الله خوفاً من النار وقوماً عبدوه شوقاً الىٰ الجنّة وفئة ثالثة وهم الأحرار الّذين عبدوا الله حبّاً له.

وفي هاتين الآيتين ذكر في البداية الفئة الثالثة وهم الأحرار الذين يتّخذون الله وليّاً بما انّه ﴿فَاطِرِ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾، لا لأنّه أنعم عليهم، ولا خوفاً من عقابه لو خالفوه وعصوه. وهذه عبادة الأحرار الّذين يعيشون تحت ولاية الله.

والفئة الثانية تذكر الله بعبارة (يُطعِم ولا يُطعَم) وتعبده بما انّه يربّي عباده سواء كان ذلك في الدنيا أو في الجنّة بالإنعام والإطعام، فهذه العبادة ناشئة من حبّ النعمة والشوق الىٰ الجنّة.

والفئة الثالثة هم أصحاب عبادة الخوف والعبيد الّذين شعارهم: انّنا لو عصينا فنحن نخاف العذاب الأليم يوم القيامة.

وعليه فإنّ الخوف والرجاء يذكران سويّة في المنهج التعليميّ الدينيّ. وأسماء الله الحسنىٰ الاُخرىٰ مثل «ربّ العالمين» و«الرحمٰن»


[1] . سورة الأنعام، الآيتان 14 و15.

تسنيم، جلد 1

450

و«الرحيم» مثيرة لعوامل الرغبة والشوق عند الإنسان، ولكنّ «مالك يوم الدين» تثير عوامل الخوف والرهبة عنده، لأنّها تدلّ علىٰ انّ من يسلك سبيل المعصية ويدنّس نفسه بها فهو سيُبتلىٰ بالعقاب الّذي يظهر في القيامة، وسيكون عقابه بيد الله الّذي تحدّث عن نفسه لغرض التهديد والتخويف[1] في خطابه وتحذيره للقائلين بأنّ عيسىٰ(ع) هو الله، فقال: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعا﴾[2] فالقصد هو انّ الله الّذي تظهر ملكيّته المطلقة في القيامة بهذا الشكل ويغيّر نظام الكون بنحو أسرع من البرق ينبغي أن يخاف منه.

والخلاصة هي انّ الإسم المبارك: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ اضافة إلىٰ كونه حدّاً وسطاً للبرهان علىٰ إثبات حصر الحمد بالله سبحانه وكذلك هو حلقة ربط بين الآيات السابقة واللاحقة، فقد ذكر الىٰ جانب (الرحمٰن الرحيم) لكي لاتكون عبادة الإنسان وميوله اُحاديّة الجانب بل تتأرجح دائماً بين الخوف والرجاء.

2. الملكيّة الحقيقيّة والاعتباريّة

المِلْك الّذي هو أصل اشتقاق المالك فيه أقسام، ويتفرّع علىٰ ذلك انّ الملكيّة لها انحاء متعدّدة أيضاً:

القسم الأوّل: الملكيّة الإعتباريّة؛ كملكيّة الإنسان لثيابه وداره، فهذه الملكيّة في اطار الاُمور الإعتباريّة وضمن دائرة العقود العقلائيّة وهي


[1] . الآية المذكورة ناظرة إلىٰ أصل التخويف ولا اختصاص لها بالمعاد.

[2] . سورة المائدة، الآية 17.

تسنيم، جلد 1

451

قابلة للتغيير بالبيع والشراء وسائر انحاء التعامل، كما انّ مالك البيت عندما يبيعه فانّه يخرج البيت من ملكيّته ويصير مالكاً لعوضه فقط.

القسم الثاني: وهو أعلىٰ درجة من القسم الأوّل وهو (الملكيّة الحقيقيّة المحدودة) مثل ملكيّة الإنسان لأعضائه وجوارحه، فالإنسان يستطيع أن يتصرّف بالإرادة في جوارحه كالعين والاُذن، وهذه ملكيّة حقيقيّة، لكن بما انّ الإنسان موجود محدود، فملكيّته سوف تكون محدودة أيضاً:

القسم الثالث: وهو أعلىٰ وأرفع من القسمين السابقين وهو (الملكيّة الحقيقيّة المطلقة) وهي الملكيّة غير المحدودة لله سبحانه بالنسبة الىٰ الكون بأسره، وكما انّ العلّة التامّة مالكة لجميع شؤون وجود معلولها فالله سبحانه قيّومٌ لجميع نظام الوجود ومالك لجميع شؤونه، وجميع الموجودات مِلك ومعلول متقوّم به.

والملكيّة المتداولة في العلاقات الإجتماعيّة والّتي تنسب الىٰ الناس مثل: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِل﴾[1] هي الملكيّة الإعتباريّة، واعتبارها لأجل تنظيم الشؤون الإجتماعيّة. امّا عندما يكون الحديث عن علاقة الإنسان بالله، فهناك يأتي دور الملكيّة الحقيقيّة المطلقة. ولهذا يقول القرآن الكريم: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِينَ فِيه﴾[2] ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُم﴾[3] فالمال في الحقيقة ملك لله وقد جعله في اختيار


[1] . سورة النساء، الآية 29.

[2] . سورة الحديد، الآية 7.

[3] . سورة النور، الآية 33.

تسنيم، جلد 1

452

الإنسان والإنسان في موضوع الأموال خليفة الله. وإذا كان الإستدلال علىٰ هذا المعنىٰ من الآية الاُولىٰ صعباً فهو سهل من الآية الثانية.

وبناء علىٰ ذلك ففي المسائل الإقتصاديّة الّتي تُنظّم علىٰ أساس العلاقات الإجتماعيّة إذا اكتسب الإنسان مالاً عن طريق مشروع فهو مالك له ولايجوز لغيره أن يتصرّف فيه بدون إذنه، لكن في علاقة الإنسان بالله سبحانه فالمِلْك والمالك كلاهما ملك لله سبحانه.

ويقول الإمام أمير المؤمنين في تفسير: (لا حول ولاقوّة إلاّ بالله): «انّا لانملك مع الله شيئاً ولانملك الاّ ماملّكنا فمتىٰ ملّكنا ماهو أملك به منّا كلّفنا ومتىٰ أخذه منّا وضع تكليفه عنّا».[1]

3. ظهور الملكيّة المطلقة في القيامة

يؤكّد القرآن الكريم في عدد من الآيات نسبة مِلك ومُلك عالم الخلق الىٰ الله سبحانه كما في قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير﴾[2]، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ٭ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ٭ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه﴾[3] فالآية الاُولىٰ تدور حول حكومة الله علىٰ السماوات والأرض، والآية الثانية الّتي تثبت انّ المِلك والمُلك المطلق في يوم الدين لله، تشعر من خلال تعبيرها بعظمة القيامة فتقول: انّ في ذلك اليوم لاملكية لأحد في ايّ شيء، فلا أحد يملك أفعاله حتّىٰ يكون أمره


[1] . نهج البلاغة، الحكمة 404.

[2] . سورة البقرة، الآية 107.

[3] . سورة الانفطار، الآيات 17 ـ 19.

تسنيم، جلد 1

453

نافذاً فيها ولا يملك أفعال الغير، ولايكون مسلّطاً علىٰ شؤونهم، بل انّ الملكيّة لجميع الأعمال وتدبير وادارة جميع الشؤون هي لله.

وعليه فإنّه سواء كان في يوم الدين أو في غيره فانّ المِلك والمُلك مختصّ بالله سبحانه ولاشريك له، وليس الأمر في مقام الثبوت انّ المِلك والمُلك مقسّم وموزّع، بل انّ البحث مرتبط فقط بمقام الإثبات، أي انّنا لانعلم اليوم انّ الأمر بيد من، لكن في يوم القيامة الّذي هو يوم ظهور الحق: ﴿ذٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقّ﴾[1] سوف يتبيّن انّ الأمر كان بيد آخر، والإنسان أحياناً يخدع نفسه بحجّة (الاعتماد علىٰ النفس)، وتارة بعنوان (التشكّر من المخلوق) فيلجأ الىٰ الآخرين ولكن غدا يعلم بانّ الأمر كان ولم يزل بيد الله وحده، والعلل والأسباب الظاهريّة جميعها من شؤون فاعليّة الله سبحانه، ونحن نرىٰ أواسط السلسلة فقط ونغفل عن بدايتها واصلها، ولهذا نحسب أنفساً أو غيرنا فاعلين، ولأجل أن نضفي علىٰ الاعتماد علىٰ غير الله صبغة دينيّة ندخله تحت عنوان انّ من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق[2] ونبرّر بذلك شكرنا للآخرين.


[1] . سورة النبأ، الآية 39.

[2] . يقول الإمام الصادق7 حول الآية الكريمة: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاّ وَهُم مُشْرِكُون﴾ (سورة يوسف، الآية 106): «هو الرجل يقول: لولا فلان لهلكت ولولا فلان لأصبت كذا ولولا فلان لضاع عيالي، ألا ترىٰ انّه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟» ثمّ انّ الراوي يسأل الإمام إذا قلت: لولا انّ الله منّ عليّ بفلان لهلكت فكيف ذلك فقال7: «لا بأس بهذا» (نور الثقلين، ج2، ص476). ومن هذا القبيل التعبير المشوب بالشرك المتداول بين الناس وهو قولهم الله أوّلاً وأنت ثانياً؛ لأنّ الله أوّل لايمكن أن يفرض له ثان: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن﴾ (سورة الحديد، الآية 3). إذن فطبقاً لتوصيات الأئمّة المعصومين(ع ) عندما تريد أن تتكلّم مع من أحسن إليك من الناس فينبغي أن تقول الشكر لله الّذي أحسن اليّ عن هذا الطريق ولو شاء أن يجعله من طريق آخر لفعل. وعلىٰ أساس التوحيد يجب الإعتقاد بأنّ كلّ نعمة هي من الله ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله﴾ (سورة النحل، الآية 53). وبهذه الرؤية لاتضفىٰ القيمة علىٰ الذات تحت عنوان: (الإعتماد علىٰ النفس) ولا تضفىٰ القيمة علىٰ الآخرين بذريعة (التشكّر من المخلوق). وأمّا معنىٰ الحديث المعروف: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين، لم يشكر الله عزّ وجلّ» وكما مرّ ذكره فهو انّ المحسنين مظاهر للاحسان الإلٰهيّ وإذا لم يشكر المتنعّم مظهر احسان وليّ النعمة فانّه لم يشكر وليّ النعمة. فالشكر من المخلوق (بما هو مخلوق) محمود، وبدون لحاظ حيثيّة كونه مخلوقاً فالشكر غير محمود. وجدير بالذكر انّ قوله (مشركون) في آية (وما يؤمن...) غير (الّذين اشركوا) لانّ (الّذين اشركوا) في مقابل المؤمنين وهم الوثنيّون وسائر عبدة الأصنام.

تسنيم، جلد 1

454

وعلىٰ هذا الأساس فانّ (يومئذٍ) في قوله: ﴿والأمر يومئذٍ لله﴾ ظرف انكشاف الحقّ، لاظرف الاختصاص أو الملكيّة، وهذه الآية ناظرة الىٰ مقام الإثبات والكشف لا الثبوت والتحقّق، وهذا هو مسلك التوحيد الأفعاليّ، الّذي يصبح بمقتضاه كلّ انسان بل كلّ فاعل آخر درجةً من درجات فاعليّة الله سبحانه وشأناً من شؤون فاعليّته، والماء والطعام اللذان يرفعان العطش والجوع والنار الّتي هي مصدر الحرارة والدواء الّذي هو وسيلة للشفاء، جميعها من الشؤون الفعليّة ومن درجات فاعليّة الله، وليس لها ايّ نحو من الاستقلال في التأثير والفاعليّة، لأنّ الأفعال لم تُفوّض إليها، والفاعليّة الإلٰهيّة ومقام فعل الله تعالىٰ أمر غير محدود، ولهذا يمكن أن تنسب له جميع الأفعال ومن جملتها الشفاء كما في الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين﴾[1] لأنّ الله سبحانه في مقام


[1] . سورة الشعراء، الآية 80.

تسنيم، جلد 1

455

الفعل (لا في مقام الذات) يشفي المريض بالدواء، والإنسان أيضاً في أفعاله درجة من درجات فاعليّة الله سبحانه.[1]

ففي القيامة اذن يتّضح انّ الله سبحانه كان ولايزال وسيبقىٰ هو الحاكم المطلق، وهذا المعنىٰ يستفاد أيضاً من آيات اُخرىٰ مثل:

أ. ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار﴾[2]، في ذلك اليوم يأتي السؤال لمن اليوم الملك والسلطان، وهذا لايعني انّ الملك والسلطان كانا بالأمس ملكاً للآخرين، والجواب هو انّ الحكم والسلطان مختصّ بالله الواحد القهّار.

ب. ﴿فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقّ﴾[3] هذه الآية الكريمة تصف الله (بالمَلِك) بنحو مطلق، وعليه فلايمكن أن يفرض انّه لم يكن في الدنيا مَلِكاً نافذ الحكم. فهو مالك الملك والسلطان، يؤتي الملك تارة وينزعه اُخرىٰ، مثلاً يجعل الإنسان مالكاً للسمع والبصر: ﴿أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ


[1] . التوحيد الافعالي غير الجبر؛ فالله سبحانه خلق الإنسان موجوداً ذا بُعدين وجعله في مفترق طريقي الخير والشرّ: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن﴾ (سورة البلد، الآية 10) وكلّ واحد من هذين الطريقين له عاقبة ونتيجة واضحة. وجعل العقل والنقل أيضاً دليلين علىٰ الصراط المستقيم. فإذا انتخب الإنسان بحسن اختياره طريق الخير، فهذا العمل الخير من حيث انّه أمر وجوديّ وكمال ونعمة مرتبط بالله، أمّا إذا سلك طريق الشرّ وعصىٰ، فحيث انّ الذنب والمعصية ليست الاّ فقداناً ونقصاً وعدماً فهي ليست مرتبطة بالمبادئ العالية. إذن فالخيرات الّتي هي كمال وجوديّ ترجع الىٰ الربوبيّة، والشرّ والنقص ليس لهما مبدأ بالذات، وسوف يأتي هذا البحث في تفسير الآية 79 من سورة النساء ان شاء الله سبحانه.

[2] . سورة غافر، الآية 16.

[3] . سورة طه، الآية 114.

تسنيم، جلد 1

456

وَالأَبْصَار﴾[1] والمالك الحقيقيّ لعين واُذن الإنسان هو الله سبحانه، وملكيّة الإنسان لأعضائه وجوارحه هي بتمليك من الله له، ومتىٰ ماشاء انتزعها منه، وحينئذ لا يأذن له حتّىٰ بأن يغمّض عينه المفتوحة، فعلىٰ الرغم من انّ غمض العيون من أبسط وأهون الأفعال في الظاهر، لكن مع ذلك فانّ البعض عند الاحتضار يعجز حتّىٰ عن غمض عينيه ويموت وهو مفتوح العينين.

وعلىٰ هذا فانّ سلطان ونفوذ أمر الله (يظهر) في القيامة لا انّه (يحدث)، وان كانت هذه الحقيقة منكشفة لبعض الناس في هذه الدنيا أيضاً، فالموحّد الكامل يرىٰ الآن مايراه الآخرون بعد الموت. وأدعية الأئمّة المعصومين تدلّ علىٰ انّهم كانوا يرون في الدنيا حقيقة: ﴿وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه﴾ وهذه ثمرة التوحيد الأفعاليّ. فالإمام الرضا(ع) يقول في سجود صلاته لله سبحانه: «لك الحمد إن اطعتك ولا حجّة لي إن عصيتك ولا صنع لي ولا لغيري في احسانك ولا عذر لي إن أسأت، ما أصابني من حسنة فمنك يا كريم اغفر لمن في مشارق الأرض ومغاربها من المؤمنين والمؤمنات».[2]

ج. ﴿لِلّهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾.[3]

والآيات السابقة تبيّن ملكيّة وحكومة الله سبحانه بلسان الإثبات. وبعض الآيات بيّنت هذه الحقيقة بلسان السلب أيضاً كما في:


[1] . سورة يونس، الآية 31.

[2] . البحار، ج49، ص117.

[3] . سورة المائدة، الآية 120.

تسنيم، جلد 1

457

أ. ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك﴾[1]، فإذا لم تدلّ آيات مثل: ﴿لِلّهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾ بنحو الإثبات علىٰ حصر المِلك والمُلك في الله سبحانه، فإنّ آيات مثل: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك﴾ تدلّ علىٰ هذا المعنىٰ بنحو جليّ.

ب. يقول الله سبحانه في وصف المؤمنين والموحّدين الصادقين: ﴿يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا﴾.[2] وحيث انّ الله ليس له أيّ شريك في المُلك فالنتيجة هي انّ الملك والسلطان لله وحده.

ج. يقول الله سبحانه لنبيّه الأكرم(ص): ﴿قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ الله﴾[3] أي قُل انّي لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً (فكيف بالنسبة إليكم أنتم) وهذه الآية أكثر صراحة من الآيات السابقة وتدلّ جيّداً علىٰ حصر الملكيّة المطلقة بالله سبحانه.[4]


[1] . سورة الاسراء، الآية 111.

[2] . سورة النور، الآية 55. كلمة شريك في قوله ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك﴾ و«شيئاً» في قوله: ﴿لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا﴾ حيث انّهما نكرة في سياق النفي فيفيدان العموم ويدلاّن علىٰ نفي كلّ شريك في الملك عن الله سبحانه.

[3] . سورة يونس، الآية 49.

[4] . أمّا كلام نبيّ الله موسىٰ7: ﴿رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي﴾ (سورة المائدة، الآية 25) فلا تعارض له مع الآيات السابقة، لأنّه مرتبط بمقام التشريع، لا التكوين، وليس المقصود منه انّي مالك لنفسي وأخي أيضاً مالك لنفسه، بل انّ معناه هو انّ موسىٰ يقول ياربّ انّنا بلّغنا رسالتك وهداك الىٰ الناس، وانّي لاقدرة لي علىٰ اختيار الإيمان الاّ لنفسي فآمنت وأخي هارون كذلك لايملك اختيار الإيمان إلاّ لنفسه فآمن. وأمّا الآخرون فلا نملك زمام اختيارهم للإيمان. وعليه فإنّه ليس سوىٰ الله سبحانه من مالك تكويني أصيل لكلّ شيء في الدنيا والآخرة.

تسنيم، جلد 1

458

د. يخاطب القرآن الكريم الوثنيّين فيقول: إذا كان غير الله مؤثّراً في نظام التكوين فهذا التأثير يمكن تصويره في أربعة وجوه:

الأوّل: أن يكون مالكاً لذرّة من ذرّات العالم بنحو مستقلّ.

الثاني: أن يكون شريكاً مع الله في التملّك لشيء ما.

الثالث: أن يكون عوناً ومساعداً لله في تدبير الأمر وليس مالكاً ولا شريكاً.

الرابع: أن يملك صفة الشفيع وله فقط حقّ السؤال والتضرّع، وبواسطة الشفاعة يستطيع التأثير علىٰ نظام الكون. ثمّ يؤكّد استحالة الوجوه الثلاثة الاُولىٰ، ويجيز الوجه الرابع ولكن بإذن الله سبحانه بشرط أن يتمّ علىٰ يد مثل الأنبياء والأولياء والملائكة: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِن ظَهِيرٍ ٭ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ إِذِنَ لَه﴾[1] فقوله: ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْض﴾ نفي للوجه الأوّل وقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْك﴾ نفي للوجه الثاني وقوله: ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُم مِن ظَهِير﴾ نفي للوجه الثالث.

فغير الله إذن لايملك ذرّة (بالاستقلال) ولا (بالاشتراك) ولا (بالمظاهرة) لكن طريق الشفاعة مفتوح لمن أذن الله له بها. بمعنىٰ انّه بعد الابتهال والتضرّع من قبل الشفيع تنضمّ (رحمة الله) إلىٰ عدله ويتمّ التعامل مع الناس بالشفع (العدل والرحمة)، وباقتران العدل والرحمة تتيسّر اُمور الناس، وإلاّ فانّ تحمّل العدل المحض لله سبحانه أمر صعب وعسير. ولذلك ورد في الدعاء: «اللهمّ عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك»،


[1] . سورة سبأ، الآيتان 22 ـ 23.

تسنيم، جلد 1

459

أي عاملنا باسمين من أسمائك الحسنىٰ: (العدل والفضل) لا (بالعدل) وحده، إذن فشفاعة ووساطة بعض موجودات عالم الإمكان بإذن الله سبحانه ليست محالاً، والله سبحانه وهب مثل هذا الإذن لأنبيائه وأوليائه لا إلىٰ الأصنام العاجزة عن فعل أيّ شيء.

وخلاصة القول هي انّ الله هو المالك في الدنيا والآخرة، وهذه الحقيقة تتجلّىٰ في يوم القيامة، وهو ظرف لظهور ملكيّة الله وليس ظرفاً لتملّكه.

ومع الأخذ بنظر الإعتبار الآيات المذكورة لحدّ الآن يتّضح انّ قوله تعالىٰ: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرَّا﴾[1] لايعني انّكم في يوم القيامة فقط لاتملكون نفعاً ولا ضرّاً وانّكم كنتم تملكون ذلك في الدنيا، بل معناه انّ حقيقة الملكيّة المطلقة لله وحده وتنزيهه من الشريك في المُلك ستتّضح وتظهر للجميع، وان كانت هذه الحقيقة المسلّمة قد كشفت واُميط اللثام عنها لمن يقول: «لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً»[2] ولاتباعه الصادقين.

وطبقاً لما مرّ بيانه فانّ الكلام الباطل لفرعون حول سلطانه: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْر﴾[3] دليل علىٰ انّه لم يكن يعرف ربّ العالمين، وكلّ من يقول: (انّ الأمر اليوم بأيدينا وغداً بيد الله) ففكره فرعونيّ وليس توحيديّاً، لانّ ملكيّة الله بالنسبة لليوم وللغد واحدة. وهذه حقيقة ستظهر للجميع عياناً في يوم القيامة وادراكها في الدنيا صعب


[1] . سورة سبأ، الآية 42.

[2] . البحار، ج40، ص153.

[3] . سورة الزخرف، الآية 51.

تسنيم، جلد 1

460

بالنسبة إلىٰ البعض[1] وبالتحليل يتبيّن انّ الكثير من العقائد والأفكار المنحرفة فرعونيّة.

والّذي يرىٰ نفسه مالكاً أو مَلِكاً في شأن من الشؤون فهو ليس بموحّد. الموحِّد هو الّذي بايع الله، والبيعة تعني أن يبيع الإنسان نفسه وماله لله ثمّ يقول: «لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً» والاعتقاد بملكيّة الشيء بعد بيعه لاينسجم مع البيع، فكما انّنا لانملك البضاعة بعد بيعها، فكذلك بعد بيعتنا مع الله لاينبغي لنا أن نعتقد انّنا مالكون لأنفسنا.

والموحّد الّذي يعتقد انّه لايملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، إذا أراد أن يتصرّف في شأن من شؤون وجوده كالعين والاُذن فإنّ عليه أن يستأذن من المالك الحقيقيّ، لأنّه قد باعهما ولم يعد مالكاً لهما. وإذا لم يستأذن فإنّ تصرّفه سيكون بغير إذن المالك.

ومن الواضح انّ ماذكر في النصوص الدينيّة من تعبيرات: «البيع» و«الشراء»، و«الأجر» وأمثالها، فالمقصود منها هو الترغيب والتشجيع وتكريم الإنسان، وإلاّ فنحن لانملك شيئاً بالأصالة حتّىٰ نبيعه علىٰ الله،


[1] . كما انّ التوحيد هو أعلىٰ المعارف الإلٰهيّة فهو كذلك أصعبها وأشقّها أيضاً، والنبيّ الأكرم(ص) يقول: «ماقلت ولا قال القائلون قبلي مثل لا إله إلاّ الله» (توحيد الصدوق، باب ثواب الموحّدين والعارفين، الحديث الأوّل) أي انّني والأنبياء قبلي لم نأت بشيء أعظم من (لا إلٰه إلاّ الله)، وأمير المؤمنين7 في جواب من سأله عن المسافة بين موضع وقوفه وبين العرش، قال في البداية: سل تفقّهاً ولا تسأل تعنّتاً، اي ينبغي أن يكون السائل طالباً للعلم وليس لأغراض اُخرىٰ ثمّ قال انّ المسافة بيننا وبين العرش هي: «أن يقول قائل مخلصاً لا إلٰه إلاّ الله» (البحار، ج10، ص122) ومن هذا يُعلم بانّ التوحيد معرفة وعقيدة تعرج بالإنسان من الأرض الىٰ العرش.

تسنيم، جلد 1

461

ولا انّ الله مدين لنا بشيء حتّىٰ نستردّه منه ولا أنّنا عملنا عملاً عاد عليه بالنفع والفائدة حتّىٰ نستحقّ منه الأجر والمكافأة.

تنويه: القيامة ليست ظرفاً لظهور ملكيّة الله فحسب، بل هي ظرف لظهور جميع صفاته تعالىٰ، سواء الصفات الجماليّة، مثل (المَلِك) أو الصفات الجلاليّة، مثل (القدّوس). ففي القيامة يظهر انّ الله سبحانه كان ولايزال وسيبقىٰ «القدوس السلام المؤمن المهيمن...».

والله سبحانه يظهر في القيامة بوجه: (ارحم الراحمين) وكذلك بوجه: (أشدّ المعاقبين). ومن الواضح انّ معرفة كنه الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ ليست في وسع أحد، لكنّ أصل التوحيد ونزاهة الله من أيّ شريك هو أمر سيظهر جليّاً في يوم القيامة.

4. انّ القيامة موجودة الآن

مضىٰ في البحث التفسيريّ انّ القيامة موجودة في الوقت الحاضر. وهذا المدّعىٰ قابل للإثبات بواسطة عدد من البراهين العقليّة والشواهد النقليّة، وفيما يلي تتمّ الإشارة الىٰ بعض الشواهد النقليّة:

الأوّل: يعبّر القرآن الكريم عن عدم التفات المفسدين الىٰ المعاد بـ(الغفلة) فيقول: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد﴾[1] فها هو قد جاء بالمفسد والعاصي الىٰ محكمة عدله ليريه القيامة والعذاب ويقول له: انّك كنت غافلاً عن هذه الحقيقة وهي انقطاع الأسباب والأنساب ورجوع جميع الأشياء الىٰ المبدأ القهّار في يوم القيامة.


[1] . سورة ق، الآية 22.

تسنيم، جلد 1

462

وهم أنفسهم يقولون: ﴿يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذَا﴾.[1] والغفلة تصدق في الموضع الّذي يكون الشيء فيه موجوداً ولكن لايُلتفت إليه، وإلاّ فلايصحّ أن يعبّر بالغفلة عن الشيء المعدوم الّذي لاوجود له.

وفي موضع آخر يقول تعالىٰ: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون﴾[2] أي انّ عبيد الدنيا لم يبصروا الاّ الظاهر وهو الحياة الدنيا وهم غافلون عن باطن الدنيا وهو الآخرة.

الثاني: الآية الكريمة: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ٭ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ٭ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين﴾[3] فهي تدلّ بصراحة علىٰ رؤية النار من قِبَل أصحاب علم اليقين، وهذا ناظر الىٰ الشهود في الدنيا وإلاّ فإنّ جميع الناس سوف يرون النار بعد الموت، سواء كان لديهم علم اليقين في الدنيا أم لا.

والحجاب المانع من ظفر الإنسان بعلم اليقين ورؤية الجنّة والنار هو حجاب الذنب، وأهل الباطن بما انّهم منزّهون من الذنب، فهم الآن يرون جهنّم والجنّة ويرون كيف انّ المفسدين والمجرمين يتقلقلون بين أطباق جهنّم وكيف انّ أصحاب الجنّة يتمتّعون بنعم الجنّة، كما يرون أيضاً كيف ينجو التائب من جهنّم بواسطة التوبة، وكيف يأكل غاصبو مال اليتيم النار: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارا﴾.[4]

الثالث: انّ الرسول الأكرم(ص) في المعراج رأىٰ الجنّة والنار عن قرب


[1] . سورة الأنبياء، الآية 97.

[2] . سورة الروم، الآية 7.

[3] . سورة التكاثر، الآيات 5 ـ 7.

[4] . سورة النساء، الآية 10.

تسنيم، جلد 1

463

واطّلع علىٰ أطعمة وأشربة المتّقين والمجرمين. فلو كانت الجنّة والنار غير موجودتين قبل انتهاء النظام الدنيوي، لما رأىٰ النبيّ في المعراج تلك المشاهد. وجاء في بعض الروايات عن العترة الطاهرة(ع ) حول من ينكر الوجود الفعلي للجنّة والنار: «ما اُولئك منّا ولا نحن منهم...».[1]

الرابع: ماروي عن حارثة بن مالك عندما سأله النبيّ الأكرم(ص) «كيف أصبحت؟» فقال: أصبحت موقناً. فقال له النبيّ: «ما علامة يقينك» فقال: كأنّي أنظر الىٰ أهل الجنّة وهم فيها مُنعّمون وكأنّي أنظر الىٰ أهل النار وهم فيهم معذّبون، وكأنّي أسمع زفير جهنّم وشهيقها يرنّ في اُذني. فقال النبيّ(ص) مؤكّداً ومؤيّداً لكلامه وداعياً له: «عبدٌ نوّر الله قلبه».[2] وعلىٰ الرغم من انّ حارثة عبّر بكلمة (كأنَّ) لا (انّ) ولكن يجب الالتفات الىٰ انّ الشيء المعدوم لا يعبّر عنه حتّىٰ بـ(كأنَّ) لانّ المعدوم لايكون مشهوداً لاتحقيقاً ولاتقريباً.[3]

الخامس: البرزخ الّذي هو عالم بين الدنيا والقيامة لابدّ أن يكون واقعاً حتماً بين أمرين موجودين، ولو كان العالم الثالث (القيامة) معدوماً ولم يكن هناك الاّ عالمان هما (الدنيا والبرزخ) لم يكن البرزخ عندئذٍ برزخاً، لأنّه لايقع حينئذٍ بين عالمين.


[1] . البحار، ج4، ص4.

[2] . اُصول الكافي، ج2، ص53.

[3] . في هذا الحديث الشريف ورد تعبير «كأنّ» حول الإدراك (الرؤية) لاحول المورد المُدرك. فإذا تعلّقت كأنّ بالمُدرَك فهي تصدق علىٰ المعدوم أيضاً، ولكن في الموضع الّذي تتعلّق فيه بالإدراك فالمُدرَك قد اُخذ مفروغاً عنه ومسلّماً، فهذا تشبيه في العلم، لا في المعلوم.

تسنيم، جلد 1

464

والبرزخ جسر يربط الدنيا بالقيامة الكبرىٰ. وحقيقته امّا لفحة من ألسنة نار جهنّم أو نفحة من نسيم رياض الجنّة. اذن فالوجود الفعليّ للبرزخ بما هو برزخ هو بنفسه دليل علىٰ وجود القيامة بالفعل، وعلىٰ هذا الأساس جاء في الكثير من آيات القرآن التعبير بـ«الإعداد» والتهيئة للجنّة والنار، كما في الآية الكريمة: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين﴾[1]، ﴿فَاتَّقُوْا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين﴾.[2]

فالتعبير بـ(الإعداد) فيه ظهور بالوجود، وبما انّ الإعداد قد بُيّن بصيغة الفعل الماضي، ويكون حمله علىٰ المضارع علىٰ نحو المجاز من باب انّ المستقبل المحقّق الوقوع بحكم الماضي وهو يحتاج الىٰ قرينة خارجيّة، وبما انّه لاتوجد قرينة خارجيّة فالتعبير بالإعداد يدلّ علىٰ الوقوع في الماضي حقيقة وهذا يعني انّ الجنّة والنار موجودتان فعلاً.

السادس: جاء في الروايات حول سيرة الإمامين السجّاد والصادق 8 انّهما عند تلاوتهما لسورة الحمد كانا يكرّران الآية الكريمة: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ حتّىٰ يُغمىٰ عليهما. وفي رواية عن الإمام السجّاد(ع) عندما لم يهرب من نار مضطرمة بالقرب منه فقيل له لِمَ لم تهرب منها؟ فقال(ع) «ألهتني عنها النار الكبرىٰ».[3] وهذا يكشف عن انّ الإمام كان يرىٰ «يوم الدين» و﴿نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ ٭ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى


[1] . سورة آل عمران، الآية 133.

[2] . سورة البقرة، الآية 24.

[3] . البحار، ج46، ص80.

تسنيم، جلد 1

465

الأَفْئِدَة﴾[1]، والاّ فانّ اللفظ والمفهوم لايؤدّيان بالإنسان الىٰ الإغماء، والإيمان الصادق علامته أن يرىٰ الإنسان جهنّم فعلاً، لا أن يقيم دليلاً عقليّاً علىٰ وجودها.

انّـك فنّان إذا رأيت النـار عيـانا لا أن تقول دلّ علىٰ النار الدخان

وخلاصة القول هي انّ الجنّة والنار موجودتان الآن وبالفعل، ولكن بلحاظ حركة الزمان نحن لم نصل إليهما لحدّ الآن، وعدم الوصول لايدلّ علىٰ عدم الوجود، والّذين اجتازوا المكان والزمان وطووا الماضي والمستقبل فهم قبل انتهاء النظام الدنيوي يرون القيامة جيداً ونحن أيضاً نسير نحوها شيئاً فشيئاً. والتعبيرات القرآنيّة والروائيّة الظاهرة في حدوث القيامة في المستقبل مقصودها انّ الناس سوف يصلون الىٰ القيامة فيما بعد لا انّ القيامة معدومة الآن وبعد ذلك ستوجد.

5. القيامة، يوم ظهور الدين

انّ الله سبحانه أطلع الناس في الدنيا علىٰ ظواهر الدين كلزوم الطاعة واجتناب المعصية، ولكن لم يُشِر الاّ الىٰ شيء يسير من أسرار الدين، كوصفه للغيبة علىٰ لسان الإمام السجّاد(ع) حيث يقول: «ايّاكم والغيبة فانّها إدام كلاب النار».[2] وفي القيامة تظهر حقيقة وباطن الغيبة وسائر الذنوب، بل جميع حقائق الدين الأعمّ من الجزاء وغيره لانّ عنوان الدين قد استعمل في موارد متعدّدة بمعنىٰ الشريعة الإلٰهيّة والملّة الجامعة للعقيدة والأخلاق والعمل.


[1] . سورة الهمزة، الآيتان 6 ـ 7.

[2] . البحار، ج72، ص256.

تسنيم، جلد 1

466

ولهذا وصف يوم القيامة في القرآن الكريم بأنّه (يوم الدين) كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ٭ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ٭ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ٭ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ٭ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ٭ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّه﴾[1]، ﴿وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِع﴾[2]، ﴿يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّين﴾.[3] فالآيات المذكورة تخبر بانّ وقوع يوم الدين (القيامة) حتميّ وواقعيّ، وانّ في الدين اضافة


[1] . سورة الانفطار، الآيات 14 ـ 19 فالناس في الدنيا يعملون امّا علىٰ أساس (العلاقات) أو طبقاً (للقوانين). أمّا في القيامة فلا القوانين والمقرّرات تنفع (عمل الإنسان لنفسه) ولا العلاقات (عمل الآخرين للإنسان). فالقرآن يخبر عن انقطاع القوانين بقوله تعالىٰ: ﴿تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَاب﴾ (سورة البقرة، الآية 166) ففي الدنيا وطبقاً لنظام العلّة والمعلول فإنّ الجائع يشبع بالطعام والظمآن يرتوي بالماء، لكن هذه الأسباب تنقطع يوم القيامة، ولذلك فلا سبيل لرفع الجوع والعطش في ذلك اليوم. وحول انقطاع العلاقات يقول أيضاً انّ النسب ينتهي دوره بعد نفخ الصور ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُم﴾ (سورة المؤمنون، الآية 101) فالكل يخرج من التراب وقد طويت صفحة الأنساب والعلاقات، وإذا كان الأخ في الدنيا يحلّ مشكلة أخيه أو الأب يحلّ مشاكل اُسرته، فإنّه في القيامة ينتقض نسيج العلاقات: ﴿لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة﴾ (سورة البقرة، الآية 254)، فلا معاملة أو عقد ينفع ولا صديق أو خليل يشفع. ولا أحد يملك في ذلك اليوم شيئاً والأمر بيد الله وحده. نعم الشفاعة أمر ثابت وحق ولكن التمهيد لها يتمّ في الدنيا، فمن هيّأ في الدنيا أسباب سعادة الآخرة جنىٰ في القيامة ثمار عمله، امّا إذا لم يكن له في الدنيا علاقة بشفعاء الآخرة ففي القيامة لايمكنه الاستعانة بهم.

[2] . سورة الذاريات، الآية 6.

[3] . سورة الذاريات، الآية 12.

تسنيم، جلد 1

467

الىٰ الجزاء حقائق كثيرة، كالتوحيد والنبوّة والولاية وباطن الناس وباطن التكليف وأسرار العبادات، وفي يوم القيامة يظهر جميع ذلك.

والله سبحانه يقول حول ظهور باطن القرآن في يوم القيامة: ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُه﴾[1] وتأويل القرآن هو حقيقته العينيّة والخارجيّة. فالمعارف الواسعة للقرآن الكريم تظهر في القيامة بدرجة لاتبقي أيّ نحو من الاختلاف والشكّ في جميع الاُمور. فيتبيّن الحكم الحقّ من بين الأحكام المختلفة ويتميّز المذهب الحقّ من بين الملل والمذاهب المتعدّدة، كما لايبقىٰ في ذلك اليوم محلّ للكفر أو الشكّ، وفي الدنيا يمكن أن يلجأ الإنسان إلىٰ المحكمة الإسلاميّة ومع ذلك يرجع معترضاً علىٰ الحكم ويرتاب في أمر القاضي هل انّه حكم عليه بالحق أم بغير حقّ، ولكن في يوم القيامة تُزال جميع الأستار والحجب ولايبقىٰ أيّ مجال للشك عند الجميع.

وقد عبّر القرآن الكريم عن حقيقة ظهور جميع معارف وأبعاد الدين في القيامة بعبارة (توفية الدين) فقال: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين﴾.[2] وتوفية الدين الحقّ تعني كشف كلّ أسرار الدين الباطنيّة للجميع. ولو كان الدين بمعنىٰ الجزاء فقط لم يقل في ذيل هذه الآية الكريمة: ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين﴾ بل كان يقول بدلاً عن ذلك: «ويعلمون انّ الله هو القهّار المنتقم»، أي يطّلعون في يوم القيامة علىٰ قهر الله وانتقامه. في حين انّ الناس يدركون في يوم


[1] . سورة الأعراف، الآية 53.

[2] . سورة النور، الآية 25.

تسنيم، جلد 1

468

القيامة انّ الله كان هو الحقّ الواضح المبين ولكنّهم لم يكونوا يرونه وإن كان الحقّ في الدنيا واضحاً أيضاً، لأنّ الله سبحانه الّذي هو نور السماوات والأرض أي انّ به يتمّ ظهور السماوات والأرض: ﴿اللهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾[1] لاحجاب عليه، وحرمان الإنسان من رؤيته، سببه هو الحجاب الّذي يسدله الإنسان علىٰ نفسه.[2]

ولذلك يخبر القرآن عن انّ علىٰ عيون الكفّار غطاءً وحجاباً: ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي﴾[3] وانّ العيون الباطنيّة للبعض عمياء: ﴿لاَ تَعْمَىٰ الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾.[4]

ويجدر بنا أن نذكّر بهذه الملاحظة القرآنيّة في ختام هذا البحث وهي انّ الإختلاف في الدنيا لاينتهي، وحتّىٰ في زمان ظهور الإمام صاحب العصر (عج) فالإختلاف موجود أيضاً، لأنّ الكفر والنفاق واليهوديّة والنصرانيّة، علىٰ الرغم من اخماد صوتهم واستسلامهم


[1] . سورة النور، الآية 35.

[2] . وعليه فإنّ الإنسان يستطيع أن يرىٰ الله سبحانه في الدنيا، لكن بعين السِّر لا بعين الظاهر، والإمام الصادق7 أجاب أبابصير عندما سأله عن رؤية المؤمنين لله في يوم القيامة قال «قبل يوم القيامة رأوه عندما أجابوا نداء ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُم﴾» (سورة الأعراف، الآية 172). ثمّ قال الإمام لأبي بصير وكان مكفوف البصر «أولست ترىٰ الله الآن؟» ثمّ استأذن أبوبصير من الإمام أن يروي هذا الحديث ولكن الإمام لم يأذن له، والسرّ في ذلك وضّحه الإمام لأبي بصير وقال: «انّ من يستمع الىٰ هذا الحديث لايدرك معنىٰ رؤية الله ويظنّ انّها الرؤية بالعين الظاهريّة فينكرها فيكفر بالله». (توحيد الصدوق، باب ماجاء في الرؤية، ح20)

[3] . سورة الكهف، الآية 101.

[4] . سورة الحجّ، الآية 46.

تسنيم، جلد 1

469

لسلطان الحكومة الإسلاميّة ودفع اليهود والنصارىٰ للجزية، لكن يبقىٰ لديهم نشاط وفعّاليّات تؤدّي في الأخير الىٰ استشهاد الإمام المهديّ (عج) علىٰ يد أعدائه المجرمين.

وبقاء اليهود والنصارىٰ الىٰ يوم القيامة يمكن استفادته من بعض آيات القرآن الكريم كقوله تعالىٰ: ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَة﴾[1]، ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَة﴾.[2] وعليه فإنّ يوم ظهور المصلح الكبير أيضاً ليس يوماً للظهور التامّ للحقّ، بل انّ التوفية الكاملة من قبل الله لجميع حقائق الدين لاتتمّ الاّ في عرصة القيامة وحدها، وبنحو يرىٰ فيه الجميع الحقّ جليّاً وواضحاً.

البحث الروائي

1. معنىٰ الدين وسعة ملكيّة الله

ـ عن الصادق(ع)... ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ قال: «يوم الحساب».[3]

ـ عن الرضا(ع): «﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ اقرار له بالبعث والحساب والمجازاة».[4]

ـ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾... «وايجاب ملك الآخرة له كايجاب ملك الدنيا».[5]

اشارة: الدين بمعنىٰ الجزاء المطلق وهو شامل للجزاء في الدنيا وجزاء الآخرة وإن كان الجزاء المشهور والتامّ والكامل في القيامة، لكن المطلق


[1] . سورة المائدة، الآية 14.

[2] . سورة المائدة، الآية 64.

[3] . نور الثقلين، ج1، ص19.

[4] . من لا يحضره الفقيه، ج1، ص269.

[5] . نور الثقلين، ج1، ص19.

تسنيم، جلد 1

470

يشمل الفرد غير الشائع أيضاً، وإن لم يحمل عليه خاصّة. والنتيجة هي انّ هناك آياتٍ كثيرةٍ في القرآن تحدّثت عن الجزاء الحسن للمتّقين والجزاء الأليم للمجرمين كالآية 126 من سورة الانعام، والآيات 80 و105 و110 و121 و131 من سورة الصافّات، ولامالك لذلك اليوم سوىٰ الله. اذن فمعنىٰ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ هو الجامع لجزاء الدنيا والآخرة.

2. اولياء الله و ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾

ـ عن الزهري، قال كان علي بن الحسين(ع) إذا قرأ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ يكرّرها حتّىٰ يكاد أن يموت.[1]

ـ عن السجّاد(ع): «لو مات مَن بين المشرق والمغرب لما استوحشت لو كان القرآن معي»، وإذا قرأ من القرآن ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾ كرّرها وكاد أن يموت ممّا دخل عليه من الخوف.[2]

3. قراءة مَلِك ومالك

ـ عن داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقرأ مالا اُحصي ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾.[3]

ـ عن محمّد بن علي الحلبي عن ابي عبد الله(ع) انّه كان يقرأ ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾.[4]

٭ ٭ ٭


[1] . البحار، ج82، ص23.

[2] . نفس المصدر، ص66.

[3] . نور الثقلين، ج1، ص19؛ البحار، ج82، ص22.

[4] . تفسير العيّاشي، ج1، ص22؛ البحار، ج82، ص22.

تسنيم، جلد 1

471

إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

خلاصة التفسير

انّ المعرفة والاعتقاد بالأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ (الاُلوهيّة والربوبيّة والرحمانيّة والرحيميّة والمالكيّة) نقلت الإنسان الغائب عن الله الىٰ مقام الحضور وأهّلته للخطاب المباشر مع الله ولهذا فانّ العبد السالك بعد معرفة الله والاعتقاد بأسمائه الحسنىٰ وجد نفسه حاضراً أمام الله، وبالالتفات من الغيبة الىٰ الخطاب يقول: إلٰهي ايّاك وحدك نعبد وايّاك وحدك نستعين (حتّىٰ في العبادة) ولا أحد سواك أهل للعبادة والخضوع.

فالله سبحانه هو المعبود الوحيد والمستعان الفرد في عالم الخلق، لأنّه المبدأ الوحيد لجميع أنواع الكمال فهو (الله)، وهو الّذي يدبّر ويربّي كلّ موجود فهو (ربّ العالمين) وله رحمة لاحدّ لها ولا منتهىٰ لأمدها وهي لجميع المخلوقات ورحمة خاصّة بالمؤمنين فهو (الرحمٰن الرحيم)، وهو المرجع والحاكم الوحيد الّذي يَظهر سلطان ملكه للجميع في القيامة وفي ذلك اليوم يثيب ويعاقب بعدله وحكمته فهو (مالك يوم الدين).

تسنيم، جلد 1

472

التفسير

ايّاك: ضمير منفصل مفعول به وهو مقدّم علىٰ الفعل (نعبد) لإفادة الحصر. اضافة الىٰ ذلك فانّ هنا في خصوص هذا المقام فائدة مهمّة تمّت ملاحظتها أيضاً وهي تقدّم المعبود علىٰ العابد والعبادة، وكما سيتّضح خلال البحث، فانّ التوحيد الخالص يقتضي حصر المشهود بالمعبود، بحيث لايُرىٰ عندئذٍ لا العابد ولا عبادته، حتّىٰ يُتخلّص من آفة التثليث في المشهود ويُتجنّب من التثنية فيه أيضاً.

نعبد: «العبد» بمعنىٰ الإنسان المملوك للغير وإذا جرّدنا هذه الكلمة من الصفات الإنسانيّة فانّ معناها (الموجود ذو الشعور الّذي هو مِلك للغير)، وبهذا الإعتبار يطلق علىٰ جميع الموجودات ذوات الشعور: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمٰنِ عَبْدا﴾[1] وكلمة (العبادة) تُفيد هذا المعنىٰ أيضاً، وإن كان معناها يتغيّر تبعاً للاشتقاقات المتعدّدة واختلاف الموارد.

قال بعض علماء اللغة: «أصل العبوديّة بمعنىٰ الخضوع»[2]، لكن ليس هذا هو المعنىٰ اللغويّ للكلمة بل هو لازم للمعنىٰ، لانّ الخضوع يتعدّىٰ باللام مثل قوله تعالىٰ ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين﴾[3] بينما كلمة العبادة تتعدّىٰ بنفسها. إذن فالعبادة ليست بمعنىٰ الخضوع.

وبالعبادة لله يُظهر الإنسان ويثبت مملوكيّته لربّه، ولذلك لا تجتمع


[1] . سورة مريم، الآية 93.

[2] . الجوهري في الصحاح، كلمة «عبد».

[3] . سورة الشعراء، الآية 4.

تسنيم، جلد 1

473

العبادة مع التكبّر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين﴾.[1]

نستعين: وهي طلب العَون وهو بمعنىٰ مطلق النصرة والمساعدة.

ومفردات المعاونة والمساعدة والمظاهرة والمعاضدة، جميعها بمعنىٰ (المشاركة في أداء العمل)، لكن في كلّ واحدة منها لوحظت جهة خاصّة، فالعمل الّذي يقوم به عدّة من الناس بسواعدهم، يسمّىٰ مساعدة، وإذا قاموا به بأعضادهم سمّي معاضدة وإذا اجتمعت أظهرهم لتوجد قوّة أكبر نسمّي ذلك العمل مظاهرة. وكلّ هذه العناوين مشتقّة من الجوارح، وأمّا العون والمعاونة فلوحظ فيها التقوية فقط دون لحاظ أيّ صفة اُخرىٰ، ولهذا يعبّر بها عن مطلق (المساعدة والمشاركة في أداء العمل).

سرّ الإلتفات من الغيبة الىٰ الخطاب

في الآيات الاُولىٰ من سورة الحمد كان الكلام بنحو (الغيبة)، وفي القسم الأخير من السورة الّذي يبدأ بالآية محلّ البحث تحوّل الىٰ لسان الخطاب والحضور. وهذا التغيير في السياق يسمّىٰ في العلوم الأدبيّة (البديع) بـ : (الالتفات من الغيبة الىٰ الخطاب) وهو مجرّد تفنّن في الأدب ولأجل تزويق الكلام، وزمامه أيضاً بيد المتكلّم، فإذا أراد أن يضفي علىٰ كلامه نحواً من الجمال ويجعله جذّاباً وملفتاً، فإنّه يفرض الشخص غائباً تارة واُخرىٰ يجعله مُخاطباً لكن في هذه الآية الكريمة،


[1] . سورة غافر، الآية 60.

تسنيم، جلد 1

474

ليس الإلتفات من الغيبة الىٰ الخطاب تفنّناً أدبيّاً محضاً كي يكون زمامه بيد المتكلّم فيفرض الله غائباً تارة ويفرضه حاضراً تارة اُخرىٰ، بل انّ زمام الأمر هو بيد المخاطَب.

وتوضيح ذلك: هو انّ فهم الأسماء الحسنىٰ والإعتقاد بها في بداية هذه السورة لأجل دعوة الإنسان الغائب وجذبه الىٰ الحضور أمام الله سبحانه. فإذا ما ثبت لأحد انّ الله سبحانه جامع لكلّ كمال وجودي فهو (الله) وانّ له ربوبيّة مطلقة علىٰ كلّ عوالم الوجود الإمكانيّ فهو (ربّ العالمين)، وانّ رحمته المطلقة قد وسعت كلّ شيء فهو (الرحمٰن) وانّ له رحمة متميّزة اختصّ بها المؤمنين والسالكين سبيله فهو (الرحيم)، وفي النهاية ستظهر ملكيّته المطلقة لكلّ شيء في (يوم الدين) فهو (مالك يوم الدين) ولا موجود سواه أهلٌ للخضوع والمخاطبة، فإذا آمن الشخص بجميع هذه المعارف، فانّ مثل هذا الشخص الّذي كان غائباً لحدّ الآن، سيتحوّل من الغيبة الىٰ الحضور وسيرىٰ نفسه أمام الله سبحانه ويجد نفسه جديراً بالتخاطب معه. إذن فالاختلاف في المتكلّم الّذي تحوّل من الغيبة الىٰ الحضور، لا في المُخاطَب الّذي لايغيب أبداً، لكنّ الّذي لم يدرك هذه الأسماء الحسنىٰ أو لم يعتقد بها فليس جديراً بالخطاب ولايحقّ له أن يكون حاضراً أمام الله تعالىٰ، لأنّه هو غائب؛ وإن كان الله سبحانه هو المشهود المطلق.

براهين حصر العبادة والإستعانة

انّ الآية الكريمة ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ تدلّ بوضوح علىٰ حصر العبادة والإستعانة بالله سبحانه، والأسماء الحسنىٰ: الله وربّ العالمين

تسنيم، جلد 1

475

والرحمٰن والرحيم ومالك يوم الدين الّتي ذكرت في الآيات السابقة اضافة الىٰ انّ كلاًّ منها حد وسط في البرهان علىٰ إثبات الحمد وحصره بالله سبحانه، فهي أيضاً حدّ وسط في البرهان علىٰ (حصر العبادة) و(حصر الاستعانة) به تعالىٰ. مثلاً بالاستفادة من اسم (الله) يقرّر البرهان علىٰ النحو الآتي: (انّ الذات المقدّسة لله جامعة ومتضمّنة لجميع أنواع الكمال الوجودي[1] ومثل هذا الموجود الكامل هو المعبود الوحيد والمستعان الوحيد لجميع عوالم الوجود، وعليه فانّ العبادة والاستعانة مختصّة به).

والإختلاف الموجود بين البراهين المذكورة هو انّ بعضها كالبراهين الّتي حدّها الوسط هو (الجامع للكمال) و(الربوبيّة المطلقة) و(الرحمة الواسعة) و(الرحمة الخاصّة) ناظرة الىٰ النظام الفاعليّ لعالم الخلق وصدور الموجودات من مبدأ الوجود، والبعض الآخر كالبرهان الّذي حدّه الوسط هو (ملكيّة يوم الدين) ناظر الىٰ النظام الغائيّ ورجوع الموجودات الىٰ الله سبحانه، ومن الواضح انّ للرجوع مراتب ومراحل، والمرحلة النهائيّة فيه هي القيامة الكبرىٰ، وبعض مراحل النظام الغائيّ تقع أيضاً قبل القيامة الكبرىٰ.

ويستفاد من بعض آيات القرآن الكريم أيضاً برهان ناظر الىٰ كلا النظامين الفاعليّ والغائيّ، مثل قوله تعالىٰ: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا


[1] . مضىٰ في البحث التفسيري لآية: ﴿اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِين﴾ انّ الله ليس اسماً للهويّة الغيبيّة المحضة لانّ تلك الهويّة المطلقة لا إسم لها أصلاً. (الله) اسم للذات المقدّسة الجامعة والمستجمعة لجميع الصفات الكماليّة، (ص365 تحت عنوان اختصاص الحمد بالله سبحانه من هذا الكتاب).

تسنيم، جلد 1

476

تَعْمَلُون﴾[1] اي ليس ظاهر السمٰوات والأرض وحده لله بل انّ غيبها وباطنها أيضاً لله، وإليه يرجع الأمر كلّه. إذن فكلّ شيء جاء منه وإليه يعود، وعليه يجب لا علىٰ الإنسان وحده بل علىٰ كلّ موجود أن يقول: ﴿إِنَّا لِلّهِ وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُون﴾.[2] ويحتمل أن يكون معنىٰ رجوع الأمر إلىٰ الله هو عودة تدبير وادارة أفعال النظام الكونيّ. وعلىٰ كلّ حال فإنّ الله الّذي هو مالك لظاهر وباطن السماوات والأرض في قوس النزول، وفي قوس الصعود أيضاً ترجع إليه جميع الاُمور هو وحده المستحقّ للعبادة. ولهذا ترىٰ في هذه الآية الّتي بيّن في قسمها الأوّل النظام الفاعليّ وفي قسمها الأخير النظام الغائيّ انّه جاء بـ (فاء التفريع) وقال: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه﴾.

فالإنسان، موحِّداً كان أم ملحداً، فإنّه ضعيف ومحتاج: ﴿خُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفا﴾[3]، لكنّ الموحّد يرىٰ انّ الله يقوّي ضعفه ويقضي حوائجه، بينما الملحد يرىٰ انّ الطبيعة تدبّر أمره. ومفاد هذه الآية الكريمة هو حيث انّ زمام الاُمور في الصعود والنزول هو بيد الله سبحانه لذلك وجب أن يكون هو الملجأ الوحيد في العبادة والتوكّل.

وفي نظام الوجود ليس هناك شيء يمكنه ان يبقىٰ في محلّه راكداً واقفاً لايتحرّك نحو الله ولايمكنه أن يختار له في سيره الوجوديّ سبيلاً آخر لاينتهي به الىٰ الرحمة أو الغضب الإلٰهيّ، فإذا كان الموجود


[1] . سورة هود، الآية 123.

[2] . سورة البقرة، الآية 156.

[3] . سورة النساء، الآية 28.

تسنيم، جلد 1

477

متحرّكاً، شاء أم أبىٰ، فالجدير به أن يعود الىٰ موطنه الأصلي، ويرتمي في أحضان الرحمة الإلٰهيّة.

وجملة: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون﴾ في ذيل الآية المذكورة برهان أيضاً علىٰ انّ عبادة العابدين وتوكّل المتوكّلين، جميعه محفوظ ومثبّت عند الله. وعدم غفلة الله سبحانه عن عبادة وتوكّل العباد ترغيب وتشجيع لهم علىٰ العبادة والتوكّل ودليل أيضاً علىٰ حفظ عبادتهم وتوكّلهم.

وفي بعض آيات القرآن الكريم مضافاً الىٰ ذكر (الإسم الجامع للكمال) و(الربوبيّة)، فقد ذكرت صفة (الخالق) كحدّ وسط في البرهان علىٰ ضرورة العبادة والتوكّل وحصرهما في الله سبحانه: ﴿ذٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَإِلٰهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيل﴾[1] فالإنسان يجب أن يعبد ربّه وخالقه ويتوكّل عليه، والله وحده ربّ وخالق الإنسان، إذن فهو وحده المعبود وهو وحده الملجأ للإنسان.

تنويه: في الآية الكريمة: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ ملاحظات ولطائف أدبيّة وعلميّة كثيرة؛ مثل: «الإلتفات من الغيبة إلىٰ الخطاب»، و«افراد الضمير في ايّاك»، و«افادة الحصر بتقديم المفعول» و«الإتيان بصيغة الجمع في نعبد ونستعين»، و«تكرار ايّاك» و«بيان حصر الاستعانة بعد حصر العبادة» و... بعض هذه الملاحظات ذكرت في البحث التفسيريّ وبعضها سيبحث في قسم لطائف وإشارات من هذه الآية ونُشير هنا علىٰ نحو الإجمال الىٰ جزء منها:


[1] . سورة الأنعام، الآية 102.

تسنيم، جلد 1

478

1. السرّ في افراد الضمير في «إيّاك» هو انّ الله سبحانه لاشريك له، وعلىٰ أساس الأدب التوحيديّ وخلافاً للآداب والرسوم العرفيّة فقد جاء بضمير المفرد «ايّاك» ولم يأت بضمير الجمع «ايّاكم» كي لايكون موهما الشرك.

2. لأجل إثبات حصر العبادة وحصر الإستعانة بالله يجب أن تكرّر كلمة (ايّاك)، والحصران لايثبتان بذكر (ايّاك) مرّة واحدة، لأنّه لو قال ايّاك نعبد ونستعين لكان معناها انّ مجموع العبادة والاستعانة بصفة المجموع منحصرة بالله، في حين انّنا بصدد إثبات حصر (الجميع) لا (المجموع) وحده.

لطائف واشارات

1. اسرار تقديم «ايّاك» علىٰ «نعبد»

انّ حصر العبادة والإستعانة بالله كان يمكن بيانها بعبارات مثل: «لا نعبد إلاّ ايّاك» أو «نعبدك ولا نعبد غيرك» لكنّها بيّنت في هذه الآية الكريمة بتقديم المفعول (ايّاك). وهناك أسرار كامنة في انتخاب هذا السياق الخاصّ نشير الىٰ بعضها فيما يلي:

أ. انّ الموحّد الّذي يعدّ الذات المقدّسة الإلٰهيّة منشأً وجامعاً لكلّ صفات الكمال والجمال ويعتقد بربوبيّته ومالكيّته المطلقة فإنّه يراه في البداية وقبل كلّ شيء، وبتقديم (ايّاك) فإنّه يعدّ العبادة حقّاً منحصراً به.

والإنسان الّذي مَزَّقَ حجاب الغفلة لايرىٰ سواه، ومن البداية يتكلّم عنه، ولذلك فإنّ كلمة «شهيد» في الآية الكريمة: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ

تسنيم، جلد 1

479

عَلَىٰ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيد﴾[1] هي بمعنىٰ (المشهود)، وليس (الشاهد)، يعني انّ الإنسان عند النظر إلىٰ كلّ شيء يرىٰ الله أوّلاً ثمّ يرىٰ الغير ثانياً كآية له وحيث انّ الله مشهود يتفوّق علىٰ كلّ المشهودين لذلك استعملت مع كلمة (علىٰ).

ب. انّ العابد الّذي يرىٰ المعبود أوّلاً ويعتقد بأنّه جمال محض وكمال صرف تهون عليه صعوبة العبادة ومشقّتها. فالعبادة بالنسبة لسالكي طريق الوصول الىٰ الحقّ شاقّة في بدايتها، ومن هنا عُدّ الصبر علىٰ الطاعة من أعظم الفضائل ورأس الإيمان: «فإنّ الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد».[2]

والله سبحانه ذكر الصلاة بأنّها أمر كبير وثقيل علىٰ الّذين لم يصلوا بعد الىٰ مقام (الخشوع): ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين﴾[3] فعلىٰ الرغم من انّ الصلاة لاتحتاج الىٰ وقت كثير لكنّ الكثير من الناس يتهرّبون منها، لأنّ الأنانيّة لاتدع الإنسان يُقرّ بالعبوديّة ويظهرها. وتمريغ الناصية بالتراب صعب علىٰ من يدّعي الإستقلال عن الله، ولكنّ الخاشعين الّذين يرون جمال وحُسن المعبود يسهل عليهم اظهار العبوديّة ويتلذّذون بحلاوة العبادة.

والّذي يقيم الصلاة وهو يشعر بالصعوبة، فهو قد أدّىٰ تكليفه ولٰكنّه لايلتذّ بالصلاة، أمّا المشاهدون لجمال المعبود فيتلذّذون بها صدقاً


[1] . سورة فصّلت، الآية 53.

[2] . نهج البلاغة، الحكمة 82، المقطع 3.

[3] . سورة البقرة، الآية 45.

تسنيم، جلد 1

480

ويتألّمون لأجل فراقها، ولذلك يقولون: «لو كان العمر كلّه ليلة واحدة لقضيناها في السجود أو الركوع».[1]

والرسول الأكرم(ص) الّذي كان دائماً مستغرقاً في شهود جمال الله سبحانه وكان فراق الله مدعاةً لألمه فهو لذلك كان يرىٰ الصلاة قرّةً لعينه «جُعلت قرّة عيني في الصلاة».[2] وكان إذا حان وقت الصلاة يقول لمؤذّنه بلال الحبشي: «أَرحْنا يا بلال».[3]

ج. وإن كان الشيطان يوسوس للإنسان في جميع الأحوال، لٰكنّه في وقت الصلاة يعبّئ جميع طاقاته ليمنع من حضور القلب لدىٰ المصلّي. ووسوسة الشيطان ومزاحمته له في الأعمال العاديّة ليست من الأهميّة بشيء ولايكون الشيطان فيها جادّاً كثيراً، ولٰكن إذا أراد الإنسان أن يضع قدمه في طريق العبادة فإنّ الشيطان يجهِّز جميع جنده وذرّيته لأجل اغفال العبد السالك. ولأجل الحفظ من هذا الهجوم الشامل، يجب أوّلاً تعيين المعبود ثمّ الحديث عن العبادة، كي لايصطنع الشيطان للإنسان معبوداً، فإنّ الإنسان إذا انبرىٰ للعبادة قبل أن يشخّص المعبود وسوس له الشيطان وألقىٰ في روعه أفكاراً ليصنعَ بها له معبوداً كاذباً.

فالشيطان بإلقائه وسوسته للكفّار وعبدة الأصنام يصوّر وينحت لهم صنماً. وبالنسبة للمؤمنين فإنّه يجعل النجاة من النار والحصول علىٰ نعيم الجنّة معبوداً لهم.[4]


[1] . راجع كتاب شرح أحوال اويس القرني.

[2] . البحار، ج79، ص193.

[3] . البحار، ج79، ص193.

[4] . العبادة بنيّة نيل الجنّة والنجاة من النار، علىٰ الرغم من انّها صحيحة من الناحية الفقهيّة ولٰكنّها من شأن الإنسان ضعيف الهمّة حيث يطلب من الله النجاة من النار أو دخول الجنّة ولايطلب لقاءه والّذي يكون هدفه الأصليّ ومعبوده الواقعيّ هو الخلاص من النار ودخول الجنّة بحيث يجعل الله وسيلة لبلوغ مثل هذا المعبود وليس هدفاً ومقصوداً بالذات، فعبادته باطلة. وهذا هو مقصود من قال ببطلان عبادة من كان هدفه نيل الجنّة والنجاة من النار، لأنّه من كان حاله هكذا فهو ان تمكّن من دخول الجنّة بدون عبادة الله فإنّه ماكان ليعبد الله (راجع كتاب [صهباي حج، ص363]). طبعاً علىٰ الرغم من انّ المعبود بالذات لأكثر الناس هو الله، ولهذا فإنّ عبادتهم صحيحة لكن لايعلمون انّ طلب غير الله من الله علامة علىٰ كسل الإنسان وفقدان همّته: «... لانريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل كما يعبدك الجاهلون بك، المغيبون عنك» (تفسير الصافي، ج1، ص72).

تسنيم، جلد 1

481

د. انّ للعبادة ثلاثة أركان: (المعبود) و(العابد) و(العمل العباديّ). والركن الأساسيّ في هذه الأركان الثلاثة هو (المعبود). والعابد إذا رأىٰ نفسه والعبادة والمعبود فهو مُبتلىٰ بـ (التثليث)، ولا نصيب له من التوحيد الخالص الّذي هو مقام الفناء المحض، وإذا رأىٰ العبادة والمعبود ولم ير نفسه فهو مبتلىٰ بـ (الثنويّة) ولم يصل الىٰ مرتبة الفناء ولم يكن موحّداً خالصاً، لكن إذا لم يَرَ لانفسَه ولا العبادة ولم ينظر إلاّ الىٰ المعبود فهو فانٍ في الله وموحّد خالص له.[1]


[1] . جاء في القرآن الكريم تعبيران في هذا المجال: فالأوّل عن النبيّ الأكرم(ص) حبيب الله حيث ذكر الله اوّلاً ومن ثمّ ذكرت آيته وهو نبيّ الإسلام(ص)، وذلك في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ (سورة التوبة، الآية 40) وفي التعبير الثاني الّذي ورد عن النبيّ كليم الله موسىٰ7 وفيه ذكرت الآية والعلامة علىٰ الله أوّلاً ثمّ ذكر اسم الله: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ (سورة الشعراء، الآية 62) ومن هذين التعبيرين يظهر انّ حبيب الله يرىٰ الله أوّلاً وبنوره يرىٰ نفسه، لكنّ كليم الله يبدأ من نفسه بما هو آية لله ويجعل من نفسه مقدّمة لرؤية الحقّ، فتعبير: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ بالنسبة إلىٰ النبيّ الأكرم(ص) الّذي بلغ مقاماً شامخاً يُعدُّ تعبيراً ذا درجة متوسّطة.

تسنيم، جلد 1

482

وبتقديم «ايّاك» فانّ المصلّي لايرىٰ سوىٰ المعبود ولا شأن له بالعابد والعبادة، لأنّ جميع همّه منصبٌّ علىٰ لقاء المعبود وقد أنساه لقاءُ المعبود رؤيةَ العابد والعبادة.

هـ . كلّ محادثة فيها ثلاثة أركان: المتكلّم والمخاطَب والخطاب. ومن بين هذه الأركان الثلاثة تارة يكون المتكلّم هو الأصيل فيصبح الركنان الآخران فرعيّين، وتارة يكون المخاطب هو الأصل، وتارة كما في المحادثة العاديّة بين اثنين متقاربين في المستوىٰ حيث يكون المتكلّم والمخاطَب والخطاب كلّهم في عرض ومستوىٰ واحد.

وفي الخطابات والمكاتبات الإعتباريّة ولأجل رعاية الأدب يُذكر المخاطب أوّلاً. وما نقوم به في محاوراتنا العرفيّة من حفظ حرمة المخاطب بذكر اسمه في البداية، فهو أمر جعلي واعتباريّ، ولكنّه فيما يتعلّق بالخطاب مع الله سبحانه فحرمة وأصالة المخاطَب له جذر تكوينيّ فالمخاطَب هو الأصل، وكلّ من الخطاب والمتكلّم فرع. وهذا الخطاب الإعتباريّ، ثمرة للخطاب التكوينيّ الّذي يكون فيه المتكلّم أصلاً، ويكون فيه كلّ واحد من الخطاب والمخاطَبِ فرعاً.

وتوضيح ذلك هو: ما يحصل في الخطابات الإعتباريّة هو انّ المتكلّم هو الأوّل وبعده يصدر الخطاب وفي المرحلة الثالثة يتّصف الشخص الآخر بعنوان المخاطَب بواسطة خطاب المتكلّم، ولكن في الخطابات التكوينيّة، في البداية يكون المتكلّم وخطابه، ومن ثمّ (يوجد) المخاطَب

تسنيم، جلد 1

483

بواسطة الخطاب، لانّ الخطاب التكويني هو الّذي يخلق المخاطَب: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون﴾[1]، أي انّ في الخطاب التكوينيّ يكون خطاب المتكلّم وأمره (كن) موجِداً وخالقاً للمخاطَب لا انّ الله سبحانه يقول للمخاطَب الموجود (كُن): «انّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله».[2]

إذن بما انّ خطاباتنا الإعتباريّة في الصلاة ونظائرها مسبوقة بالخطاب الحقيقيّ فلها جذور تكوينيّة، يعني انّنا في البداية خُلِقنا بالخطاب التكوينيّ لله ثمّ أصبحنا نخاطب خالقنا، فهو الأصل، ونحن الفرع، ولهذا يجب أن نلتزم الأدب في كلامنا مع الله سبحانه فنذكر اسمه أوّلاً، لا أن نبدأ بذكر أنفسنا فنقول (أنا أتكلّم معك). بما أنّه في التكوين (كُن) أي الأمر بالإيجاد مقدّم علىٰ (يكون)، ففي الخطاب الإعتباريّ أيضاً يقتضي الأدب ان نُقدِّم المخاطَب الّذي هو ذاته المتكلّم والآمر الّذي خلقنا بأمر (كُن) الوجوديّة. ومثل هذا اللون من الكلام ثمرة ناتجة من التنسيق بين الاُمور الإعتباريّة والتكوينيّة.

وجميع النعم دون استثناء هي من قِبَل الله سبحانه: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه﴾[3] وكلّ عمل خير يؤدّيه العبد ولأجله يكافأ بالجائزة، فهو محاط بنعمتين سابقة ولاحقة، لانّ التوفيق لمعرفة التكليف وأدائه هو نعمة انعمها الله عليه، والجزاء والثواب الّذي يحظىٰ به بعد أداء التكليف


[1] . سورة يس، الآية 82.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 186، المقطع 17.

[3] . سورة النحل، الآية 53.

تسنيم، جلد 1

484

هو نعمة اُخرىٰ من قِبَل الله. فالإنسان في كلّ عمل صالح بما في ذلك العبادة يكون بين نعمتين، وكلتاهما من الله ولايبقىٰ للعبد نصيب، وحسب هذا التحليل فالإنسان غير مستحقّ لشيء في مقابل نعمة الطاعة والإنقياد لله.

وفي القرآن الكريم ورد تطبيق هذا الأصل الكلّي علىٰ موارد خاصّة، فمثلاً توبة العبد محفوفة ومحاطة بنعمتين احداهما نعمة التوفيق للتوبة، والاُخرىٰ نعمة قبولها وكلتا النعمتين سمّيت بالتوبة، إذن فكلّ توبة من العبد محفوفة بتوبتين من الله.

يقول القرآن الكريم حول التوبة الاُولىٰ: ﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْه﴾[1] أي انّ النبيّ آدم(ع) تلقّىٰ من ربّه كلمات فتاب الله عليه، أي انّ الله رجع إليه وشمله بلطفه. واللطف الإلٰهي يجذب العبد الىٰ الطريق وبعد ذلك يوفّق الإنسان للتوبة. وكذلك يقول تعالىٰ: ﴿لَقَد تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار﴾[2]، أي انّ الله تاب علىٰ النبي والمهاجرين والأنصار في ساعة العسرة وضيق الشدّة، وهذه التوبة اقترنت بـ (علىٰ) في الاستعمالات القرآنيّة وهذا يعني أنّ لطف المولىٰ يفاض من الأعلىٰ علىٰ العبد.

وحول التوبة الثانية يقول الله سبحانه: ﴿أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِه﴾.[3] من مجموع ثلاث توبات، وهي توبة من العبد وتوبتان من الله،


[1] . سورة البقرة، الآية 37.

[2] . سورة التوبة، الآية 117.

[3] . سورة التوبة، الآية 104.

تسنيم، جلد 1

485

وقد ذكرت أيضاً هذه التوبات الثلاث في الآية الكريمة: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا... ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم﴾.[1]

وخلاصة القول انّ الإنسان محفوف ومحاط دائماً بالنعم الإلٰهيّة، وإذا لم يستطع أن يرىٰ ترادف النعم واتّصالها وترابطها فلأنّه يرىٰ نفسه وذاته، وإلاّ فانّ السيل الهادر للنعم الإلٰهيّة ليس فيه وقفة وفاصلة وعقبة ومانع الاّ (نفس) الإنسان. كما انّه ليس بين الخالق والمخلوق ايّ حجاب سوىٰ نفس الخلق: «ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه، احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور».[2] وإذا لم ينظر الإنسان الىٰ نفسه فأينما اتّجه فسوف لن يرىٰ سوىٰ وجه الله: ﴿فَأَيْنََما تُوَلُّوْا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه﴾.[3]

إذن بما انّ العبادة توفيق من الله سبحانه، فأدب العبادة يقتضي أن لانقدِّم إسمنا علىٰ اسم المعبود. فهو الّذي يجعل الإنسان ظمآناً بفيض منه وبفيض آخر يسوق الإنسان الظمآن الىٰ عين الكوثر فيسقيه. ولا يُنسب الىٰ الإنسان شيء سوىٰ الظمأ، ولهذا جاء في الأدعية «مِنّتك ابتداء»[4]، «كلّ نِعَمك ابتداء».[5]

فنعم الله ابتداء منه وليس لنا من عمل نستحقّ به شيئاً من الجزاء والمكافأة.

وما ذكر من كلام في سرّ تقديم «ايّاك» علىٰ «نعبد» فهو الكلام ذاته يمكن أن يستنبط في سرّ تقديم «ايّاك» علىٰ «نستعين».


[1] . سورة التوبة، الآية 118.

[2] . البحار، ج3، ص327.

[3] . سورة البقرة، الآية 115.

[4] . الصحيفة السجّادية، الدعاء 45.

[5] . نفس المصدر، الدعاء 12.

تسنيم، جلد 1

486

2. العبادة طريق التقرّب الىٰ الله

العبادة هي الطريق الوحيد للتقرّب الىٰ الله سبحانه ولهذا عندما يتحدّث القرآن الكريم والروايات وأدعية أهل البيت(ع ) عن المناقب والدرجات المختلفة للأنبياء والأولياء فهي تؤكّد قبل كلّ شيء علىٰ عبادتهم. وأثناء التشهّد في الصلاة وقبل الشهادة بالرسالة للنبيّ الأكرم(ص) نشهد له بالعبادة والعبوديّة، (وأشهدُ انّ محمّداً عبده ورسوله) لأنّ العبادة هي علاقة العبد مع المولىٰ، وأمّا الرسالة فهي مظهر ارتباط العبد مع سائر عباد الله، وبما انّ ارتباط الإنسان بالله أسمىٰ وأعلىٰ وهو مقدّم علىٰ الإرتباط بالناس، لذلك فإنّ عبوديّة رسول الله أفضل من رسالته، كما انّ كمالات سائر الأنبياء هي ثمرة عبادتهم.

وكما انّ القرآن الكريم يؤكّد علىٰ دور العبادة في بُعدها الإيجابيّ ويهتمّ بالصلاة والمصلّين، فهو يؤكّد بشدّة أيضاً علىٰ بعدها السلبيّ فيقول: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ٭ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ٭ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُون﴾.[1] الويل للمصلّين الغافلين عن صلاتهم، والذين يصلّون لأجل أن يراهم الآخرون، هؤلاء هم الّذي يعدّون الله معبوداً ومستعاناً في مقام اللفظ واللسان فقط، لكنّ سيرتهم العلميّة والعمليّة ليست قائمة علىٰ حصر العبادة والإستعانة بالله.


[1] . سورة الماعون، الآيات 4 ـ 6، و«المصلّي» وإن كان في اللفظ (اسم فاعل) لكن في المعنىٰ هو (صفة مشبهة) ويفيد الثبات والدوام، ويعني المصلّي المستمرّ علىٰ الصلاة فهو ليس غير تارك للصلاة فحسب بل ربّما يكون ملتزماً بأوّل أوقاتها أيضاً، لكن حيث انّه من أهل الرياء والغفلة، فهو لايدري ماذا يعمل، ويتلذّذ أيضاً برؤية وسماع الآخرين لصلاته.

تسنيم، جلد 1

487

3. العبادة هدف الخلق وطريق اليقين

انّ القرآن الكريم عندما يُبيّن علاقة العبد بالعبادة فهو يعدّ العبادة هدف الخلق: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون﴾[1] فالإنسان كالبذرة الّتي هدفها المتوسّط هو أن تكون شجرة وهدفها الأعلىٰ هو أن تكون مثمرة ولها أهداف اُخرىٰ أمامها أيضاً.

وصحيح انّ بعض آيات القرآن الكريم تؤكّد علىٰ انّ العبادة هي الهدف من خلق الإنسان، لكنّ هذا هدف متوسّط وليس هدفاً نهائيّاً وأخيراً، لأنّ الهدف الأعلىٰ من العبادة والّذي تعتبر العبادة وسيلة لتحقيقه هو بلوغ اليقين ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾[2] ومهما يكن فانّ العبادة هي هدف المخلوق وليست هدفاً للخالق. فليس الأمر كما يُتوهّم بأنّ الله خلق البشريّة ليصل الىٰ هدف معيّن كأن يكون معبوداً، حتّىٰ إذا عصاه العاصون لم يتحقّق للهِ هدفه، وذلك لأنّ الله سبحانه غنيّ محض ويستحيل علىٰ الغنيّ المحض أن يفعل فعلاً ليحقّق به هدفاً مّا. ولهذا يصرِّح القرآن الكريم بأنّ الناس جميعاً وسائر العبّاد في الأرض لو كفروا بالله فانّه لايحطُّ من كبريائه مثقال ذرّة: ﴿إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيد﴾.[3]

توضيح ذلك: انّ كلّ فاعل يأتي بالفعل لأجل تحقيق كمال مّا. وذلك الكمال إذا لم يكن مطلقاً فهو يتطلّع الىٰ كمال أعلىٰ وهكذا تستمرّ


[1] . سورة الذاريات، الآية 56.

[2] . سورة الحجر، الآية 99.

[3] . سورة ابراهيم، الآية 8.

تسنيم، جلد 1

488

السلسلة الىٰ أن تنتهي بالهدف الّذي هو الكمال المطلق. وحينئذٍ فإذا صدر من الكامل المحض المطلق فعل ما، فلايتصوّر انّه بذلك الفعل يبغي تحقيق كمال ما لأنّه الكمال المحض وهو الهدف الوحيد والأخير لجميع السالكين نحو الكمال. فإذا فعل فعلاً كي يحصل علىٰ الكمال المفقود لديه فهذا يعني انّ ما فرضناه كمالاً محضاً لم يكن كمالاً محضاً، بل انّه موجود محدود ولذلك يعمل من أجل رفع ما لديه من نقص لكي يصل الىٰ الكمال المفقود. وليس هناك خارج الكمال المطلق كمال حتّىٰ يحقّقه بواسطة فعل ما. ولهذا يصف القرآن الكريم الله سبحانه بانّه المبدأ الفاعليّ والهدف النهائيّ للخلق: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِر﴾.[1] فكما انّه لايوجد فاعل آخر معه كذلك لايوجد هدف آخر وراءه.

وخلاصة القول هي انّ العبادة من وجهة نظر القرآن الكريم هدف الخلق، وحيث انّه في كلّ لحظة يصل فيض الخالق الىٰ ماسواه: ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن﴾[2]، فالعبادة أيضاً لاحدّ لها، وكما انّ حدوث العبادة اقترن بحدوث الخلق، فبقاؤها أيضاً مرتبط ببقاء الخلق، والإنسان الّذي يترك العبادة أثناء مسيره نحو الكمال فهو مثل الشجرة الّتي تتوقّف عن النموّ والرشد، وكما سبق ذكره بنحو مجمل فإنّ العبادة ليست هدفاً نهائيّاً لخلق الإنسان، كما انّ صيرورة الشيء شجرة ليست هدفاً نهائيّاً للبذرة بل هي هدف متوسّط، والهدف النهائيّ لها هو الإيناع والإثمار، والعبادة أيضاً بالنسبة للإنسان هدف متوسّط لانهائيّ والهدف منها أيضاً هو الوصول


[1] . سورة الحديد، الآية 3.

[2] . سورة الرحمٰن، الآية 29.

تسنيم، جلد 1

489

الىٰ اليقين: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾[1] فالعبادة هي الطريق لنيل اليقين، والإنسان ما لم يصل الىٰ اليقين فهو معرّض لخطر الزوال والتغيير لكن عندما يصل الىٰ اليقين فهو يستقرّ ويطمئن.

والإنسان بواسطة العبادة يتبوّأ المقام الشامخ لليقين، ومادام مرتبطاً بالعبادة فهو من أهل اليقين، ولو ترك العبادة لحظة لتدنّس بالمعصية ولو أنكر العبادة لكفر وارتدَّ ووقع في الحرمان الأبدي. فمعنىٰ قوله: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾ ليس هو انّ من وصل الىٰ اليقين فقد استغنىٰ عن العبادة، لأنّ كلمة (حتّىٰ) في هذه الآية الكريمة لأجل بيان منفعة وبركة العبادة وليس لبيان حدّها حتّىٰ يقال انّ العبادة تتوقّف عند الوصول الىٰ اليقين. فالآية توضّح طريق الوصول الىٰ نعمة اليقين.

فالعبادة الّتي هي هدف الخلق هي العبادة الّتي لها ثمرة كاليقين، والعابدون الّذين لانصيب لهم من صفاء الباطن ونورانيّة الشهود، فليس لديهم مثل هذه العبادة. وانّهم كمثل الشجرة الّتي نمت وأزهرت لكنّها ما اينعت ولا أثمرت، وحول هؤلاء يقول القرآن الكريم: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّين﴾[2]، فالّذي يصلّي لأجل رفع التكليف مبتلىٰ بهذا الويل وأمّا التاركون للصلاة فلهم ويل أشدّ.


[1] . سورة الحجر، الآية 99. استشهد بعض المفسّرين بالآية: ﴿حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِين﴾ (سورة المدّثر، الآية 47) وحاول تفسير اليقين في آية ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾ بمعنىٰ الموت، فقال انّ الآية تقول واعبد ربّك الىٰ الموت في حين انّ اليقين ليس معناه الموت وإن كان الموت من الاُمور اليقينيّة والحتميّة، وبعده أيضاً يحصل للإنسان اليقين، ولهذا يمكن أن يطبَّق اليقين علىٰ الموت.

[2] . سورة الماعون، الآية 4.

تسنيم، جلد 1

490

وخلاصة القول انّ معنىٰ الهدف النهائيّ ليس هو انّ ببلوغه يُترك أصل العبادة، وذلك لأنّ هذا الهدف الأصيل قائم علىٰ أساس العبادة. إذن فكيف يبقىٰ ذلك الهدف السامي مع ترك العبادة؟ كثمر الشجر الّذي بقاؤه ببقاء الشجرة، فلايعني كون الفاكهة هدفاً نهائيّاً للشجرة انّ الشجرة تزول وتقطع إذا ظهرت عليها الفاكهة، وعند التمييز بين (الحدّ العدمي) و(الهدف) يتّضح أصل الموضوع جيّداً. نعم إذا كان المقصود من كلمة (حتّىٰ) في الآية المذكورة هو (الحدّ العدمي) فإنّ المراد من اليقين حينئذٍ هو الموت قطعاً. وبهذا التحليل يتّضح معنىٰ الأحاديث الواردة في هذا الباب.

4. اليقين العباديّ وآثاره

ذُكر في البحث السابق استناداً الىٰ الآية الكريمة: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾[1] انّ اليقينَ ثمرة وفائدة العبادة وليسَ هو الحد العدمي لها. وهنا لابدّ أن نأتي علىٰ بيان هذه الحقيقة وهي انّ اليقين الّذي يحصل بواسطة العبادة يختلف عن اليقين الّذي يحصل من البحث العلمي أو رؤية المعجزة.

اليقين يحصل من طرق متعدّدة، واليقين الناتج من عوامل وأسباب مختلفة ليس في درجة واحدة، مثلاً اليقين الّذي حصل لفرعون وأعوانه برؤية معجزة عصا موسىٰ لم يكن ذلك اليقين الّذي يهديهم ويخرجهم من الظلمات الىٰ النور. فعندما تحوّلت عصا موسىٰ الىٰ ثعبان يسعىٰ وابتلع سحر السَحرة اتّضح لفرعون وملائه انّ موسىٰ(ع) علىٰ حقّ، لكنّ اُولئك مع ما حصل لهم من اليقين فقد أنكروا آيات الله البيّنة والمُبيِّنة: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ


[1] . سورة الحجر، الآية 99.

تسنيم، جلد 1

491

الْمُفْسِدِين﴾.[1] كذلك اليقين العلميّ للعلماء الّذين هم بغير عمل فإنّه لا أثر له، لكنّ نور اليقين الّذي يضيء بمصباح العبادة ويشعّ علىٰ روح العابد فهو مؤثّر ومنقذ للعابد.

وانّ سرَّ ومنشأ فساد الإنسان واستسلامه للذنب هو انّ الذنوب قد اكتست بغطاء من حلاوة اللذّات، والإنسان الساذج والمغفّل يرىٰ هذا الغطاء والقشر الخارجيّ ويعجز عن رؤية باطنه فيتقدّم نحوه رغبة وشوقاً الىٰ ذلك الغطاء الحلو فيقع في فخّ الباطن. وأمّا اُولئك الّذين بلغوا نور اليقين بالعبادة فلديهم قدرة علىٰ رؤية الباطن والخارج، فلا يدنّسون انفسهم أبداً بالذنب الّذي باطنه سمّ مهلك ونار محرقة.

واُولئك الّذين نالوا بالعبادة (علم اليقين) ستصبح لديهم القدرة علىٰ رؤية نار جهنّم كما يعلن ذلك القرآن بصراحة: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ... ٭ ... كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ٭ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم﴾.[2]

اُولئك الّذين تحرّروا من فخّ التكاثر[3] وتزيّنوا بعلم اليقين الّذي هو ثمرة العبادة (وليس البرهان والإستدلال) فهم يرون جهنّم الآن، كما انّ


[1] . سورة النمل، الآية 14.

[2] . سورة التكاثر، الآيات 1 ـ 6.

[3] . انّ الجميع مبتلىٰ بالتكاثر الاّ القليل من الناس: «كلّ القوم ألهاهم التكاثر» (البحار، ج75، ص152) فالبعض مبتلىٰ بالتكاثر في المال، والبعض مبتلىٰ بالتكاثر في الأولاد والقبيلة، وآخرون ممّن يعملون في مجال العلم والثقافة مبتلون بالتكاثر في المستمع والتلميذ والقارئ والمأموم و... فالشيطان لم ينصب فخّ التكاثر للأثرياء وعبيد المال فحسب، فلا يُتوهم انّ مدارس العلم وساحات الثقافة خالية من التكاثر. وفي القيامة سيظهر جليّاً انّ الإهتمام بإقبال المأمومين والتلاميذ وإدبارهم وأمثال ذلك ماذا يجلب من العذاب.

تسنيم، جلد 1

492

أنصار سيّد الشهداء(ع) في ليلة عاشوراء وبعد ان صمّموا وعقدوا العزم علىٰ نصرة الإمام، فقد رأوا بواسطة الإمام منازلهم في الجنّة: (وهذا لايعني أنّهم قد قاتلوا مع الإمام بسبب رؤية الجنّة وطمعاً بها).

إذن فاليقين الحاصل من العبادة هو الشهود، وبما انّ درجاته لاحدّ لها، فالهدف النهائيّ من العبادة أيضاً لاحدَّ له أيضاً.

5. سعة ضمير الجمع في «نعبد»

سعة ضمير الجمع في كلمة (نعبد) ترتبط بدرجة معرفة المصلّي، فقصد المصلّي ذي الدرجة المتوسّطة من (ايّاك نعبد) هو نفسه مع جميع شؤونه الإدراكيّة وأعضائه وجوارحه الحركيّة، وذلك أيضاً في حالة كون حواسّه الظاهريّة والباطنيّة حاضرة في العبادة، وأعلىٰ منه المصلّي الّذي يقصد من (نعبد) ماهو الأعم من نفسه والمصلّين الآخرين. امّا ذلك المصلّي الّذي يرىٰ جميع مافي الوجود مربوباً لله سبحانه وكلّ الأشياء دائماً يراها في حال عبادة الله، فهو ينظر من بوّابة ضمير المتكلّم مع الغير في (نعبد) الىٰ سعة جميع عوالم الوجود.

والقرآن الكريم يرىٰ جميع الكون «عبداً» لله سبحانه: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمٰنِ عَبْدا﴾.[1] وفي القيامة عندما تأتي جميع الموجودات من السماء والأرض خاضعة ومنقادة الىٰ حضرة الربّ الرحمٰن فهناك تتجلّىٰ عبوديّتها وتظهر للعيان.

وإذا أدرك الإنسان تلك الحقيقة وهي انّ كلّ موجود مربوب لله وانّ


[1] . سورة مريم، الآية 93.

تسنيم، جلد 1

493

علاقته بالله هي علاقة العبد بالمولىٰ، فحينئذٍ لايرىٰ نفسه وحدها وأعضاءه وجوارحه في حال العبادة فحسب بل يرىٰ نفسه يسير منسجماً مع قافلة العبّاد الكبرىٰ الّتي تضمّ جميع عوالم الوجود في حالة عبادة. ومثل هذا المصلّي لايعبد الله رغبةً بمتعة معيّنة كالتلذّذ بالجنّة ولا للتخلّص من ألم معيّن كنار جهنّم، لأنّه يعدّ الجنّة والنار مربوبين أيضاً لربّ العالمين وعبدَين للمولىٰ المطلق، ورفيقَين منسجمَين مع قافلة العبّاد الكبرىٰ لله تعالىٰ، ولهذا فانّه لايريد سوىٰ لقاء الله، وذلك هو الدّين الخالص المختصّ بالله سبحانه: ﴿لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص﴾[1]، ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي﴾.[2]

6. التوحيد العباديّ والطاعة للرسول

انّ جميع أنبياء الله كانوا يدعون الناس الىٰ التوحيد العبادي، كما قال نبيّ الله هود(ع) لقومه: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُه﴾[3]، وصحيح انّ جملة ﴿اعْبُدُوا اللَّه﴾ لاتفيد الحصر، لكنّ جملة ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُه﴾ مبيّنة لحصر العبادة في الله سبحانه وهي تفسّر بجلاء كلمة: «لا إله إلاّ الله».[4]

ونبيّ الله صالح(ع) تحدّث مع قومه بنفس الكلام: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ


[1] . سورة الزمر، الآية 3.

[2] . سورة الزمر، الآية 14.

[3] . سورة الأعراف، الآية 65.

[4] . لأنّ (لا إلٰه إلاّ الله) ليست مكوّنة من قضيّتين سلبيّة وإيجابيّة حتّىٰ تكون احداهما نافية للآلهة والطاغوت والاُخرىٰ مثبتة لله سبحانه، بل انّ المجموع جملة واحدة ولها مضمون ومفاد واحد، لأنّ (الاّ) هي بمعنىٰ «غير» ومعنىٰ (لا إله إلاّ الله) هو انّ غير الله الّذي هو ثابت ومُسلّم بالحقيقة والفطرة لايوجد إلٰه، وليسَ معناها، (لا) للآخرين و(نعم) لله سبحانه حتّىٰ يكون إثبات الله محتاجاً إلىٰ دليل.

تسنيم، جلد 1

494

مَا لَكُمْ مِن إِلٰهٍ غَيْرُه﴾.[1] كذلك يقول حول نبيّ الله شعيب: ﴿وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَالَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُه﴾.[2] وفي أمر كلّي عام يقول الله سبحانه لرسوله: ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي﴾.[3] هذه الجملة الّتي تُفيد الحصر بتقديم المفعول علىٰ الفعل، فلسانها شبيه بلسان (ايّاك نعبد)، وكلمة (مخلصاً) مؤكّدة لذلك المعنىٰ الّذي يستفاد من الحصر.

تنويه: انّ تقديم المفعول علىٰ الفعل، ليس دائماً لأجل الدلالة علىٰ الحصر، لأنّه في بعض الأحيان يكون التقديم بداعي الإهتمام وأمثال ذلك، لكن في مثل هذه الموارد المحفوفة بالشواهد اللبيّة من جهة والخطوط العامّة لمقاصد الوحي من جهة اُخرىٰ ترشد الىٰ انّ السبب الأساسيّ في التقديم هو افادة الحصر.

وأثر التوحيد العبادي هو انّ الإنسان لايطيع غير الله في أيّ شيء، والأمر بطاعة الوالدين أو الرسول واُولي الأمر، لايتعارض أبداً مع التوحيد العبادي لله سبحانه، لأنّ طاعة هؤلاء في الحقيقة هي طاعة لله واستجابة لأمر: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم﴾.[4] وطاعة الله وعبادته لاتتحمّل ولاتقبل الشريك حتّىٰ يكون الإنسان مطيعاً لله في بعض الاُمور وفي غيرها يكون مطيعاً للقانون، واُولي الأمر أو الوالدين، بل انّ الطاعة في جميع هذه الموارد نتيجة لأمر الله.


[1] . سورة الاعراف، الآية 73.

[2] . سورة الأعراف، الآية 85.

[3] . سورة الزمر، الآية 14.

[4] . سورة النساء، الآية 59.

تسنيم، جلد 1

495

وطاعة الإنسان للناس الآخرين قد حدّدت في إطار طاعة الله: «لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق».[1] فأصل الطاعة للآخرين مشروط بأمر الله، وحدّها واطارها أيضاً هو عدم المساس بالحدود الإلٰهيّة، ولهذا لايجوز طاعة المخلوق إذا لزم منها معصية الخالق. إذن فجميع الطاعات محصورة في طاعة الله سبحانه، والحصر المستفاد من «ايّاك نعبد» وكذلك الأصل الكلّي: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّه﴾[2] لا تخصيص فيه وهو باق علىٰ إطلاقه.

7. آفات التوحيد العباديّ

انّ القرآن الّذي هو شفاء لما في باطن الإنسان من داء ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور﴾[3]، يعرِّف الإنسان علىٰ آفات التوحيد العبادي، فالتوحيد في العبادة له عدوّ باطنيّ، وعدوّ خارجيّ. فالعدوّ الباطنيّ وصفته بعض الروايات بانّه (أعدىٰ الأعداء) فقالت: «أعدىٰ عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك»[4] فهو الهوىٰ والشهوات، الّذي لايعيق الإنسان عن بلوغ الكمال فحسب، بل يحطّم الإنسان شيئاً فشيئاً إلىٰ درجة أن لاينال من عمره شيئاً سوىٰ الحسرات والآهات. والسرّ في كونه (أعدىٰ الأعداء) هو انّه ليس هناك من عدوٍّ يفعل بالانسان هذا الفعل المشين الّذي يفعله هوىٰ النفس، فهو بواسطة الافراط في الأكل والنوم والكلام يَشُلّ الإنسان بحيث لايبقي له قدرة علىٰ الحركة.


[1] . البحار، ج10، ص227.

[2] . سورة الانعام، الآية 57.

[3] . سورة يونس، الآية 57.

[4] . البحار، ج67، ص64.

تسنيم، جلد 1

496

امّا العدوّ الخارجي للتوحيد العباديّ فهو الشيطان. وبالطبع فإنّ العدوّ الخارجيّ يغوي الإنسان بواسطة التصرّف في مصادر حسّه وطرق ادراكه وأعضائه الحركيّة. ولهذا فهذان العدوّان يرجعان الىٰ سببين طوليّين لاعرضيّين، أي انّ العدوّ الخارجيّ (الشيطان) يجرُّ الإنسان نحو الفساد عن طريق العدوّ الباطنيّ (هوىٰ النفس)، وأدوات اغوائه هي وسوسة النفس. والشيطان يقول حول طريقة اختراقه للقلوب: ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُم﴾[1]، فهو يوقع بالإنسان عن طريق (الاُمنيّة). فالشيطان لايستطيع أن يُضِلَّ أحداً بغير وسيلة للإغواء، بل هو مثل السمّ القاتل الّذي يفتك بالإنسان عن طريق الجهاز الهضميّ. فالسمّ مالم يؤكل وما لم يجذبه الجهاز الهضميّ فإنّه لايؤثّر شيئاً.

والعابد الّذي يُصغي الىٰ هذين العدوّين، فهو ليس موحّداً في العبادة، وإذا قال في الصلاة (ايّاك نعبد) فهو كاذب. ومثل هذا الإنسان المُنفلت قد شيّد في باطنه معبداً للأصنام فهو منهمك في عبادة الصنم، وليس له من التوحيد نصيب.

وقد حذَّرَ القرآن الكريم من خطر هذين الأمرين، فقال حول العدوّ القريب والباطنيّ: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَة﴾[2] فالّذي يعمل طبقاً لما يشتهي، والمنفلت هو مطيع لهواه وليس تابعاً لقانون الله، وهو في الواقع يعبد هواه فإلٰهه هواه وهو (عبد الهوىٰ) وليس (عبداً لله).


[1] . سورة النساء، الآية 119.

[2] . سورة الجاثية، الآية 23.

تسنيم، جلد 1

497

امّا فيما يتعلّق بالأمر البعيد والخارجيّ فيقول تعالىٰ: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُّبِين﴾.[1] وإذا ما اُبتلي الإنسان بخدعة عامل الهلاك القريب أو البعيد فوقع في عبادة الصنم، فهو مشمول بالخطاب التوبيخيّ لنبيّ الله ابراهيم(ع) حيث قال: ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّه﴾.[2]

فالقرآن الكريم من جهة يعتبر البعض عبيد الهوىٰ ومن جهة اُخرىٰ يقول علىٰ لسان الخليل «اُفّ لمن يعبد غير الله» وهذا «التأفّف» ليس لعناً وانزجاراً موقّتاً وعابراً حتّىٰ يكون موعده قد انقضىٰ وتصرّم، بل هو من كلام القرآن الّذي هو «يجري كما يجري الشمس والقمر»[3]، وعليه فانّه اليوم أيضاً، يخاطب حجّة العصر الإمام المهدي (عج) عبيد الهوىٰ ويقول: ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّه﴾.

فالإنسان من جهة يبلغ بالعبادة المقام الشامخ ويرقىٰ إلىٰ ذرىٰ الولاية ويثبت اسمه في سجلّ المقبولين، ومن جهة اُخرىٰ يتسافل بسبب عبادة الهوىٰ ويسقط الىٰ حضيض الضلالة بحيث يستحقّ الخطاب المشين المذكور. والإنسان بتغلّبه علىٰ هذين العدوّين الباطنيّ والخارجيّ (الهوىٰ والشيطان) وسيطرته عليهما يصل الىٰ درجة التوحيد الصادق.

والقرآن الكريم في مقام تبيين صفات الموحّدين الصادقين ومدحهم يقول: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي


[1] . سورة يس، الآية 60.

[2] . سورة الأنبياء، الآية 67.

[3] . البحار، ج89، ص97.

تسنيم، جلد 1

498

الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا﴾[1]، أي انّ الموحّدين الصادقين إذا أصبحت بيدهم القدرة والحكومة، فليس فقط يعبدون الله بل هم لايجعلون لله أيّ شريك أيضاً.

وصحيح انّ جملة (يعبدونني) غير مفيدة للحصر، لكن جملة (لايشركون بي شيئاً) الّتي هي نكرة في سياق النفي تفيد الحصر، وحيث انّ الجملة الثانية وردت الىٰ جانب الجملة الاُولىٰ بغير حرف عطف فهذا يدلّ علىٰ انّ التوحيد العباديّ ونفي الشرك معنيان غير منفصلين عن بعضهما، وإذا دلّت النكرة في سياق النفي علىٰ نفي جميع أنحاء الشرك فالعبادة ستكون خالصةً لله، وهذا هو نفسه مضمون: (ايّاك نعبد).

والصفات المذكورة تتعلّق بالمؤمنين الصالحين الّذين وصلوا الىٰ سُدّة الحكم وليست محصورة بالمرسلين والأئمّة المعصومين(ع ) ولهذا فانّ الوصول الىٰ هذا المقام ميسور لكلّ انسان.

وخلاصة القول هي انّ الله سبحانه من جهة يحصر العبادة والخوف والرهبة في ذاته المقدّسة: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُد﴾، ﴿إِيَّايَ فَارْهَبُون﴾[2]، ومن جهة اُخرىٰ يبيّن أعداء وآفات التوحيد العباديّ ويوضّح سبيل علاجها ومواجهتها ومن جهة ثالثة يكلّف الجميع بالإلتزام بها، ومن جهة رابعة يعدّ المحاور الأساسيّة للتكليف سهلة وبعيدة عن العسر والحرج. وبالنتيجة فانّ تحصيل مثل هذا الكمال مقدور للإنسان، بل هو سهل عليه.


[1] . سورة النور، الآية 55.

[2] . سورة البقرة، الآية 40.

تسنيم، جلد 1

499

8. تبعيّة الإنسان في العبوديّة

انّ الإنسان غير مستقلّ في أيّ شأن من شؤونه وحتّىٰ في العبوديّة أيضاً، ولامجال أبداً للتوهّم بأنّ الإنسان علىٰ الرغم من عدم استقلاله في أيّ شأن من شؤونه العامّة لكنّه مستقل في «العبوديّة»، وذلك لأنّ الإستقلال في العبودية يعني التفويض الّذي يساوي الجبر في البطلان أو هو أشدّ منه.

وعلىٰ هذا الأساس لمّا كانت جملة (ايّاك نعبد) قد أسندت عبادة الله الىٰ العابد فإنّه عن هذا الطريق قد تمّ ابطال الجبر، ولأجل ابطال توهّم التفويض أيضاً وليتبيّن انّنا في مقام العبوديّة لسنا مستقلّين وليس لنا دور أصيل ولم يُفوّض إلينا أمر العبادة لذلك يجب أن نقول: «وإيّاك نستعين» أي: أنت وحدك نعبدك وفي هذه العبادة أيضاً نستعين بك لأجل أدائها.

وعلاقة العبوديّة والملكيّة الّتي هي بين الله والعباد تختلف عن العلاقة بين العبيد والموالي العرفيّين من جهتين: احداهما انّ العلاقة المذكورة علاقة حقيقيّة وليست اعتباريّة وجعليّة والاُخرىٰ انّها علاقة مطلقة وليست محدودة.

فالله سبحانه مالك لجميع شؤون العبد بنحو مطلق وليست ملكيّته مشوبة بملكيّة الغير ومملوكه في العبوديّة لايقبل التجزئة والتبعيض، خلافاً للموالي العرفيّين الّذين لايملكون سوىٰ أفعال عبدهم الإختياريّة فقط، وبالنسبة إلىٰ الكثير من الاُمور فهم ليسوا فقط لايملكون دواخل وخطرات نفس العبد بل لايعرفون عنها شيئاً، إذن فهؤلاء العبيد ليسوا عبيداً طِلقاً لمواليهم.

الموحّد الّذي يرىٰ الله سبحانه مالكاً حقيقيّاً وربّاً مطلقاً للحياة

تسنيم، جلد 1

500

والموت والآثار والأعمال والصفات وحتّىٰ خطرات النفس، فإنّه في مثل هذا المقام الشامخ الفكريّ والإعتقاديّ يقول: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين﴾[1]، ﴿إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين﴾[2] ومثل هذا الموحّد الّذي اختار الموت الإختياري بامتثاله لأمر: «موتوا قبل أن تموتوا»[3] فهو قبل الموت الطبيعي يرىٰ حقيقة: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمٰنِ عَبْدا﴾[4]، وعلىٰ أثر ذلك الشهود فإنّه لايركن في أيّ شأن من شؤونه الىٰ غير الله (لا إلىٰ نفسه ولا إلىٰ الآخرين)، لأنّه عندما ثبتت الربوبيّة المطلقة لله والعبوديّة المطلقة لما سواه فلايبقىٰ للإنسان شيء غير العبوديّة المطلقة، وعبادة العبد أيضاً تتمّ دائماً بتوفيق من الله سبحانه، وعلىٰ هذا الأساس يجب علىٰ الإنسان بعد كلّ حمد أن يحمد الله مرّة اُخرىٰ.

يقول السيد العلاّمة الطباطبائيّ (ره) في هذا المورد: «والله سبحانه غريم لايقضىٰ دينه»[5]، ومع هذا فإنّ الإنسان إذا رأىٰ في شأن من شؤونه أو مرتبة من مراتبه شيئاً لنفسه فإنّه ذلك لايتناسب مع التوحيد الخالص، وبناءً علىٰ هذا فلامجال للبحث الكلامي المعروف وهو (هل انّ الجزاء والثواب قائم علىٰ أساس الإستحقاق أم هو من باب التفضّل)، لأنّه طبقاً لما مرّ بيانه لامجال لتوهّم استحقاق الثواب والمكافأة، وجميع ألوان


[1] . سورة الانعام، الآية 79.

[2] . سورة الانعام، الآية 162.

[3] . البحار، ج66، ص317 (بيان).

[4] . سورة مريم، الآية 93.

[5] . الميزان، ج1، ص27.

تسنيم، جلد 1

501

الثواب هي بفضل إلٰهي، ومن يوفّق لأداء عمل الخير فعليه أن يثني علىٰ الله شكراً علىٰ ذلك التوفيق.

9. حصر الاستعانة والاستمداد بالله

انّ حصر الاستعانة بالله سبحانه كحصر العبادة غير قابل للتخصيص، لأنّ كلّ شيء يساهم في تلبية حوائج الإنسان فجميعه من شؤون فاعليّة الله سبحانه، ومن جند الله الّذين هم علىٰ اُهبّة الاستعداد: ﴿لِلَّهِ جُنُودُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾[1] ولكلّ واحد منهم دور يؤدّيه في نظام الكون. ولذلك فانّ موحّداً كإبراهيم(ع) يقول في أصل مسألة التوحيد: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾[2] وفي الاُمور العاديّة يقول: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ٭ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ٭ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين﴾.[3]

فالإنسان الموحّد يعدّ الله سبحانه هو الخالق والهادي والمطعم والساقي والشافي، ومن يعتقد انّ الله خلق لنا الموادّ الأوّلية للطعام والدواء وأمثال ذلك وانّنا مستقلّون في تركيبها وصناعتها وتحضيرها، فهذا هو من التفويض الباطل الّذي لايتناسب مع الربوبيّة المطلقة لله سبحانه علىٰ جميع عوالم الوجود.

فالمطعِم للإنسان والساقي والشافي هو الله. طبعاً انّ الله سبحانه يفعل هذه الاُمور عن طريق الأسباب الخاصّة، ومسبّب الأسباب هو أيضاً، ولذلك علّمونا أن نقول في الدعاء: «وقرّب فيه وسيلتي إليك من بين


[1] . سورة الفتح، الآيتان 4 و7.

[2] . سورة الانعام، الآية 79.

[3] . سورة الشعراء، الآيات 78 ـ 80.

تسنيم، جلد 1

502

الوسائل».[1] وأسباب الاُمور ليست في عرض السببيّة الإلٰهيّة ولاتعدّ مستقلّة في سببيّتها، فالمطعم هو الله لا الطعام ولوكان المُطعم والمشبع هو الطعام لكان طعام (الضريع)[2] يغني أهل جهنّم من الجوع عند أكله في حين انّهم مهما أكلوا منه فإنّه لايرتفع عنهم الجوع أبداً: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ٭ لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوع﴾.[3]

والله سبحانه يدبّر جميع الاُمور وقد أمرنا أن نقول: «باسم الله أموت وأحيىٰ»[4] عند الاخلاد الىٰ النوم، وأن نقول: «الحمد لله الّذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور»[5] عند الإستيقاظ، والهدف من تعليم الأدعية التوحيديّة هو جعل حياة الإنسان كلّها توحيديّة وبعيدةً ونقيّةً من الشرك. وحصر الاستعانة بالله يقتضي أن لايطلب الإنسان عوناً من غير الله وأن لايحسب نفسه معيناً ومغيثاً للآخرين، لأنّ المستعان الوحيد هو الله ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَان﴾.[6]

تنويه: هناك بعض الآيات تأمر بالتعاون ومساعدة البعض للبعض الآخر وتوهم بأنَّ طلب العون والمدد والإستعانة وكذلك الإعانة والإغاثة أمر صحيح، مثل قوله تعالىٰ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾.[7]


[1] . مفاتيح الجنان، دعاء اليوم 28 من شهر رمضان.

[2] . «الضريع» نبات شوكي في الصحراء. والّذين هم اليوم كالأنعام سيكون طعامهم غداً أشواك الصحراء.

[3] . سورة الغاشية، الآيتان 6 ـ 7.

[4] . البحار، ج73، ص202.

[5] . نفس المصدر، ص204.

[6] . سورة يوسف، الآية 18.

[7] . سورة المائدة، الآية 2.

تسنيم، جلد 1

503

وينبغي أن يقال في جواب هذه الشبهة انّ مقتضىٰ التوحيد الأفعالي انّ جميع الأعمال الصالحة للمحسنين ترجع الىٰ الله، وانّ جميع الفاعلين هم من درجات وشؤون فاعليّة الله سبحانه. وكما انّ الله خلق الماء والطعام وجعل فيهما صفتي الإرواء والإشباع، كذلك خلق الإنسان المعين أيضاً ووهبه قدرة الإمداد والإعانة والإغاثة وفي الحقيقة هو آية الله، وكلّ هذه الأعمال هي من الصفات الفعليّة لله سبحانه والّتي تنتزع من مقام فعله وزائدة علىٰ الذات، وليست من الصفات الذاتيّة الّتي تنتزع من مقام ذات الله سبحانه. إذن فالإستعانة من كلّ شيء هي استعانة من وجه الله وفيضه، لاغير ذلك وليس هناك من معين مستقلّ في اعانته، والّذي ينال التوفيق لأعمال الخير يجب عليه أن يعتبر نفسه شأناً من الشؤون الإلٰهيّة في مقام فعل الله. إذن فالتعاون والاستعانة والاعانة كلّها في محور الفعل لا الذات، وحيث انّ الله ربّ العالمين يدبّر جميع مافي الكون فلا منافاة لها مع حصر الإستعانة بالله، وبهذا التوضيح لايبقىٰ مجال للقول بأنّ (ايّاك نستعين) في مورد العبادة وأمّا (تعاونوا علىٰ البرّ والتقوىٰ) فهي في مورد القضايا الإجتماعيّة.

وأمّا الذنب فبما انّه نقص وأمر عدميّ فهو لاعلاقة له بالله سبحانه، ومنشأ كلّ معصية إمّا الجهل أو العجز أو سائر الاُمور العدميّة، والله سبحانه منزّه عنها جميعاً. والله سبحانه قد وضع الأسباب والوسائل تحت تصرّف الجميع سواء كانوا يريدون الدنيا أم يطلبون الآخرة: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً ٭ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً

تسنيم، جلد 1

504

٭ كُلاًّ نُّمِدُّ هٰؤُلاَءِ وَهٰؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورا﴾.[1] فالبعض من الناس يريد (العاجلة) أي الدنيا العابرة، وبعض يطلب الآخرة والآجلة، والله سبحانه يعين ويُمِدُّ الفئتين ولايمنع عطاءه عن أحد، لكنّ اعانة مريدي الدنيا هي لأجل اتمام الحجّة ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة﴾[2] لأنّ الأدوات والوسائل اللازمة للعمل إذا لم توضع في يد المفسدين فإنّه لاتتوفّر الأرضيّة لامتحانهم واختبارهم. طبعاً انّ الإمدادات الغيبيّة خاصّة بالمؤمنين ولا معنىٰ لها في مجال المعصية، لأنّ المعصية لاتعود إلىٰ عالم الغيب والذنب لاينزل أبداً من نشأة التجرّد وباطن العالم.

وخلاصة القول انّ الربوبيّة المطلقة لله سبحانه لاتدع مجالاً لاستقلال ايّ فاعل، وبالرؤية التوحيديّة فإنّ جميع أعمال الخير هي فعله، وبذلك البيان السابق اتّضح الجواب علىٰ شبهة عدم الإنسجام بين الاستعانة بالصبر والصلاة في قوله تعالىٰ ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَبْرِ وَالصَّلاَة﴾[3] وبين حصر الاستعانة بالله، لأنّ الاستعانة بالصلاة وباقي العبادات هي استعانة بشأن من الشؤون الإلٰهيّة وفعل من أفعال الله وارتباط مع (وجه الله) لا مع الغير. فالعبد والصلاة جسر يعبر بنا نحو الهدف، وإلاّ فإنّهما لا استقلال لهما في الإعانة والامداد.

10. الاستعانة الصادقة والكاذبة

انّ حصر العبادة والاستعانة بالله سبحانه تارة لايتجاوز حدود اللفظ


[1] . سورة الاسراء، الآيات 18 ـ 20.

[2] . سورة الأنفال، الآية 42.

[3] . سورة البقرة، الآية 153.

تسنيم، جلد 1

505

والمفهوم وتارة يتعدّىٰ ذلك، فيشمل جميع الشؤون الإعتقاديّة والأخلاقيّة والعمليّة لمن يقول ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾. والسبيل الىٰ معرفة الاستعانة الصادقة هو أن ينظر ويدقّق الإنسان في جميع شؤونه ويحاسب نفسه، فإذا لم يعتمد في ايّ شأنٍ من شؤونه علىٰ غير الله فهو صادق في صلاته وبحقّ يقول: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾، لكن إذا كان في كلّ أمر أو حادث يواجهه ينظر الىٰ غير الله أوّلاً وبعد الخيبة واليأس من جميع السُبل يلجأ الىٰ الدعاء والإبتهال، فهذا يبيّن انّه غير صادق أيضاً في الصلاة والدعاء، وإذا ماعَرَض له خلال الدعاء من يخدعه فإنّه سيترك الدعاء.

وقد قَسَّم الحكيم السبزواري (ره) الصدق الىٰ الصدق في القول والفعل فهو يقول:

الصـدق بالقول وبالقـصود والفعـل كالـوفـاء بالعهـود

يكذب مستعين حق إذ قرىٰ ثمَّ إذا المهـمّ جـا غيراً يرىٰ[1]

فقائل «ايّاك نستعين» إذا كان أوّل ملجأ يخطر في باله وأوّل برق يلمع في قلبه عند وقوع الحادثة هو (نور السماوات والأرض) الّذي يضيء جميع الكون فإنّه سيرىٰ الطريق بأشعّة ذلك النور، أمّا إذا كان ينظر إلىٰ غير الله كقوّته أو عشيرته فهو كاذب في ادّعائه حصر الاستعانة، ومثله كالمسافر الّذي أضلَّ الطريق فلمع له برق خاطف في ظلمات الليل ولم ينوّر الأجواء سوىٰ لحظة عابرة ثمّ اختفىٰ فلم ينتفع منه شيئاً وبقي يبحث عن الطريق: «ليس في البرق الخاطف مستمتع لمن


[1] . شرح المنظومة، قسم الحكمة، فريدة في الصدق، ص354.

تسنيم، جلد 1

506

يخوض في الظلمة».[1] فإذا كان لغير الله نور (وليس له نور) فهو كالبرق الخاطف في الصحراء المظلمة حيث لن يكون أبداً بديلاً عن (نور السماوات والأرض).

ومن وصايا ائمّتنا المعصومين(ع ) إلىٰ أحبّ ذويهم عند اقتراب ساعة رحيلهم من الدنيا هو الحذر من ظلم من لايرىٰ له ملجأً ومعيناً سوىٰ الله، لأنّ أوّل برق يلمع في ذهنه هو برق الاستعانة بالله سبحانه ولا يدنّس قلبه بأوساخ فكر الاستعانة بغير الله: «ايّاك وظلم من لايجد عليك ناصراً إلاّ الله».[2] ومثل هذا المتوكّل بما انّ دعاءه يكون خالصاً فهو مستجاب الدعوة حتماً، انّ آهات المظلوم الّذي لامُغيث له لايحجبها شيء وتصعد بلامانع إلىٰ ساحة القدس الربوبيّ والعرش الإلٰهيّ، ولهذا فإنّ الإمام الحسن(ع) في صغر سنِّه أجاب علىٰ سؤالٍ حول المسافة بين السماء والأرض فقال: «دعوة المظلوم ومدُّ البصر»[3] أي إذا كان السؤال عن المسافة الظاهريّة فهي مدّ البصر ومدىٰ ماترىٰ العين وإذا كان السؤال عن غيب السماوات فالجواب هو الدعاء وآهات المظلوم الّتي تصعد نحو الساحة الربوبيّة والعرش الإلٰهيّ. وإذا لم يطلب الإنسان شيئاً إلاّ من الله فإنّ الله ناصره حتماً.

مراتب الاستعانة

كما انّ العبادة لها درجات متعدّدة وتنقسم الىٰ أقسام كعبادة العبيد والتجّار والمحبّين، فالاستعانة أيضاً لها درجات ومراتب مختلفة، فتارة


[1] . البحار، ج74، ص286.

[2] . نفس المصدر، ج72، ص308.

[3] . تحف العقول، ص164.

تسنيم، جلد 1

507

يرىٰ الإنسان نفسَه في بداية الأمر ويقول: «أنا استعين بالله». فهذه أنزل مراتب الاستعانة، وإذا قام الإنسان بعمل ما وأكمل نقصه شخص آخر، فالآخر ناصر ومعاون وشفيع، والعمل قد تمّ بالنصر والمعونة والشفاعة، لا الولاية، لكن إذا لمْ يرَ الانسان لنفسه سهماً ولا حظّاً وأوكل جميع الاُمور الىٰ الله فهو تحت ولاية الله: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾.[1]

فالولد البالغ عندما يتحمّل مسؤوليّة اُموره، لكن والده يعينه علىٰ إكمال ما لديه من نقص، فإنّ دور الأب بالنسبة للإبن هو دور الناصر والمعين والشفيع، لكن الوليد الرضيع الّذي لاقدرة له علىٰ القيام بشيء فهو تحت ولاية أبيه.

ودرجات الاستعانة مرتبطة بمراتب العبادة وبنفس الدرجة الّتي يكون فيها العابد موحّداً وصادقاً في توحيده فإنّ استعانته ستكون أكثر دقّة وأشدّ ظرافة، فإذا ارتقت العبادة إلىٰ المرتبة العالية فالاستعانة أيضاً ترتقي الىٰ مرتبة الولاية، وفي استعانة المولّىٰ عليه من الوليّ، يكون العون الكامل للوليّ الّذي له اشراف تامّ علىٰ جميع شؤون المولّىٰ عليه. وطريق رقيّ العبادة الىٰ المرتبة العالية هو أن لايرىٰ العابد، لانفسه ولا العبادة ويرىٰ نفسه كالمحجور الّذي لايملك شيئاً، لانّ (ولاية الوليّ) تقترن دائماً بـ (حجر المولّىٰ عليه) وإذا رأىٰ الإنسان نفسه في العبادة (محجوراً) فإنّ استعانته في قوله «ايّاك نستعين» ستأخذ صورة (الإستيلاء) أي قبول الولاية، وإلاّ فإنّ الموجود الّذي يرىٰ نفسه مستقلاًّ لايدخل تحت ولاية أحد. طبعاً ليس المقصود من هذا الحَجر هو الحجر


[1] . سورة البقرة، الآية 257.

تسنيم، جلد 1

508

المعروف في الفقه الأصغر بل المقصود منه حَجْر الموجود الرابط في مقابل الموجود المستقلّ، وإن كان الموجود الرابط هو بنفسه وليّ الله. وإذا كان الطريق المبلّط والمستوي والسهل يقال له (طريق معبّد) فلأجل ما فيه من تواضع تكوينيّ ولأنّه خاضع وذلول في طبيعته.

12. الاستعانة والتوكّل والتفويض

انّ الله سبحانه يأمر ذوي الدرجة المتوسّطة من أوليائه والّذين هم في وسط طريق السلوك بالتوكّل: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه﴾.[1] فالإنسان المحتاج الّذي يعجز عن قضاء حوائجه يجب أن يتّخذ وكيلاً يوفّر له حوائجه ووكيله هو الّذي له غيب وشهود السماوات والأرض في قوس النزول، وفي قوس الصعود هو مَن سترجع جميع الأشياء إليه.

أمّا اُولئك الّذين اقتربوا الىٰ المقصد فهم قد بلغوا درجة أعظم من التوكّل وارتقوا الىٰ مقام التفويض وتسليم الاُمور لله، لأنّ معنىٰ اتّخاذ الوكيل هو انّ الإنسان لايزال يرىٰ نفسه وطلباته وأفعاله ولأجلها يتّخذ وكيلاً. امّا من بلغ مقام التفويض والتسليم فلايرىٰ لا نفسه ولا عمله حتّىٰ يتّخذ وكيلاً ليقوم به، بل يرىٰ جميع الأفعال بيد الله.

إذن وإن كان المتوكّلون وأهل التفويض كلّهم محبوبين لدىٰ الله سبحانه لكنّ المتوكّلين لم يبلغوا مقام المحبّة الّتي حظي بها أهل التفويض، وأمّا من بلغ مقام التفويض فهو واصل الىٰ مقام التوكّل أيضاً.


[1] . سورة هود، الآية 123.

تسنيم، جلد 1

509

والتوكّل وإن كان أقلّ درجة من التفويض لكنّه بالقياس الىٰ الاستعانة[1] يعتبر أعلىٰ منها، لأنّه في الاستعانة يقوم الإنسان بنفسه بالعمل ويطلب العون من الله، ولكن في التوكّل يوكِل الفعل الىٰ الله، وفي مرتبة أعلىٰ وهي التفويض لايرىٰ نفسه ولا الفعل أصلاً فلايصل الدور به الىٰ ايكاله الىٰ الله.

والّذي لم يبلغ أيّ مرتبةً من المراتب الثلاث: (الاستعانة والتوكّل والتفويض) فهو ليس سائراً وسط طريق الدين، بل يسير في أطرافه وحواشيه وهو علىٰ حافّة السقوط من الدين، فهو باق في الدين مادام الدين يوفّر له منافعه ومصالحه فإذا لم ينتفع بالدين أو أصابه بسبب الدين شيء من الضرر تنكّر للدين وتركه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَة﴾.[2] فهو يريد الدين للحصول علىٰ الدنيا، لا للآخرة ولا للدنيا الحسنة، فهو لايقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة﴾[3] بل يقول: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾.[4] إذن إذا لم يعد عليه الدين بالمنفعة فقد خسر الدنيا والآخرة، كما في عَبدَة الأصنام في الحجاز حيث لم يكونوا يؤمنون بالآخرة وكانوا يعبدون الأصنام لأجل أن تشفع لهم عند الله حتّىٰ يستمتعوا بالدنيا، لا أن تشفع لهم ليحصلوا علىٰ مكاسب اُخرويّة ومعنويّة، لأنّهم لم يكونوا معتقدين بالآخرة.


[1] . المقصود هو الدرجات النازلة من الاستعانة وإلاّ فإنّ درجاتها العالية كما مرّ في البحث السابق هي بلوغ مرتبة الاستيلاء أي قبول الولاية الإلٰهيّة.

[2] . سورة الحج، الآية 11.

[3] . سورة البقرة، الآية 201.

[4] . سورة البقرة، الآية 200.

تسنيم، جلد 1

510

البحث الروائي

1. مراتب العبادة

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «انّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجّار وانّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وانّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار».[1]

ـ عن الصادق(ع): «العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد وقوم عبدوا الله تبارك وتعالىٰ طلب الثواب فتلك عبادة الاُجراء وقوم عبدوا الله عزّ وجلّ حبّاً له، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة».[2]

ـ «انّ الناس يعبدون الله عزّ وجلّ علىٰ ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه، فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع وآخرون يعبدونه فَرَقاً من النار فتلك عبادة العبيد وهي رهبة ولكنّي أعبده حبّاً له عزّ وجلّ فتلك عبادة الكرام وهو الأمن لقوله عزّ وجلّ: ﴿وَهُم مِن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُون﴾[3] ولقوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم﴾[4] فمن أحبَّ الله عزّ وجلّ أحبّه ومن أحبَّه الله كان من الآمنين».[5]


[1] . نهج البلاغة، الحكمة 237.

[2] . اُصول الكافي، ج2، ص84.

[3] . سورة النمل، الآية 89.

[4] . سورة آل عمران، الآية 31.

[5] . البحار، ج67، ص205.

تسنيم، جلد 1

511

ـ «انّ الناس يعبدون الله علىٰ ثلاثة أصناف: صنف منهم يعبدونه رجاء ثوابه فتلك عبادة الخدّام، وصنف منهم يعبدونه خوفاً من ناره فتلك عبادة العبيد، وصنف منهم يعبدونه حبّاً له فتلك عبادة الكرام».[1]

ـ ﴿إِيِّاكَ نَعْبُد﴾... «يعني لانريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل كما يعبدك الجاهلون بك المغيّبون عنك».[2]

ـ عن السجّاد(ع): «انّي أكره أن أعبد الله ولا غرض لي الاّ ثوابه فأكون كالعبد الطَمِعِ المُطَمَّعِ إن طُمِّعَ عمل، وإلاّ لم يعمل، وأكره أن [لا] أعبده الاّ لخوف عقابه فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل. قيل: فلِمَ تعبده؟ قال لما هو أهله بأياديه عليّ وانعامه».[3]

اشارة: انّ عبادة الشكر والمحبّة الّتي هي أعلىٰ مراتب العبادة مقام مكنون لايُنال الاّ بواسطة (الطهارة المعنويّة) الّتي هي في مقابل الرجس المعنويّ، وحسب المعيار القائل (تعرف الأشياء بأضدادها) فإنّه يمكن استنباط تعريف احداهما من تعريف الاُخرىٰ. ففي القرآن الكريم وصف الله سبحانه الشرك بالنجاسة والمشركين بالنجَس فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس﴾[4]، ولمّا كان التوحيد يقابل الشرك والموحّد مقابل المشرك فالنتيجة هي انّ التوحيد طهارة معنويّة والموحّد ذو طهارة باطنيّة، وحيث انّ بعض ألوان التوحيد خالص وبعضها مشوب بالشرك، كما يظهر من


[1] . البحار، ج8، ص200.

[2] . تفسير الصافي، ج1، ص72.

[3] . البحار، ج67، ص210.

[4] . سورة التوبة، الآية 28. إذا كان في استظهار النجاسة الفقهيّة والظاهريّة من الآية المذكورة اختلاف فإنّه لاخلاف في النجاسة الكلاميّة والباطنيّة.

تسنيم، جلد 1

512

الآية الكريمة: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاّ وَهُم مُشْرِكُون﴾[1] انّ أكثر اهل الإيمان مبتلون بالشرك، إذن فاُولئك الّذين يتمتّعون بالتوحيد الخالص والبريئون من أيّ نحو من الدنس هم المطهّرون الحقيقيّون، ومثلهم لايرجوا في عبادته شيئاً سوىٰ المعبود نفسَه، وهؤلاء يعدّون من يتمنّىٰ حلاوة الجنّة ويتلذّذ بها مِن جملة مَن لم يذق طعم محبّة الله.

2. رؤية المعبود في العبادة

ـ عن الصادق(ع): «... ومن زعم انّه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال علىٰ غائب ومن زعم انّه يعبد بالصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لأنّ الصفة غير الموصوف ومن زعم انّه يضيف الموصوف الىٰ الصفة فقد صغر بالكبير وما قدروا الله حقّ قدره».[2]

اشارة: انّ ذات الله سبحانه هويّة مطلقة لاينال كُنهها العلم الحصوليّ للحكيم والمتكلّم ولا يناله العلم الشهوديّ للعارف، كما لم يُكلّف أحد بمثل هذا التكليف المحال. امّا ادراك الله بمقدار وسع العقل والقلب البشريّ فهو ممكن بل هو لازم، ومثل هذه المعرفة يجب أن تكون مقترنة بالاعتراف بالعجز عن بلوغ حقيقة وعمق تلك الذات المقدّسة.

والأمر المهمّ في تبيين هذا النوع من الأحاديث الغرّاء هو:

أ. انّ المعبود يجب أن يكون مشهوداً لاغائباً، ولذلك فمن عرف الله بالصفة فقد زعم انّه غائب، وإلاّ فانّ الحاضر والمشهود يعرف بنفسه، لا بالصفة، كما انّ من يعبد الصفة والموصوف كليهما، فهو مبتلىٰ بالشرك.


[1] . سورة يوسف، الآية 106.

[2] . تحف العقول، ص326.

تسنيم، جلد 1

513

ومن أضاف الموصوف (الذات) الّذي هو أهمّ من الصفة الىٰ الصفة فقد صَغَّرَ الذات الّتي هي عظيمة وشَمِله قول الله تعالىٰ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه﴾.[1] إذن فالأصل هو انّ المعبود يجب أن يكون مشهوداً بالاصالة وبنوره تتمّ رؤية صفاته.

ب. كما تبيّن بالتفصيل في الاشارة السابقة فانّ هدف العبادة التامّة والكاملة هو لقاء المعبود نفسه وليس التمتّع بنعم الجنّة أو الخلاص من النار.

4. الاستعانة علامة علىٰ بطلان التفويض

ـ اجتمع ابو عبد الله(ع) مع رجل من القَدَرية عند عبد الملك بن مروان فقال القَدَريّ لأبي عبد الله(ع): سل عمّا شئت، فقال له: «اقرأ سورة الحمد». قال: فقرأها. فقال الاُمويّ ـ وانا معه ـ : مافي سورة الحمد علينا، (انّا لله وإنّا إليه راجعون). قال: فجعل القدريّ يقرأ سورة الحمد حّتىٰ بلغ قول الله تبارك وتعالىٰ ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾. فقال له جعفر: قف! من تستعين؟ وما حاجتك الىٰ المعونة: «انّ الأمر إليك». ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾.[2]

اشارة: انّ التفويض والقَدَر باطل كالجبر لأنّ الموجود الممكن سواء كان في مقام الحدوث أو البقاء فهو عين الربط والفقر الىٰ المبدأ الغنيّ، وهذا الفقر هو عين ذاته (هويّته، لاماهيّته). وعليه فلايمكن أن تُحال أفعال الموجود الفقير المحض الىٰ نفسه أو الىٰ موجود آخر مثله. وطلب الاستعانة من العبد الىٰ الربّ المستفاد من الآية المذكورة


[1] . سورة الانعام، الآية 91.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص20، (سورة البقرة، الآية 258).

تسنيم، جلد 1

514

هو علامة علىٰ انسجام الدليل النقليّ مع العقلي؛ كما انّه ادّىٰ إلىٰ صيرورة القدريّ مبهوتاً.

5. الاستعانة من المعين الملكوتيّ

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «وأكثر الاستعانة بالله يكفك ما اهمّك ويُعنك علىٰ ما ينزل بك»[1]، «وأحمد الله وأستعينه علىٰ مداحر الشيطان ومزاجره»[2]، «أحمده شكراً لانعامه واستعينه علىٰ وظائف حقوقه»[3]، «ونستعينهُ علىٰ رعاية حقوقه».[4]

اشارة: الإنسان كبقيّة الموجودات الطبيعيّة الاُخرىٰ مُعرَّض للحوادث المؤلمة وذلك لأنّ الجميع في عالم الطبيعة في حالة السعي وبذل الجهد ولابدّ أن يقع التزاحم الّذي يكون سبباً للاضرار بالبعض، وإذا لم يجد المتضرّر معيناً ومغيثاً يساعده ويغيثه فإنّ الموجود المتضرّر سوف يفنىٰ ويزول.

والإنسان اضافة الىٰ تعرّضه للكوارث الطبيعيّة المدمّرة، فهو مبتلىٰ بعدوّ حاقد آخر هو الشيطان الّذي استهدف سعادة الإنسان الأبديّة، وهو يريد اغواءه وعليه فإنّ الإنسان أكثر من أيّ موجود آخر هو بحاجة الىٰ أن يستنجد من الناصر الغيبيّ ويستعين بالمعين الملكوتيّ، وبما انّ الله


[1] . نهج البلاغة، الكتاب 34، المقطع 5.

[2] . نفس المصدر، الخطبة 151، المقطع 1.

[3] . نفس المصدر، الخطبة 190، المقطع 1.

[4] . نفس المصدر، الخطبة 100، المقطع 1.

تسنيم، جلد 1

515

سبحانه وصف نفسه (بالكافي) ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه﴾[1]، وجاء في بعض النصوص الدينيّة: «يامن يكفي من كلّ شيء ولايكفي منه شيء اكفني ما أهمّني»[2]، لذلك فانّ الاستعانة بالذات الإلٰهيّة المقدّسة عامل للكفاية من جميع المهمّات وأساس للنجاة من الشيطان الباطنيّ والظاهريّ. ولهذا فإنّ أمير المؤمنين(ع) يشكر الله علىٰ نِعَمه ويستعين به علىٰ أداء وظائف حقوقه كاملة، لأنّ العبد إذا وفىٰ بعهده فإنّ الله سيكون وفيّاً بعهده دون شكّ: ﴿أَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُم﴾.[3]

٭ ٭ ٭


[1] . سورة الزمر، الآية 36.

[2] . البحار، ج92، ص195.

[3] . سورة البقرة، الآية 40.

تسنيم، جلد 1

516

تسنيم، جلد 1

517

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

خلاصة التفسير

انّ العبد السالك الّذي يرغب في الوصول الىٰ لقاء الله محتاج الىٰ صراط لاعوج فيه ولا انحراف وفي أمان من كيد الشيطان، ويحتاج الىٰ نور هداية يُريه الطريق ويقوده حتّىٰ يبلغ الىٰ الهدف الأخير.

وفي هذه الآية يطلب العبد السالك من الله أن يهديه الىٰ الصراط المستقيم وهذه الهداية هي الهداية التكوينيّة، لأنّ القائل (المصلّي أو قارئ القرآن) بعد معرفة الله والإيمان به يطلب نور الهداية كي يميّز بأشعّته بين الطريق والمهوىٰ (حافّة السقوط)، وحيث انّ الإنسان في سعي وحركة دائمة، وطريق الحقّ له مراتب ومنازل كثيرة لذلك فانّ علىٰ العبد السالك أن يطلب دائماً من الله الهداية الىٰ الصراط المستقيم.

والصراط هو الطريق الرئيسيّ المرتبط بالله سبحانه من جهة (وبهذا اللحاظ يكون واحداً وليس كثيراً)، ومن جهة اُخرىٰ يتّصل بفطرة كلّ فرد من أفراد الإنسانيّة ويبدأ من باطن كلّ واحد منهم ولهذا فانّ سلوكه ليس صعباً، وكلّ من يسير فيه يصل الىٰ لقاء الله.

تسنيم، جلد 1

518

التفسير

اهدنا: الهداية في اللغة بمعنىٰ الدلالة والإرشاد وهي علىٰ نحوين:

احدهما الدلالة علىٰ طريق بلوغ الهدف ويقال لها (اراءة الطريق) والآخر هو إيصال السالكين الىٰ الهدف ويعبّر عنه بـ (الايصال الىٰ المطلوب).

الصراط: وهو الطريق الكبير الواسع والواضح. يقول الراغب:

هذه المفردة في الأصل (سراط) بمعنىٰ البلع وحيث انّ الطريق المفتوح والعامّ لما فيه من سعة ووضوح كأنّه يبتلع السالك ويسرطه في جوفه لذلك قيل له «صراط».[1]

واعتبر بعض الباحثين في مفردات القرآن انّ هذا الرأي خطأ، وقالوا انّ صراط مفردة مستقلّة وغير مبدّلة، لأنّ (سِراط) لها مشتقّات كثيرة، في حين انّ (صِراط) ليس لها تلك المشتقّات.[2]

المستقيم: وأصل هذه المفردة من مادّة (ق و م) وبواسطة الهيئة الخاصّة في باب الاستفعال فهي تدلّ علىٰ طلب القيام. وحيث انّ الإنسان في حال القيام قادر علىٰ تأدية أكثر اعماله، لذلك كانت مفردة (القيام) إسماً لأفضل حالة يكون فيها الشيء. كما انّ أفضل حالة للشجرة هي أن تقوم علىٰ جذعها ولها جذور في الأرض، ولذا تُسمّىٰ هذه الحالة بقيام الشجرة.

والإستقامة طلب القيام من الشيء، وطلب القيام كناية عن ظهور


[1] . مفردات الراغب، سرط.

[2] . التحقيق، ج6، ص264.

تسنيم، جلد 1

519

ثمرة الشيء وآثاره ومنافعه وبما انّ آثار ومنافع الطريق تكون في استوائه وعدم اعوجاجه وعدم تضليله للسالك، فإنّ مثل هذه الحالة تعدّ قياماً لهذا الطريق. إذن فالطريق المستقيم هو الطريق الّذي يراد منه عدم الإعوجاج وأن يكون عدم الإعوجاج حاصلاً فيه. ولهذا فانّ صفة المستقيم للصراط توضيحيّة وليست احترازيّة.

طريق النور والسالكون النورانيّون

الإنسان من حيث انّه موجود متحرّك وسالك، ولأجل انّ هدفه وغايته لقاء رحمة ربّ العالمين، لذلك فهو بحاجة الىٰ مسلك وصراط سليم من الإعوجاج والإنحراف آمن من كيد الشيطان وهو محتاج أيضاً الىٰ نور هداية يوضّح له الطريق ويرشده خطوة خطوة إلىٰ الهدف المنشود.

وقد أوضح الله سبحانه معالم طريق السلوك والوصول للسالكين نحو موطن رحمته، ودعا الجميع الىٰ السير والحركة لبلوغ صفاته الجماليّة.

والعبد السالك في هذه الآية الكريمة وبتعليم من الله سبحانه، يسأل الهداية نحو الصراط المستقيم، والهداية علىٰ نحوين: تشريعيّة وتكوينيّة.[1]

فالهداية التشريعيّة عبارة عن ايضاح المنهج والقانون المحقّق للسعادة وتعليم المعارف وتبليغ أحكام الدين، والأمر بالفضائل والنهي عن الرذائل عن طريق الوحي والرسالة، ويطلق علىٰ هذه الهداية عنوان: (اراءة الطريق). امّا الهداية التكوينيّة فهي انّ الربّ يزوّد القوىٰ العلميّة


[1] . هناك بحث مفصّل عن الهداية التكوينيّة والتشريعيّة ذكر في كتاب (الهداية في القرآن)، للمؤلّف، وهو باللغة الفارسيّة.

تسنيم، جلد 1

520

للإنسان ببصيرة خاصّة ويزوّد القوىٰ العمليّة له بجذب وهمّة وعزم مخصوص حتّىٰ يحصل له فهم أو رؤية المعارف الإلٰهيّة وسلوك الطريق وبلوغ الهدف الأخير طبقاً لما هو مطلوب، وبعبارة اُخرىٰ هي الأخذ بيد العبد السالك خطوة بعد خطوة حتّىٰ ايصاله الىٰ الهدف. ولذلك يطلق علىٰ هذه الهداية مصطلح: (الإيصال الىٰ المطلوب).

والهداية الّتي تُطلب من الله في الآية الكريمة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ هي الهداية التكوينيّة[1]، لا التشريعيّة لأنّ قائلها (المصلّي أو قارئ القرآن) وبعد معرفة الله، وتلقّي معارف وأحكام الدين والإرتباط بها يسأل الله الهداية. فهو ليس في صدد تحصيل الحاصل بل هو يريد هداية نورانيّة بحيث علىٰ ضوئها يتعرّف علىٰ الطريق جيّداً ويشخّص هاوية السقوط المحيطة به أيضاً: «اليمين والشمال مضلّة والطريق الوسطىٰ هي الجادّة».[2]

والسرُّ في انّ العبد السالك يجب أن يستمرّ دائماً في طلب الهداية الىٰ الصراط المستقيم من الله سبحانه (في الصلاة أو تلاوة القرآن) هو انّ الإنسان في طريقه الىٰ الله يمرّ بمنازل ومراحل كثيرة، والإنسان كلّما نال مرتبة من مراتب الكمال وإن كان قد أصبح بصيراً ونورانيّاً بالنسبة إلىٰ المرتبة السابقة ولكنّ استمرار ذلك الكمال وبقاءه يحتاج الىٰ استمرار الإفاضة، كما انّ هذه المرتبة بالنسبة الىٰ المراتب الأعلىٰ منها تعدّ ظلاماً


[1] . المفسّرون الّذين فسّروا الهداية في هذه الآية الكريمة بمعنىٰ (الاستمرار في سلوك الصراط المستقيم) أو (ثبات القدم في الطريق) قد اعتبروها هداية تكوينيّة.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 16، المقطع 7.

تسنيم، جلد 1

521

وعمىٰ، ولذلك ترىٰ حتّىٰ أولياء الله الّذين اجتازوا الكثير من مراتب الكمال لازالوا لم يبصروا الكثير من الحقائق مثل كليم الله موسىٰ(ع) الّذي يقول: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك﴾.[1] ولهذا فإنَّ كلّ من نال مرتبة من الكمال في المعرفة والعمل يجب عليه أن يطلب من الله ترسيخ قدمه في تلك المرتبة ويسأل الله قائلاً: «لاتنزع منّا صالحاً أعطيتنا»[2]، «فلا تسلب منّي ما أنا فيه»[3] هذا من جهة، ومن جهة اُخرىٰ يسأل الله أن يأخذ بيده نحو مراتب أعلىٰ ويطلب منه نور الهداية كي يتّصل حدوث الكمال ببقائه وترتبط مراتبه الأوّليّة والإبتدائيّة بمراحله الأخيرة والنهائيّة، كما انّه في مجال تطبيق الحكم الكلّي علىٰ المصداق وتعيين التكليف يكون بحاجة الىٰ الهداية والتسديد.

والهداية التشريعيّة والإطّلاع علىٰ معارف الدين وإن كانت ضروريّة وهي الوسيلة لاتمام الحجّة، لكنّها أحياناً لاتكفي وحدها لبلوغ المقصد وليس لها الأثر المطلوب كما حصل للكثير من علماء الدين والخبراء بأحكام الشريعة وحِكَمها ممّن تدنّست أيديهم بالذنب بسبب حرمانهم من البصيرة والرؤية الباطنيّة لحقيقة الذنب الكريهة. فالهداية التكوينيّة ونور البصيرة الباطنيّة هي الّتي تحفظ العبد السالك وتزوّده بالحصانة.

والمصلّي في هذا الفصل من سورة الحمد ومن خلال سؤاله من الله التوفيق لصيانة وحفظ ماحصل عليه سابقاً فإنّه يطلب من الله الوصول


[1] . سورة الاعراف، الآية 143.

[2] . البحار، ج87، ص175.

[3] . نفس المصدر، ج99، ص267.

تسنيم، جلد 1

522

الىٰ المراتب الأعلىٰ الّتي من جملتها شهود باطن العالم وحقيقة وباطن الذنب. وهذه الهداية والبصيرة في مقابل «العمىٰ» الباطنيّ. فالهداية ليست فقط (علم القلب) بل (بصيرة القلب)، والمهتدي ليس فقط من (يعلم) الحقّ بل هو من (يرىٰ) الحقّ. والقرآن الكريم يعتبر العلم هداية إذا أدّىٰ الىٰ البصيرة وأثمر العمل، وفي غير ذلك فانّ العالم الفاقد للبصيرة مبتلىٰ بنحو من العمىٰ.

لذلك يقول الله سبحانه حول قوم (ثمود): ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَىٰ الْهُدَىٰ﴾.[1] وعليه فإنّ من يعرف الحقّ فحسب ولكن لايبصره ولايسلك طريقه فهو أعمىٰ، وهذا العمىٰ هو عمىٰ القلب وعين السِرِّ والباطن، وليس عمىٰ العين الظاهريّة الّتي هي في الرأس: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَىٰ الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾[2] واُولئك الّذين استحبّوا العمىٰ علىٰ الهدىٰ اصيبوا بعذاب الذلّة والهوان: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾.[3] وعذاب الذلّة عذاب معنويّ يحرق الروح والقلب وهو أسوأ من العذاب الجسمانيّ الّذي يتعلّق بالبدن: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب﴾.[4]

إذن فالهداية نور الباطن، والضلالة عمىٰ الباطن وقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ يعني طلب المشاهدة والبصيرة من الله سبحانه.


[1] . سورة فصّلت، الآية 17.

[2] . سورة الحجّ، الآية 46.

[3] . سورة فصّلت، الآية 17.

[4] . سورة النساء، الآية 56.

تسنيم، جلد 1

523

والإنسان يتمتّع بالحصانة النسبيّة فيما يتعلّق بالاُمور الّتي حقيقتها مكشوفة وواضحة كإحراق النفس وتناول السمّ، وأولياء الله الّذين يرون جميع الذنوب بهذا النحو ودون حجاب فهم يتمتّعون بالعصمة المطلقة. وبهذه الرؤية والبصيرة ينظر الإنسان الىٰ الذنب فيراه ناراً محرقة وسمّاً مهلكاً فيتجنّبه، ومحلّ هذه البصيرة النافذة هو القلب المجرّد لا العين المادّية الظاهرة. فإذا ما رأىٰ الإنسان حقيقة الذنب القبيحة جدّاً ببصيرته الباطنيّة وأدركها كما هي فإنّه سيشمئزّ من الذنب كما يشمئزّ من الجيفة المنتنة.

والمؤمنون والصالحون الّذين حباهم الله بالهداية التكوينيّة، نورانيّون في الدنيا وفي الآخرة، امّا في الدنيا فيقول عنهم القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس﴾[1]، ﴿وَكَذٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾.[2] وهذا النور ليس ثمرة للعلوم الحصوليّة، لأنّ الكثير من المنحرفين أيضاً لديهم العلوم الحصوليّة، لكنّ المؤمن بهذا النور يرىٰ هو بنفسه جيّداً ويهب للمجتمع الإنسانيّ الرؤية والبصيرة أيضاً. وأمّا في الآخرة فيقول عنهم القرآن الكريم: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيِهمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾[3] أي انّ نور المؤمنين في الجنّة يسعىٰ أمامهم ويضيء ما حولهم.

تنويه: انّ الهدف النهائيّ والأساسيّ لرسالة الرسل هو إخراج الناس من الظلمات الىٰ النوّر: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ


[1] . سورة الانعام، الآية 122.

[2] . سورة الشورىٰ، الآية 52.

[3] . سورة التحريم، الآية 8.

تسنيم، جلد 1

524

إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾[1]، وأمّا «القيام بالقسط» الّذي جاء في الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط﴾[2]، فهو هدف متوسّط وليس هدفاً نهائيّاً. والنور الّذي هو الهدف النهائيّ للرسالة في بدايته هو نور للهداية التشريعيّة ثمّ يتحوّل الىٰ نور للهداية التكوينيّة.

معيّة الله لسالكي الصراط

هناك حقيقة يُبيّنها القرآن الكريم حول المجاهدين في سبيل الله، وهي انّ الله سبحانه ليس محتاجاً الىٰ جهادهم، وإنّما هو الإنسان الّذي ينتفع بجهاده: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين﴾[3]، وإلىٰ جانب بيان هذه الحقيقة للمجاهدين فإنّه أيضاً يعدهم بالهداية التكوينيّة و(المرافقة الخاصّة): ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين﴾[4] فالله سبحانه الّذي هو صاحب (سبلنا) يمسك بأيدي السالكين ويرافقهم في مراحل جميع الطريق خطوة بعد خطوة لأنّه دائماً معهم.

ولله سبحانه لونان من المعيّة: احداهما المعيّة القيّوميّة المطلقة الّتي تطال جميع الأفراد وكلّ الأشياء: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُم﴾[5] ونتيجتها


[1] . سورة ابراهيم، الآية 1.

[2] . سورة الحديد، الآية 25.

[3] . سورة العنكبوت، الآية 6.

[4] . سورة العنكبوت، الآية 69.

[5] . سورة الحديد، الآية 4.

تسنيم، جلد 1

525

الهداية العامّة والشاملة: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ﴾[1]، والاُخرىٰ هي المعيّة الخاصّة الّتي تقترن بالهداية الخاصّة، والهداية الخاصّة التكوينيّة الّتي هي محلّ البحث هي الهداية الخاصّة الّتي هي ثمرة للمعيّة الخاصّة: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُون﴾.[2] فالمعيّة المطلقة لا اختصاص لها بالمؤمنين بل انّها تظهر حتّىٰ للمفسدين أيضاً وبصورة: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد﴾.[3]

وطلب الهداية في الآية: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ هو طلب للمعيّة والمرافقة الخاصّة الّتي هي من الله سبحانه للمحسنين والصالحين، وثمرتها الهداية التكوينيّة الخاصّة.

لقاء الإنسان بالله

انّ احدىٰ ميزات السلوك الىٰ الله هي انّ هدفه ومقصده النهائيّ هو الله الّذي لاحدّ له ولا منتهىٰ، وعليه فإنّ الطريق إليه أيضاً سوف يكون لا حدَّ له والإنسان في ايّ طريق يضع قدمه فإنّه سيصل الىٰ الله، لكنّ لله أسماءً حسنىٰ كثيرة، فكما هو (أرحم الراحمين) فهو أيضاً (أشدُّ المعاقبين) فبعض الناس يلاقون محبّة أرحم الراحمين وبعض السائرين ينتهي بهم الطريق الىٰ لقاء غضب أشدّ المعاقبين.

وحول لقاء جميع الناس مع الله يقول القرآن الكريم: ﴿يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ٭ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ


[1] . سورة طه، الآية 50.

[2] . سورة النحل، الآية 128.

[3] . سورة الفجر، الآية 14.

تسنيم، جلد 1

526

بِيَمِينِهِ ٭ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ٭ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً ٭ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ٭ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ٭ وَيَصْلَىٰ سَعِيرا﴾[1] فبعض يأخذون كتابهم بيمينهم ويرجعون الىٰ أهليهم ورفاقهم في الفكر والعقيدة وبعض آخر يؤتون كتابهم من وراء ظهورهم ويلقون في النار المستعرة. واُولئك هم المجرمون الّذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم﴾[2]، وأخذ الكتاب يوم القيامة من وراء الظهر هو تجسّم لأعمالهم في الدنيا. إذن فلايُتصوّر انّ الإنسان لايصل الىٰ لقاء الله، بل الجميع سائرون نحو لقاء الله، غاية الأمر انّ الإنسان يجب أن يسعىٰ للقاء جمال الله الغفّار والستّار لا لقاء جلال الله القهّار.

والناس في بلوغ لقاء الله كالمياه الّتي تجري لتصبَّ في البحر، فالأنهار الكبيرة تتقدّم وتستمرّ حتّىٰ تصل الىٰ أعماق البحر، ولكنّ الجداول الصغيرة لاتصل إلاّ الىٰ بداية البحر.

ولا أحد يستطيع أن يفرَّ من لقاء الله وأن يُعجِزَ الله: ﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولٰئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُون﴾[3]، ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا﴾.[4] فالكفّار أينما اتّجهوا فسيواجهون عذاباً أشدَّ من كلّ عذاب: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ٭ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَد﴾[5] لكنّ بين


[1] . سورة الانشقاق، الآيات 6 ـ 12.

[2] . سورة آل عمران، الآية 187.

[3] . سورة سبأ، الآية 38.

[4] . سورة الانفال، الآية 59.

[5] . سورة الفجر، الآيتان 25 ـ 26.

تسنيم، جلد 1

527

كلّ الطرق الّتي تنتهي إليه، هناك طريق مستقيم واحد وبقيّة الطرق كلّها منحرفة: ﴿وَأَنَّ هٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَتَتَّبِعُوا السُّبُل﴾[1] فماعدا الطريق الّذي يوصل الإنسان إلىٰ (الله الرحمٰن) والّذي يطلبه الإنسان المصلّي في هذه الآية الكريمة، فالطرق الاُخرىٰ كلّها تيه وضلالة وتنتهي الىٰ (الله المنتقم). والإنسان الضالّ والتائه أيضاً يُهدىٰ الىٰ مقصده وهدفه الأخير (جهنّم): ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيم﴾.[2] والضالّون وإن لم يلاقوا جمال الله: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون﴾[3] لكنّهم يلاقون الجلال والقهر الإلٰهي لأنّهم أنفسهم يقولون: ﴿رَبَّنَا ابْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾.[4]

معنىٰ ومصداق الصراط المستقيم

معنىٰ (الصراط المستقيم) هو (طريق الاستقامة) في مقابل (طريق الإعوجاج). والطريق المُعوَّج هو الطريق الّذي يكون فيه تخلّف واختلاف، والصراط المستقيم هو الطريق السليم من هذين العيبين. وأمّا مصداق الصراط المستقيم من وجهة نظر القرآن فهو «الدّين القيّم»: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا﴾.[5] والدين القيّم هو الدين القائم بنفسه والّذي يقيم الآخرين


[1] . سورة الانعام، الآية 153.

[2] . سورة الصافّات، الآية 23.

[3] . سورة المطفّفين، الآية 15.

[4] . سورة السجدة، الآية 12.

[5] . سورة الأنعام، الآية 161.

تسنيم، جلد 1

528

والسرُّ في انّ الدين القيّم الّذي هو الصراط المستقيم يعبّر عنه بـ (ملّة إبراهيم) وينسب الدين إلىٰ طريقته هو انّ إبراهيم الخليل(ع) قدّم أفضل الأساليب في هذا المضمار، و(الحنيف) يعني الشخص الّذي يسير في وسط الطريق في مقابل (الجنيف) و(المتجانف) وهو الّذي ينحرف نحو اليمين أو الشمال.

الصراط المستقيم والسبل المنحرفة

الصِراط والسبيل وإن كانا متقاربين من حيث المعنىٰ، لكنّ كلمة الصراط استعملت في القرآن الكريم في جميع المواضع بصيغة المفرد خلافاً لكلمة السبيل الّتي استعملت في صيغتي المفرد والجمع: ﴿وَأَنَّ هٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَتَتَّبِعُوا السُّبُل﴾.[1] والسرّ في عدم قبول الصراط للتعدّد هو انّ الصراط يستند الىٰ الله، والطريق الإلٰهيّ المستقيم هو واحد ليس أكثر. وكلّ ماهو بخلافه فهو (سبيل الغيّ)، أمّا الطرق المنحرفة (السُبُل) فهي كثيرة. وهذا الطريق الأعظم الّذي هو واحد لا أكثر مرتبط بالله سبحانه من جهة، ومن جهة اُخرىٰ فهو مستقرّ في فطرة أفراد الإنسانيّة، وكلّ من يسلك هذا الطريق فإنّه سيبلغ لقاء مَحبّة ورأفة الله.

فالصراط المستقيم هو الطريق الكبير الّذي يعني الدخول فيه، الدخول في فضاء الأمن والسلامة والهدىٰ، ولهذا ورد تطبيقه في الروايات علىٰ القرآن والأئمّة المعصومين(ع ) وكذلك بما انّ الطريق


[1] . سورة الانعام، الآية 153.

تسنيم، جلد 1

529

الأعظم يحفظ من يسير فيه من التيه لذلك عُبِّر عنه في اللغة العربيّة بـ (الإمام) كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِين﴾.[1] فالحركة خلف القرآن والإمام المعصوم(ع) هو سير في الطريق الرئيسيّ الّذي ينتهي حتماً الىٰ المقصد، والصراط هو هذا الطريق الأعظم والرئيسيّ.

الصِراط المستقيم والسُبُل الإلٰهيّة

في مقابل الطرق المنحرفة الّتي ورد النهي عن اتّباعها: ﴿وَلاَتَتَّبِعُوا السُّبُل﴾ يذكر القرآن: «سُبُل الله» ويعد أصحاب الجهاد في سبيله أن يهديهم الىٰ هذه السبل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، وسُبُل الله هي الطرق الفرعيّة الّتي ترتبط بالطريق الرئيسيّ (الصراط) وإذا لم ينتهِ السبيل الىٰ الصراط فهو من طرق الضلال الّتي نُهي الناس عن سلوكها لانّها تؤدّي بهم الىٰ السقوط.

والأوامر الصحيحة في مجال الأخلاق والفقه والحقوق كلّها طرق فرعيّة مرتبطة بصراط التوحيد المستقيم، كما انّ الطرق الأخلاقيّة المنحرفة وأمثالها سُبُل فرعيّة ترتبط بالشرك.

وسبل الله الكثيرة غير منفصلة عن الصِراط المستقيم الواحد وعلاقة سبل الله مع الصراط المستقيم يمكن تصويرها بنحوين:

أ. أن تكون السُبل طرقاً فرعيّة تتّصل بالصراط كالأضواء الضعيفة المتعدّدة الّتي تتّصل بالشمس.

ب. انّ الصراط المستقيم بما له من وحدة منبسطة وواسعة يشمل بسعته


[1] . سورة الحجر، الآية 79. المقصود هما المدينتان اللّتان دُمِّرَتا في حادثة هلاك انطاكية وهما واقعتان علىٰ الطريق الأعظم بين مكّة والشام.

تسنيم، جلد 1

530

الطرق الفرعيّة (السُبُل) أيضاً. وعلىٰ أساس هذا التصوير فالطرق الفرعيّة تقع في الحقيقة في متن الصراط، وتُعدّ من مراحله ومراتبه الأساسيّة.

استقامة واستواء الصراط

وُصِف الصراط الإلٰهيّ في هذه الآية بالاستقامة وفي الآية: ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيّ﴾[1] بالاستواء، وكلا التعبيرين ناظر الى انّ الصراط الإلٰهيّ لاعوج فيه ولا يناله أيّ شيطان حتّىٰ يوجد فيه التخلّف والاختلاف. والتخلّف هو أن يكون في السلسلة حلقة مفقودة، والإختلاف هو أن يوضع بدل الحلقة الأصليّة حلقة كاذبة ومزوّرة، فمراحل وحلقات الصراط المستقيم محفوظة وسالمة من كلا العيبين يعني انَّ حلقاته ليست مقطّعة ومنفصمة كما انّه لم تستبدل فيه حلقات كاذبة ومزوّرة بحلقاته الأصيلة، لكنّ الطرق المنحرفة تتّصف بكلا العيبين أو أحدهما علىٰ الأقلّ.

وحصانة الصراط المستقيم من كيد الشيطان ذكرها القرآن الكريم بوضوح، فالشيطان بعد طرده وابعاده قال لله سبحانه: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٭ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ٭ قَالَ هَذٰا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيم﴾.[2] الشيطان يقول انّني أضلّ الناس واغويهم بالتزيين، الاّ العباد المخلَصين الّذين لا ازيّن لهم ولا اغويهم، فالإنسان يحبّ الجمال وهو مبتلىٰ برغبات القلب، فيُخدع بهذه التزيينات ويحرم من الحركة نحو الله. فقال الله سبحانه في جوابه انّ عليَّ أن أحفظ هذا الطريق ولن أتركه يقع بيدك.


[1] . سورة طه، الآية 135.

[2] . سورة الحجر، الآيات 39 ـ 41.

تسنيم، جلد 1

531

فمن الممكن أن يجذب الشيطان السالكين في الصراط المستقيم ويعيقهم عن المسير، لكنّه لاقدرة له أبداً علىٰ النيل من أصل الطريق، لأنّ مصاديق الصراط المستقيم في العالم العينيّ الخارجيّ هي: (الدين) و(القرآن) و(الأئمّة المعصومون) وهؤلاء محصّنون من كيد الشيطان، وفي هذه الآية الكريمة أيضاً جملة ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين﴾ وهي اعتراف من الشيطان بالعجز عن الوصول الىٰ الصراط، وذلك لأنّ الصراط المستقيم هو مسير اُولئك العباد المخلَصين.

إذن فمن ناحية ليس للشيطان الىٰ الصراط المستقيم سبيل ومن ناحية اُخرىٰ فانّ الله والنبيّ علىٰ صراط مستقيم، حيث يقول الله سبحانه لنبيّه: ﴿إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾[1] وقد وصف جميع أفعاله بأنّها علىٰ صراط مستقيم: ﴿مَا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذُ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾.[2] وعليه فانّ الانحراف يتعلّق بالسائرين وليس بنفس الطريق، ويقتصر علىٰ السائرين الّذين لم يصلوا الىٰ مرتبة الإخلاص: ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين﴾، وإلاّ فإنّ الشيطان لاسبيل له للنفوذ الىٰ حمىٰ المخلَصين.

تنويه: انّ استقامة الصراط مضافاً إلىٰ المعنىٰ السابق، فهي تتضمّن أمراً آخر وهو استقامة وثبات السالك: ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.[3]


[1] . سورة الزخرف، الآية 43.

[2] . سورة هود، الآية 56.

[3] . سورة فصّلت، الآية 30؛ سورة الأحقاف، الآية 13.

تسنيم، جلد 1

532

لطائف وإشارات

1. الثناء والطلب في سورة الحمد

كما انّ سورة الحمد تنقسم بلحاظ الغيبة والخطاب الىٰ قسمين[1]، كذلك فهي بلحاظ المضمون تنقسم أيضاً إلىٰ الثناء والطلب؛ فالقسم الأوّل من السورة يتضمّن ثناء العبد علىٰ المولىٰ وذكره بصفات مثل (الله) و(ربّ العالمين) و(الرحمٰن) و(الرحيم) و(مالك يوم الدين) وتعتبر هذه الصفات دليلاً وعلامة علىٰ كونه محموداً، والقسم الثاني الّذي يبدأ من الآية محلّ البحث يتضمّن طلباً وسؤالاً من العبد للمولىٰ، حيث يسأله الهداية الىٰ الصراط المستقيم.

2. الإهتداء الىٰ الطريق والهدف

يقابل الهداية أمران: أحدهما «الضلالة» والآخر «الغواية»، فالهداية الّتي تقابل الضلالة تتعلّق بالطريق، فالّذي يعرف الطريق جيّداً ويسير فيه بنحو صحيح فهو سائر «مهتدٍ»، والّذي لايعرف الطريق أو أنّه لايسلكه بشكل صحيح فهو (ضالّ). أمّا الهداية في مقابل الغواية فهي تتعلّق بالهدف، وعليه فالهداية بهذا المعنىٰ تفيد انّه يتمتّع بالهدف، والغواية هي فقدان الهدف. و«الغيّ» و«الغاوي» يعني الإنسان الفاقد للهدف.

وعلىٰ هذا الأساس فإنّ الأفراد الّذين لهم هدف ولكن لايعرفون الطريق الّذي يوصلهم الىٰ هذا الهدف هم «ضالّون» واُولئك الّذين لايشخّصون المقصد والمقصود فهم (غاوون).


[1] . راجع بداية البحث التفسيريّ للآية: ﴿إِيِّاكَ نَعْبُد﴾.

تسنيم، جلد 1

533

والهداية المذكورة في الآية الكريمة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ حيث انّها جاءت من ناحية في مقابل الضلالة ﴿... وَلاَ الضَّآلِّين﴾ ومن جهة اُخرىٰ هي هداية الىٰ الصراط فهي من النوع الأوّل ومتعلّقة بالطريق وبمعنىٰ الإهتداء الىٰ الطريق، لكنّ قيد الاستقامة وذكر صفات السالكين الخواصّ الّتي ستُبيّن فيما بعد يستلزم انّهم يتمتّعون بالهدف.

3. الهداية التكوينيّة في القرآن الكريم

مرّ في البحث التفسيريّ انّ الهداية التشريعيّة تعني ذلك الإرشاد الّذي يتمّ عن طريق الوحي وسنّ القوانين والأحكام، والطريق المشخّص المحدّد لذلك هو تلقّي القرآن الكريم وسنّة المعصومين(ع ) لأجل التعرّف علىٰ الحلال والحرام ويقال لهذا النحو من الهداية (اراءة الطريق) أمّا الهداية التكوينيّة الّتي يعبّر عنها بـ (الإيصال الىٰ المطلوب) فليس لها حدود معيّنة، وفيما يلي نُشير الىٰ بعض الآيات الناظرة الىٰ الهداية التكوينيّة:

أ. ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه﴾[1]: يظهر من هذه الآية الكريمة انّ الهداية التكوينيّة يحظىٰ بها الإنسان عندما يقطع جزءً ومسافة من الطريق.

ب. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾.[2] فالهداية الّتي توهب للإنسان بعد الإيمان بالله والجهاد في سبيله هي الهداية التكوينيّة.

ج. ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم﴾.[3] فالله سبحانه


[1] . سورة التغابن، الآية 11.

[2] . سورة العنكبوت، الآية 69.

[3] . سورة محمّد(ص)، الآية 17.

تسنيم، جلد 1

534

يكافئ الواجدين للهداية من أهل السلوك والعمل، ومكافأتهم هي هداية أيضاً، وهذه الهداية الثانية هداية تكوينيّة وجزائيّة، وبواسطتها يصبح اكمال بقيّة الطريق سهلاً علىٰ السالك، وتكون حركته علىٰ نحو الجذب، حيث يشعر في باطنه أحياناً برغبة تجعله مجذوباً نحو العمل الصالح.

وتارة يجعل الله بهدايته التكوينيّة قلوب الناس تميل الىٰ المؤمن كجزاء ومكافأة له: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمٰنُ وُدّا﴾[1] وعندها يكون المؤمن محبوباً لله وكذلك محبوباً لخلق الله، ومن هنا فإنّ عباد الله المحبّين له يدعون له ودعاء القلب المحبّ مؤثّر.

وفي مقابل الجزاء الّذي يُعطىٰ علىٰ نحو الهداية التكوينيّة للمهتدين والمجاهدين، إذا اختار أحد طريق الضلالة والعمىٰ بعد البصيرة والهدىٰ: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَىٰ الْهُدَىٰ﴾[2] وواجه دين الله بالغطرسة والتكبّر وبعد امهاله مدّة كي يتوب لكنّه استمرّ في عناده ولم يتب فحينئذٍ سيُسلب منه توفيق فهم الآيات الإلٰهيّة وقبول الحقّ: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ﴾[3] وسيُعيّن له رفيق دائميّ ويُعهد إليه بولايته ﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِين﴾.[4]

د. ﴿قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ٭ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَم﴾.[5] هذه الآية الكريمة تبيّن جيداً الاختلاف بين


[1] . سورة مريم، الآية 96.

[2] . سورة فصّلت، الآية 17.

[3] . سورة الأعراف، الآية 146.

[4] . سورة الزخرف، الآية 36.

[5] . سورة المائدة، الآيتان 15 و16.

تسنيم، جلد 1

535

الهداية التكوينيّة والتشريعيّة، لأنّها من جهة تتحدّث عن النور والكتاب المبين النازل من الله سبحانه لهداية جميع الناس والّذي ذكر في آيات اُخرىٰ مثل: ﴿هُدىً لِلنَّاس﴾[1]، ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرا﴾[2] و﴿ذِكْرَىٰ لِلْبَشَر﴾[3]، ومن جهة اُخرىٰ تتحدّث عن هداية المؤمنين التابعين والتوّاقين لرضوان الله، والسالكين سبيل الله الّذين لايتركون طاعة لأجل الله الاّ وعملوا بها، فالله سبحانه يمسك بأيدي هؤلاء في مرحلة البقاء ويعبر بهم بيسر وسلام جميع عقبات الدنيا المخوفة والمهولة.

(سُبُل السلام) هي السلامة في مراحل الحياة الثلاث: الولادة والموت والبعث، والّتي جاءت علىٰ لسان النبيّ عيسىٰ المسيح(ع) وأيضاً علىٰ لسان النبيّ يحيىٰ الشهيد(ع) مع قليل من الاختلاف: ﴿وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا﴾.[4] فالّذي يعيش بسلام فإنّه يموت بسلام، ومن مات بسلام فإنّه يُبعث يوم القيامة بسلام، وتلك هي الهداية الىٰ الصراط المستقيم: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾.[5]

والهداية الىٰ سُبل السلام (الإيصال الىٰ المقصد بسلامة) والخاصّة بطالبي الرضوان الإلٰهيّ هي ذاتها الهداية التكوينيّة، وإلاّ فإنّ الهداية التشريعيّة الّتي تتمّ بإرسال الأنبياء وتبليغ الأحكام بواسطتهم فلاتختصّ بالمؤمنين.


[1] . سورة البقرة، الآية 185.

[2] . سورة الفرقان، الآية 1.

[3] . سورة المدّثر، الآية 31.

[4] . سورة مريم، الآية 33.

[5] . سورة المائدة، الآية 16.

تسنيم، جلد 1

536

تنويه: انّ الهداية التكوينيّة بمعنىٰ (الإيصال الىٰ المقصد بسلام) مختصّة بالمؤمنين وإلاّ فإنّ (الإيصال الىٰ المطلوب) بمعناه العام غير مختصّ بالمؤمنين، لأنّ الله بهدايته التكوينيّة يوصل الجميع الىٰ مقاصدهم، سواء كان هدف السالك إلٰهيّاً أم شيطانيّاً فالهداية التكوينيّة للكفّار والفاسقين نحو جهنّم تتمّ أيضاً بأمر إلٰهيّ وبواسطة الملائكة: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيم﴾[1]، لأنّ أحد أنواع العذاب الّتي يواجهها الكفّار في القيامة هو انّهم يضلّون طريقهم الىٰ مقصدهم «جهنّم» وبعد شوط من الحيرة والتخبّط تأتي جماعة من الملائكة فتسوقهم الىٰ جهنّم. والهداية الىٰ جهنّم هداية تكوينيّة دون شكّ، لأنّه في ذلك اليوم يغلق باب التشريع والتكليف والعمل الإختياريّ وينتهي دوره، كما انّ هداية أهل الجنّة الىٰ الجنّة هي هداية تكوينيّة: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهٰذَا﴾.[2]

هـ . ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَىٰ مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٭ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ٭ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ٭ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ٭ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾[3] أي مننّا[4] علىٰ موسىٰ وهارون 8 ونصرناهما في الحرب وآتيناهما التوراة وهديناهما الىٰ الطريق المستقيم.


[1] . سورة الصافات، الآية 23.

[2] . سورة الأعراف، الآية 43.

[3] . سورة الصافات، الآيات 114 ـ 118.

[4] . المنّة هي النعمة الكبيرة والثقيلة الّتي يصعب حملها، ولم يذكر القرآن الكريم انّ خلق السماوات والأرض ومجموع النظام الكوني بأنّه منّة، لكن عبَّر عن (الرسالة) و(الهداية) بالمنّة: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا﴾ (سورة آل عمران، الآية 164)، ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَان﴾ (سورة الحجرات، الآية 17).

تسنيم، جلد 1

537

وهذه الهداية ليست هداية تشريعيّة، لأنّها لو كانت هداية تشريعيّة لم تكن لموسىٰ وهارون خاصّة بل لكانت شاملة لجميع بني اسرائيل.

و. ﴿فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّماءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُون﴾.[1]

اُولئك الّذين يريد الله هدايتهم يفتح قلوبهم، والقلوب المفتوحة والمنشرحة لها القدرة علىٰ فهم المعارف العالية: «إنّ هذه القلوبَ أوعيةٌ فخيرها أوعاها»[2] وكلّ من يريد الله أن يضلّه يجعل قلبه ضيّقاً، فالهداية للفئة الاُولىٰ والضلالة للفئة الثانية كلتاهما تكوينيّة، لأنّه في نظام التشريع يكون الطريق مفتوحاً للجميع والهداية عامّة للعالمين. وأمّا الهداية الّتي تكون بعد الهداية العامّة الشاملة، والّتي تظهر للسائرين علىٰ الطريق الصحيح وعلىٰ شكل سعة وشرح الصدر وللمنحرفين علىٰ شكل ضيق الروح فهي هداية تكوينيّة.

والصدر الواسع والقلب المنشرح كالبحر العظيم الّذي لو اُلقي فيه شيء لم يغيّره وإذا اُخذ منه شيء لم ينقصهُ. القلب المنشرح لايحزن للمصائب الكبيرة ولايفرح للنعم الضخمة لأنّه ينظر الىٰ الحالين بأنّهما امتحان واختبار إلٰهيّ.

ز. ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىٰ﴾[3]


[1] . سورة الأنعام، الآية 125.

[2] . نهج البلاغة، الحكمة 147.

[3] . سورة الكهف، الآية 13.

تسنيم، جلد 1

538

أصحاب الكهف رجال عظام وفتية آمنوا بربّهم فزاد الله في هدايتهم، فهذه الهداية الّتي تأتي بعد الهداية الإبتدائيّة ليست بمعنىٰ تبيين الأحكام، بل هي بمعنىٰ تقوية ورفد السالك وتسهيل حركته نحو الله، وهي الهداية التكوينيّة.

ح. ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيد﴾[1] هداية أهل الجنّة الىٰ القول الحسن والطيّب هداية تكوينيّة وإلاّ فإنّ الله سبحانه أمر الجميع في الهداية التشريعيّة أن يتكلّموا بالأحسن ويتجنّبوا الكلام المؤذي والقبيح.

ط. ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء﴾[2] يستفاد جيّداً من هذه الآية الكريمة إمتياز الهداية التكوينيّة عن التشريعيّة، ونفس هذا المضمون جاء في آية اُخرىٰ بهذا النحو: ﴿وَكَذٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾.[3]

والهداية الّتي تتعلّق بفئة خاصّة (من يشاء) هي الهداية التكوينيّة لأنّ الهداية التشريعيّة عامّة لجميع الناس. ومهمّة النبيّ هي تبليغ أحكام الدين الىٰ جميع الناس: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغ﴾[4]، وليس هناك الاّ جماعة خاصّة علىٰ أثر قبول الهداية التشريعيّة تتنوّر قلوبهم ويُهدون الىٰ الصراط المستقيم، وهناك جماعات كثيرة تمتنع عن قبول الهداية التشريعيّة، كما حصل في غدير خُم، حيث أعلن النبيّ


[1] . سورة الحجّ، الآية 24.

[2] . سورة القصص، الآية 56.

[3] . سورة الشورىٰ، الآية 52.

[4] . سورة المائدة، الآية 99.

تسنيم، جلد 1

539

امتثالاً لأمر الله له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّك﴾[1] خلافةَ وولايةَ عليّ بن أبي طالب(ع) الىٰ الناس، لكنّ الجميع أعرضوا عنها الاّ فئة قليلة.

تنويه: كما انّ الله سبحانه بيّن طريق الحصول علىٰ الاستعانة استجابةً لعبده المستعين ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ وذلك بقوله تعالىٰ: ﴿اسْتَعِينُوْا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَة﴾[2]، كذلك فَعَلَ في جواب عبده السالك الّذي يسأله الهداية التكوينيّة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ فبيّن له طرق الوصول ونيل الهداية التكوينيّة وهي الاستفادة من الهداية التشريعيّة والإرتباط بها ومن ثمَّ الطاعة والعبادة والإنابة ونظائرهنّ:

﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه﴾[3]، ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾[4]، ﴿يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَاب﴾[5]، ﴿يَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيب﴾[6]، ﴿نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾.[7]

4. الهادي بالذات وشؤون هدايته

كما انّ الأمر بطاعة رسل الله واُولي الأمر لايتنافىٰ مع (التوحيد العبادي) وكون الله سبحانه (معبوداً بالذات)، وكما انّ الأمر بالاستعانة بالصبر


[1] . سورة المائدة، الآية 67.

[2] . سورة البقرة، الآيتان 45، 153.

[3] . سورة التغابن، الآية 11.

[4] . سورة النور، الآية 54.

[5] . سورة الرعد، الآية 27.

[6] . سورة الشورىٰ، الآية 13.

[7] . سورة الشورىٰ، الآية 52.

تسنيم، جلد 1

540

والصلاة وأمثالهما ينسجم مع حصر الاستعانة بالله[1]، كذلك فإنّ اسناد الهداية الىٰ القرآن الكريم والنبيّ الأكرم(ص) يتناسب مع كون الله سبحانه (هادياً بالذات)، وذلك لانّ اسناد الهداية الىٰ القرآن والنبيّ(ص) إنّما هو إسناد لوجه من الوجوه الإلٰهيّة لأنّ غير الله لايكون مستقلاًّ في الهداية.

وتوضيح ذلك هو: انّ الهداية في القرآن الكريم تارة تسند الىٰ الله سبحانه كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾[2] وتارة إلىٰ غير الله كإسنادها الىٰ القرآن: ﴿إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتي هِيَ أَقْوَم﴾[3] أو إلىٰ الأنبياء: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾[4] أو إلىٰ النبيّ الأكرم(ص): ﴿إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾[5] أو إلىٰ العلماء وذوي الكفاءة من البشر: ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُون﴾.[6]

اسناد الهداية الىٰ الله هو اسنادها الىٰ الهادي الأصيل وبالذات وأمّا نسبتها الىٰ الآخرين فهي نسبة الىٰ شؤون هداية ذلك الهادي بالذات وليست اسناداً الىٰ هادٍ آخر غير الله سبحانه، لأنّه يستحيل أن يكون الله ربّاً بالذات ومعبوداً ومستعاناً بالذات ومحضاً ثمّ يكون هناك شخص آخر هادياً مستقلاًّ أو شريكاً للهداية الإلٰهيّة.


[1] . تفصيل هذا البحث مضىٰ في آية ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ قسم اللطائف تحت عنوان التوحيد العبادي وطاعة الرسول.

[2] . سورة البقرة، الآية 213.

[3] . سورة الإسراء، الآية 9.

[4] . سورة الأنبياء، الآية 73.

[5] . سورة الشورىٰ، الآية 52.

[6] . سورة الأعراف، الآية 159.

تسنيم، جلد 1

541

وعلىٰ أساس التوحيد الأفعالي فإنّ كلَّ فاعل (في الهداية وغيرها) درجة من درجات وشأن من شؤون فاعليّة الله سبحانه، والقرآن الكريم يبيّن هذه الحقيقة، فعلىٰ الرغم من انّه أسند الهداية في بعض الآيات الىٰ هداة آخرين كالنبيّ لكنّه يصرّح في آيات اُخرىٰ بنفي الهداية عن غير الله ويقيم برهاناً علىٰ ذلك، كما في قوله تعالىٰ: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون﴾.[1]

فالترديد في هذه الآية الكريمة بين هاديين بالحقّ، لا بين هادٍ ومضّل، لكن حيث انّ أحدهما هادٍ بالحقّ أي انّ الله سبحانه منشأ ومصدر الهداية والهادي بالذات والآخر لايملك شيئاً من ذاته، لذا لابدّ أن يهتدي هو أوّلاً حتّىٰ يستطيع أن يهدي الآخرين، لذلك فإنّ الهادي بالذات هو الجدير بالإتّباع.[2]

بناءً علىٰ ذلك فإنّ الهادي بالذات هو الله، والمصلّون عند قراءة الآية الكريمة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ يطلبون الهداية منه بما أنّه هادٍ


[1] . سورة يونس، الآية 35. الهداية في آيات القرآن تارة تُذكر دون حرف جر كما في ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾، وتارة بحرف «الىٰ» كما في ﴿وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾ (سورة سبأ، الآية 6) وفي بعض الموارد بحرف «اللام» كما في: ﴿إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتي هِيَ أَقْوَم﴾ (سورة الاسراء، الآية 9) و﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقّ﴾ (سورة يونس، الآية 35).

[2] . كلمة (أحقّ) في هذه الآية الكريمة (أفعل تعيين) وليست (افعل تفضيل) والمقصود منها الأولويّة التعيينيّة، كالأولويّة في الآية الكريمة: ﴿أُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْض﴾ (سورة الأنفال، الآية 75) فهي ليست أولويّة ترجيحيّة.

تسنيم، جلد 1

542

بالذات، وهذا الهادي بالذات يهدي المجتمع بواسطة القرآن والنبيّ وأوليائه الّذين يهتدون بالله أوّلاً ثمّ يهدون بإذنه ﴿قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ٭ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَم﴾.[1]

وأمّا الّذي ليس مهتدياً علىٰ طريق الحقّ فهو لايستطيع أن يكون هادياً للآخرين، وبالطبع هناك فرق واضح بين الشخص المهتدي في طريق الحقّ ومع الحق، كالذي عليه أولياء الله: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور حيثما دار»[2] وبين من هو مصدر الحقّ وأصله وفاعله وسبب ظهوره: ﴿الْحَقُّ مِن رَبِّك﴾[3]؛ فالإمام يدور حول محور الحقّ حيث انّه هو نفسه اهتدىٰ أوّلاً ومن ثمّ أصبح هادياً لغيره، ولكنّ الله مصدر الحقّ وهادٍ بالذات، فالّذي جميع مافي الكون جند له: ﴿لِلَّهِ جُنُودُ السَّماوَاتِ وَالأَرْض﴾[4] يعلم جيّداً كيف يهدي ومَن هم الّذين يجعلهم مهتدين أوّلاً وهادين للآخرين ثانياً.

تنويه: 1. ليست الهداية تتمّ دائماً عن طريق المسجد والمدرسة أو من الاُستاذ إلىٰ التلميذ، بل تحصل أحياناً من رفيق العمل والجار وكذلك قد تكون من التلميذ الىٰ الاُستاذ. ولهذا فإنّ الكثير من أساطين


[1] . سورة المائدة، الآيتان 15 ـ 16. تعبير (يهدي به) في هذه الآية الكريمة يدلّ علىٰ انّ هداية القرآن في الواقع هداية الله والقرآن ليس الاّ أداة للهداية، كما يقال للقلم انّه (يكتب) واسناد الكتابة في الحقيقة هو للكاتب، والقلم أداة ليس أكثر. فإسناد الهداية للقرآن وأمثاله من قبيل اسناد الفعل الىٰ الآلة والأداة.

[2] . البحار، ج38، ص188.

[3] . سورة آل عمران، الآية 60.

[4] . سورة الفتح، الآيتان 4 و7.

تسنيم، جلد 1

543

العلم قد تلقّوا فيوضات كثيرة بواسطة تلاميذهم وما يطرحونه من أسئلة عليهم وقد فتحت لهم أبواب البحث والتحقيق بواسطة الإحتمالات الّتي يثيرها تلاميذهم.

2. الله سبحانه الهادي بالذات كما مرّ بيانه، تارة يُطلع الناس بواسطة الوحي وتبليغ الأحكام (أي عن طريق الهداية التشريعيّة) علىٰ فوائد ومنافع السير علىٰ الصراط المستقيم ويحذّرهم من خطر السقوط والإنحراف منه، وتارة يمسك بأيديهم بالهداية التكوينيّة ويوصلهم الىٰ الهدف المقصود.

5. شهود الملكوت بنور الهداية

انّ بعض مراتب الهداية التكوينيّة الّتي نطلبها في سورة الحمد هي شهود ورؤية الأسرار والحقائق الّتي حَظي بها الواصلون الىٰ مقام رؤية الملكوت الشامخ، فحصَّنوا أنفسهم في مقابل الذنوب، والقرآن الكريم وروايات أهل البيت(ع ) كشفت القناع عن شيء يسير من هذه الحقائق للناس كي يتعرّفوا عليها، مثلاً يقول القرآن الكريم حول طعام أهل جهنّم: ﴿ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ٭ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ٭ لاَيَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُون﴾.[1] ويقول لاُولئك الّذين لا طعام لهم الاّ من القيح القذر (غِسلين) انّ هذا الطعام ظهور لفسادكم وإجرامكم ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾.[2]


[1] . سورة الحاقّة، الآيات 35 ـ 37.

[2] . سورة النمل، الآية 90. حيث انّ تعبير الآية الكريمة ﴿مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾، لا ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾ فلايكون المعنىٰ هو انّ هذا الجزاء في مقابل تلك الأعمال، بل انّ الجزاء هو نفس الأعمال.

تسنيم، جلد 1

544

وأولياء الله يرون في الدنيا حقيقة الذنب بهذا الشكل، ولذلك يشمئزّون منه، ولا يدنّسون أيديهم به كما فعل أمير المؤمنين(ع) مع من جاءه في أيّام حكومته بحلوىٰ كرشوة يتقرّب بها إليه، فزجره بشدّة ووصفها بأنّها كالمعجونة بسمّ الأفاعي وفي ذلك يقول: «وأعجبُ من ذلك (قصّة عقيل) طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شَنِئْتُها كانّما عُجنت بريق حَيّةٍ أو قيئها. فقلت: أصِلَةٌ أم زكاة أم صدقة فذلك محرّم علينا أهل البيت. فقال: لا ذا ولا ذاك ولكنّها هديّة، فقلت هَبِلَتكَ الهَبول أعن دين الله أتيتني لتخدعني أمختبط أنت أم ذو جِنّة أم تهجر...».[1]

هذا الكلام ليس تشبيهاً شعريّاً ولا هو حديث صادر من الغلوّ والمبالغة، بل هو بيان لحقيقة يراها اليوم أولياء الله وغداً سوف يراها الجميع.

وحديث المعراج الشريف يبيّن أيضاً قسماً آخر من هذه الحقائق. فالرسول الأكرم(ص) رأىٰ جماعة في المعراج مع ما كان لديهم من طعام طيّب كانوا يأكلون لحم الميتة فسأل عنهم فقيل له انّ هؤلاء الّذين كانوا في الدنيا يأكلون الحرام وهم قادرون علىٰ الظفر بالحلال.[2]

والقرآن الكريم يكشف الستار عن هذه الأسرار في آيات كثيرة من جملتها آيات سورة الواقعة، وإذا لم يحالفنا الحظ والتوفيق أن نبلغ مرتبة رؤية الحقائق الرفيعة، فلا ينبغي أن نكون من الغافلين عن أصل معارف القرآن في هذا المجال علىٰ أقل تقدير.


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 224، المقطع 8.

[2] . البحار، ج6، ص239.

تسنيم، جلد 1

545

6. هداية الأنبياء والأئمّة(ع )

انّ الأنبياء والأئمّة(ع ) سألوا الله سبحانه الهداية الىٰ الصراط المستقيم، والهداية الّتي كانت تفاض عليهم بواسطة نزول خواص الملائكة وألوان الوحي التكويني وليس الوحي التشريعي.

والقرآن الكريم ضمن اشارته الىٰ هداية الأنبياء السابقين يقول للرسول الأكرم(ص): ﴿أُولٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه﴾.[1] لأنّ اُولئك بعد أصل الاهتداء وتلقّي الوحي التشريعي والإعتقاد بوحي الملائكة والعمل به يسألون الله الهداية الىٰ الطريق المستقيم، لأنّ وسيلة هدايتهم لم تكن بيد أفراد من البشر، ولهذا فإنّ اُولئك بتلقّيهم الفيض الخاص وهو أمر الله التكوينيّ قد بلغوا المقصد. نعم انّ اختيارهم باق في جميع الأحوال.

7. طريق بلا نزاع

في الآية الكريمة ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ يتمّ السؤال لهداية (جميع الناس) من الله سبحانه، كذلك في آية ﴿إِيِّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾ لم يكن طلب العبادة والإستعانة مختصّاً بشخص المتكلّم.

والسرُّ في مسألة الهداية العامّة هو انّ المجتمع الآمن والخالي من التزاحم لايتحقّق الاّ بالهداية العامّة وحركة الجميع نحو جهة واحدة، لكن لو كانت كلّ فئة تتحرّك صوب جهة أو تتحرّك جماعة الىٰ جهة وجماعة اُخرىٰ تتراجع عنها فمثل هذا المجتمع سيبتلىٰ بالتزاحم والتنازع وسيكون فاقداً للأمن المطلوب.


[1] . سورة الأنعام، الآية 90.

تسنيم، جلد 1

546

ووحدة المقصد وعدم النزاع شرط للوصول الىٰ المقصد بسلام، والسائرون علىٰ الصراط المستقيم منسجمون فيما بينهم وكلّ واحد منهم (رفيق حسن) للآخر: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقا﴾[1] لأنّ اُولئك كانوا متعاونين فيما بينهم ولم يكن أحدهم ينازع الآخر وهذه صفة الصراط المستقيم الّذي يسأل السائرون فيه ـ بتعليم الله وهدايته لهم ـ هداية الجميع للسير علىٰ الطريق.

وإذا كان السالك وحده ولم يرافقه الآخرون في المسلك وجهة السير فإنّ قطع الطريق سيكون صعباً لأنّه سيواجه مزاحمين كثيرين، لكن لو كان الجميع يقطعون الطريق في مسير واحد، فحينئذٍ لايقتصر الأمر علىٰ عدم المزاحمة وإنّما سيكون الجميع أنصاراً وأعواناً فيما بينهم وتلك هي المدينة الفاضلة الإلٰهيّة.

تنويه: صحيح انّ امتثال الأحكام في مرحلة الطبيعة يقع فيه التزاحم بسبب محدوديّة الخدمات المادّية، لكن بما انّ الدين صراط مستقيم فقد جعل لحالة التزاحم حكمها الخاصّ بها أيضاً، وهذا الحكم هو من صميم الصراط، ولذلك فإنّ طالب الحقّ والثواب لن يكون في ضيق وحرج في جميع مراحل حياته.

8. وحدة وكثرة الصراط

مرّ في البحث التفسيريّ انّ الصراط المستقيم ـ علىٰ عكس السبيل ـ واحدٌ وليس كثيراً وسرّ عدم قبول الصراط للتكثّر هو انّه من الله وإليه،


[1] . سورة النساء، الآية 69.

تسنيم، جلد 1

547

وماكان من الله وهو متّجه إليه فهو واحد ولايقبل الإختلاف والتخلّف والتناقض[1]، فمثلاً القرآن الكريم لأنّه من الله سبحانه فجميعه منسجم ومترابط، وبرهان حصانة القرآن من الإختلاف أيضاً هو كونه من الله: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرا﴾[2]، فماهو من عند الله لايقبل الإختلاف، كما انّ الّذي من عند غير الله لايقبل الوحدة، وهذان الأمران احدهما يستفاد من مفهوم الآية والآخر من منطوقها.

وماكان من عند الله وله كثرة فكثرته منسجمة وماكان من عند غير الله وثمرة الأهواء والنزوات فهو وإن كان في الظاهر متّحداً لكنّه في الواقع مختلف ولذلك يخاطب أمير المؤمنين(ع) عبيد الأهواء ويقول لهم: «يا ايّها الناس! المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم».[3] فالهوىٰ في مقابل الله، ولذلك فهو علىٰ الرغم من اجتماعه الظاهري لكنّه في الحقيقة متشتّت ومختلف. وعلىٰ هذا الأساس فإنّ الكثرة المذكورة في القرآن للصراط ليست مزاحمة لوحدته، بل انّ كثرته تشبه كثرة القوىٰ النفسانيّة والحواس الظاهريّة والباطنيّة الّتي هي في عين التعدّد متّحدة ومنسجمة بواسطة وحدة الروح، وجميعها تهدف الىٰ تحقيق رغبات الإنسان.

وتوضيح ذلك هو: انّ الصراط وإن كان لايتّصف بالتثنية والجمع ولكنّ كثرته وتعدّده مطروحة من خلال اضافة «كلّ» وأمثالها إليه كما في كلام


[1] . سيأتي بحث مفصّل حول وحدة وكثرة الصراط في تفسير الآية 153 من سورة الأنعام.

[2] . سورة النساء، الآية 82.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 29، المقطع 1.

تسنيم، جلد 1

548

شعيب لقومه في الآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاط﴾[1] أي لاتكونوا عقبة علىٰ كلّ صراط، حتّىٰ يتمكّن الناس من الحركة في طريق الله.[2]

وعلىٰ أساس البحث السابق فالصراط واحد منسجم، ومثله كمثل نور الشمس الّذي يضيء الأشياء الكثيرة والأمكنة المختلفة لكنّه نور واحد، لأنّ المقصود من هذه الوحدة ليس خصوص الوحدة العدديّة حتّىٰ تكون منافيةً للتعدّد، حيث يمكن أن يكون الشيء ذا وحدة منبسطة وواسعة، وبسبب اتّصاله بالقوابل المتعدّدة يصبح كثيراً، لكنّ وحدته الواقعيّة باقية. وعليه فإنّ الكثرة الّتي تستفاد من عنوان «كلّ صراط» امّا أن تكون ناظرةً الىٰ الشؤون والمقاطع والمنازل والمراحل لذلك الصراط المستقيم الواحد أو انّها مقترنة بمعنىٰ السبيل القابل للتعدّد.

والقرآن الكريم يعدّ اتّباع الصراط المستقيم عاملاً للوحدة والنجاة من التفرقة، وانّ اتّباع السبل المنحرفة مدعاة للتفرقة والتشتّت: ﴿وَأَنَّ هٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَتَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه﴾.[3]


[1] . سورة الأعراف، الآية 86.

[2] . انّ معنىٰ نهي النبيّ شعيب7 يتّضح مع الأخذ بنظر الاعتبار كلام الشيطان لله سبحانه حيث قال: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم﴾ (سورة الأعراف، الآية 16)، فشعيب يقول لاتكونوا من الشياطين. وإذا صار الإنسان مانعاً عن عمل الخير أو عقبة في طريق الفهم الصحيح والتحلّي بالأخلاق الحسنة فهو شيطان بصورة انسان قد كمنَ للسائرين في الصراط.

[3] . سورة الانعام، الآية 153. وفي رواية انّ النبيّ(ص) في توضيح هذه الآية الكريمة رسم خطّاً مستقيماً ثمّ رسم حوله خطوطاً اُخرىٰ ثمّ قال: هذا الخطّ المستقيم طريق الرشد وهذه الخطوط الاُخرىٰ هي الطرق الّتي علىٰ رأس كلّ واحد منها شيطان يدعوا الىٰ ذلك الطريق ثمّ تلىٰ هذه الآية الكريمة. (جوامع الجامع، ج1، ص427؛ الدرّ المنثور، ج3، ص385).

تسنيم، جلد 1

549

فالصراط المستقيم يزيل جميع أنحاء التشتّت ويجعل الكثرة منسجمة وموحّدة، والسبل المتفرّقة لاتقبل الإتّحاد أبداً، ولاتصل إلىٰ نتيجة واحدة، كما انّ اهل جهنّم متفرّقون ويلعن بعضهم بعضاً: ﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا﴾[1] لكنّ أهل الجنّة قد طهّر الله قلوبهم من جميع أنواع الاختلاف والغلّ: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلّ﴾[2] وليس في الجنّة بينهم أيّ نحو من الإختلاف وهم يشكرون الله علىٰ ما أذهب من الحَزَن عن قلوبهم: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَن﴾[3] وأصحاب الصراط المستقيم في الدنيا هم أصحاب الجنّة في الآخرة: ﴿قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىٰ﴾.[4]

9. السفر السلوكيّ الأوّل

انّ الله سبحانه هو البداية والنهاية للصراط المستقيم وسورة الحمد المباركة تعلّمنا انّ سفر السالك يجب أن يكون من (ربّ العالمين) الىٰ (مالك يوم الدين) وهذا السفر من الله الىٰ الله، لأنّه ليس بداية الطريق سوىٰ ربّ العالمين وليس نهايته سوىٰ مالك يوم الدين، وعليه فانّ السفر الأوّل من الأسفار الأربعة في سلوك السالكين الىٰ الله، هو السفر من (الحقّ) الىٰ (الحقّ)، لا من (الخلق) الىٰ (الحقّ).

وحقيقة الوجود هي المجيء من الله والذهاب إليه: ﴿إِنَّا لِلّهِ وإِنّا إِلَيهِ


[1] . سورة الأعراف، الآية 38.

[2] . سورة الأعراف، الآية 43.

[3] . سورة فاطر، الآية 34.

[4] . سورة طه، الآية 135.

تسنيم، جلد 1

550

رَاجِعُون﴾[1] وبين هذا المبدأ والمنتهىٰ ليس هناك من فاصلة سوىٰ صراط العزيز الحميد.

والصالحون والطالحون جميعهم يبدأون من ربّ العالمين ويرجعون الىٰ مالك يوم الدين، غاية الأمر انّ المحسنين يحشرون مع الأسماء الجماليّة لله والمفسدون مع الأسماء الجلاليّة لله ويرون قهره وانتقامه: ﴿إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُون﴾.[2]

وطريق الناس من ربّ العالمين الىٰ مالك يوم الدين مختلف، ومن بين هذه الطرق طريق واحد هو الصراط المستقيم وأمّا الطرق الاُخرىٰ فهي طرق معوَجّة ومضلّلة، ومَن عَرف الصراط المستقيم فقد وجد أقرب وأفضل طريق، ومن لم يعرفه أيضاً فإنّه في النتيجة أيضاً سيصل الىٰ مالك يوم الدين وعندها يقول: ﴿رَبَّنَا ابْصَرْنَا وَسَمِعْنَا﴾[3]، لأنّ الله سبحانه وجود لاحدّ له، والإنقطاع عنه والإلتحاق بغيره يعني تكويناً الخروج من الوجود غير المتناهي وهو محال بالبداهة.

تنويه: اتّضح من خلال البحوث السابقة انّه ليس هناك موجود يخرج من الصراط المستقيم من حيث المسير التكوينيّ، لأنّ الله هو القائد والآخذ بناصية وزمام الجميع وفعل الله أيضاً علىٰ الصراط المستقيم. وهذان الموضوعان يستنبطان من قوله تعالىٰ: ﴿مَا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذُ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾[4] ومن هذه الناحية ليس هناك فرق بين الإنسان


[1] . سورة البقرة، الآية 156.

[2] . سورة السجدة، الآية 22.

[3] . سورة السجدة، الآية 12.

[4] . سورة هود، الآية 56.

تسنيم، جلد 1

551

والحيوان، وبين الموحّد والملحد، ولكن من حيث المسير التشريعي فإنّ البعض علىٰ الصراط المستقيم والبعض الآخر خارجون عنه.

10. الإنحراف عن الصراط وقطع الطريق علىٰ السالكين

لقد عبّر القرآن الكريم عن الانزلاق عن الصراط بنحوين، فتارة صوّر الصراط عموديّاً ووصفَ الخروجَ عنه بـ (الهويّ) فقال: ﴿وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ﴾[1] وفي هذه الآية الكريمة يتحدّث بصورة قياس منطقيّ فيقول: لاتطغوا ولا تعتدوا، لأنّ غضب الله علىٰ الطغاة ضروريّ وحتميّ، وكلّ من تحتّم نزول الغضب الإلٰهيّ عليه فإنّه يسقط ويهوي. (الهُوِيّ) (مصدر فعل هوىٰ) بمعنىٰ السقوط والهبوط وهو يدلّ علىٰ انّ طريق كمال الإنسان عمودي ويتّجه الىٰ الأعلىٰ، لأنّ السقوط يتحقّق في الحركة العموديّة، والتعبير بـ (الصعود) في الآية الكريمة: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب﴾[2] يدلّ علىٰ هذا المعنىٰ أيضاً.

وتارة صوّر الصراط بالحركة الاُفقيّة ووَصفَ الخروج عنه بانّه (نكوب) وانحراف: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٭ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُون﴾.[3] إذن فالمتخلّفون عن الصراط امّا انّهم من أهل الهُوِيّ أو من أهل النكوب.

وإذا تعرّض الإنسان للانحراف أو السقوط وكانت لديه القدرة علىٰ


[1] . سورة طه، الآية 81.

[2] . سورة فاطر، الآية 10.

[3] . سورة المؤمنون، الآيتان 73 ـ 74.

تسنيم، جلد 1

552

التوبة فإنّه يعود ويواصل الطريق، لكنّه لو أفسد جميع قواه واستهلكها وانتزعت منه القدرة علىٰ الرجوع، فإنّه يقعد علىٰ الطريق ليقطعه علىٰ السالكين، وهكذا يتحوّل مَن خُلِق ليسير علىٰ الصراط الىٰ قطّاع طريق فيه. ومثل هؤلاء حتّىٰ لو وُفِّقوا للتوبة فإنّ من الصعوبة قبول توبتهم، لأنّ هناك شرطاً ثقيلاً في قبول توبتهم وهو هداية جميع الّذين تسبّب هؤلاء في انحرافهم وانزلاقهم، فالله سبحانه يقول: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم﴾.[1] وهذا العمل صعب للغاية، لأنّه يجب عليهم قبل كلّ شيء الإعتراف بالخطأ وبعد ذلك اعادة المنحرفين بسببهم الىٰ الطريق.

واُولئك الّذين انقطع بهم الطريق وسُلبت منهم القوّة علىٰ الحركة وصاروا عقبةً أمام حركة الآخرين، هم (شياطين الإنس) الّذين نهاهم النبيّ شعيب(ع) عن أن يكمنوا في طريق هداية الناس ويمنعوهم من طريق الله بالوعود الفارغة والتهديدات الجوفاء: ﴿وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجا﴾[2]، لأنّ القعود في طريق هداية الناس هو عمل الشيطان: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيم﴾.[3]

وخلاصة القول هي انّ من لم يسر علىٰ الصراط المستقيم وآل أمره من الحركة المستقيمة الىٰ الإنحراف أو السقوط، فإنّ مصيره سينتهي


[1] . سورة البقرة، الآية 160.

[2] . سورة الأعراف، الآية 86.

[3] . سورة الأعراف، الآية 16.

تسنيم، جلد 1

553

الىٰ قطّاع طريق، وكما انّ السالكين في طريق الله سيُحشرون مع أولياء الله: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقا﴾[1] كذلك فإنّ قطّاعي الطرق سيُحشرون مع الشياطين: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطين﴾.[2]

تنويه: انّ السرّ في طلب الهداية الىٰ الصراط المستقيم للنفس وللآخرين (بهيئة المتكلّم مع الغير) اضافة الىٰ الوجوه الّتي ذكرت في سرّ التعبير بهيئة الجمع في كلمة (نعبد) و(نستعين) هو انّ القادة الّذين تؤثّر استقامة أتباعهم في نجاح نهضتهم يسألون الله هداية واستقامة أصحابهم ورفاق دربهم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَك﴾.[3] كما يمكن أن يسألوا لأنفسهم هم ايّ أئمّة الدين(ع ) بقاء الهداية واستمرارها من جهة والمزيد من الهداية من جهة اُخرىٰ بلحاظ قوس الصعود.

11. الماسك بزمام من ارتقىٰ ومن هوىٰ

كلّ موجود في نظام الوجود له قبلة يتّجه إليها ويسعىٰ في طريق الوصول إليها وفي الاُمور العباديّة ترىٰ البعض يتّجه الىٰ المشرق والبعض الىٰ المغرب، والبعض الىٰ الكعبة الّتي تختلف الإتّجاهات نحوها تبعاً لاختلاف مواضع الساكنين علىٰ الأرض.

والآخذ بالزمام والمحرّك لجميع السالكين في مختلف الطرق


[1] . سورة النساء، الآية 69.

[2] . سورة مريم، الآية 68.

[3] . سورة هود، الآية 112.

تسنيم، جلد 1

554

والمتّجهين الىٰ أيّةَ قبلة هو الله سبحانه: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾[1] فانتخاب جهة الحركة واختيار القبلة بيد السائرين، ولكنّ بعد الاختيار فإنّ هناك من يوصلهم، وهو الّذي يلتقي به الجميع في نهاية المطاف وهو الله سبحانه، حيث سيلتقي البعض بمحبّته ورأفته والبعض بقهره وغضبه. وصحيح انّ طريق الخير في الدنيا مفتوح في وجه الجميع والكلّ مدعوّون الىٰ المسارعة والإستباق إليه ولكن البعض لايقبل هذه الدعوة فيؤول أمره إلىٰ التيه والضلال: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِير﴾[2] والله يجمع الكلّ في يوم الحشر الأكبر لأنّه عالم بكلّ شيء وقادر علىٰ كلّ شيء... .

إذن فالمحرّك لكل متحرّك هو الله، فإذا اختار المتحرّك طريق الخير أخذ الله بيده في ذلك الطريق ورفعه الىٰ الدرجات السامية: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات﴾[3]، وإذا سلك طريق السقوط نحو الدَرَكات وابتعد عن طريق الله سبحانه والنبيّ الأكرم(ص) فهٰهنا أيضاً يحرّكه ويولّيه الله سبحانه في هذا الطريق حتّىٰ يوصله الى مقصده الّذي هو جهنّم: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرا﴾.[4]

من الواضح انّ الإنسان مختار في الحدوث والبقاء، ولكنّ حد اختياره يمتدّ الىٰ انتخاب الطريق والعمل، والله سبحانه يجعل عمله يؤتي اُكُلَه


[1] . سورة البقرة، الآية 148.

[2] . سورة البقرة، الآية 148.

[3] . سورة المجادلة، الآية 11.

[4] . سورة النساء، الآية 115.

تسنيم، جلد 1

555

وينتج ثمره: فعبادة العبد السالك تثمر: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِيْ مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار﴾[1]، والكفر والنفاق والعصيان والفساد ينتج: ﴿نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا﴾[2]، فهو الّذي يوصل المؤمن الىٰ الجنّة والكافر والمنافق يوصله إلىٰ جهنّم. وعلىٰ هذا الأساس فإنّ الفعل الإختياريّ ينسبه الله الىٰ الإنسان في كلا الموردين ويقول انّنا نمدّ الناس في جميع الأحوال: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هٰؤُلاَءِ وَهٰؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورا﴾.[3] فالله سبحانه يجعل وسائل وأدوات الخير والشرّ والطاعة والمعصية تحت تصرّف الجميع كي يتهيّأ ميدان الجهاد الأكبر والوسيلة الّتي بها يُختبر الناس.

وفي هذا المسير يتّجه البعض نحو التسافل والدركات وهو يحسب انّه يرتقي في الدرجات ويتّجه الىٰ الأعلىٰ. وانّ هؤلاء كالشجرة (أصلها) وجذرها مغمور في الطين والتراب و(فرعها) وأغصانها وأوراقها فقط متّجهة الىٰ الأعلىٰ، فكلّ همّهم وفكرهم متّجه نحو التراب، وحيث انّهم في الدنيا كالشجرة رؤوسهم غاطسةٌ في التراب فهم كذلك في الآخرة يُحشرون ورؤوسهم نحو الأسفل: ﴿وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الُمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِم﴾.[4]


[1] . سورة البقرة، الآية 25.

[2] . سورة الكهف، الآية 29.

[3] . سورة الاسراء، الآية 20.

[4] . سورة السجدة، الآية 12. انّ حشر المجرمين بحالة تنكيس الرأس يوم القيٰمة ممّا اُشير إليه في الروايات أيضاً ليس فقط بمعنىٰ طأطأة الرأس خجلاً، بل هي نتيجةٌ لتفكيرهم الأرضيّ فيحشرون علىٰ هيئة منكوسي الرأس، وهذا انعكاس وظهور لتلك الأفكار والسلوك الّذي كان لديهم في الدنيا والّذي كان بإتّجاه التنزّل والتسافل لا بإتّجاه التعالي والتسامي.

تسنيم، جلد 1

556

وبناءً علىٰ أساس انّ كلّ متحرّك فهو إنّما يختار الطريق فحسب، وانّ محرّكه هو الله سبحانه فإنّ مصداق «اِهدنا» في الآية مورد البحث يكون (حَرِّكنا) كما انّ (نوِّرنا) و(أنعِم علينا) أيضاً من جملة مصاديقها، وتوضيح ذلك انّ «اِهدنا» وإن كانت قد استُعملت في معناها المتبادر (أي الهداية) لكنّ مصداق هذه الهداية هو التنوير والإنعام والجذب والتحريك الخاصّ الّذي يجتاز الإنسان فيه الدرجات واحدةً بعد اُخرىٰ حتّىٰ يبلغ الهدف المقصود وهو لقاء محبّة وجمال ربّ العالمين.

كذلك يقول القرآن الكريم حول الهداية والضلالة بأنّ كلتيهما بيد الله سبحانه ولكنّ الله سبحانه لايضلّ أحداً سوىٰ الفاسقين: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِين﴾.[1] والهداية الإلٰهيّة هي اعطاء التوفيق والعون للعبد السالك وإيصاله الىٰ الهدف، والإضلال يعني سلب التوفيق وإيكال الشخص الىٰ نفسه، فليس الإضلال أمراً وجوديّاً. لكنّ هذا الترك والإهمال والتيه ينتخبه الإنسان في البداية بسوء اختياره، وأمّا سقوطه نحو الدركات فيتمّ بيد الله، والاضلال بهذا المعنىٰ مختصّ بالفاسقين والمنحرفين عن الصراط المستقيم.

12. اتّحاد السالك والصِراط

انّ الصراط كما يُسند الىٰ الله سبحانه: ﴿وَهٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيما﴾[2]، ﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض﴾[3] فهو يُسند أيضاً


[1] . سورة البقرة، الآية 26.

[2] . سورة الانعام، الآية 126.

[3] . سورة الشورىٰ، الآية 53.

تسنيم، جلد 1

557

إلىٰ السائرين: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾. واسناد الصراط الىٰ الله من حيث انّ الصراط هو الدين أي مجموعة المعارف والقوانين الّتي أنزلها الله سبحانه علىٰ الأنبياء بواسطة الوحي، ومصدر الدين هو الله سبحانه، ومن جهة اُخرىٰ فإنّ العمل بها يوصل الإنسان الىٰ لقاء الله، فغايتها أيضاً هي الله، وبما انّ المبدأ والمنتهىٰ هو الله، فإسناده الىٰ الله صحيح ومبرّر. أمّا اسناده الىٰ السالكين بعنوان: ﴿أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيّ﴾[1] فهو يستلزم العلاقة واللُحمة العينيّة بين الصراط وسالكه، وهذا الإرتباط والتلاحم هو المصحّح لهذا الإسناد.

وهنا لابدّ من البحث عن العلاقة بين الصراط والسالك أي بين الدين والمتديّن وفي المقدّمة ينبغي أن يقال: انّ الإرتباط ليس مادّياً، لأنّ الصراط هو الدين والدين ليس أمراً مادّياً بل هو مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام وجميعها معنويّة.

ويمكن إثبات الإتّحاد بين السالك والصراط بتقريرين:

1. التقرير الأوّل: انّ الدين الّذي هو الصراط المستقيم له جذر وساق وفروع (الاُصول والمتوسّطات والفروع) والحركة في الصراط المستقيم للدين حركة في هذه المراحل الثلاث، وهذه الحركة تتم في اُصول الدين بتحصيل المعرفة والعقيدة وفي متوسّطات الدين بإكتساب المعرفة والتحلّي بالأخلاق الإلٰهيّة وفي فروع الدين بالمعرفة والأعمال الصالحة.

فإذا كان الدين هو العقيدة والخُلق والعمل، فإنّ الحركة في الصراط


[1] . سورة طه، الآية 135.

تسنيم، جلد 1

558

ليست سوىٰ الإعتقاد والتخلُّق والعمل، وهذه الاُمور ليست خارجةً عن ذات الإنسان، لأنّ سير النفس الإنسانيّة في اُصول الدين يتحقّق بتحصيل العقيدة، والعقيدة معناها عقد وربط الروح بسلسلة من المعارف، وكذلك سير الإنسان في الأخلاق والعمل فهو بحاجة الىٰ الربط والشدّ بروحه.

والأفراد الّذين أدركوا المعارف والأخلاق والأحكام الإلٰهيّة واعتقدوا بها واتّصفوا وتزيّنوا وعملوا بها، كالأئمّة المعصومين(ع )، فهم أنفسهم يصيرون صراطاً مستقيماً وعندها سيكون للدين مصداقان: أحدهما الوجود الكتبيّ وهو مجموعة المعارف والقوانين والأحكام الّتي جاءت مدوّنة في الكتاب والسنّة، والآخر هو الوجود الشخصيّ للأنبياء والأئمّة(ع )، ولهذا فإنّ كلاًّ من القرآن والعترة مصداق للصراط المستقيم.

وعلىٰ هذا الأساس قال الرسول الأكرم(ص) في غزوة الأحزاب في أمير المؤمنين(ع) انّه الإيمان وفي عمرو بن عَبد وِد انّه الشرك: «برز الإيمان كلُّه الىٰ الشركِ كلِّه».[1] وحيث انّ الدين (مجموعة العقيدة والأخلاق والعمل) متّحد مع جميع وجود عليّ بن أبي طالب(ع)، والكفر أيضاً: (وهو عقيدة وخلق وعمل) متّحد مع عمرو بن عبد ودّ، فإنّ النبيّ قال ذلك من باب الحقيقة لا علىٰ نحو المجاز والإستعارة، وبناءً علىٰ هذا فإنّ السرّ في استناد الصراط الىٰ السالك هو هذا الإتّحاد الوجوديّ والخارجيّ بينهما.

وانّ الطريق الّذي يطويه أصحاب الصراط بقوّة وصلابة، والمفسدون


[1] . البحار، ج20، ص215.

تسنيم، جلد 1

559

والكفّار يتركونه وهم مكبُّون علىٰ وجوههم وناكسون وزاحفون: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾[1] ليس طريقاً أرضيّاً ولا سماويّاً بل هو طريق في بواطن الأفراد، وانّهم يسافرون في ارواحهم، ولذلك يؤكّد القرآن الكريم علىٰ المؤمنين بأن يراقبوا أنفسهم ولا يتركوها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم﴾.[2] فعلىٰ الإنسان أن يسافر في نفسه فإنّ طريقه فيها، فلا يصرف اهتمامه الىٰ خارجها فيعمّر ماهو خارج النفس.

وإذا كان الإيمان (مستودعاً) وزائلاً ولم يكن (مستقرّاً) فإنّه يذهب بسكرات الموت بل بما هو أقلّ منها، ولهذا فإنّ البعض بعد الموت غير قادرين حتّىٰ علىٰ معرفة من هو ربُّهم، وتمرّ علىٰ البعض أحقاب من العذاب حتّىٰ يتذكّر انّ كتابه المنزل من السماء هو القرآن.[3] ومع انّه في الدنيا لم يكن يتعامل مع اسم أكثر من اسم «محمّد»، ولكنّه بعد الموت ينسىٰ اسمَ النبيّ الأكرم(ص). أمّا الإيمان الراسخ في النفس فهو لايزول بسكرات الموت وساعات النزع، والإنسان يتّحد مع المقدار الّذي طواه وسلكه من هذا الطريق؛ فإذا كان قد طوىٰ جميع الطريق فهو يصيرُ (صراطَ الله) وإذا كان في مرتبة أقلّ فهو يصيرُ (سبيلَ الله).

2. التقرير الثاني: انّ صراط الدين في العالم الخارجي ليس هو بشكل طريق جاهز وممدود حتّىٰ يسير عليه السالك، حيث انّ الطريق


[1] . سورة الملك، الآية 22.

[2] . سورة المائدة، الآية 105.

[3] . نور الثقلين، ج5، ص495.

تسنيم، جلد 1

560

طبقاً للاُصول يكون دائماً موجوداً بالقوّة والسائرون بحركتهم يوجدونه ويحوّلونه من القوّة الىٰ الفعل ويتّحدون به ويوصفون به في النهاية.

وتوضيح ذلك: انّ المسافة والطريق ليس له وجود منفصل عن المتحرّك، مثلاً الشجرة الّتي لها ابعاد ويتغيّر مقدارها وفي الإصطلاح الفلسفي (تتحرّك في مقولة الكم) فبحركتها تتحوّل كمّيتها ونموّها من القوّة الىٰ الفعل وتتّصف هي به. ومن ثمَّ يمكن القول انّ الشجرة لها تلك الأبعاد، وإلاّ فإنّه لايوجد في العالم الخارجيّ كميّة وجوديّة منفصلة وطريق مستقلّ عن المتحرّك حتّىٰ تتحرّك الشجرة فيه.

والحركة في مقولة (الكيف) أيضاً بهذا النحو، مثلاً الفاكهة الّتي تتحرّك في كيفيّات مثل اللون والطعم، لايعني ذلك انّ الكيفيّتين المذكورتين موجودتان ابتداءً والفاكهة تتحرّك فيهما، بل انّ الفاكهة بحركتها تُنتج اللون والطعم وتتّحد معهما وتتّصف بهما وعندها يقال انّ: (هذه الفاكهة حسنة اللون والطعم والرائحة).

وفي الحركات الأَينيّة (المكانيّة) أيضاً يتحرّك الإنسان في (الأَين) لا في المكان، والأين هو الهيئة الحاصلة من نسبة المتمكّن الىٰ المكان، ومعنىٰ الحركة في الأَيْن والمسافة هو انّ المتحرّك بحركته يصنع المسافة، وفي العالم العينيّ تتحوّل المسافة بالقوّة إلىٰ الفعليّة بواسطة الحركة.

والحركات الإعتقاديّة والأخلاقيّة والعمليّة أيضاً بهذا النحو؛ فإذا كانت الأخلاق والسجايا الروحيّة من الكيفيّات النفسانيّة فإنّها بحركة الإنسان تصل الىٰ الفعليّة، مثلاً العدالة والتواضع والشجاعة والسخاء

تسنيم، جلد 1

561

ليست في البداية طريقاً عينيّاً موجوداً حتّىٰ تتحرّك النفس الإنسانيّة في هذه الصفات العينيّة، بل انّ النفس الّتي هي مدبّرة للبدن بحركتها تربّي هذه الصفات وتُنتج هذه الطرق وتتّحد معها وتتّصف بها. وإذا قلنا انّ العقائد والسجايا والأخلاق (جواهر) وليست كيفيّات نفسانيّة فإنّ طريقة سير الإنسان فيها سيتمّ تصويرها بنحو آخر.

والقرآن الكريم يعرّف الصراط المستقيم بأنّه هو نفس الدين: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَما﴾.[1] وطبقاً لما مرَّ بيانه (فما عدا الموجود في باطن وفطرة الإنسان) وقبل حركة المتديّنين، ليس هناك للدين وجود عينيّ في الخارج[2] حتّىٰ يتحرّك الإنسان في الدين الموجود، بل توجد قبل الحركة مجموعة من المعارف والأوامر الدينيّة الكلّية الّتي بمعرفتها وبالعمل بها يتّصف الدين بالعينيّة. والإنسان بتعلّمه الأوامر العامّة وبحركته الإعتقاديّة والأخلاقيّة والعمليّة يهبُ للدين العينيّة والوجود. ومن ثمَّ يتّحد به وبعد ذلك يتّصف به، يعني انّه بعد اجتياز هذه المراحل يكون موصوفاً بالتديّن والإيمان، فالدين إذن يوجد في الخارج بواسطة حركة الأفراد، وبين (الطريق) و(السالك) توجد لُحمةٌ وجوديّة توحّد هذين الإثنين ثمّ تجعل السالك متّصفاً بالطريق وبعد هذا الإتّصاف يمكن نسبة الصراط الىٰ سالكه ويمكن التعبير عنه بأنّه (سبيل المؤمنين) أو (صراط الّذين أنعمت عليهم).


[1] . سورة الأنعام، الآية 161.

[2] . الإنسان عندما يولد يكون فاقداً للعلوم الحصوليّة، ولكنْ بالنسبة الىٰ العلوم الحضوريّة الفطريّة فهو قد جُبِلَ علىٰ الصراط المستقيم التكوينيّ وهو يميل إليه.

تسنيم، جلد 1

562

إذن بالنظرة العميقة والدقيقة ورؤية السالك والمسلك متّحدين يتّضح انّ من أحاط علماً بجميع الدين وفهمَه جيّداً وعمل به علىٰ النحو الصحيح فهو نفسه يصير صراطاً مستقيماً، وعلىٰ هذا الأساس قال أهل بيت العصمة الأطهار(ع ): «والله نحن الصراط المستقيم»[1] أو يوصف أمير المؤمنين(ع) بالصراط المستقيم: «عليّ هو الصراط المستقيم»[2]، «الصراط المستقيم أمير المؤمنين».[3]

وكما انّ الفاكهة والثمرة بحركتها توجد لوناً ورائحة خاصّة وتتّحد معها وتتّصف بها وحينها يقال: (انّ هذه الفاكهة ملوّنة ومعطّرة) فالإنسان أيضاً يتّصف بالصراط بهذا النحو، بل انّ علاقة السائرين والسالكين مع الصراط المستقيم ربّما هي أقوىٰ من ارتباط الفاكهة باللون والرائحة، لأنّ الرائحة واللون ليسا ذاتيّين للثمرة، بينما علاقة السالك بالصراط لها جذور في روح الإنسان وهو مرتبط بحقيقة الإنسان ومتّحد معها. إذن فإسناد الطريق الىٰ السالكين كإسناد أوصاف الثمرة الىٰ الثمرة بل هو أعلىٰ من ذلك، وهذا الكلام حقيقة وليس مجازاً أو استعارةً أو تشبيهاً أو كناية، لأنّ الطريق غير منفصل عن السالك.

وعلىٰ هذا الأساس فإنّ الطغاة المعاندين للدين يصيرون: (سبيل الغيّ) و(سبيل الطاغوت) وفي القيامة سيظهر انّ اُولئك هم (الطغيان الممثّل) ولهذا عدّ القرآن القاسطين حطباً لجهنّم: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ


[1] . نور الثقلين، ج1، ص22.

[2] . نفس المصدر السابق.

[3] . نفس المصدر، ص21.

تسنيم، جلد 1

563

فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبا﴾.[1] وخلافاً لحطب الدنيا الّذي يستحيل الىٰ رماد بالإشتعال والإحراق، فإنّ الظالم المتّحد مع طريقه هو بنفسه حطب مشتعل وغير قابل للإحتراق. وبناءً علىٰ هذا فإنّ القرآن الكريم يقول في الكفّار والمنافقين انّ مصيرهم (صيرورتهم) جهنّم أي انّهم يصيرون بأنفسهم نارَ جهنّم وسيكونون تحت ولاية النار: ﴿فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلٰكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِير﴾[2]، فاُولئك الّذين وقعوا تحت ولاية النار قد اتّحدوا بنار محرقة دائماً، بل انَّ باطنهم وخارجهم قد تحوّل الىٰ نار وهذا هو معنىٰ (صيرورتهم جهنّم). كذلك يقول في موضع آخر انّهم أولاد النار والهاوية (النار) امُّهم: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ٭ فَأُمُّهُ هَاوِيَة﴾.[3] وكما انّ الاُمّ تربّي ولدها كذلك فإنّ النار تغذّي هؤلاء.

هذه التعبيرات دليل علىٰ انّ المجرمين والكفّار والمنافقين متّحدون مع سبيلهم كما انّ أصفياء البشر كالمعصومين(ع ) أيضاً هم عين الصراط المستقيم وهم الموازين القسط للأعمال: «هم الموازين القسط».[4] والأفعال الخارجيّة للإنسان تغيّر باطنه، وعليه فإنّ باطن السائرين في طريق الكفر جهنّم وباطن السالكين في الصراط المستقيم روح وريحان وجنّة نعيم: ﴿فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ٭ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيم﴾.[5]


[1] . سورة الجنّ، الآية 15.

[2] . سورة الحديد، الآية 15.

[3] . سورة القارعة، الآيتان 8 و9.

[4] . علم اليقين، ج2، ص601؛ البحار، ج68، ص226.

[5] . سورة الواقعة، الآيتان 88 ـ 89.

تسنيم، جلد 1

564

وإذا لم يتغيّر الإنسان بالعقائد والأخلاق وأعمال الحقّ تغييراً جوهريّاً، فإنّ تنعّمه وتمتّعه سيكون خارجيّاً، أي انّ النعيم يُعدّ ويُهيّأ له، أمّا إذا تغيّر جوهر ذاته بالحركة في العقائد والأخلاق والأعمال فحينئذٍ ستكون له جنّة في الخارج وجنّة في الباطن. إذن فالحركة في الصراط والإتّحاد معه تصوغ من المؤمن جنّة اُخرىٰ.

ومضافاً إلىٰ الشواهد المذكورة، فهناك تعبيرات قرآنيّة اُخرىٰ وصفت العبادة أو المعصية بـ (السبيل) وهذه أيضاً مؤيّدة لاتّحاد الطريق مع السالك، فمثلاً يسمّي صلاة الليل بأنّها (سبيل الله): ﴿إِنَّ هٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلا﴾[1]، مع انّ صلاة الليل ليست طريقاً موجوداً في العالم العينيّ حتّىٰ يسلكه الإنسان. فما هو موجود قبل العمل هو الوجود الكتبيّ والقوليّ والمفهوميّ لصلاة الليل ولاشيء من هذه الاُمور يعدّ طريقاً، لأنّها حاصلة أيضاً حتّىٰ للمنكرين والتاركين، ولكنّهم ليسوا من أهل صلاة الليل. فسلوك المسافة هو الّذي يوجد الطريق ويوحّده بالسالك.

وحول الفحشاء يقول أيضاً: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا﴾[2]، فيسمّي الفاحشة (سبيل السوء)، ومن هذا المعنىٰ القرآني يستوحي الإمام السجّاد(ع) ويقول في دعائه في ختم القرآن: «وصارت الأعمال قلائد في الأعناق»[3] ويصف القرآن الكريم أيضاً عمل الكفّار بأنّه


[1] . سورة المزمّل، الآية 19؛ سورة الإنسان، الآية 29.

[2] . سورة الاسراء، الآية 32.

[3] . الصحيفة السجاديّة، الدعاء 42.

تسنيم، جلد 1

565

أغلال وسلاسل تقيّد بها رقابهم: ﴿وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾.[1]

والغلّ والسلاسل الّتي تُقيّد بها أعناق الكفّار والمجرمين هي الحقيقة والوجه الملكوتيّ لتلك الأعمال الإجراميّة الّتي اتّحدوا معها. فالإنسان لايُجازىٰ بغير عمله، لأنّه لم يقل في هذه الآية الكريمة: (بما كانوا يعملون) حتّىٰ يكون معناها انّ هذا الجزاء في مقابل العمل بل قال: ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ يعني جعلنا نفس العمل جزاءً وعقوبة لهم.

تنويه: البحوث السابقة لامنافاة لها مع الوجود الخارجيّ والفعليّ للجنّة والنار وسوف يأتي بيان هذه المعارف بالتدريج في ذيل الآيات المتعلّقة بها.

13. اتّحاد المريد والإرادة

انّ الإنسان الّذي يتحرّك في مسير العلم والإرادة في البداية يتحرّك بعلوم ونيّات وبالتالي صفات وتكون بالنسبة إليه (حالاً) وهذا الحال قابل للزوال بسرعة كطعم عذوبة الماء المؤقّت العابر، ولكن علىٰ أثر الإستمرار والمواصلة الدائمة تصير هذه الصفات ملكة له كحلاوة العسل الثابتة والطويلة الأمد.

والمحقّقون في أيّ تخصّص علميّ علىٰ أساس (اتّحاد العالم والمعلوم)[2] وبعد الفهم العميق لمعارف ذلك التخصّص يتّحدون مع تلك المعارف.


[1] . سورة سبأ، الآية 33.

[2] . لأجل إدراك أيّ شيء خارجيّ تتحقّق ستّة عناصر، أربعة منها خارجة من دائرة بحث اتّحاد العالم والمعلوم، مثلاً عندما يدرك الإنسان حقيقة الشجرة ادراكاً صحيحاً، فالشجرة الّتي توجد في العالم العينيّ خارج الذهن لها (وجود) و(ماهيّة). والإنسان المُدرِك لها أيضاً له (وجود) و(ماهيّة)، والصورة العلميّة الموجودة في النفس المدرِكة أيضاً لها (وجود) و(ماهيّة). وخلاصة القول هي انّ كلاًّ من المُدرِك والمُدرَك والصورة الإدراكيّة لها وجود وماهيّة. ومن هنا فإنّ الإدراك تتحقّق فيه عناصر ستّة. ومن هذه العناصر الستّة يخرج وجود وماهيّة المُدرَك وهي (الشجرة الموجودة في العالم الخارجيّ) عن بحث اتّحاد العالم والمعلوم حيث انّها خارجة عن نفس المُدرِك، كذلك تخرج من البحث ماهيّة المُدرِك وماهيّة الصورة الإدراكيّة، لأنّ الماهيّة من سنخ المفهوم والأمر الخارجيّ لايتّحد مع المفهوم. إذن فالّذي يبقىٰ من العناصر الستّة هو (وجود العالِم) و(وجود العلم) فيتّحدان فيما بينهما وهذا هو معنىٰ كون الإنسان فكراً (يا أخي انّ حقيقتك هي الفكر) يعني انّك هذا الفهم (لا المفهوم). والإنسان كلّما أدرك وفهم شيئاً فإنّه يصير نفس ذلك الفهم وليس نفس ذلك المفهوم، فمن عرف الشجرة معرفة صحيحة فإنّه لايتّحد بماهيّتها بل يتّحد مع العلم بالشجرة.

تسنيم، جلد 1

566

والنيّة والإرادة بهذا النحو أيضاً، فالإنسان يتّحد مع نيّاته وإراداته، وعلىٰ هذا الأساس يُحشر الناس يوم القيامة طبقاً لنيّاتهم: «انّ الله يحشر الناس علىٰ نيّاتهم يوم القيامة».[1] وليس طبقاً


[1] . البحار، ج67، ص209. يُحشر بعض الناس في القيامة علىٰ هيئة الحيوانات، وحشرهم في هذه الهيئة لايعني انّ سيرتهم انسانيّة وصورتهم حيوانيّة، بل انّهم تحوّلوا الىٰ حيوان حقيقة، لأنّ الطريقة الخاصّة بالمشي لدىٰ الحيوان والإنسان (الحركة علىٰ اثنين أو أربع) ليست مقوّماً ذاتيّاً لهما، بل هي أمر ظاهريّ وعرضي، لأنّ الإنسان لو كان كالفرس يمشي علىٰ أربع لبقي إنساناً، والفرس لو كان يمشي علىٰ اثنين لبقي فرساً. فإنسانيّة الإنسان بنفسه الناطقة وتشبيه الكفّار بالأنعام في القرآن الكريم: ﴿أُولٰئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ﴾ (سورة الأعراف، الآية 179) ليس مجازاً وليس لأجل اهانتهم وتوبيخهم، لأنّه أوّلاً: القرآن كلّه أدب ولطف وهو لايتجنّب في كلامه الشتم فحسب بل هو ينهىٰ غيره عن السبّ والشتم حتّىٰ ولو كان لأصنام المشركين: ﴿وَلاَتَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم﴾ (سورة الأنعام، الآية 108)، بل انّ الكفّار حقّاً كالأنعام أو أدنىٰ من ذلك لأنّ عقلهم أسير بيد شهوتهم وغضبهم. وثانياً: انّ الحيوانات ليست مجرمة حتّىٰ يهين الله الكفّار بتشبيههم بها. فالله سبحانه قد هدىٰ الحيوانات جميعها بهدايته التكوينيّة الىٰ الصراط المستقيم: ﴿مَا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذُ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾ (سورة هود، الآية 56) كذلك اطرىٰ عليها اطراءً جميلاً ووصفها بأنّها مظهر الجمال: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون﴾ (سورة النحل، الآية 6). فهذا التشبيه لبيان الحقيقة الخافية عن أنظار بعض الناس، فالإنسان الّذي يتحرّك وفقاً لشهوته وبطنه ويسخَّر علمه وإرادته لشهوته فهو بلحاظ الهيئة والسلوك كالحيوان الّذي يمشي علىٰ بطنه: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مَن مَاءٍ فَمِنْهُم مَن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِه﴾ (سورة النور، الآية 45). وعليه فإنّ حشر الإنسان علىٰ هيئة الحيوان طبقاً للمباني القرآنيّة والعقليّة هو أمر واقعيّ وليس كلاماً مجازيّاً وشعريّاً.

تسنيم، جلد 1

567

للأعمال المنفصلة عنهم، ومايرتبط بالنفس هو النيّة والإرادة، الّتي هي إمّا حسنة أو قبيحة.

والنيّة الصحيحة والمقبولة، أي الإخلاص، تكون فيها صعوبة بالغة، ولاشيء أشدّ صعوبة في العمل من نيّته[1] «أفضل الأعمال أحمزها»[2]، «نيّة المؤمن خيرٌ من عمله».[3]


[1] . يقول الشيخ البهائي (ره): انّ الأمر الذهنيّ الّذي نحسبه (نيّة العبادة) هو (نيّة) بالحمل الأوّلي، وهو (غفلة) بالحمل الشائع، أي انّ اسمه وعنوانه نيّة، لكنّ روحه وحقيقته مصداق من مصاديق الغفلة، لأنّه لوكان هذا نيّة لما كانت أفكارنا في الصلاة مبعثرة ومتشتّتة بهذا النحو. النيّة الحقيقيّة هي انبعاث وتحليق الروح وتركها التعلّق، فإذا تمكّن المصلّي عند الصلاة أن ينقطع عن الطبيعة، فعندها تتحقّق النيّة الواقعيّة، وإلاّ فانّ الإنسان الّذي لايزال باقياً في محلّه السابق في حال العبادة ولم يهاجر فإنّه لم يتقرّب، فالتقرّب الّذي يحصل بالتحليق عن الطبيعة عمل صعب ولهذا وصف بأنّه (أفضل الأعمال) (أربعين الشيخ البهائيّ، بحث النيّة).

[2] . البحار، ج67، ص191.

[3] . نفس المصدر، ص190.

تسنيم، جلد 1

568

وهذا العمل الأفضل هو الّذي تصنعه روح الإنسان بحركتها وتتّحد معه ويوم القيامة يُحشر الإنسان أيضاً علىٰ نفس تلك الهيئة.

إذن فعلىٰ أساس «لكلّ امرءٍ ما نوىٰ»[1]، «إنّما الأعمال بالنيّات»[2] وكذلك حشر الإنسان في القيامة وفقاً لنيّته، فإنَّ النيّة الّتي هي روح العمل تتّحد مع روح الإنسان وفي البداية تظهر للإنسان في مستوىٰ (الحال) المعرّض للزوال ولكنْ في النهاية سوف تكون له ملكة ثابتة.

والقرآن الكريم يتحدّث حول المجرمين الّذين ترسّخت في نفوسهم الملكات السيّئة فيقول انّ انذارهم وعدم انذارهم سواء: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾[3]، وهم بأنفسهم يقولون بصراحة لنبيّ الله انّنا لا نتأثّر أبداً بمواعظك: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِين﴾.[4]

ويقول أمير المؤمنين(ع) حول المؤمنين الّذين ترسّخت الملكات الحسنة في نفوسهم: «لو ضربتُ خيشوم المؤمن بسيفي هذا علىٰ أن يبغضني ما أبغضني».[5]

ملاحظة: يقول القرطبيّ في تفسير آية ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾:

في هذه الآية ردٌّ علىٰ القدريّة والمعتزلة والإماميّة، لأنّهم يعتقدون انّ إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، طاعة كانت أو معصية؛ لأنّ الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير


[1] . البحار، ج67، ص210.

[2] . نفس المصدر السابق.

[3] . سورة البقرة، الآية 6.

[4] . سورة الشعراء، الآية 136.

[5] . نهج البلاغة، الحكمة 45.

تسنيم، جلد 1

569

محتاج في صدورها عنه الىٰ ربّه. وقد كذّبهم الله تعالىٰ في هذه الآية، لأنّ الإنسان يسأل الله الهداية الىٰ الصراط المستقيم... .[1]

وهذا الكلام وإن كان يمكن تبريره بالنسبة الىٰ المفوّضة والمعتزلة، لكن بالنسبة الىٰ الإماميّة الإثني عشريّة القائلين بالإختيار والمنزله الوُسطىٰ بين الجبر الأشعريّ والتفويض المعتزليّ فهذا الكلام لا يمكن تبريره أبداً وما هو الاّ افتراء محض.

البحث الروائي

1. قراءة (الصراط)

ـ عن الصادق(ع): «... ويُقرأ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾».[2]

اشارة: هناك الكثير من الأقوال حول مفردة (صراط)[3] فالبعض يرىٰ انّ أصل الصراط هو سراط (بالسين)؛ لأنّ (الاستراط) هو بمعنىٰ الإبتلاع وكأنّ الطريق يبتلع سالكيه، ولأجل ذلك يقال سَرَطَ الطعام بمعنىٰ بلَعه وقُلِبت (السين) الىٰ (صاد) بسبب تناسبها مع (الطاء).

وقرأها قنبل وهو من رواة ابن كثير علىٰ أصلها وقرأها آخرون بالصاد، وروي عن حمزة إشمام الصاد بالزاي. ونُقِل عن النقّاش انّ الصراط في لغة الروم هي بمعنىٰ الطريق وضعَّفَ ذلك ابن عطيّة. والبعض قرأه بالزاي الخالصة دون الإمالة أو الإشمام، ونقل عن الفرّاء انّ


[1] . الجامع لأحكام القرآن، ج1، ص145.

[2] . البحار، ج82، ص22.

[3] . راجع كتاب مجمع البيان، والجامع لأحكام القرآن ومنهج الصادقين.

تسنيم، جلد 1

570

(زِراط) باخلاص (الزاي) لغة عُذرة وكلْب وبني القَين، وانّهم قرأوا (أصدق) بصورة (أزدق). والّذي يتراءىٰ في النظر هو إحتمال تعدّد اللغات وليس القلب والتبديل. وعلىٰ كلّ التقادير فإنّ هذه القراءات صحيحة إذا كانت مطابقة للقواعد العربيّة.

2. معنىٰ ومصداق الصراط

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «وأمّا قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ فذلك الطريق الواضح. من عمل في الدنيا عملاً صالحاً فإنّه يسلك علىٰ الصراط الىٰ الجنّة».[1]

ـ عن الصادق(ع)... ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ قال: «الطريق ومعرفة الإمام».[2]

ـ عن رسول الله(ص): «﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ دين الله الّذي نزَّل جبرئيل علىٰ محمّد(ص)».[3]

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «... الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلوّ وارتفع عن التقصير واستقام فلم يعدل الىٰ شيء من الباطل وأمّا الطريق الآخر طريق المؤمنين الىٰ الجنّة».[4]

ـ عن الرضا(ع): «﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾: استرشاد لدينه واعتصام بحبله واستزادة في المعرفة لربّه عزّ وجلّ ولعظمته وكبريائه».[5]


[1] . البحار، ج10، ص61.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص21.

[3] . البحار، ج36، ص128.

[4] . معاني الأخبار، ص33.

[5] . نور الثقلين، ج1، ص20.

تسنيم، جلد 1

571

ـ عن الصادق(ع): قوله عزّ وجلّ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾: «نقول: ارشدنا للصراط المستقيم أي للزوم الطريق المؤدّي الىٰ محبّتك والمبلغ الىٰ جنّتك والمانع أن نتّبع أهواءنا فنعطب ونأخذ بآرائنا فنهلك».[1]

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «... يعني أَدِم لنا توفيقك الّذي أطعناك به في ماضي ايّامنا حتّىٰ نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا».[2]

ـ عن المفضّل بن عمر، قال: سألت أبا عبدالله(ع) عن الصراط، فقال: «هو الطريق الىٰ معرفة الله عزّ وجلّ».[3]

اشارة: الصراط في الدنيا والآخرة ليس جسراً شُيِّد بالمعادن أو الأحجار أو الخشب، بل هو في الدنيا في هيئة الدين الّذي هو مجموع العقائد والأخلاق والعمل ويظهر في شخصيّة الأنبياء والأئمّة الّذين هم مثالٌ وتجسيدٌ للدين، وفي عالم الآخرة يظهر بالهيئة المتناسبة مع حقائق تلك النشأة علىٰ شكل جسر أحد طرفيه موقف القيامة ونهايته جنّة الرحمة. وظهور الصراط في القيامة في شكل الجسر شبيه لتمثّل العلم في الرؤيا بصورة الماء والحكمة بصورة اللبن.

والأنبياء والأئمّة المعصومون(ع ) هُم الدين الممثّل وصراط الدنيا ومن عرف هؤلاء الأولياء واقتدىٰ بهديٰهم فإنّه سيعبر بسلام من صراط الآخرة الّذي هو جسر فوق جهنّم، ومن لم يعرف الأئمّة المعصومين ولم يهتد بهديٰهم فستزلّ قدمه من جسر جهنّم ويقع في النار.


[1] . البحار، ج89، ص254.

[2] . نفس المصدر السابق.

[3] . نور الثقلين، ج1، ص21.

تسنيم، جلد 1

572

3. اتّحاد السالك والصراط

ـ عن الصادق(ع): «والله نحن الصراط المستقيم».[1]

ـ عن السجّاد(ع): «نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم».[2]

ـ عن الصادق(ع): «الصراط المستقيم أمير المؤمنين علي(ع)».[3]

ـ عن رسول الله(ص) [في يوم الغدير]: «معاشر الناس انّا صراط الله المستقيم الّذي أمركم بإتّباعه ثمّ عَليٌّ من بعدي ثمّ ولدي من صلبه أئمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون».[4]

ـ عن الصادق(ع): «انّ الصورة الإنسانيّة هي الطريق المستقيم الىٰ كلّ خير والجسر الممدود بين الجنّة والنار».[5]

اشارة: علىٰ أساس اتّحاد السالك والصراط الّذي سبق بيانه في قسم لطائف وإشارات في الآية محلّ البحث، فالإنسان إذا وصل في المعارف الإلٰهيّة الىٰ عمق الدين ووُفّق لتطبيقه في مجال العمل، فإنّه سيصير بنفسه ديناً ممثّلاً ومجسّماً، وحيث انّ حقيقة الصراط هي نفس الدين الإلٰهيّ، لذلك وصف أولياء الله المعصومون أنفسهم بأنّهم هم الصراط المستقيم وكلامهم هذا ليس مجازاً ولا تشبيهاً.

وفي آخر أحاديث هذه المجموعة يعبِّر الإمام الصادق(ع) عن


[1] . نور الثقلين، ج1، ص21.

[2] . نفس المصدر، ص22.

[3] . معاني الأخبار، ص32.

[4] . البحار، ج37، ص212.

[5] . تفسير الصافي، ج1، ص73.

تسنيم، جلد 1

573

الصورة الإنسانيّة بالطريق المستقيم والجسر الممدود بين الجنّة والنار، ومن الواضح انّه ليس المقصود هو الصورة الظاهريّة للإنسان الّتي يقول عنها أمير المؤمنين(ع): «فالصورة صورة انسان والقلب قلب حَيَوان لايعرف باب الهدىٰ فيتّبعه ولا باب العمىٰ فيصدّ عنه وذلك ميّت الأحياء»[1]، لأنّ المحسنين والمجرمين كلّهم متساوون في الصورة الظاهريّة، فالمراد إذن هو تلك النفس الناطقة الإنسانيّة الّتي فطرت علىٰ التوحيد بهداية الله.

4. جسر فوق جهنّم أو طريق وسط النار

ـ عن مفضّل بن عمر، قال سألت أبا عبد الله(ع) عن الصراط فقال: «... وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة فأمّا الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا واقتدىٰ بهداه مرّ علىٰ الصراط الّذي هو جسر جهنّم في الآخرة ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة فتردّىٰ في نار جهنّم».[2]

ـ عن رسول الله(ص) قال: «يرد الناس النار ثمّ يصدرون بأعمالهم فأوّلهم كلمع البرق ثمّ كمرِّ الريح ثمّ كحضر الفرس ثمّ كالراكب ثمّ كشدّ الرجل ثمّ كمشيه».[3]

اشارة: طريقا الجنّة والنار ليسا في عرض واحد بل انّ أحدهما في طول الآخر ولأجل الوصول إلىٰ الجنّة فلا سبيل سوىٰ العبور من جهنّم:


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 87، المقطع 12.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص21.

[3] . البحار، ج8، ص249.

تسنيم، جلد 1

574

﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ٭ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّا﴾.[1]

وقد اختلف المفسّرون في هل انّ معنىٰ ورود الجميع في جهنّم بمعنىٰ الدخول أو بمعنىٰ الإشراف، حيث انّ (الورود) جاء في بعض المواضع بمعنىٰ الإشراف كما في قوله تعالىٰ: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَن﴾[2] في قصّة النبيّ موسىٰ(ع) وقوله تعالىٰ: ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَه﴾[3] في قصّة نجاة النبيّ يوسف(ع) من البئر لذلك قال البعض انّ المقصود من الورود هو الاشراف.

ومهما يكن فانّ الورود سواء كان بمعنىٰ الإشراف أو الدخول[4]، فإنّ جهنّم واقعة في طريق الجنّة، وأهل الجنّة يدخلونها بعد إجتياز جهنّم، وأمّا ابتعاد أهل الجنّة عن جهنّم في الآية الكريمة: ﴿أُولٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون﴾[5]، فيمكن أن يراد به مرحلة مابعد ورود واجتياز جهنّم والدخول في الجنّة.


[1] . سورة مريم، الآيتان 71 ـ 72. وتعبير (كان علىٰ ربّك) يعني انّ الله جعل فعلاً من أفعاله حاكماً علىٰ فعل آخر؛ كقوله تعالىٰ: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَة﴾ (سورة الانعام، الآية 54) ومعناها انّ الحكمة الإلٰهيّة قائدة وحاكمة علىٰ رحمته، وإلاّ فلاشيء يحكم علىٰ الله سبحانه ولايدخل تعالىٰ تحت سلطة أيّ أحد، وماهو موجود فهو أفعال الله الّتي يدخل بعضها تحت ظلّ بعض وفي مثل هذه الموارد يمكن أيضاً نسبة الصفات الفعليّة إلىٰ الفاعل.

[2] . سورة القصص، الآية 23.

[3] . سورة يوسف، الآية 19.

[4] . بعض الروايات فسَّرت الورود بالدخول بنحو واضح. راجع كتاب مجمع البيان، ج5، ص525؛ الدرّ المنثور، ج4، ص280 و281؛ الكشّاف، ج2، ص520.

[5] . سورة الأنبياء، الآية 101.

تسنيم، جلد 1

575

وعبور أهل الجنّة في القيامة من النار في نفس الوقت الّذي يكون فيه انعكاساً لنظام الحياة الدنيويّة فإنّ فيه فائدةً حسنة تدفع أهل الجنّة للمزيد من الشكر، لانّهم عند العبور من النار يدركون انّهم قد اجتازوا مرحلة مهولة وفي غاية الخطر: «انّ الله لايدخل أحداً الجنّة حتّىٰ يطلعه علىٰ النار وما فيها من العذاب، ليعلم تمام فضل الله عليه وكمال فضله وإحسانه إليه فيزداد لذلك فرحاً وسروراً بالجنّة ونعيمها...».[1]

واجتياز صراط الحقّ في الدنيا أيضاً يستلزم العبور من النار وان يطأها الإنسان بقدميه، لانّ الصراط المستقيم ليس طريقاً سهلاً وبعيداً عن جهنّم، بل انّ النار قد أحاطت جميع ماحوله، وحيث انّ الصراط المستقيم هو نفس الدين، فمن لايسلك طريق الدين فإنّه يسقط من الصراط، غاية الأمر انّ ارتباطه بالصراط إذا انفصم وانقطع بشكل تامّ فلا يمكنه بعد ذلك أن يواصل الطريق، وأمّا إذا لم ينقطع حبل ارتباطه بالكامل، فإنّ بإمكانه الرجوع مرّة اُخرىٰ. إذن فترك حكم الله هو سقوط في النار، ولذا عدّ القرآن الكريم أكل الحرام أكلاً للنار: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا﴾.[2] وإن كان الإنسان لايشعر في الدنيا بهذه الحقيقة المخفيّة، ولكن في القيامة سوف تظهر هذه الحقيقة بنحو مكشوف وواضح ومشهود.

فالصراط المستقيم في الدنيا يظهر في صورة الدين وأوليائه، وهم الأنبياء والأئمّة المعصومون(ع ) وفي الآخرة في هيئة جسر فوق جهنّم،


[1] . البحار، ج8، ص250.

[2] . سورة النساء، الآية 10.

تسنيم، جلد 1

576

وغصب مال اليتيم يذكر في الدنيا بعنوان انّه (حرام) وفي الآخرة يظهر علىٰ شكل (لهب). فالمجرمون وأكَلة المال الحرام هم الآن في النار، وكلام الله سبحانه مع الكفّار والمفسدين يشبه كلام وليّ الطفل مع الطفل العنيد عندما يقول له انّك إذا لمست النار فستحترق في الحال، وليس شبيهاً بكلام الطبيب للمريض غير الملتزم بالحُمية عندما يقول له: إذا لم تلتزم بهذه النصائح فإنّك ستواجه خطر المرض بعد مدّة.

وأمير المؤمنين(ع) في كتابه إلىٰ سلمان، يصف تلوّث الإنسان بالدنيا بأنّه كالتسمّم بسمّ الحيّة المهلك: «امّا بعد فإنّما مثل الدنيا مثل الحيّة ليّن مسّها، قاتل سمّها».[1] فلمس الدنيا كلمس الحيّة السامّة، غاية الأمر انّ المسمومين بالدنيا لايشعرون بالألم بسبب التخدير، ولكن عندما يرفع الحجاب فسوف يرون انّهم كانوا مسمومين من قبل ولكنّهم كانوا غافلين عن مسموميّتهم: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد﴾[2]، ومن الواضح انّ الغفلة فرع وجود المغفول عنه. وعليه فإنّ الوصول إلىٰ الجنّة يتطلّب أن يطأ المرء بقدميه علىٰ المعاصي ويعبر من جهنّم.

تنويه: اختلاف كيفيّة العبور من الصراط في القيامة انعكاس لكيفيّة اجتياز الصراط المستقيم في الدنيا، فاُولئك الّذين سلكوا في الصراط المستقيم في الدنيا عن رغبة وبسهولة فهناك أيضاً سيعبرون علىٰ الصراط كالبرق الخاطف، أمّا اُولئك الّذين كانوا يلتزمون بالدين تارة، واُخرىٰ


[1] . نهج البلاغة، الكتاب 68.

[2] . سورة ق، الآية 22.

تسنيم، جلد 1

577

يسلكون طرق الضلال والإنحراف، فهناك سيمرّون علىٰ الصراط مضطربين يسقطون تارة ويقومون اُخرىٰ.

5. مميّزات الصراط وصعوبة اجتيازه

ـ عن سعدان بن مسلم عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن الصراط، فقال: «هو أدقُّ من الشعر وأحدّ من السيف».[1]

ـ عن النبيّ(ص) قال: «الصراط أدقُّ من الشَعر وأحدُّ من السيف وأظلم من الليل».[2]

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «واعلموا انّ مجازكم علىٰ الصراط (السراط) ومزالقِ دحضه وأهاويل زلَله وتارات أهواله. فاتّقوا الله عباد الله تقيّة ذي لبّ شغل التفكّر قلبَه وأنصب الخوف بدنَه وأسهر التهجُّد غِرارَ نومه...».[3]

اشارة: الإنسان موجود متفكّر ومختار وكماله في ظلّ تشخيصه للحقّ والعمل به. وتمييز الحقّ عن الباطل من بين الآراء المتضاربة والمذاهب المتنازعة وانتخاب الأحسن منها صعب للغاية، كما انّ التطبيق العمليّ بعد التحقيق العلمي عمل في غاية الصعوبة.

والتشخيص الصحيح العلميّ للحقّ كرؤية الشَعرة الدقيقة في الليل المظلم، والثبات والإستقامة في وسط الصراط أمر معضل كالمشي علىٰ الحافّة الحادّة للسيف.


[1] . تفسير القمّي، ج1، ص29.

[2] . علم اليقين، ص969.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 83، المقطع 36.

تسنيم، جلد 1

578

والمحقّقون الذين اشتغلوا في البحث عن الحقائق بعمق ودقّة يعبّر عنهم في التراجم بعبارة (شقّقوا الشَعْر) أي انّهم أفلحوا عندما بذلوا جهوداً بالغة في التشخيص العلميّ للحقّ. والأتقياء الّذين كانوا بنياناً مرصوصاً في ميدان الجهاد الأكبر ويعبّر عنهم بانّهم «رهبان بالليل وأُسْدٌ بالنهار»[1] كانوا موفّقين في السير العملي علىٰ صراط القسط والعدل.

والمقصود هو انّ الإنسان في ظلّ حفظه للفطرة الصادقة ومراعاة التقوىٰ يمكنه أن يميّزَ الشيء الّذي هو أدقّ من الشعر في ظلام أشدّ عتمة من الليل ويمكنه أن يعبر بسلام علىٰ ماهو أحدّ من السيف في ظلام أشدّ من الليل الدامس.

٭ ٭ ٭


[1] . البحار، ج65، ص180.

تسنيم، جلد 1

579

صِرَاطَ الَّذِينَ أَ نْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآ لِّينَ (7)

خلاصة التفسير

انّ الصراط المستقيم الّذي هو المطلوب من قِبَل العبد السالك. هو طريق الأفراد الّذين وهبهم الله نِعَمه المعنويّة، والّذين لم يقعوا في غضب الله ولم يتورّطوا في الضلال.

واُولئك هم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون الّذين أفاض الله عليهم نِعَم النبوّة والصدق والشهادة والصلاح وجعلهم خير رفاق درب للسالكين في الصراط المستقيم.

والصراط المستقيم واحد ليس أكثر، والمهتدون يسيرون عليه باستقامة وثبات والآخرون ينحرفون عنه، وليس في نظام الوجود غير طريق واحد، ولم يخلق الطريق المنحرف أبداً، ولذا فلو لم يضلّ الإنسان وينحرف لما كان هناك انحراف ولاضلال ولاغضب.

ولاينزل من الله سوىٰ الخير، وأمّا غضبه واضلاله فهو جزائيّ وليس ابتدائيّاً.

تسنيم، جلد 1

580

التفسير

أنعمت: مادّة (ن ع م) فيها اشتقاقات كثيرة وترجع إلىٰ أصل واحد معناه هناء وطيب العيش وحُسن الحال في مقابل البؤس الّذي معناه مطلق الشدّة والضيق، وحيث انّ الضر يعني الشرّ الّذي يصيب الشيء فيؤدّي إلىٰ سلب الهناء وفقدان حُسن الحال فلذلك يستعمل أحياناً في مقابل النعمة: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي﴾[1] وإلاّ فانّ (الضَرّ) في مقابل (النفع).

نِعمة علىٰ وزن فِعلة وهي اسم نوع وتدلّ علىٰ نوع خاصّ من النعمة ومصاديقها كثيرة ومتنوّعة: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾[2]، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة﴾.[3] ونَعْمة علىٰ وزن فَعْلة مصدر وهي مثل النُعومة بمعنىٰ حسن الحال: ﴿وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ٭ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِين﴾[4]، ﴿ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا﴾[5] و(الإنعام) الّذي معناه إيصال النعمة إلىٰ الغير يستعمل في الموارد الّتي يكون فيها المتلقّي للنعمة شاعراً بها، مع انّ مايصل إلىٰ الموجودات الفاقدة للشعور إذا كان ملائماً لطبعها فهو نعمة أيضاً. والسرُّ في الإختصاص بذوات الشعور هو انّ المتنعّم ذا


[1] . سورة هود، الآية 10.

[2] . سورة النحل، الآية 18.

[3] . سورة لقمان، الآية 20.

[4] . سورة الدخان، الآيتان 26 ـ 27.

[5] . سورة المزمّل، الآية 11.

تسنيم، جلد 1

581

الشعور لديه قدرة تشخيص الاُمور فيميِّز النافع من الضارّ، بينما غيره فاقد لهذا التمييز.[1]

المغضوب: جميع المشتقّات من مادّة (غ ض ب) لها معنىٰ واحد هو (الشدّة في مقابل الشيء الآخر)، ولهذا يقال للصخور الصمّاء في الجبال بسبب صلابتها وامتناعها عن القلع انّها صخور (غضبة) ويقال لحالة هياج الإنسان وخروجه عن الإعتدال نحو الحدّة والشدّة حالة (الغَضَب).

والغَضَب في مقابل الحلم وقد عبَّرت الروايات عن الغضب الّذي يكون في طريق الباطل بأنّه (نار شيطانيّة تضطرم في باطن الإنسان). يقول الإمام الباقر(ع): «إنّ هذا الغضبَ جمرة من الشيطان توقد في جوف ابن آدم وإنّ أحدكم إذا غضبَ احمرّت عيناه وانتفخت أوداجه ودخل الشيطان فيه».[2]

وأمّا الغضب في طريق الله العزيز فهو تلك (الشِدّة والحِدّة) الّتي تستعمل في معاقبة المفسدين والكفّار، لانّ الانفعال وتغيير الحال الّذي هو من مقدّمات الغضب عند الإنسان لايحصل عند الله سبحانه.

الضّالّين: الضلالة في مقابل الإهتداء والإضلال في مقابل الهداية: ﴿قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِين﴾[3]، ﴿مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾.[4] وحيث انّ الهداية بمعنىٰ الدلالة والإرشاد الىٰ الهدف فالإِضلال هو فقدانها.

الخطأ والانحراف عن الحقّ والفساد وأمثال ذلك من لوازم الضلالة،


[1] . التحقيق، ج12، ص178؛ الميزان، ج11، ص81.

[2] . البحار، ج70، ص278.

[3] . سورة الأنعام، الآية 56.

[4] . سورة الإسراء، الآية 15.

تسنيم، جلد 1

582

وهي اُمور تحصل بسبب عدم الإهتداء الىٰ الهدف. والمقصد والهدف الّذي يبلغه المهتدي ويُحرم منه الضالّ لايختصّ بأهداف الحقّ، لانّ أساس الهداية والضلالة هو نيل المقصود والمطلوب أو عدم نيله، والمقصود قد يكون حقّاً وقد يكون باطلاً في الواقع علىٰ الرغم من انّ الساعي إليه يخاله حقّاً. لذلك استعمل القرآن الكريم كلمة الضلالة في كلا الحالين، فقال تعالىٰ: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدا﴾[1]، وقال تعالىٰ أيضاً: ﴿قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين﴾.[2]

فما قالته الجماعة المجرمة لنبيّها كان باطلاً في الواقع، لكن حيث انّه بزعمهم حقّ لذلك كانوا يتخيّلون انّ تركه ضلالة.

واستعملت الضلالة في القرآن الكريم في مصاديق متعدّدة كما في الأمثلة التالية:

1. الإعتقاد: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل﴾.[3]

2. الصفات الباطنيّة: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُولٰئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِين﴾.[4]

3. العمل: ﴿وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل﴾.[5]

4. الضلالة المطلقة: ﴿إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَك﴾[6]، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِين﴾.[7]


[1] . سورة النساء، الآية 116.

[2] . سورة الأعراف، الآية 60.

[3] . سورة البقرة، الآية 108.

[4] . سورة الزمر، الآية 22.

[5] . سورة الممتحنة، الآية 1.

[6] . سورة نوح، الآية 27.

[7] . سورة الجمعة، الآية 2.

تسنيم، جلد 1

583

عامل الهداية إلىٰ الصراط

انّ هذه الآيةَ الكريمة الّتي هي آخر آية من سورة الحمد المباركة بيّنت عن طريق تعليق الحكم علىٰ الوصف (المشعر بالعلّية) انّ العامل والسبب لسلوك الصراط المستقيم هو الإنعام الإلٰهيّ، ومعنىٰ الآية هو اهدنا الىٰ طريق الّذين نالوا توفيق المضيّ علىٰ الصراط المستقيم بسبب إنعامك عليهم.

والله سبحانه أعطىٰ للمغضوب عليهم والضالّين نعماً كثيرة، لكنّ النعمة المذكورة في هذه الآية الكريمة نعمة خاصّة، ولأجل تبيين حقيقة هذه النعمة ينبغي الإجابة علىٰ ثلاثة أسئلة هي:

أ. من هم المُنعَم عليهم؟

ب. ماهي النعم الّتي اُعطيت لهم؟

ج. كيف كانت سيرة وسلوك المُنعَم عليهم؟

والموضوع الأوّل والثاني يبيّنان في البحث التفسيريّ والموضوع الثالث سوف يُبيّن في قسم لطائف وإشارات.

المُنعم عليهم في القرآن

في الآية الأخيرة من سورة الحمد تُطلب الهداية الىٰ طريق المُنعَم عليهم، والقرآن الكريم وصفهم كما يلي: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقا﴾.[1]


[1] . سورة النساء، الآية 69. «النبيّين»: هم المصطفون من قبل الله لأداء مهمّة تعليم وتربية البشر عن طريق الوحي الإلٰهي، وكلّ خطوة في غير مسيرهم تعتبر حركة نحو الضلال، علىٰ الرغم من انّ سالكي الصراط لاسبيل لهم لنيل مقام النبوّة. «الصدّيقين»: وهم أهل الصدق في مقام الإعتقاد والأخلاق والعمل، والصدق في العقيدة والأخلاق والعمل يوصل الإنسان إلىٰ مقامهم. «الشهداء»: وهم في الإصطلاح القرآنيّ الشهود علىٰ الأعمال وليسوا المقتولين في ميادين القتال. ومقام الشهادة مقام شامخ، لانّ شهادة الشهود في يوم القيامة تستدعي الحضور والمشاهدة وتحمّل الشهادة في ميدان العمل في الدنيا. فهم إذن في حال شهود ورؤية للأعمال سواء كانوا في حال اليقظة أو المنام، لأنّ القيامة هي ظرف أداء الشهادة الّتي يجب أن يسبقها تَحمّلها. «الصالحين»: وهم في التعبيرات القرآنيّة أعلىٰ درجة من (الّذين عملوا الصالحات)، لانّ صلاح الصالحين صفة مستمرّة ومرتبطة بمقام وجوهر ذاتهم، خلافاً لـ(الّذين عملوا الصالحات) الّذين لديهم صلاح في العمل، والصلاح في مقام الفعل أقلّ درجةً من الصلاح في مقام الذات، ولذلك يقول القرآن في شأن بعض الأنبياء: ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين﴾ (سورة البقرة، الآية 130). وعليه فكما انّ بعض الناس من الشهداء ولكنّهم ليسوا من الأنبياء، كذلك فانّ بعض الأنبياء يُحتمل انّهم لم يكونوا قد بلغوا الدرجة الأخيرة للصلاح. تنويه: انّ عنوان (الصالحين) فيه مراتب، بعضها حاصل لجميع الأنبياء(ع ) في الدنيا كما جاء في الآية 85 من سورة الأنعام: ﴿... كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِين﴾ لكنّ المرتبة الأعلىٰ والأخيرة ليست حاصلة للجميع في الدنيا. ولذلك قال في الآية المذكورة: ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين﴾، والنبيّ الأكرم(ص) الّذي حاز أعلىٰ درجة الصلاح يقول في تعريف وتوصيف نفسه: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين﴾ (سورة الأعراف، الآية 196).

تسنيم، جلد 1

584

إذن فالمراد من ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾ هم تلك الفئات الأربع الّذين وهبهم الله نعمة «النبوّة» و«الصدق» و«الشهادة»، و«الصلاح»، والسرّ في حُسن رفاقتهم هو انّهم عارفون واعون وناجحون في السير علىٰ الطريق ولايتركون رفاق الدرب وحدهم، ولايغفلون عنهم بل يمسكون بأيدي رفاق سفرهم كي يعبروا بهم بسلام علىٰ العقبات والمزالق

تسنيم، جلد 1

585

الصعبة. فمن يرافقهم في هذا الطريق فإنّه لايصيبه منهم سوء ولايغفلون عن رعايته ولايخاف من عقبات وعوائق الطريق.

النِعَم الظاهريّة والباطنيّة

مايكون لذيذاً ومتناسباً مع حواسّ الإنسان الظاهريّة أو الباطنيّة وقواه الإدراكيّة أو الحركيّة يسمّىٰ «نِعمة». والقرآن يعدّ جميع النِعَم من الله سبحانه: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه﴾[1] ويقول بأنّها فوق العدّ والإحصاء: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾.[2] ويقول أمير المؤمنين(ع): «لايُحصي نَعماءه العادّون».[3]

والنِعَم بعضها ظاهريّ وبعضها الآخر معنويّ وباطنيّ: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة﴾[4] والنعمة المطلوبة في سورة الحمد طبقاً للأدلّة والشواهد القرآنيّة ليست نعمة ظاهريّة وإنّما هي نعمة باطنيّة، وهي الّتي بالتنعّمِ بها أصبح السالكون من أصحاب الصراط السويِّ والمستقيم، وراحوا يتحرّكون بسهولة علىٰ الصراط الّذي هو أدقّ من الشَعرة وأحدُّ من السيف، لأنّ اجتياز مثل هذا الطريق ليس هيّناً علىٰ أحد دون تزوّده بالنعمة الإلٰهيّة الباطنيّة.

وهذه الأدلّة علىٰ نحو الإختصار مايلي:

1. القرآن الكريم من جهة يعدّ النِعَم الظاهريّة كالمال والبنين زينة الحياة الدنيا: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[5] ومن جهة اُخرىٰ يحصر


[1] . سورة النحل، الآية 53.

[2] . سورة النحل، الآية 18.

[3] . نهج البلاغة، الخطبة 1، المقطع 1.

[4] . سورة لقمان، الآية 20.

[5] . سورة الكهف، الآية 46.

تسنيم، جلد 1

586

فائدتها ونفعها في الحياة الدنيا: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُون﴾.[1] وبالجمع بين الآيتين يظهر انّ زاد السلوك وعامل وصول السالكين نحو لقاء الحقّ هو النِعَم الإلٰهيّة الباطنيّة.

2. المتنعّمون بالنعم الباطنيّة هم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون، وأغلب هؤلاء لم يتمتّع بالنعم الظاهريّة.

3. انّ التمتّع بالنعم الظاهريّة هو السبب في بعض الأحيان للوقوف في وجه المنعَم عليهم، ومن هنا فقد أمسوا من جملة المغضوب عليهم ومن الضالّين.

فالقرآن الكريم يعدّ السرَّ في طغيان جماعة من الكفّار هو تمتّعهم بالأموال والبنين: ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ٭ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِين﴾.[2] كذلك يقول للرسول الأكرم(ص): ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا﴾.[3] ويقول أيضاً انّ النعمة تؤدّي بالإنسان إلىٰ الإعراض والإستكبار: ﴿إِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأىٰ بِجَانِبِه﴾.[4]

ومع انّ بني اسرائيل قد أغدق الله عليهم نعماً كثيرة: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم﴾[5] ولكنّهم اذلاّء ومغضوب عليهم: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه﴾.[6] وحول بعض المهلكين يقول انّهم كانوا يمتلكون النعم الوفيرة: ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً


[1] . سورة الشعراء، الآية 88.

[2] . سورة القلم، الآيتان 14 ـ 15.

[3] . سورة المزمّل، الآية 11.

[4] . سورة الاسراء، الآية 83.

[5] . سورة البقرة، الآية 40.

[6] . سورة البقرة، الآية 61.

تسنيم، جلد 1

587

إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ ٭ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ٭ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ٭ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِين﴾.[1]

وعليه فإنّ النعم المادّية الّتي ينشغل الإنسان بها، امّا فتنة وابتلاء (وسيلة للاختبار) أو عذاب إلٰهيّ وبالنتيجة فهي عقبة ومانع في طريق الوصول إلىٰ الله وليست عوناً وزاداً ووسيلة للسلوك إلىٰ الله.

ويتّضح من الشواهد السابقة انّ المقصود من (أنعمت عليهم) هو النعم المعنويّة والباطنيّة الّتي اُعطيت للأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين وبيّنها القرآن الكريم في مواضع عديدة.

اسناد النعمة والغضب والضلالة

يُقسّم الله سبحانه في هذه الآية الكريمة الناس إلىٰ ثلاثة أقسام (المُنعَم عليهم) و(المغضوب عليهم) و(الضالّين) وينسب إلىٰ نفسه سبحانه إيتاء النعمة فقط (أنعمت)، ولكنّ الغضب والضلال لاينسبها الىٰ نفسه، مع انّ ظاهر السياق يقتضي أن يقول (غير الّذين غضبتَ عليهم ولا الذين أضللتَهم).

والسرُّ في تغيير السياق هو انّ الله سبحانه لا ينزل منه سوىٰ الخير والرحمة وانّه لايغضب علىٰ أحد ولا يضلّه ابتداءً، بل انّ اِضلاله وغضبه جزائيّ، فالمجرمون بسوء اختيارهم ينحرفون عن الطريق فيوقعون أنفسهم في الغضب الإلٰهيّ.

وهذا الأدب التوحيديّ يتجلّىٰ أيضاً في كلمات النبيّ إبراهيم خليل


[1] . سورة الدخان، الآيات 24 ـ 27.

تسنيم، جلد 1

588

الله(ع) حيث ينسب المرض إلىٰ نفسه ولكن ينسب الشفاء إلىٰ الله سبحانه فيقول: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين﴾[1]، وفي مقابل خليل الله نرىٰ الشيطان عدوّ الله ينسب الإغواء إلىٰ الله سبحانه فيقول: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي...﴾.[2]

السرّ في تكرار النفي

انّ السرَّ في تكرار النفي ودخول كلمة «لا» علىٰ «الضالّين» مع انّه في الظاهر يمكنه الاكتفاء بكلمة (غير) في النفي فيقول «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّآلِّين» هو انّه يريد (نفي الجميع) لا (نفي المجموع).

بيان ذلك: انّ نفي الصفتين (كالغضب والضلالة) تارة يكون علىٰ نحو نفي الجميع وتارة اُخرىٰ بطريقة نفي المجموع. فإذا تمّ نفي المجموع فالمعنىٰ الّذي يفيده منطوق ذلك هو انّ مجموع هاتين الصفتين (بقيد المجموع) منفي، ونفي المجموع ينسجم مع وجود إحدىٰ هاتين الصفتين بمفردها، امّا إذا تمَّ نفي الجميع فإنّه لايقع مثل هذا المحذور، والنفي بكلمة (غير) وحدها موهم بنفي المجموع، اي نفي صفتي الغضب والضلالة سويّة (بقيد كونهما سويّة) لكن تكرار النفي بكلمة «لا» يدفع هذا التوهّم وينفي الجميع.

الطريق والانحراف عنه في الدنيا والآخرة

انّ طلب الهداية إلىٰ الصراط المستقيم وعدم الكون مع المغضوب عليهم والضالّين لايعني انّ هناك ثلاثة طرق في نظام الوجود احدها مستقيم والآخران منحرفان، بل يوجد طريق واحد يسلكه المهتدون بنحو


[1] . سورة الشعراء، الآية 80.

[2] . سورة الحجر، الآية 39.

تسنيم، جلد 1

589

مستقيم، وأمّا الآخرون فهم ينحرفون عن نفس ذلك الطريق ويجعلونه معوجّاً: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغَونَهَا عِوَجا﴾.[1] إذن فالإنحراف ليس طريقاً مستقلاًّ بذاته، والصراط المستقيم هو الطريق الوحيد الّذي هو علىٰ شكل جسر ممدود فوق جهنّم أو ممرّ يعبر من خلال نار جهنّم والناس مكلّفون بأنْ لايجعلوه عِوَجاً، والمغضوب عليهم والضالّون جعلوه معوّجاً وحرفوه عن استقامته، لا انّ هناك طريقاً معوجّاً والمجرمون سلكوا ذلك الطريق المعوجّ.

ولولم يكن موجود مكلّف ومختار كالإنسان، لما كان هناك ضلالة وغضب أيضاً. والإنسان وحده الّذي يحرف الطريق ويتّخذه عِوَجاً وإلاّ فإنّ جميع الموجودات سائرة في الصراط المستقيم وفي حال عبادة دائمة وتسبيح مستمرّ لله: ﴿وَإِن مِن شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم﴾[2]، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَه﴾[3]، ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْ‏ءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُون﴾.[4] إذن ففي نظام الكون لايوجد من يعصي ويسير في طريق الإنحراف سوىٰ المكلّف المختار كالإنسان.

والله سبحانه لم يخلق طريقاً مُعوجّاً في جميع عوالم الوجود، والقرآن


[1] . سورة الأعراف، الآية 45.

[2] . سورة الاسراء، الآية 44.

[3] . سورة النور، الآية 41. تعبير (ألم ترَ) في مثل هذه الآيات يدلّ علىٰ انّ الإنسان لو أزاح الستار قليلاً لرأىٰ الحقائق بوضوح.

[4] . سورة الأنعام، الآية 38.

تسنيم، جلد 1

590

الكريم يبيّن اعوجاج الناس وانحرافهم في الدنيا فيقول: ﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجا﴾.[1]

فهٰؤلاء بسبب حبّ الدنيا فهم يفضّلونها علىٰ الحياة الخالدة في الآخرة ويمنعون الآخرين أيضاً ويجعلون طريق الله المستقيم معوجّاً بمعنىٰ انّهم يخالفون الصراط التشريعيّ الّذي هو الدين، لا انّهم يسلكون طريقاً معوجّاً موجوداً من قبل. إذن لم يخلق في عالم الوجود طريق معوجّ.

وحول مجموع الدين والقرآن يقول أيضاً: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجا﴾[2]، فلايوجد أيّ اعوجاج في كتاب الله الّذي يمثّل مجموع الدين.

وأخيراً في يوم القيامة عندما تظهر حقيقة القرآن ويأتي تأويلُه: ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُه﴾[3] فلامجال حينئذٍ للاعوجاج والإنحراف. ويُسأل الرسول الأكرم(ص) عن مصير الجبال في القيامة فيُجيب: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً ٭ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ٭ لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً ٭ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَعِوَجَ لَه﴾.[4] اي انّ الله يجعلها في ساهرة القيامة صحراء قاحلة ومستوية ليس فيها نبات ولا جبل ولا تل ولا نجد ولا غور وفي ذلك الموقف ينادي المنادي بصيحة الحقّ الّتي لا عِوَج لها.

إذن فليس هناك عِوَج لا في الدنيا ولا في الدين ولا في القيامة، وانّه الإنسان الّذي يحرفُ بيده الطريق المستقيم ويجعله عوجاً ولذلك فانّ


[1] . سورة ابراهيم، الآية 3.

[2] . سورة الكهف، الآية 1.

[3] . سورة الأعراف، الآية 53.

[4] . سورة طه، الآيات 105 ـ 108.

تسنيم، جلد 1

591

عاقبة أصحاب جهنّم هو الهُويّ والسقوط عن الصراط: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُون﴾.[1]

وعليه فإنّ النسبة بين (سبيل الغيّ) والصراط المستقيم ليست هي نسبة التّضاد بل هي نسبة تقابل العدم والملكة، اي انّ احدهما وجود الصراط والآخر عدمه، لا انّ احدهما الصراط والآخر هو طريق غير الصراط المستقيم.

تنويه: كما اتّضح من خلال التفسير انّ جملة ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّين﴾ هي لأجل بيان بعض الصفات السلبيّة للمُنعَم عليهم وانّ معناها هو: انّ الّذين أنعمت عليهم لامغضوب عليهم ولا هم ضالّون، لا انّ هذه الجملة قيد للصراط، لانّ معنىٰ كلمة الصراط امّا الطريق المستقيم كما ذكر الراغب في المفردات، أو لانّها ذكرت في الجملة السابقة بصفة المستقيم ثمّ ذكرت مرّة اُخرىٰ مع الألف واللام فالمقصود منها إذاً هو خصوص الصراط المستقيم.

وعلىٰ كلّ تقدير فانّ المقصود من الصراط هو الطريق المستقيم خاصّة، وانّ الطريق المستقيم ليس فيه سالك غير المنعَم عليهم، اي لايمكن أن يكون للمغضوب عليه أو الضالّ صراط مستقيم حتّىٰ يكون المقصود من طلب المصلّي من الله في قوله ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ هو الصراط المستقيم للجماعة الاُولىٰ أي المنعَم عليهم لا الصراط المستقيم للمغضوب عليهم والضالّين، فضلاً عن انّ الضلالة لاتجتمع مع التمتّع بالصراط المستقيم. ولهذا ذكر بعض قدماء المفسّرين انّ ﴿غَيْرِ


[1] . سورة المؤمنون، الآية 74.

تسنيم، جلد 1

592

الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّين﴾ تنزيه ﴿الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾[1]، وهناك شاهد لفظيّ يؤيّد هذا المعنىٰ وهو كون كلمة «غير» مجرورة، وإن كان البعض قرأها بالنصب. ومن الواضح انّ المُنعَم عليه لايكون أبداً ضالاًّ أو مغضوباً عليه، لكنّ كلمة غير في مثل هذه الموارد في ضمن تفهيمها معنىٰ المغايرة فإنّها تتضمّن تأكيد الموضوع السابق كما في قوله تعالىٰ: ﴿يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ﴾[2]، ﴿يَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ﴾[3]، ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِين﴾[4]، لانّ قتل الأنبياء باطل قطعاً والمحصن المراعي للعفّة غير مسافح ولا زانٍ بالتأكيد، وعليه فانّ استعمال كلمة «غير» في مثل هذه الموارد هو لأجل تأكيد المضمون السابق، مضافاً إلىٰ انّه يمكن أن يقصد بها طلب استمرار النعمه المعنويّة وعدم تبدّلها الىٰ نقمة وغضب وضلالة.

والمقصود هو انّ القرآن الكريم دأب في تحليل الصفات الكماليّة لأولياء الله علىٰ أن يذكر تارة صفاتهم الإيجابيّة، كما جاء في سورة المؤمنون (الآيات 1 ـ 9) حول صفات الكمال الوجوديّة للمؤمنين وما جاء في سورة المعارج (الآيات 22 ـ 35) في التذكير بالصفات الإيجابيّة للمصلّين الصادقين، وتارة يجمع بين صفاتهم الإيجابيّة والسلبيّة كما جاء في سورة الفرقان (الآيات 63 ـ 74)، الّتي سيق بعضها لبيان الصفات الإيجابيّة لعباد الرحمٰن المخلصين وسيق البعض الآخر لبيان صفاتهم


[1] . تفسير ابن العربي، ج1، ص31.

[2] . سورة البقرة، الآية 61.

[3] . سورة آل عمران، الآية 112.

[4] . سورة النساء، الآية 24.

تسنيم، جلد 1

593

السلبيّة، وظاهر القسم الأخير من سورة الفاتحة انّه أيضاً تلفيق بين الصفات الإيجابيّة والسلبيّة لسالكي الصراط المستقيم.

لطائف واشارات

1. وسائل اغواء الشيطان

انّ السلوك علىٰ الصراط المستقيم لايتسنّىٰ لأحد دون امتلاكه النعم المعنويّة والباطنيّة، لانّ النعم الظاهريّة وسائل شيطانيّة يُزينّها الشيطان ليخدع بها الناس ويغويهم: ﴿لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين﴾[1]، ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُم﴾.[2] فهو بتزيين وتجميل نعم الدنيا وزخارفها يوقع الإنسان في فخّ الآمال والاُمنيات البعيدة والطويلة.

والقرآن الكريم يعدّ الزينة الظاهريّة كزينة الدار والبستان زينةً للأرض ووسيلة لامتحان الإنسان وليست عامل زينة للإنسان، ويصفها بانّها زائلة: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ٭ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزا﴾[3] لأنّ كلّ نعمة من نعم الدنيا، وكذا الجاه والمنصب الدنيويّ فله فصل ربيع وبهجة وسرور ثمّ يتبعه فصل ذبول وخريف، إذن فالجمال والمُتَع الظاهريّة زينة الأرض وعاقبتها هي أن تُصبح (جُرُزاً) وحطاماً، وتتحلّل وتتبدّل إلىٰ أجزاء الأرض (الصعيد).

وأمّا زينة الإنسان من وجهة نظر القرآن فهي (الإيمان): ﴿وَلٰكِنَّ اللَّهَ


[1] . سورة الحجر، الآية 39.

[2] . سورة النساء، الآية 119.

[3] . سورة الكهف، الآيتان 7 ـ 8.

تسنيم، جلد 1

594

حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان﴾.[1] وعليه فإنّ المخدوعين بزينة الأرض هم تحت ولاية الشيطان، والتابعين للقيم المعنويّة هم تحت ولاية الرحمٰن.

والتمييز بين (زينة الأرض) و(زينة القلب) ليس أمراً صعباً للغاية، لكنّ الإنسان بسبب إغواء الشيطان، تارة يَرىٰ النقمة نعمة فيفرح ويأنس بها كالمنافقين ومرضىٰ القلوب الّذين يرون الإفتراق عن اُمّة الإسلام وترك الجهاد نعمة.

والله سبحانه بعد الأمر بالإستعداد واتّخاذ الحيطة والحذر من هجوم الأعداء، واعلان النفير العام والفردي يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعاً ٭ وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً ٭ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيما﴾.[2]

فالحفظ من الضرر والإصابة في جبهات القتال وعدم الحضور في ميادين الجهاد نعمة كاذبة، ولم يعترف بها الخطاب القرآنيّ كنعمة، واُولئك الّذين إذا رأوا شهداء جبهات القتال قالوا (قد منّ الله علينا إذ لم نذهب إلىٰ القتال) وإذا قرأوا زيارة شهداء كربلاء قالوا: «ياليتنا كنّا معكم»[3] فهم كاذبون، لأنّهم لو كانوا حقّاً من أهل الجبهة والحرب، لكانوا


[1] . سورة الحجرات، الآية 7.

[2] . سورة النساء، الآيات 71 ـ 73.

[3] . مفاتيح الجنان، الزيارة المطلقة للإمام الحسين7.

تسنيم، جلد 1

595

إلىٰ جانب المقاتلين أو مع الشهداء: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ٭ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِين﴾[1]، أي انّ الله يكره أن تكون نصرة دينه علىٰ يد أمثال هؤلاء لذلك قال لهم اقعدوا، وقول الله سبحانه نفس فعله: «وإنّما كلامه سبحانه فعل منه انشأه ومثّله»[2]، فهذا الأمر إذن فعل من أفعال الله ونحو عقوبة لهؤلاء أقعدتهم في جنب القاعدين (المرضىٰ والأطفال والشيوخ و...).

وعلىٰ هذا فإنّ مايذكر في القرآن بعنوان كونه نعمة فهو علىٰ ثلاثة اقسام:

أ. النِعم المعنويّة والباطنيّة: وهي المواهب الإلٰهيّة الممهّدة لسعادة الإنسان.

ب. النِعم الظاهريّة: وهي الّتي تستخدم تارة في خدمة الدين وتارة تكون سبباً لنزول الغضب والضلال عن الدين.

ج. النعم الكاذبة والمتوهّمة: كالحفظ من الضرر والإصابة في جبهات حرب الحقّ ضد الباطل.

2. أمثلة من النِعم الباطنيّة

يبيّن القرآن الكريم قِسماً من النِعم المعنويّة والباطنيّة الّتي تفضّل بها علىٰ سالكي سبيله (وهم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون) مثل:

أ. الولاية؛ أينما ذكر القرآن الكريم (النعمة) بنحو مطلق، أي لم تكن هناك قرينة (حاليّة أو مقاليّة) علىٰ العموم أو الإطلاق أو الإختصاص فالمقصود منها هو (الولاية) كما في: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ


[1] . سورة التوبة، الآيتان 45 ـ 46.

[2] . نهج البلاغة، الخطبة 186، المقطع 17.

تسنيم، جلد 1

596

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾[1] فإكمال الدين واتمام النعمة في هذه الآية ليس الاّ الولاية. ولهذا فانّ الإمام الصادق(ع) في بيان مصداق للآية الكريمة: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم﴾[2] يقول «نحن من النعيم»[3]، أي من مصاديق النعيم. وفي بعض الروايات «انّ الله أعلىٰ وأسمىٰ من أن يسألكم عن الماء والطعام، بل يسألكم عن الولاية».[4] فالولاية نعمة تجعل جميع النعم في محلّها، وبدون الولاية تتبدّل النِعَم الىٰ نِقَم.

ب. التأييد الإلهيّ؛ يقول الله سبحانه لنبيّه المسيح عيسى(ع) ﴿يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُس﴾.[5] هذه النعمة كانت مصدراً للمعجزات والبركات الكثيرة الّتي ظهرت علىٰ يد المسيح عيسىٰ(ع)، إذ يقول هو حول بركات وجوده: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنت﴾.[6]

ج. الإتّحاد؛ انّ التفرقة والتشتّت في المجتمع من أشدّ أنواع العذاب والبلاء، بينما الوحدة من النِعَم الإلٰهيّة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا﴾.[7]


[1] . سورة المائدة، الآية 3.

[2] . سورة التكاثر، الآية 8.

[3] . نور الثقلين، ج5، ص665.

[4] . تفسير الصافي، ج5، ص371.

[5] . سورة المائدة، الآية 110.

[6] . سورة مريم، الآية 31.

[7] . سورة آل عمران، الآية 103.

تسنيم، جلد 1

597

وتارة يتحدّث القرآن عن آثار النِعَم المعنويّة والباطنيّة مثل:

أ. الدعوة إلىٰ الجهاد ومواجهة الجبابرة، فهذه الدعوة مصدرها النعم الباطنيّة والنعم الإلٰهيّة الخاصّة.

فعندما أمر الكليم موسىٰ(ع) بني اسرائيل بالجهاد والنهضة من أجل فتح الأرض المقدّسة: ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ٭ قَالُوا يَا مُوسىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَدْخُلَهُا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ٭ ... فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُون﴾[1]، فقام رجلان من الذين شملتهم النعمة واللطف الإلٰهيّ فناديا في الناس انّكم إن توكّلتم علىٰ الله وهجمتم علىٰ عدوّكم فانّكم منتصرون: ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُؤْمِنِين﴾.[2] وهذه الآية الكريمة بتعليق الحكم (الدعوة إلىٰ الجهاد) علىٰ الوصف (الإنعام الإلٰهيّ) تفيد هذه الحقيقة وهي انّ مصدر شهامة هذين الرجلين في شحذ همم الناس وتحريضهم علىٰ الثورة ضدّ الظالمين، هو الإنعام الإلٰهيّ.

ب. النجاة من النار، بعد استقرار أهل الجنّة وأهل النار كلٌّ في محلّه، راح أحد أصحاب الجنّة يتساءل باحثاً عن مصير زميل له كان منكراً للمعاد، وعندما أشرف عليه ووجده في وسط النار قال له: اقسم بالله انّه لولا نعمة الله عليّ لكنت هالكاً مثلك في نار جهنّم: ﴿قَالَ هَلْ أَنتُم


[1] . سورة المائدة، الآيات 21 ـ 24.

[2] . سورة المائدة، الآية 23.

تسنيم، جلد 1

598

مُطَّلِعُونَ ٭ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ٭ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ٭ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِين﴾.[1]

والنعمة الّتي تُنجي الإنسان من عذاب الله يوم القيامة ليست من النِعم الظاهريّة، لانّ النعم الظاهريّة قد اُعطيت لأهل جهنّم أيضاً فكانت سبباً في هلاكهم. ولهذا فانّ الّذين عاشروا رفقاء السوء فأدّىٰ بهم ذلك الىٰ ظلم أنفسهم أو غيرهم، فانّهم سيعضّون علىٰ أيديهم في ذلك اليوم من شدّة الندم: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ٭ يَاوَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلا﴾.[2]

وطلب الهداية الىٰ صراط المنعم عليهم في الآية: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ٭ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾ هو طلب لمرافقة الأنبياء، وأمّا الّذين كانوا في الدنيا لا أمل لهم في الصراط المستقيم ولم يعملوا لأجل الهداية إليه، فهؤلاء في الآخرة يمقتون أنفسهم ندماً ويقولون: ﴿يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا﴾.

3. درجات المُنعَم عليهم

يقسّم الله سبحانه في الآية محلّ البحث الناس إلىٰ ثلاثة أقسام: المُنعَم عليهم والمغضوب عليهم والضالّين، والفئة الاُولىٰ هي الفئة الناجية، والفئتان الباقيتان من أهل العذاب. وفي تقسيم آخر يقسِّم الناس إلىٰ ثلاثة أقسام أيضاً؛ لكنّ فئتين منها ناجيتان، والفئة الثالثة معذّبة: ﴿... وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ٭ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ٭ وَأَصْحَابُ


[1] . سورة الصافات، الآيات 54 ـ 57.

[2] . سورة الفرقان، الآيتان 27 ـ 28.

تسنيم، جلد 1

599

الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ٭ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ٭ أُولٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ٭ فِي جَنَّاتِ النَّعِيم﴾[1]، أي الناس في القيامة ثلاث جماعات، فجماعة شأنها اليُمن والبركة، وهي للآخرين مصدر خير وبركة أيضاً، وهم أصحاب الميمنة وجماعة دأبُهم الشؤم والعمل القبيح وهم مصدر شرّ لأنفسهم وللمجتمع وهم أصحاب المشئمة، والجماعة الثالثة هم السابقون والمبادرون الىٰ الفضائل والمكرمات وهم من المقرّبين.

ويظهر من تطبيق هٰذين التقسيمين الثُلاثيّين انّ (المُنعَم عليهم) أنفسهم ينقسمون إلىٰ قسمين: أصحاب الميمنة والمقرّبين، فالمنعَم عليهم ليسوا في درجة واحدة فالمتوسّطون منهم أي اُولئك الّذين سلكوا الصراط المستقيم بتوفيق إلٰهيّ وهم أصحاب الميمنة المتّصفون باليُمن والبركة، والخواصّ فيما بين هؤلاء والمتميّزون هم المقرّبون والسابقون.

والمصلّي الّذي يسأل الهداية إلىٰ طريق المنعَم عليهم تارة يكون من ذوي الدرجات المتوسّطة من المؤمنين الّذي هم يتمتّعون بنعمة في مستوىٰ الأبرار وأصحاب الميمنة، وتارة يكون من خواصّ أهل الأيمان ونوادرهم، كأهل البيت(ع ) فهو يسأل الدرجات العليا. إذن فالمصلّون والمنعَم عليهم ليسوا في درجة واحدة. وصحيح انّ أصحاب اليمين والمقرّبين جميعاً قد نالوا النعمة الإلٰهيّة، إلاّ أنّ المقرّبين حباهم الله بنِعم خالصة بينما أصحاب الميمنة يتنعّمون بنعم مشوبة.

4. النعم الخالصة والمشوبة في الجنّة

تختلف النِعم الّتي يحصل عليها السالكون في الصراط المستقيم تبعاً


[1] . سورة الواقعة، الآيات 7 ـ 12.

تسنيم، جلد 1

600

لاختلاف درجاتهم، فبعضها نقيّ خالص، وبعضها مزيج ومشوب. والقرآن الكريم في توضيحه لنعم الجنّة يقول انّ في الجنّة عيوناً كثيرة ومختلفة، بعضها خالص وبعضها مشوب. فالعيون الخالصة نصيب المقرّبين، والآخرون نصيبهم هو مزاج من هذه العيون: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً ٭ عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلا﴾[1]، أي انّ شراب أهل الجنّة مزيج من الزنجبيل الّذي فيه نكهة من السلسبيل، والسلسبيل عين في الجنّة أعلىٰ درجة من الزنجبيل والعيون الاُخرىٰ الّتي يشرب منها المتوسّطون من أهل الإيمان. وفي موضع آخر يقول: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورا﴾[2]، أي انّ شراب الأبرار من كأس ممزوجة بقطرات من عين الكافور، امّا شراب الكافور الخالص فهو مختصّ بالمقرّبين وحدهم.

كذلك يقول تعالىٰ: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ٭ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ٭ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ٭ يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ٭ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ٭ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ٭ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾.[3] أي انّ شراب الأبرار ممزوج بقطرات من «تسنيم»، وتسنيم هي العين الّتي ينهل منها المقرّبون. فمقام المقرّبين أعلىٰ بكثير من الأبرار، لأنّ كأس شراب الأبرار ليس فيها سوىٰ قطرات من النبع الفيّاض الخاصّ بالمقرّبين، والمصلّي الّذي يطلب الهداية الىٰ صراط المنعَم عليهم يتنعّم بهذه النعم بمقدار درجته ومستواه.


[1] . سورة الإنسان، الآيتان 17 ـ 18.

[2] . سورة الإنسان، الآية 5.

[3] . سورة المطفّفين، الآيات 22 ـ 28.

تسنيم، جلد 1

601

5. سيرة المُنعم عليهم

انّ القرآن الكريم ضمن تعريفه للمتنعّمين بالنعم الإلٰهيّة وبيانه أنواع النعم الّتي اُعطيت لهم، فإنّه يبيَّن سيرتهم أيضاً، كي يعلّم الناس اُسلوب الإستفادة من النِعم. ولذلك يقول في سرد تفاصيل كلام النبيّ موسىٰ(ع): ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِين﴾.[1]

والنبيّ موسىٰ(ع) الّذي هو من المستفيدين من النعمة الإلٰهيّة يرىٰ انّ عدم مساندة المجرمين رهين للنعمة الّتي أنعم بها الله عليه؛ وعلىٰ جميع السالكين الّذين يُمَنّون أنفسهم برفقة الأنبياء: ﴿يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا﴾[2] والراغبين في الاهتداء إلىٰ طريقهم: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ٭ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾ أن لايدنّسوا أنفسهم بالظلم والجريمة وأن لا يكونوا عوناً للمجرمين والمفسدين.

ويستفاد من الآية الكريمة: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِين﴾ انّ المجرمين وحماتهم لانصيب لهم من النعم الإلٰهيّة الباطنيّة، وعندما لايكون المنعَم عليه ظهيراً ومعيناً للمجرم، فهو بنفسه لن يقترب نحو الجريمة دون شكّ.

6. محلّ مرافقة الأنبياء

انّ مرافقة سالكي الصراط المستقيم مع الأنبياء والصدّيقين لاتقتصر علىٰ الجنّة، بل هم معهم في مسيرهم علىٰ الطريق أيضاً، وعليه فانّ السالكين في هذا الطريق لايسيرون وحدهم. والشاهد علىٰ هذا المعنىٰ ذيل الآية


[1] . سورة القصص، الآية 17.

[2] . سورة الفرقان، الآية 27.

تسنيم، جلد 1

602

69 من سورة النساء: ﴿وَحَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقا﴾؛ فالرفقة تستعمل في مورد الطريق، ولهذا يقال: (الرفيق ثمَّ الطريق).

وعلىٰ هذا فانّ طلب الهداية الىٰ الصراط المستقيم الّذي هو صراط المُنعَم عليهم ليس لأجل مرافقة المحسنين في الجنّة فحسب، بل لأجل مرافقتهم والسفر معهم في الطريق أيضاً، كي يتمكّن السالك من أن يمضي بسهولة علىٰ طريق الحقّ ببركة صحبة هؤلاء القدوات والاُسوات في السلوك إلىٰ الله.

7. التمهيد للمرافقة في الآخرة

في الآيات الاُولىٰ من سورة الحمد ذكر التحميد والخضوع أمام الله سبحانه، وفي الآيات الأخيرة منها طلب صحبة الرفقاء الإلٰهيّين، مثل الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين. وعليه فانّ الخضوع والتأدّب السابق مقدّمة للطلب اللاحق، ولم يكن تخضّعاً فارغاً ولا تأدّباً خالياً من الطمع.

وهنا لابدّ أن نتعرّف علىٰ شرط مرافقة هؤلاء وأن نختبر أنفسنا هل انّ دعاءنا المتكرّر والمستمرّ في سورة الحمد قد اُستجيب أم لا؟ وهل انّنا نسير في صحبة هؤلاء أم انّنا محرومون من مرافقتهم؟

القرآن الكريم يدعوا المؤمنين إلىٰ مرافقة المحسنين وأصحاب الصدق: ﴿كُونُوا مَعَ الصَّادِقِين﴾[1] ويعلِّمنا أن نطلب من الله مرافقة الأبرار عند الموت: ﴿تَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَار﴾.[2] وشرط مرافقة الأبرار عند الموت هو مرافقتهم في الدنيا، وفي غير هذه الصورة فانّ من لم تكن له علاقة


[1] . سورة التوبة، الآية 119.

[2] . سورة آل عمران، الآية 193.

تسنيم، جلد 1

603

بالصالحين والأبرار في الدنيا، فلن يكون معهم في الموت والبرزخ والقيامة: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ٭ يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلا﴾.[1] وسبيل رسول الله الّذي يَعضّ الظالم علىٰ يديه حسرة ونَدماً علىٰ عدم المضيِّ فيه (خلافاً لما يفعله الإنسان في الدنيا عند الندم حيث يعضّ علىٰ رأس اصبعه فقط) قد أوضح القرآن الكريم معالمه في موضعين هما:

أ. في سورة النور: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم﴾[2] أي انّ المؤمنين بالله والرسول لايتركون النبيّ(ص) وحده في القضايا الإجتماعيّة كالحرب ومواجهة الأعداء، ولايتركون الميدان دون الإستئذان من النبيّ(ص)، وهذا نحو من مرافقة رسول الله والمسير في طريقه. والّذي لايترك وليّه وقائده وحيداً في الميادين الإجتماعيّة، فإنّه يستطيع أن يسأل الله سبحانه توفيق الوفاة مع الأبرار.

ب. وفي سورة الفتح بُيِّن نحو آخر من الرفقة مع الرسول الأكرم(ص): ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ


[1] . سورة الفرقان، الآيتان 27 ـ 28.

[2] . سورة النور، الآية 62.

تسنيم، جلد 1

604

لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيما﴾.[1]

فالقسم الأوّل من هذه الآية الكريمة يبيّن التجمّع العباديّ والتكاتف السياسيّ والعسكريّ لأعوان وأصحاب النبيّ الأكرم(ص) ويذكر بانّ أصحاب رسول الله(ص) إضافة إلىٰ العبادة (الركوع والسجود وقيام الليل) فهم فيما بينهم رحماء متعاطفون وعلىٰ اعدائهم صُلب أشدّاء. وذيل الآية يبيّن أيضاً حالة الإنسجام والتعاون الإقتصاديّ السائدة فيما بينهم، ويشبّههم بزرع قد تكامل ونما في جميع مراحله من الجذور إلىٰ البراعم ثُمَّ إلىٰ الفروع والأغصان ثمّ مرحلة الاثمار والعطاء، فهم أغنياء وأقوياء في جميع شؤونهم.

8. الدرجة الأعلىٰ من المرافقة

انّ مرافقة سالكي الصراط المستقيم مع المُنعَم عليهم: (وهم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون) لاتقتصر علىٰ الكون معهم في الجنّة ومرافقتهم في المضيّ علىٰ الطريق، بل انّ السالك علىٰ الصراط يستطيع أن يتوقَ إلىٰ ما هو أعلىٰ من ذلك فينال مقام الصدق والشهادة والصلاح، فيدخل في سِلكهم وجمعهم ويرتفع من درجة ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾[2] أي (معهم) إلىٰ درجة (منهم).

طبعاً انّ المقام الرفيع للرسالة مغلق إلىٰ الأبد في وجه السالكين،


[1] . سورة الفتح، الآية 29. السيما بمعنىٰ العلامة لا الوجه، وأصلها (وَسم) بمعنىٰ (العلامة). كلمة (موسوم) أيضاً مشتقّة من وسم بمعنىٰ (صاحب العلامة) وحيث انّ العلامة تقع في الوجه غالباً، لذلك استعملت كلمة سيماء بمعنىٰ الوجه.

[2] . سورة النساء، الآية 69.

تسنيم، جلد 1

605

ومن طمع فيه فهو خائب إلىٰ النهاية، لكنّ طريق (الصدق والشهادة والصلاح مفتوح دائماً أمام السائرين علىٰ الصراط المستقيم.

والسالكون علىٰ الصراط الّذين يواصلون مسيرة سلوكهم، لايدخلون في جمع الصدّيقين والشهداء والصالحين فحسب، بل يمكنهم إذا امتثلوا أوامر القرآن بالمسارعة والإستباق أن يصبحوا من الطلائع في هذه المكرمات والفضائل والقيم.

بيان ذلك: انّ القرآن في البداية يأمر سالكي الصراط المستقيم بـ: (المسارعة)[1]: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماوَاتُ وَالأَرْض﴾.[2] وبعد ذلك يأتي الأمر بـ(الاستباق). فالأمر الأوّل يتعلّق بالسالك نفسه، والأمر الثاني يرتبط بعلاقة السالك مع الآخرين: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات﴾.[3] فالسالك الّذي يسارع في المسير يستطيع أن يَسبقَ الآخرين دون أن يعترض سلوك الآخرين أو يصطدم بهم وأن ينازعهم، لانّ الصراط المستقيم طريق خال من النزاع والزحام. فإذا كان الآخرون علماءَ وعدولاً وشجعاناً فهو يستطيع أن يكون أعلم وأعدل وأشجع منهم.

والّذي يحوز علىٰ قصب السبق ويتقدّم علىٰ الآخرين فهو جدير بإمامة الآخرين وقيادتهم. ولهذا فانّ دعاءَ السابقين كما يعلّمنا القرآن هو: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاما﴾[4] وثمرة هذه الإمامة هي قيادة الآخرين من


[1] . المسارعة أمر مطلوب وهي صفة للحركة، والعجلة أمر غير مرغوب وهي صفة للمتحرّك.

[2] . سورة آل عمران، الآية 133.

[3] . سورة المائدة، الآية 48.

[4] . سورة الفرقان، الآية 74.

تسنيم، جلد 1

606

السائرين علىٰ الصراط المستقيم كي يبدأوا أيضاً بالمسارعة ثمّ يكونوا من أهل الإستباق وبالنتيجة يصلون إلىٰ مقام إمامة المتّقين الآخرين.

وعلىٰ هذا، فالسالكون في الصراط المستقيم يتمكّنون من بعد إجتيازهم مرتبة الكون (مع) الصدّيقين والشهداء والصالحين أن يكونوا (منهم). ويبقىٰ طريق الرسالة والنبوّة مسدوداً في وجه الآخرين، لانّها مقام إلٰهيّ يتمّ بجعل من الله سبحانه لمن يراهم أهلاً له: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه﴾[1]، لكنّ طريق الولاية وامامة المتّقين والإيمان والعمل الصالح مفتوح دائماً أمام السالكين الصالحين. ولهذا فإنّ أفراداً (كسلمان الفارسي) قد اجتازوا مرتبة المعيّة وبلغوا مقاماً شامخاً فأصبح يقال في حقّهم «منّا أهل البيت»[2] ومثل (الخادمة فضّة) الّتي شاركت أهل البيت في فضيلة نزول سورة (هل أتىٰ) في حقّهم.[3]

والنتيجة هي انّ الإنسان بالمعرفة والعمل واجتياز مراحل المسارعة والإستباق والإمامة يتمكّن من أن يرتفع من رتبة ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ إلىٰ رتبة (من الذين...).

وأهمّ عامل في رقيّ السالكين في الصراط المستقيم من المعيّة والمصاحبة إلىٰ الصيرورة في سلك (المنعم عليهم) هو العلم والعمل، وفي هذا الطريق لايكفي توفّر أحدهما دون الآخر، لكنْ أيّهما أكثر أهميّة من الآخر؟ هنا ينبغي أن يقال انّ جميع الناس متساوون في شكل العمل، سواء كانوا من الأولياء أو من متوسّطي الإيمان، لكنّ الّذي يرفع


[1] . سورة الانعام، الآية 124.

[2] . البحار، ج22، ص374.

[3] . مجمع البيان، ج9 ـ 10، ص611.

تسنيم، جلد 1

607

قيمة عمل أولياء الله هو المعرفة والمحبّة. كما انّ في العبادة أيضاً يكون شكل العمل وظاهره متساوياً بين جميع العابدين، واختلاف درجات العبادة يكون بالمعرفة والنيّة، لانّ البعض يعبدون الله خوفاً من عذابه وهي عبادة (العبيد)، والبعض يعبدون الله شوقاً إلىٰ جنّته وهي عبادة (التجّار)، وهناك فئة يعبدون الله حبّاً له لا خوفاً من النار ولا شوقاً الىٰ الجنّة، وهذه هي عبادة (المشتاقين والمحبّين).

فاُولئك الّذين عرفوا الله بدرجة عالية وأخذت محبّة الله بمجامع قلوبهم فعبادتهم ليست خوفاً من جهنّم ولا شوقاً إلىٰ الجنّة، حيث انّهم عارفون بكرم الله ويعلمون انّه لايعذّب أحبّاءه بل يفيض عليهم عطاياه ومواهبه. لكنّ الّذين لم يبلغوا هذا المستوىٰ من المعرفة، ولا يعرفون سوىٰ غضب الله وكرمه فاُولئك يعبدون خوفاً من النار أو طمعاً بدخول الجنّة.

إذن فوسيلة العبور من مرحلة ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ إلىٰ رتبة (من الذين...) هو بلوغ الإنسان درجة المعرفة والعلم الكامل بالله سبحانه وأسمائه الحسنىٰ والعمل الصالح طبقاً لتلك المعرفة. طبعاً يوجد بين المعرفة والعمل ارتباط وثيق ومتبادل، لانّ المعرفة وسيلة للعبادة الخالصة والعبادة الخالصة عامل لزيادة المعرفة وتنميتها، فكلّ درجة من العلم تتبعها مرتبة من العبادة وكلّ عبادة ترفع الإنسان درجة في مراتب العلم والمعرفة، إذن فروح وحياة العمل في المعرفة، وعلىٰ هذا الأساس فإنّ رفع درجة المؤمن يتمّ في ظلّ معرفته. فالمؤمن له درجة والمؤمن العالم له درجات كما قال تعالىٰ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات﴾.[1]


[1] . سورة المجادلة، الآية 11. في القسم الأوّل من هذه الآية حين ذكر المؤمن، حذفت كلمة (درجة) الّتي هي مفعول أو تمييز، ولكن في القسم الثاني حيث ذكر المؤمن العالم فانّها ذكرت ولم تحذف وتقدير الآية يكون هكذا: (يرفع الله الّذين آمنوا منكم [درجةً] والّذين اُوتوا العلم درجات).

تسنيم، جلد 1

608

9. محور الصراط المستقيم

علّمنا الله سبحانه في سورة الحمد أن نسأله طريق المنعم عليهم، وفي موضع آخر عرّفنا بهم فقال: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقا﴾.[1] وفي المقابل عرّفنا علىٰ انّ المتمرّدين والخارجين عن طاعة الله والرسول هم أصحاب الضلال المبين والواضح: ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينا﴾.[2]

ويظهر من هذه الآيات انّ محور الصراط المستقيم هو سيرة وسنّة الأنبياء والأئمّة المعصومين(ع ) لانّ كلّ من يطيعهم فهو في الصراط المستقيم ومن يتمرّد علىٰ أوامرهم فهو مبتلىٰ بالضلال المبين.

تنويه: اثبات الضلالة لمن يعصي أمر الله والنبي(ص) لاينافي إثبات غضب الله عليه، لأنّ كلّ من ينحرف عن الصراط المستقيم فإنّ أصل الضلالة سيتعلّق به وأمّا استحقاق الغضب الخاص فهو لاينافي أصل الضلالة.

10. أصحاب الصراط ومشقّة الطريق

انّ السير علىٰ الصراط المستقيم صعب وشاقّ للغاية، لأنّ رفاق هذا


[1] . سورة النساء، الآية 69.

[2] . سورة الأحزاب، الآية 36.

تسنيم، جلد 1

609

الطريق وإن كانوا من العظماء ولكنّهم قليلون، ويجب المضي علىٰ هذا الطريق الطويل مع قلّة الرفيق. ولذلك فإنّ أمير المؤمنين(ع) الّذي هو بنفسه صراط مستقيم يقول: «لا تستوحشوا في طريق الهدىٰ لقلّة أهله».[1] إذن فالصراط المستقيم ليس مليئاً بالسالكين، ولهذا فإنّ المضي علىٰ الصراط يحتاج إلىٰ سعيٍ حثيث وزمن طويل حتّىٰ يتمكّن الإنسان أن يبلغ درجة الوليّ ويدخل في جمع أولياء الله تعالىٰ.

والدليل الآخر علىٰ قلّة الرفاق في سلوك الصراط هو انّ القرآن الكريم في الآية محلّ البحث علىٰ الرغم من ذكره (المنعم عليهم) و(المغضوب عليهم) و(الضالّين) بلفظ الجمع، لكنّ أمير المؤمنين(ع) قسَّم الناس في حديث له إلىٰ ثلاثة أقسام وذكر قسماً واحداً منها فقط بلفظ الجمع فقال: «الناس ثلاثة: فعالم ربّاني ومتعلّم علىٰ سبيل نجاة وهمج رِعاع أتباع كلّ ناعق يميلون مع كلِّ ريح».[2] ففي هذا الحديث ذكر العالم الربّاني والمتعلّم علىٰ سبيل النجاة بصيغة المفرد لقلّتهما، وأمّا المحرومون من الإرادة والّذين هم ليسوا من العلماء ولا من المتعلّمين فقد ذكروا بلفظ الجمع.

والشاهد الآخر علىٰ قلّة الأصحاب في سفر الصراط المستقيم انّ الله سبحانه يقول حول جهنّم: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين﴾[3] ولم يقل حول الجنّة انّه سيملؤها، لأنّ الّذين يملؤون جهنّم كثيرون ولكنّ الّذين مأويٰهم الجنّة فهم قليلون.


[1] . نهج البلاغة، الخطبة 201، المقطع 1.

[2] . نفس المصدر، الحكمة 147.

[3] . سورة السجدة، الآية 13.

تسنيم، جلد 1

610

وعليه فانّ طريق الهداية بسبب قلّة سالكيه موحش ومحفوف بالأخطار، ولذلك يوصي أمير المؤمنين أن لايستوحشوا من قلّة سالكي طريق الحقّ، فإنّ ذلك لايدعوا إلىٰ القلق لأنّ السالكين مع قلّتهم إلاّ أنّهم جميعاً من المحسنين.

11. معيّة واختلاف السالكين مع الآخرين

للسالكين علىٰ الصراط معيّة بالنسبة إلىٰ الآخرين كما ولهم اختلاف معهم، فمعيّتهم وصحبتهم مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، واختلافهم ومغايرتهم مع (المغضوب عليهم) و(الضالين)، وحيث انّ المعيّة والمغايرة غير متناسبتين فيما بينهما وهما متقابلتان، لذلك فانّ من يختار سُنّة وسيرة المغضوب عليهم والضّالين فانّه لن يكون أبداً رفيقاً للمنعَم عليهم، وفي النتيجة لايكون من سالكي الصراط المستقيم.

12. وحدة الموصوف وكثرة الصفات

انّ تقسيم الناس إلىٰ (المُنعم عليهم)، و(المغضوب عليهم) و(الضالين) لايعني انّ المنحرفين ليس لهم سوىٰ هاتين الصفتين، بل لهم أسماء وصفات اُخرىٰ أيضاً تكون في مقابل صفة المُنعَم عليهم، كما انّ التقسيم المذكور لايقتضي التقابل بين المغضوب عليهم والضالّين، بل انّ كلّ منحرف عن الحقّ فكما هو ضالّ فبمقدار ضلاله ينزل عليه الغضب الإلٰهيّ أيضاً، لأنّ الصراط المستقيم حقّ وليس سوىٰ الحقّ شيءٌ سوىٰ الضلال: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَل﴾.[1] فالمغضوب عليهم ضالّون


[1] . سورة يونس، الآية 32.

تسنيم، جلد 1

611

أيضاً كما انّ الضالّين مغضوب عليهم من قبل الله كذلك. الاّ الّذين تكون ضلالتهم عن قصور لا عن تقصير أو انّها ناشئة من الخطأ في الإجتهاد، وهذا في حال كونه واجداً لشروط الإجتهاد، ففي مثل هذه الحالات توجد ضلالة ولكن لايوجد غضب.

البحث الروائي

1. التعريف بالمُنعَم عليهم

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «أي قولوا: اهدنا صراط الّذين أنعمتَ عليهم...». وقال: «هم الّذين قال الله تعالىٰ: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقا﴾».[1]

ـ عن الصادق(ع) قال: «قول الله عزّ وجل في الحمد: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾، يعني محمداً وذريّته صلوات الله عليهم».[2]

اشارة: ما يُذكر في مثل هذه الأحاديث فهو من باب الجري والتطبيق، وليس التفسير المفهوميّ للآية. اضافة إلىٰ انّ أهل البيت المعصومين(ع ) قد سلكوا ذات الطريق الّذي سلكه سلفهم من الأنبياء، أي انّ الرسول المكرّم للإسلام(ص) وبتبعهِ أهل بيته الطاهرون قد سلكوا نفس السبيل الّذي هدىٰ الله أنبياءه السابقين إليه، لا انّهم تابعون للأنبياء السابقين. ويستنبط هذا الأمر من الآية 90 من سورة الأنعام.


[1] . تفسير الصافي، ج1، ص74 (سورة النساء، الآية 69).

[2] . البحار، ج10، ص61.

تسنيم، جلد 1

612

وتطبيق المُنعَم عليهم علىٰ أهل البيت(ع ) في الروايات أيضاً من باب الجري لا التفسير وبيان المعنىٰ، فلا يستفاد منه الحصر.

2. النعم الباطنيّة والمعنويّة

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «... وامّا قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم﴾ فتلك النعمة الّتي أنعمها الله عزّ وجلّ علىٰ من كان قبلنا من النبيّين والصدّيقين فنسأل الله ربّنا أن يُنعم علينا كما أنعم عليهم».[1]

ـ «... ليس هؤلاء المُنعَم عليهم بالمال وصحّة البدن، وإن كان كلّ هذا نعمة من الله ظاهرة، ألا ترون انّ هؤلاء قد يكونون كفّاراً أو فسّاقاً فما نُدِبتم إلىٰ أن تدعوا بأن تُرشَدوا الىٰ صراطهم وانّما اُمرتم بالدعاء بان ترشدوا الىٰ صراط الّذين اُنعم عليهم بالإيمان بالله وتصديق رسوله وبالولاية لمحمّد وآله الطيّبين...».[2]

ـ «أي قولوا: اهدنا صراط الّذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك لا بالمال والصحّة فانّهم قد يكونون كُفّاراً أو فسّاقاً».[3]

ـ عن الباقر(ع): «ونحن من نعمة الله علىٰ خلقه».[4]

ـ عن النبيّ(ص): «يعني أنعمت عليهم بولاية علي بن ابي طالب...».[5]

اشارة: انّ أكمل وأتمَّ نعمة مَنَّ الله بها علىٰ اُمّة الإسلام بعد التوحيد


[1] . البحار، ج24، ص13.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص23.

[3] . البحار، ج25، ص213.

[4] . نور الثقلين، ج1، ص24.

[5] . تفسير الصافي، ج1، ص74.

تسنيم، جلد 1

613

الخالص هي ولاية الموحّدين المخلَصين وهم أهل البيت المعصومون(ع ) وما يذكر بعنوان انّه مصداق في هذه الاُمّة المرحومة هو غير ما يفهم من الإطلاق أو العموم المفهوميّ للآية، وعلىٰ هذا فما جاء في مثل هذه الأحاديث فهو من باب الجَرْي والتطبيق المصداقيّ، لا التفسير المفهوميّ. والأحاديث المذكورة شاهد جليّ علىٰ انّ المقصود من النعمة المطلوبة في سورة الحمد هي النعمة المعنويّة والباطنيّة وليست النعمة الماديّة والظاهريّة.

3. الوحدة المصداقيّة للضالّ والمغضوب عليه

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «كلّ من كفر بالله فهو مغضوب عليه وضالّ عن سبيل الله».[1]

ـ عن الرضا(ع): «من تجاوز بأمير المؤمنين(ع) العبوديّة فهو من المغضوب عليهم ومن الضالّين».[2]

اشارة: كما انّ تطبيق صفة الكمال علىٰ أهل بيت العصمة(ع ) هو من باب الجَرْي المصداقيّ، لا التفسير المفهوميّ، كذلك تطبيق صفة النقص علىٰ مخالفيهم ومعانديهم وغاصبي حقوقهم هو أيضاً من باب الجَرْي المصداقيّ لا التفسير المفهوميّ، لانّ القرآن يذكر جماعة بأنّهم من المغضوب عليهم والضالّين وقد هلكوا وانقرضوا قبل نزول القرآن.

فإثبات الغضب والضلال للكفّار وأصحاب الغلوّ في هذه الأحاديث


[1] . البحار، ج25، ص274.

[2] . نور الثقلين، ج1، ص25.

تسنيم، جلد 1

614

دليل علىٰ انّ تقسيم الناس الىٰ المنعَم عليهم والضالّين في الآية الأخيرة من سورة الحمد لايقتضي التقابل، بل انّ كلّ منحرف عن الحقّ فهو ضالّ، وهو مغضوب عليه أيضاً.

4. مصاديق من الضالّ والمغضوب عليه

ـ عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّين﴾، قال: «هم اليهود والنصارىٰ».[1]

ـ عن أمير المؤمنين(ع): ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم﴾، قال: «هم اليهود الّذين قال الله فيهم: ﴿... مَن لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْه﴾».[2] ﴿وَلاَ الضَّآلِّين﴾، قال: «هم النصارىٰ الّذين قال الله فيهم: ﴿... قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرا﴾».[3]

ـ عن الصادق(ع): «المغضوب عليهم النُصّاب، والضالّين الشكّاك الّذين لايعرفون الإمام».[4]

اشارة: انّ وصف اليهود بانّهم (مغضوب عليهم) والنصارىٰ بعنوان (الضالّين) في الروايات هو من باب الجري والتطبيق، لا التفسير لانّ كلتا الطائفتين محلّ للغضب وللضلال أيضاً علىٰ الرغم من انّ احدىٰ هاتين الصفتين بارزة عند كلّ واحدة من هاتين الطائفتين لكنّ الصفتين لاتنفصلان عن بعضهما، بل كلّ ضالّ بمقدار ضلاله مشمول بالغضب الإلٰهيّ، وكلُّ مغضوب عليه فهو ضالّ بقدر الغضب الّذي نزل عليه.


[1] . تفسير العياشي، ج1، ص24.

[2] . سورة المائدة، الآية 60.

[3] . البحار، ج25، ص274 (سورة المائدة، الآية 60).

[4] . نور الثقلين، ج1، ص24.

تسنيم، جلد 1

615

5. النعم الخالصة والنِعم المشوبَة في الجنّة

ـ عن النبيّ(ص): ﴿وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيم﴾[1]، قال: «هو أشرف شراب في الجنّة يشربه محمّد وآل محمّد وهم المقرّبون السابقون: رسول الله(ص) وعليّ بن أبي طالب والأئمّة وفاطمة وخديجة صلوات الله عليهم وذرّيتهم...».[2]

ـ «تسنيم، أشرف شراب في الجنّة يشربه محمّد وآل محمّد صِرفاً ويمزج لأصحاب اليمين وسائر أهل الجنّة».[3]

اشارة: انّ ما يوجد في الجنّة من الطعام والشراب طاهر ونقيّ من الدنس والأقذار سالم ومصون من الأذىٰ والأضرار، لكنّ الخلوص والنقاء والصفاء له درجات ومراتب وهي تابعة لخلوص الإيمان وصفاء العقيدة ونقاء الأعمال الّتي يُوفّق المؤمنون لها في الدنيا، وحيث انّ عقائد وأخلاق وأعمال أهل البيت(ع ) نقيّة وخالصة من جميع الجهات، لذلك فهم ينهلون من عين تسنيم الّتي يمزج شيء منها في شراب الأبرار وأصحاب اليمين.

6. النعم الظاهريّة أرضيّة للضلال

ـ عن أمير المؤمنين(ع): «نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيّاكم ممّن لا تُبطرهُ نعمة»[4]، «فاتّقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة»[5]،


[1] . سورة المطفّفين، الآية 27.

[2] . البحار، ج8، ص150.

[3] . نفس المصدر السابق.

[4] . نهج البلاغة، الخطبة 64، المقطع 8.

[5] . نفس المصدر، الخطبة 151، المقطع 4.

تسنيم، جلد 1

616

«تسكرون من غير شراب بل من النعمة والنعيم»[1]، «أيّها الناس لِيرَكم الله من النعمة وَجلِين كما يراكم من النقمة فرِقين»[2]، «ما لعليٍّ ولنعيم يَفنىٰ ولذّةٍ لاتبقىٰ»[3]، «وكلُّ نعيم دون الجنّة محقور».[4]

اشارة: انّ النعمة الظاهريّة إذا لم تقترن بالنعمة المعنويّة والتوفيق الإلٰهيّ، فسوف تكون آلةً وأداةً مناسبة لإثارة الشهوة والغضب من ناحية واِغواء الوهم والخيال من ناحية اُخرىٰ، والشيطان يُفسد المترفين بدفعهم نحو الإسراف والطغيان بواسطة تسخير قواهم الحركيّة والإدراكيّة. ولذلك فانّ أولياء الله عندما يطلبون من الله حسنات الدنيا فإنّما يطلبون معها حسنات الآخرة، لا كلّ بضاعة دنيويّة مهما كانت: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَة﴾.[5]

والحمد لله ربّ العالمين

٭ ٭ ٭


[1] . نفس المصدر، الخطبة 187، المقطع 3.

[2] . نهج البلاغة، الحكمة 358.

[3] . نفس المصدر، الخطبة 224، المقطع 12.

[4] . نفس المصدر، الحكمة 387.

[5] . سورة البقرة، الآية 201.

 

 

I

هدایت به بالای صفحه